عربي
Sunday 1st of September 2024
0
نفر 0

النّهضة الحسينيّة من منظور مغربي-2

لكن هل يمكننا الحديث عن وقف كلّ التعبيرات الشعبيّة والطقوسيّة العاشورائيّة ؟ في تصوّري المطلوب هو التوازن . أعني : إعطاء الوعي حقّه مقدار ما نعطي اللاّوعي . أي : أن يوجد نوع من التوازن يؤدّي إلى تعدّد في الخطاب . المشكلة هي إذن ، في اختلال التوازن . نحن نعلم أنّ المتلقّي المفترض يشكّل القاعدة الاجتماعيّة الشعبيّة الأوسع . لكن هذا لا يعني إغفال الشريحة الواسعة التي تتطلّع إلى تشكيل حالة ارتكازيّة في منطقة الوعي بالقضيّة الحسينيّة . من ناحية اُخرى أعتقد أنّ الطقس الحسيني والقالب الذي يقدّم به الخطاب ، ليس مرفوضاً مطلقاً حتّى مع وجود ما يبدو منفراً في ثقافات اُخرى . فهذا أمر طبيعي إنّنا نفهم الطقس الحسيني في تعبيره الشعبي والثقافي الرمزي ، حكاية عن انجنان مفرط بمحبّة الحسين (عليه السّلام) ، يترجم أقصى الولاء . والمحبّة للحسين ولعموم أهل البيت (عليهم السّلام) هي أمر بسيط يشتدّ ويضعف ، فلا حدود له . بل كلٌّ يحبّ بطريقته ، والكلّ يتنافس . ( وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ) ؛ لقوله (صلّى الله عليه وآله) : (( حسين منّي وأنا من حسين ، أحبّ الله مَن أحبّ حسيناً )) . فهناك مَن يحبّ كثيراً ، وهناك مَن يحبّ قليلاً ، ومن الحبّ ما قتل .
ويبدو لي أنّ ما لا يفهمه الآخر في الاُسلوب الذي تقدّم به القضيّة الحسينيّة هو أنّ هناك قيمة في الوجدان الشيعي تقوم على اعتبار الانجنان بحبّ الحسين (عليه السّلام) ، ( حبّ الحسين قد جنّني ) . فالمظاهر التي تشاهَد في المناسبات دالّة على أنّ المطلوب هو إظهار الانجنان بحبّ الحسين (عليه السّلام) ، وليس المقام مقام معالجة برهانيّة أو جماليّة .
وإذا كان هناك مَن ينعت الشيعة بأنّهم مجانين من خلال طقوسيّات عاشوراء فله الحقّ أن يقول ذلك ما دام هو خارج دائرة تأثير الوجدانيّة الشيعيّة الحسينيّة . وذلك في اعتقادي دليل على أنّ الشيعة نجحوا في تقديم المراد ، بأنّ حبّ الحسين قد جنّهم . أعتقد أنّ المطلوب هو التوازن في الخطاب وفي الطقس للكشف عن الوجه الكوني للخطاب . على أنّ الحديث عن الوجه الكَوني للخطاب لا يعني القضاء على الجانب الشاعري والطقسي للخطاب ، فللكَونيّة طقوسها المقبولة أيضاً .
الملحمة الحسينيّة هي إنسانيّة متعدّدة الأبعاد . وتضخّم الحالة الوجدانيّة واختزالها في الطقس الاحتفالي راجع إلى سعة القاعدة السوسيولوجية الشعبيّة للمجتمع الذي يتعاطى هذه الاحتفاليّة مقابل محدوديّة النخبة وثقافتها . لكن هذا التنوّع في الأبعاد العاشورائيّة لا يظهر منه إلاّ الجانب الطقسي . وعلينا أن نوسّع من الجانب التحليلي والقرائي الذي يدرس الملحمة الحسينيّة من خلال أبعادها وزواياها الاُخرى .
