* د. سبوك
إن الشاب يلتفت إلى نفسه عند بلوغه التاسعة عشرة ويتساءل: ((لماذا يختلف إحساسي الآن بالحب عن إحساسي به وأنا في الرابعة عشرة))؟ وسيجد أن الإجابة المنطقية هي: ((لقد كبرت)).
والسؤال نفسه تسأله الفتاة لنفسها وستجد الإجابة نفسها.
لأن لكل مرحلة من العمر نهاية، فإن المراهقة تبدأ في إعلان نهايتها منذ بدء العام التاسع عشر. وتستغرق تلك النهاية مدة تقرب من أربع سنوات ليبدأ الشباب مرحلة جديدة من مراحل العمر: إنها مرحلة التلقي لمسؤولياته الاجتماعية والعملية.
والشاب يجد في نفسه الكثير من الجراءة على مناقشة مشاعره بشكل أقل خجلاً مما كان حاله عند عامه الرابع عشر. إنه ينظر وراءه فيجد أن مشاعره نحو الجنس الآخر كانت ساذجة، ويكتشف أن فكرته عن الحب لم تنبع من دراسة واقعية لمن أحبها بل كانت نابعة منا لإخلاص لفكرة الحب المجردة.
والفتاة تجد في نفسها الكثير من الشجاعة في نقد مشاعرها السابقة.
إن الكائن منا في عامه الرابع عشر يندفع إلى بطولة مسرحية اسمها: ((الحب حق لي)). ويبدأ الشاب في اختيار فتاة من الجنس الآخر ويلصق بها كل الصفات الجميلة التي يتمناها في أي امرأة، وتبدو في عينيه وكأنما النموذج المجسد للكمال الأنثوي. وما إن تتاح للشاب الفرصة للاقتراب من تلك الفتاة عملياً حتى يتهاوى هذا التمثال، ويغرق الشاب في الحزن قليلاً، ثم يمر بعض من الوقت ويتم الشفاء من هذا الحزن تدريجياً.
والفتاة كذلك أيضاً. إن مشاعرها تفور برومانسية رائعة وساذجة في آن واحد منذ عامها الرابع عشر، وتختار شاباً من الجنس الآخر، وتراه أجمل ما رأت في كل الحياة. ويظل هذا الشاب بطلاً لكل أحلام اليقظة، ثم يحدث أن تقترب الفتاة من هذا الشاب فتراه على غير الصورة الخيالية التي رسمتها له. وهنا تتساقط أوهام قصة الحب وتسقط معها بعض من الدموع. ويمر قليل من الوقت، ويتم الشفاء من الحزن على هذا الحب تدريجياً.
وقد يتساءل المرء: لماذا إذن يعيش الانسان كل هذا الخيال الذي يتعاقب فيه الفرح مع الحزن؟
وأقول بهدوء: إن الإنسان في عمر الرابعة عشرة يقوم باختبار قدراته واستكشاف مشاعره، تماماً كما يفعل الممثلون عندما يستكشفون مواهبهم: إنهم يشعرون أن في داخلهم طاقة ما يحبون التعبير عنها، فما بالنا برغبة الكائن البشري في التعبير عن عواطفه؟ إنه يحتاج إلى التدريب عليها، والتدريب دائماً هو ((تصور خيالي لمستقبل قادم)). وهكذا ينشط الخيال في تصور العاطفة، ويبدأ في التدريب عليها بكل ما فيها من مشاعر، ثم يفاجأ بأن الوقت والظروف وطبيعة الشخص لا تتلاءم مع ما في مشاعره من رقة وحلم، فيحدث الصدام الأول بين الخيال والواقع، وتتهاوى قصة الحب الأولى الخيالية. لكن السؤال الباقي هو: هل استفاد الشاب ـ أو الفتاة ـ من تلك التجربة الأولى؟
نقول: بالتأكيد نعم. والاستفادة تتركز في عملية تدريب المشاعر على تصور المثاليات وكيفية التضحية من أجل الآخر، وسبر أغوار الشخص الآخر بهذا الخيال. كل ذلك يضيف للشباب ـ أو للفتاة ـ خبرة عالية. ويتم صقل هذه الخبرة من خلال الواقع، ويتعرف الشاب ـ أو الفتاة ـ على الحقيقة الواضحة، وهي أن الحب لا يقوم على التخيل فقط ولكن على مدى تقبلنا لصفات الطرف الثاني ومميزاته.
ولذلك فإن الإنسان ـ شاباً أو فتاة ـ عندما يبلغ التاسعة عشرة يجد نفسه واحداً من أربع مجموعات:
المجموعة الأولى: وهي التي يدخل الواحد منها في علاقة عاطفية جديدة. وتقوم هذه العلاقة على معرفة لا بأس بها بكل ظروف الطرف الآخر على أساس واقعي. وبالتالي فإن لقاءات الشخص منهم مع مَن يحبه فيها جزء من الإحساس بالمسؤولية. هذا الإحساس جيد، ولكنه أيضاً إحساس ثقيل، لأنه يشتت قدرات الإنسان في مجال دراسته. إن الإنسان منهم يسعى للتواجد مع مَن يحب معظم الوقت، ويكون ذلك على حساب قدرته على إنجازات أساسية يجب أن يقوم بها لاكتساب مكانة علمية أو أدبية.
