الدليل الاوّل :
أطبقت الروايات المنتهية إلى الاَصحاب وأُمّهات الموَمنين والتابعين لهم بإحسان على نزولها مستقلة، سواء أقلنا بنزولها في حق العترة الطاهرة أو زوجات النبي أو أصحابه، فالكل ـ مع قطع النظر عن الاختلاف في المنزول فيه ـ
1 . نقل السيوطي عن ابن الحصّار : إنّ ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنّما كان بالوحي كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا. لاحظ الاِتقان: 1|194، الفصل الثامن عشر في جمع القرآن وترتيبه من طبعة مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
[ 44 ]
اتفقوا على نزولها مستقلة، وقد مضت النصوص عن الطبري و «الدر المنثور » والصحاح ترى أنّ أُمَّ سلمة تقول: نزلت في بيتي (إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) .
ويروي أبو سعيد الخدري، عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : «نزلت هذه الآية في خمسة: فيَّ وفي علي وفاطمة وحسن وحسين (إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) ».
وروت عائشة: خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات غداة وعليه مرط مرجّل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله معه، ثم جاء الحسين فأدخله معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه، ثم جاء علي فأدخله معه، ثم قال: (إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) . إلى غير ذلك من النصوص.
حتى انّ ظاهر كلام عكرمة وعروة بن الزبير نزولها مستقلة بقول السيوطي: كان عكرمة ينادي في السوق (إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ) نزلت في نساء النبي .
وأخرج ابن سعد عن عروة بن الزبير أنّه قال: (إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ) قال: أزواج النبي، نزلت في بيت عائشة . (1)
فالموافق والمخالف اتفقا على كونها آية مستقلة إمّا نزلت في بيت أُمّ سلمة أو بيت عائشة، وإمّا في حق العترة أو نسائه.
وعلى ذلك تسهل مخالفة السياق، والقول بنزولها في حق العترة الطاهرة، وانّ الصدر والذيل راجعان إلى نسائه ص لا ما ورد في ثناياها، فهو راجع إلى غيرهن.
1 . لاحظ : 389 ـ 402 من هذا الجزء.
[ 45 ]
ولا غرو في أن يكون الصدر والذيل راجعين إلى موضوع وما ورد في الاَثناء راجعاً إلى غيره فإنّ ذلك من فنون البلاغة وأساليبها، نرى نظيره في الذكر الحكيم وكلام البلغاء، وعليه ديدن العرب في محاوراتهم، فربما يرد في موضوع قبل أن يفرغ من الموضوع الذي كان يبحث عنه ثم يرجع إليه ثانياً.
يقول الطبرسي: من عادة الفصحاء في كلامهم انّهم يذهبون من خطاب إلى غيره ويعودون إليه، والقرآن من ذلك مملوء، وكذلك كلام العرب وأشعارهم. (1)
قال الشيخ محمد عبده: إنّ من عادة القرآن أن ينتقل بالاِنسان من شأن إلى شأن ثم يعود إلى مباحث المقصد الواحد المرة بعد المرة. (2)
وروي عن الاِمام جعفر الصادق (عليه السلام) : «إنّ الآية من القرآن يكون أوّلها في شيء وآخرها في شيء ». (3)
ولاَجل أن يقف القارىَ على صحة ما قاله هوَلاء الاَكابر نأتي بشاهد، فنقول: قال سبحانه ناقلاً عن «العزيز» مخاطباً زوجته: (إِنّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ x يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِين ) . (4) نرى أنّ العزيز يخاطب أوّلاً امرأته بقوله: (إِنّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ ) وقبل أن يفرغ من كلامه معها، يخاطب يوسف بقوله: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ) ... ثم يرجع إلى الموضوع الاَوّل ويخاطب زوجته بقوله: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ) ... فقوله (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ
1 . مجمع البيان: 4|357.
2 . تفسير المنار: 2|451.
3 . الكاشف: 6|217.
4 . يوسف: 28 ـ 29.