هذا في الإطار العام . أمّا من ناحية المبلّغين وخطباء المنبر الحسيني ، فعليهم أن يتحلّوا بثقافة عالميّة ، تمكّنهم من استحضار الوعي العالمي والذَّوق العالمي ، ويكونوا أكثر توازناً . والخطباء في هذا المقام مطالبون أكثر من غيرهم بتحصيل حدّ أدنى من الثقافة العالميّة والاجتهاد في مراعاة الذَّوق المشترك ، وعدم الاستسلام للسّبات الانفعالي والعاطفي الذي يقوم عادةً على حساب منطق المحتوى الرسالي للمادّة الحسينيّة . إنّ القدرة على السّيطرة على ناصية الوجدان الشعبي في العرض العاشورائي أثناء سرد الأطوار الموحية في نعي الحسين (عليه السّلام) لا ينبغي أن تسرق وعي الخطيب وتجعله يتسامح فيما أسميناه ( المحتوى المنطقي و الموضوعي لرسالة الحسين ) .
هناك ما يُعرف بـ ( الغوريز ) ـ الكاف المعجمة ـ عند خطباء المنبر الحسيني ، والكلمة فارسيّة ، يعنون بها : الهروب . وهي تقنيّة خطابيّة تنقل ذهن المتلقّي بنكتة ينخرم فيها السّياق بصورة خفيّة إلى المصيبة من دون سابق إنذار ، ولكن بذكاء خطابي . ويحتاج الإنسان أن يكون متمثّلاً للوجدانيّة الحسينيّة حتّى يسامح هذه الانعطافة الخطابيّة ، حيث البعض يبالغ في التسامح أحياناً إلى حدٍّ غير معقول . على الخطيب أن لا يمارس ( الغوريز ) المنطقي فضلاً عن الخطابي ؛ لأنّ ذلك غير مقبول من المتلقّي العالمي الذي لا زالت تنقصه المعطيات . إنّ الثقافة الحسينيّة كما تمارس في المجتمع الشيعي ، تجعل المتلقّي المفترض لا يرى في الأطوار الذي يكاد يحفظها عن ظهر قلب سوى لحظة سماع لاستحضار مصيبة لا تغيب عنه تفاصيلها . ولكن المتلقّي خارج دائرة تأثير الوجدانيّة الشيعيّة تنقصه المعطيات . إنّ التضخّم من الحالة الوجدانيّة ليس هو المشكل ، بل المشكل يكمن في غياب حدّ أدنى من فكرنة الملحمة الحسينيّة ، وحدّ أدنى يوازي ذلك من الدراسة الواعية لمضمونها النّهضوي . هناك خطاب حسيني منبري نشأ وتطوّر وتراكم في مجال سوسيو / ثقافي معيّن ، كما يفترض متلقّياً محدّداً سلفاً . لكن المنبر الحسيني لم يطوّر خطاباً مفتوحاً ، ولم يفترض متلقّياً مختلفاً ، قد تنقصه المعطيات المتعلّقة بالمحتوى التاريخي والمنطقي للمصيبة ، أو قد لا يتمتّع بالحاسّة السّوسيو / ثقافيّة لالتقاط اللغة الرمزيّة والذوقيّة لهذا العرض البكائي الممسرح .