والمجموعة الثانية: وهي التي يعرف الواحد فيها أنه غير مستعد جدياً للوقوع في الحب، ولكنه يرتبط بعلاقة صداقة منتظمة مع فرد من الجنس الآخر.
المجموعة الثالثة: وهي التي يكون الواحد منهم على غير استعداد للدخول في علاقة منتظمة مع طرف من الجنس الآخر، لا لعدم الثقة بالنفس ولكن لأن الإنسان منهم غير مستعد للتجربة.
المجموعة الرابعة: وهي التي يكون الإنسان منهم خجولاً في تعامله مع الجنس الآخر ولا ينسحب هذا الخجل ليؤثر سلبياً على طاقته الإبداعية، بل يكون الإنسان منهم منتجاً وناضجاً. ولابد هنا من أن نقول: إن بعضاً من أعظم المبتكرين في العلوم والفنون كانوا من هذا النوع الخجول. وهذا الخجل لم ولن يمنع أحداً من أن يتزوج ويبني حياة أسرية ناجحة.
وقد قمت بعرض هذه النوعيات المتعددة من الشباب لأذكر أن كل انسان منهم هو كائن طبيعي وادي. أقول ذلك لأن بعضاً من الشباب يتهم إحساسه بالخجل بأنه عقبة في سبيل بنائه لحياته العاطفية. والبعض الآخر يتهم نفسه بأنه غير أمين في مشاعره، لأنه يبحث عن لقاء متجدد مع أي طرف من الجنس الآخر لمجرد إثبات الوجود. بل هناك من الشباب على وجه الخصوص مَن ينغمس في علاقة جسدية لمجرد إثبات الإحساس بالرجولة لأنفسهم، وغالباً ما يخرجون من مثل هذه التجارب بإحساس كبير بالذنب.
إن الشاب في مرحلة المراهقة لا يجب أن يجد السيارة الفارهة والعلاقة السهلة، لأن ذلك يبدد طاقاته في التظاهر ويعاني من عنف الإحساس بالقلق في التلقي الدراسي.
وعدد نادر من الشباب هو الذي يمكنه أن يتوازن دراسياً في مثل هذا الإطار.
وعدد أقل ندرة من الشباب هو الذي يتميز بالطموح الثابت وبالقدرة العالية على تحمل المسؤولية، ولابد أن تكون زوجته مثله.
وتشهد العيادات النفسية في أوروبا وأمريكا عدداً كبيراً من الشباب الذي يعاني من التشوش والقلق والارتباك وعدم القدرة على تحديد المهنة، وذلك بسبب الزواج المبكر.
ولنا أن نلحظ أن الذين يرغبون في استكمال تعليمهم الجامعي يبخلون بمشاعرهم فلا يبددونها في العلاقة العاطفية أو الجسدية، ولكن الذين يعملون بعد الدراسة الثانوية والتأهيل المهني يميلون إلى بدء الحياة الأسرية والدخول في قصص حب تقودهم إلى الزواج، فالعمل في أي مهنة لا يتطلب الضبط النفسي الذهني الذي تتطلبه الدراسة.
ولكن، هل معنى ذلك أن الشاب لا يجب أن يسمح لنفسه بالوقوع في الحب خشية أن يفشل دراسياً؟
إن أغلب الحالات التي يرهقها الانغماس العاطفي الرومانسي في قصص حب أثناء الدراسة الجامعية تدفع ثمن ذلك من قدرتها على التفوق. ولكن هذا لا يعني أن الإنسان الشاب يجب أن يحيا دون عاطفة، خصوصاً وأن الحياة العاطفية قد يتحكم فيها الإنسان وقد تتحكم فيه، وتهذيب الحياة العاطفية يقتضي امتلاك الشاب ـ أو الفتاة ـ لهدف علمي أو فني كبير.
والملاحظة المؤكدة أن غالبية من تقودهم العلاقة العاطفية في المراهقة إلى الزواج نراهم يعيشون حياة مضطربة.
ومع التراخي الاجتماعي الذي أصاب المدن الكبرى في الغرب، ظهر نموذج جديد للعلاقات بين الشباب والبنات خصوصاً هؤلاء الذين وصلوا إلى السنة النهائية في التعليم الجامعي. لقد انغمست أعداد كبيرة من هؤلاء الشباب والبنات في علاقات من نوع خاص.
وكلمتي للشباب هنا ألا يحاولوا تقليد أحد في نمط الحياة، ولكن لهم أن ينظروا إلى آبائهم فهم المثل والنموذج الذي يمكنهم أن ينقدوه ويقيموه مع الحرص على أن يضعوا في الاعتبار مشاعر هؤلاء الكبار. فإذا كانت مثل هذه الفكرة مقبولة من الآباء فيمكنهم أن يطبقوها، وأما إذا كان الفزع هو أسلوب استقبال الآباء لها فإن الشاب حتى ولو أقدم على هذه التجربة لن يشعر فيها بالراحة، حتى ولو كان غيره من الشباب يفعلها ويعيشها.
إن الكبار ـ أردنا أم لم نرد ـ يسكنون في ضمائرنا وعلينا احترام الضمير لنتواءم مع أنفسنا.