[ 46 ]
هَذَا ) جملة معترضة وقعت بين الخطابين، والمسوّغ لوقوعها بينهما كون المخاطب الثاني أحد المتخاصمين، وكانت له صلة تامّة بالواقعة التي رفعت إلى العزيز.
والضابطة الكليّة لهذا النوع من الكلام هو وجود التناسب المقتضي للعدول من الاَوّل إلى الثاني، ثم منه إلى الاَوّل ، وهي أيضاً موجودة في المقام، فإنّه سبحانه يخاطب نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالخطابات التالية:
1. (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ) .
2. (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ان اتقيتن ... ) .
3. (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاَُولى ) .
فعند ذلك صح أن ينتقل إلى الكلام عن أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وذلك لوجهين:
1. تعريفهنّ على جماعة بلغوا في التورع والتقى، الذروة العليا، وفي الطهارة عن الرذائل والمساوىَ، القمة. وبذلك استحقوا أن يكونوا أُسوة في الحياة وقدوة في مجال العمل، فيلزم عليهن أن يقتدين بهم ويستضيئنّ بضوئهم.
2. التنبيه على أنّ حياتهنّ مقرونة بحياة أُمّة طاهرة من الرجس ومطهرة من الدنس، ولهن معهم لحمة القرابة ووصلة الحسب، واللازم عليهن التحفّظ على شوَون هذه القرابة بالابتعاد عن المعاصي والمساوىَ، والتحلّـي بما يرضيه سبحانه ولاَجل ذلك يقول سبحانه : (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء )، وما هذا إلاّ لقرابتهن منه ص وصلتهن بأهل بيته. وهي لا تنفك عن المسوَولية الخاصة، فالانتساب للنبي الاَكرم ص ولبيته الرفيع، سبب المسوَولية ومنشوَها،
[ 47 ]
وفي ضوء هذين الوجهين صح أن يطرح طهارة أهل البيت في أثناء المحاورة مع نساء النبي والكلام حول شوَونهن.
ولقد قام محقّقو الاِمامية ببيان مناسبة العدول في الآية ، نأتي ببعض تحقيقاتهم:
قال السيد القاضي التستري: «لا يبعد أن يكون اختلاف آية التطهير مع ما قبلها على طريق الالتفات من الاَزواج إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته «عليهم السلام» على معنى أنّ تأديب الاَزواج وترغيبهن إلى الصلاح والسداد، من توابع إذهاب الرجس والدنس عن أهل البيت (عليهم السلام) ، فالحاصل نظم الآية على هذا: انّ اللّه تعالى رغب أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى العفة والصلاح بأنّه إنّما أراد في الاَزل أن يجعلكم معصومين يا أهل البيت واللائق أن يكون المنسوب إلى المعصوم عفيفاً صالحاً كما قال: (والطّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ ) (1). (2)
وقال العلاّمة المظفر: وإنّما جعل سبحانه هذه الآية في أثناء ذكر الاَزواج وخطابهن للتنبيه على أنّه سبحانه أمرهن ونهاهن وأدّبهن إكراماً لاَهل البيت وتنزيهاً لهم عن أن تنالهم بسببهن وصمة، وصوناً لهم عن أن يلحقهم من أجلهن عيب، ورفعاً لهم عن أن يتصل بهم أهل المعاصي، ولذا استهل سبحانه الآيات بقوله: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ) ضرورة أنّ هذا التميّز انّما هو للاتصال بالنبي وآله، لا لذواتهن فهن في محل، و أهل البيت في محل آخر، فليست الآية الكريمة إلاّ كقول القائل: يا زوجة فلان لست كأزواج سائر الناس فتعفّفي، وتستّـري، وأطيعي اللّه تعالى، إنّما زوجك من بيت أطهار يريد اللّه حفظهم من الاَدناس وصونهم عن النقائص. (3)
1 . النور: 26.
2 . إحقاق الحق: 2|570.
3 . دلائل الصدق: 2|72.