من ناحية اُخرى يجب التأكيد على المحتوى الحضاري الكبير ، والبُعد المشروعي لملحمة الحسين (عليه السّلام) . إنّ الخطباء يركّزون بالتفصيل على المقتل ، وعلى إبراز اللحظات الدراماتيكيّة للجريمة . فلا ينسون جزئيّة من جزئيّات المقتل . وهذا أمر مهمّ نجح فيه المنبر الحسيني إلى أبعد الحدود . لكن قضيّة الحسين (عليه السّلام) ليست مجرّد وصف لمقتل ، بل هي وصف لقتل استتبع أشكالاً من القتل لمشروع اُمّة ومشروع نهضة ، أي البُعد الشأني للإمام الحسين (عليه السّلام) وموقعيّته الرساليّة داخل الاُمّة . إنّ نضج الخطيب الحسيني وثقافته تنعكس بصورة تلقائيّة على المحتوى ، فتكبّر القضيّة بمستوى ثقافة الخطيب وعلمه . وفي هذا السّياق يمكننا الحديث عن نماذج تركت بصماتها على المنبر الحسيني من أمثال : الشيخ الوائلي (رحمه الله) ، الذي استطاع أن يطوّر نمطاً خاصّاً في الخطابة الحسينيّة ، استدمج فيها العلم والتحقيق بفنّ الخطابة وما يقتضيه من نكات بيانيّة ، فكان نموذجاً للخطيب الذي يفقه عصره ، ويفقه موقعيّة الخطيب الحسيني ومسؤوليّته . وهناك نماذج كثيرة ـ حيث من الأفضل أن لا أتحدّث عن الأحياء ـ استطاعوا أن يطوّروا اُسلوبهم الخاص ، ويثروا تجربتهم الثقافيّة ، ويعصرنوا خطابهم الحسيني المسؤول ، ويكيّفوه ضمن جغرافيا الحسّاسيّات المختلفة . وأعتقد أنّ المنبر الحسيني يجب أن يتحوّل إلى شعبة تخصّصيّة . وأنّ الخطابة الحسينيّة يجب أن تصبح تخصّصاً ، ومادّة للدراسة يتعلّم فيها الخطيب فنون الخطابة والتزوّد بالمعارف والعلوم الضروريّة للخطيب . فحيثما أبرزنا المشروع الحضاري والنّهضوي الذي قضى في سبيله أبو الأحرار ، كبرت الملحمة الحسينيّة ، وأصبحت أكثر عقلانيّة ، وبالتالي أصبحت الوجدانيّة نفسها مقبولة بهذا اللحاظ . إنّ الحسين (عليه السّلام) قد فتح صفحة بيضاء ، علينا أن نعرف كيف نكتب عليها أعظم جملة للتعبير عن ملحمة ، لازلنا نرى أنّها قادرة على أن تلهمنا بالشئ الكثير .

المحاوِر : ما هو الثابت وما هو المتغيّر في ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) ؟ وهل يمكن لذكرى فاجعة مروعة كهذه الثورة أن تكون أرضيّة لإستقرار السّلم والأمن محليّاً وإقليميّاً ودوليّاً ، وكيف ؟
إدريس هاني : لا يوجد عندي ثابت غير خاضع لضرب من الحركة ، بالمعنى الذي تفيده الحركة الجوهريّة . فكلّ شيء يبدو لك ثابتاً فهو يتحرّك على نحو من الحركة ، بها يتكامل الثابت وبها تتشكّك أبعاده فيكسب تعابير شتّى تُدين لذلك الجوهر ؛ ولذا فإنّني لا أتحدّث عن ثابت في قبال متحوّل ، بل أتحدّث عن ( ثابت متحوّل ) برفع واو العطف ؛ لاُؤكّد على أنّ ثمّة أحد أحد فقط ، لا يخضع للحركة ولا للثبات ، وإن كان هو كلّ يوم في شأن . فهو يتعالى عن الثابت والمتحوّل في آنٍ واحد ؛ من هنا أرى أنّ كلّ ما في نهضة الحسين (عليه السّلام) هو ثابت متحرّك . حيث القيم الإنسانيّة العليا تعبّر عن نفسها بمستويات مختلفة وتتحرّك في مديات النّفوس والاجتماع بمراتب شتّى . فالقيم كالأفكار تسبح في أنساق اجتماعيّة وشروط موضوعيّة هي ما يمنحها الشكل الأكثر قابليّة للتطبيق والتشخّص . وأعتقد أنّ القِيَم التي صدرت عنها مواقف وشعارات النّهضة الحسينيّة ، تشكّل تعاليم قابلة للتكيّف بأشكال مختلفة مع الأنساق الاجتماعيّة والمنظومات القيميّة التي دان بها الإنسان في أوج نضجه الحضاري .
نعم ، إذا كان ولا بدّ أن نتحدّث عن ثوابت ، ولَو بالمعنى العام ، فإنّني أعتقد أنّ رعونة يزيد لم تعد مقبولة في هذا العصر . وأعتقد أنّ آخر أرعن كان يملك وقاحة يزيد ، هو ( صدّام ) المخلوع ، الذي كان يقتل العلماء والفضلاء من مواطنيه صبراً ومن دون أي مبرّر . وأعتقد أنّ هذه الرعونة التي فرضت التحدّي على الحسين (عليه السّلام) وأهله ، لم يعد لها وجود اليوم . وحتّى لو ظلّت مظاهر الظلم سارية فإنّها لم تعد قادرة على ممارسة الطغيان العاري . وفي مثل هذه الحالة ، فإنّ اُسلوب التعبير عن المطالب العادلة للشعوب أمسى ممكناً دون هذه التراجيديا السوداء التي خلّدتها ذكرى شهادة أبي الأحرار . أنا لا أخاف من المستقبل على صفاء القضيّة الحسينيّة  كما لا أخاف من المستقبل على الإسلام ؛ لثقتي في عظمة المحتوى وممانعة القضيّة العادلة في وجه طوفان التزييف .

المحاوِر : بين عاشوراء الحزن والعزاء في المشرق الإسلامي وعاشوراء العيد والفرح في المغرب الإسلامي تنطرح إشكاليّة الازدواجيّة في تخليد هذه المناسبة . فما هو الطريق للخروج من هذه الأشكال تعريفاً بالماهيّة الحقيقيّة لعاشوراء ؟
إدريس هاني : عاشوراء التي أصبحت مناسبة للتذكير بمقتل أبي الأحراروأهله ، وبمصابهم الجلل لا يمكنها إلاّ أن تكون عاشوراء الحزن .
وأعتقد أنّه لا بدّ من التدقيق أكثر في السؤال . فليست عاشوراء حزينة عند كلّ المشارقة ، كما أنّها ليست عاشوراء عيد الفرح عند كلّ المغاربة . ففي المغرب هناك ثقافة متعدّدة وطقوس متعدّدة تعبّر عن نفسها في عاشوراء بأساليب متعدّدة . وأنا شخصيّاً لا أعرف من فلسفة حقيقيّة وتبرير معقول للحالة العيديّة لعاشوراء في بعض الطقوس الغرائبيّة في المغرب الإسلامي .
إنّ للحسين (عليه السّلام) وعموم البيت العلوي في الوجدان المغاربي مكانة خاصّة ، هي نفسها التي جعلت منّا حسينيين ، لم تزدنا تجربتنا المعرفيّة الاُخرى سوى بصيرة في هذا الإحساس . وأنا شخصيّاً لم أكسب وجدانيّتي الحسينيّة سوى من فطرتي المغربيّة وليس من جهة اُخرى . ثق تماماً ، فالذين يحتفلون ويضربون الدفوف في بعض مناطق المغرب مثلاً ، لا يتصوّرون الموضوع ، ولا تحضر عندهم مصيبة الحسين (عليه السّلام) كما تحضر عند أغيارهم . ولا هم يحتفلون بمقتل الحسين ، حاشا أحداً يفعل ذلك في مغاربنا المعروفة بحبّها لآل البيت الأطهار ، بل هم يجهلون عاشوراء ولا يعرفون مصدر هذه الاحتفاليّة العيديّة ولا موضوعها . وحتّى لو عرفوا أنّ في هذا اليوم قُتل الإمام الحسين (عليه السّلام) فلا يستطيعون الربط . فالمسألة ليست منطقيّة أو معرفيّة ، بل هي سوسيولوجيّة وثقافيّة ؛ ومن هنا مفارقتها .