[ 48 ]
الدليل الثاني :
إنّ لسان الآيات الواردة حول نساء النبي لسان الاِنذار والتهديد، ولسان الآية المربوطة بأهل بيته لسان المدح والثناء، فجعل الآيتين آية واحدة وإرجاع الجميع إليهن ممّا لا يقبله الذوق السليم، فأين قوله سبحانه : (يا نساء النبي من يأت منكنَّ بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب ) من قوله: (إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) ؟!
كما انّ لسان القرآن في أزواج النبي، لسان المدح والانذار ويكفيك الاِمعان في آيات سورة التحريم فلاحظ.
الدليل الثالث :
إنّ قوله سبحانه : (إنّما يريد اللّه ... ) في المصاحف جزء من الآية الثالثة والثلاثين فلو رفعناه منها لم يتطرق أيّ خلل في نظم الآية ومضمونها وتتحصل من ضم الآية الرابعة والثلاثين إلى ما بقيت، آية تامة واضحة المضمون، مبينة المرمى منسجمة الفاصلة، مع فواصل الآيات المتقدمة عليها، وإليك تفصيل الآية في ضمن مقاطع:
أ . (وقرن في بيوتكن ولا تبرَّجن تبرُّج الجاهلية الاَُولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن اللّه ورسوله ) .
ب. (إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً ). (1)
1 . الاَحزاب: 33.
[ 49 ]
ج. (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات اللّه والحكمة إنّ اللّه كان لطيفاً خبيراً ) . (1)
فلو رفعنا قوله: (إنّما يريد اللّه ) وضممنا ما تقدم عليه بما تأخر، جاءت الآية تامة من دون حدوث خلل في المعنى والنظم، وهذا دليل على أنّ قوله تعالى: (إنّما يريد اللّه ) آية مستقلة وردت في ضمن الآية لمصلحة ربما نشير إليها.
إنّ الاَحاديث على كثرتها صريحة في نزول الآية وحدها، ولم يرد حتى في رواية واحدة نزولها في ضمن آيات نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا ذكره أحد حتى القائل باختصاص الآية بأزواج النبي كما ينسب إلى عكرمة وعروة، فالآية لم تكن حسب النزول جزءاً من آيات نساء النبي ولا متصلة بها، وانّما وضعت إمّا بأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عند التأليف بعد الرحلة.
ويوَيده أنّ آية (وقرن في بيوتكن ) باقية على انسجامها واتصالها لو قدّر ارتفاع آية التطهير من بين جملها. (2)
وليس هذا أمراً بدعاً فله نظير في القرآن الكريم .
فقد تضافرت السنّة، وروى الفريقان أن قولــه سبحانــه : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَـرُوا مِنْ دِينِكُـمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاِسْلاَمَ دِيناً ) (3) نزلت في غدير خم عندما نصّب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً إماماً للا َُمّة وولياً للموَمنين، مع أنّه في المصاحف جزء الآية الثالثة من «سورة المائدة» التي تبيّـن أحكام اللّحوم، وإليك نفس الآية في
مقاطع ثلاثة:
1 . الاَحزاب: 34.
2 . الميزان: 16|330.
3 . سورة المائدة: 3.
[ 50 ]
أ . (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ الْسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالاَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ) . (1)
ب. (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاِسلام ديناً ) .
ج . (فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْـرَ مُتَجَانِف لاِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).(2)
فإذا رفعنا الجزء الثاني يحصل من ضم الاَوّل إلى الثالث آية تامة من دون طروء خلل في مضمونها ونظمها، وذلك دليل على أنّ الجزء الثاني آية مستقلة وردت في ضمن آية أُخرى بتصويب صاحب الشريعة الغراء أو بتصويب من جامعي القرآن بعد رحلته ص .
أضف إلى ذلك أنّ مضمون الآية ـ أعني: أحكام اللحوم ـ قد ورد في آيات أُخر من دون أن تشتمل على هذه الزيادة، فهذه قرينة على أنّ ما ورد في الاَثناء ليس من صميم الآية في سورة المائدة، وإنّما وضع في أثنائها بأمر من النبي الاَكرم لمصلحة عامة نشير إليها .