إنّ عاشور عند هؤلاء هي مجرّد عيد يتعلّق بمكانة ( اليوم ) المذكور في ذاته ، كيوم له قدسيّته ؛ ولهذا الجهل والغفلة بعاشوراء بمدلولها الكربلائي سبب تاريخي ، لا أخفي أن تكون آثاره يزيديّة . وبما أنّ المغاربة لا يمكنهم أن يقبلوا بالاحتفال والشماتة بمقتل الحسين (عليه السّلام) ، فإنّ سياسة التجهيل التي استبعدت الموضوع الحقيقي للاحتفال ، وأبقت عليه كطقس غامض يمارَس بلا وعي كانت تدرك بأنّ محاولة إقناع المغاربة بجعل يوم مقتل الحسين (عليه السّلام) عيداً للفرح والأهازيج دونه خرط القتاد . لكن هناك تعبيرات اُخرى وإن لم تكن في حرارة الطقس الأول ، إلاّ أنّها تستحضر الوعي بالموضوع العاشورائي ، والحزن على مقتل ابن النّبي (صلّى الله عليه وآله) . وهذه الشرائح الواسعة لا تظهر ؛ لأنّها تكون في حالة انزواء وحزن ولا تخرج إلى الشارع ولا تشعل ناراً ولا تصبّ ماءاً .
المهمّ المسألة هي مجرّد طقس ثقافي يمارَس هنا من دون استحضار لموضوعه التاريخي . إنّها مسألة وعي مرّة اُخرى . وهي المفارقة التي تجدها في تعبير آخر ، حيث تتقاطر شرائح واسعة في المولد النّبوي على إحدى الأضرحة ، وبدل أن يكون يوماً للفرح والأهازيج يتحوّل إلى يوم ضرب الرؤوس بالسكاكين ، واستقبال القدور بالهامات ، وأكل الشوك ، وافتراس الماشية وما شابه من ألوان الطقوس . فهل يقال أنّها حالة دمويّة لاستقبال ذكرى المولد النّبوي ؟ لقد قلت سابقاً أنّها طقوس اجتماعيّة تستقي رمزيّتها من الوجدان الشعبي والثقافي ، وفي هذا الإطار ، يغلب اللاّوعي على الوعي وتستبدّ المفارقة .
إنّني أعتقد أنّ المخرج من اللاّمعنى في الطقس الاجتماعي هو بتكثيف الوعي بمضمونه وفلسفته . وهذا في ظنّي أمر ممكن اليوم . والشعوب العربيّة سوف تتعلّم الكثير عن عاشوراء ، وستخرج من سبات اللاّوعي واللاّمعنى في ممارستها وطقوسها الشعبيّة . وهذا أمر ممكن .

المحاوِر : هل ينبغي لتجسيد أهداف ثورة الحسين (عليه السّلام) الخروج على الحكّام والأنظمة في بلداننا ، كما فعل الإمام الحسين (عليه السّلام) ، مع ملاحظة أنّ التهديد الأكبر الذي هو الكيان الصهيوني يقع بين ظهرانينا وهو محمي بلا حدود بالاستكبار العالمي ؟
إدريس هاني : قلنا أنّ ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) متعدّدة الأبعاد . وإذا ما رأى فيها البعض أنّها إيحاء باللون الأحمر بديلاً عن اللون الأسود ، فإنّني لا أقبل بهذه القراءة الإستبداليّة التي تختزل ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) في اللون الواحد . إنّها بالأحرى تختزل كلّ هذا التعبير الممتد امتداد المعنى ، والمتعدّد باللون الأسود والأحمر ، بل أضيف هنا اللون الأبيض ( لون السّلام ) الذي عبّر عنه الإمام الحسين (عليه السّلام) من خلال الكلمة والموقف . إنّها ثورة من أجل الكرامة والحريّة ، حيث لا استقرار للإنسان إلاّ في مجتمع كريم وحرّ يتمتّع بكامل حقوقه . وهي الدعوة التي عبّر عنها الإمام زين العابدين (عليه السّلام) ، وهو يلخص كلّ رسالة عاشوراء التي شهدها وهو على فراش المرض : (( اللهمّ ، إنّا نرغب إليك في دولة كريمة )) . إنّ المشهد الحسيني بكلّ تعابيره صرخة حيّة من أجل السّلام والعيش الكريم . فهو الذي خطب في النّاس أنّه لم يخرج أشراً ولا بطراً ، وإنّما خرج طلباً لإصلاح اُمّة جدّه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .
ثورة الحسين (عليه السّلام) لم تكن في غايتها القصوى سوى ما تطلّعت إليه أفئدة الأحرار ؛ ولهذا جاء نداؤه إنسانيّاً .
لقد قدّم الإمام الحسين (عليه السّلام) كلّ ما في وسعه ليتجنّب المعركة . وقد التمس في مفاوضاته مع محاصريه أن يخلّوا سبيله ، وأن يسمحوا له بأن يذهب ويرابط في ثغر من ثغور المسلمين ، فيصوّب سيفه ذَوداً عن حمى الإسلام وحدود الدولة الإسلاميّة كواحد من جنود الإسلام . فلم يقبلوا منه إلاّ أن يقبل بالذلّة ، فقال لهم حينئذ : (( هيهات منّا الذلّة )) . ومع أنّهم أكثر النّاس معرفة بجديّة وصدق الحسين (عليه السّلام) ، فلا هو من أهل الغدر ولا من منبته ، لكن القَوم رأوا أن يصفوا القضيّة الحسينيّة في العراء ، ويطووا صفحة هذا التحدّي الحسيني . وبدل أن يمضوا في المفاوضات إلى الحدّ الذي يحولوا فيه جريمة قتل بقايا آل محمّد إلى ما يجعلهم يفيدون من الحسين (عليه السّلام) في إصلاح الاُمّة ، جعلوا من الحسين العدو الأول .
ويكفي أن الجيش الذي قاتلوا به الحسين (عليه السّلام) هو جيش اُعدّ لمواجهة الديلم ، أربعة آلاف جندي معدّ لمحاربة بقايا الأمبراطوريّة الرومانيّة ، يوجّه للفتك بسبعة عشر ممَّن تبقّى مع الحسين (عليه السّلام) . فقاتلي الحسين هم من حاد عن المشروع الكبير من مواجهة تحدّي خارجي إلى إبادة الحسين (عليه السّلام) ومَن معه . إنّها هزيمة اُمّة ، وهي تفوق كلّ البدع التي ابتدعها بنو اُميّة في تاريخهم الأسود بدعة أن تقاتل حفنة من المعارضين بجيش نظامي جرّار . وكان دون ذلك مندوحة لو شاؤوا .
الحسين (عليه السّلام) قاتَل بعد أن لم يتركوا له خياراً آخر ، ولو وجد خياراً لكان موقفه كأخيه الحسن (عليه السّلام) ، ولو أنّ أخاه الحسن (عليه السّلام) انقطعت به الأسباب ولم يجد في الصلح مخرجاً لكانت كربلاء الحسن قبل كربلاء الحسين (عليهما السّلام) .
الحسين (عليه السّلام) لم يخرج على نظام ، بل خرج على منطق الإذلال ؛ ومن هنا أعتقد أنّه آن الأوان لتطوير فهم أعمق بمحتوى رسالة الحسين (عليه السّلام) .
الحسين (عليه السّلام) كان يطلب الإصلاح في اُمّة جدّه ، وكان كما أخيه قد يقبل بالحدّ الأدنى ، كما يخبر دعاء ابنه زين العابدين (عليه السّلام) : (( اللهمّ إنّا نرغب إليك في دولة كريمة )) . لكنّهم لم يسمحوا حتّى بالحدّ الأدنى وغلّقوا الأبواب في وجه كلّ الخيارات الممكنة ؛ ومن هنا يجب أن ننطلق في قراءتنا لنهضة الحسين (عليه السّلام) واستيعابنا لفلسفة عاشوراء ، على أساس فقه الأولويّات والأهم والمهمّ وتأويل الحدث والسموّ برمزيّته إلى ما يخدم نهضة الاُمّة وتقدّمها ووحدتها .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

مأساة البقيع الغرقد
هل كان أبو الفضل العباس عليه السلام معصوماً ؟
الاجتهاد والرأي
فلسفة الحرية في كتابات الشيخ المفيد
معجزات الإمام الحسين (عليه السلام)
110 من رواة الحديث:
أم البنين عليها السلام إخلاصها ومنزلتها
النّهضة الحسينيّة من منظور مغربي-2
أفضلية ارض كربلاء على الکعبة
نشوء وتطوّر مناهج التفسير

 
user comment