ولأجل أن يتضح دور فلتة اللسان في فضح أسرار الانسان، نستشهد بقصة الفتاة التي فقدت بكارتها نتيجه غفله . لما كانت الفتاة تحمل في داخلها خاطرة سوداء وذكريات مرة عن حادثة (كرج) وتخاف من انفضاح أمرها بشدة، فهي تصمم على أن لا تتحدث عن (كرج) ولا عما شاهدته هناك. وتلاقي لذلك عنتاً شديداً وتراقب نفسها دائماً. ويصادف أن تذهب إلى زيارة عمها بصحبة أبويها، وذلك بمناسبة عودته من زيارة الامام الرضا عليه السلام بخراسان. وتذهب العشيرة كلها بصورة تدريجية لزيارته، الغرفة مكتظة بالزائرين، والكل يباركون قدوم الزائر الجديد. وعلى الفتاة أن تتكلم بكلمة أو كلمتين وتحيي عمها بذلك، وفي اللحظة المناسبة، وعندما يلتفت عمها نحوها ترفع صوتها وتقول مع كمال الأدب: لقد شرفت يا عمي العزيز، أهلاً وسهلاً بك، قرت الأعين بك، تقبل الله الزيارة أرجو أن تكون قد استأنست كثيراً بزيارة (كرج). العم يبتسم، ثم يتشكر منها ولكنه يقول: أنا لم أذهب إلى كرج بل كنت ذاهباً إلى مشهد، وهنا تضطرب الفتاة وتحس بارتباك شديد وتعتذر من خطأها.
إن الاتيان بكلمة (كرج) بدلاً من (مشهد) يمكن أن يعد أمراً اعتيادياً جداً في أنظار الناس، وربما يحمل الأمر عندهم على خطأ لفظي، ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى عالم نفساني. فإن لكلمة (كرج) التي فلتت من لسان الفتاة جذوراً في نفسها. فيجب البحث عن منشأ هذه الكلمة، خصوصاً وأن الفتاة قد تغير لونها وارتبكت بعد أن عرفت أنها أخطأت فإن عينيها المضطربتين ووضعها المرتبك يكشفان عن بركان ثائر في باطنها.
قد تنبعث من النار المستورة بالرماد شرارة ترشدنا إلى أن في قلب الرماد ناراً، وإن فلتات اللسان والحركات غير الارادية تشبه الشرارة المنبعثة من باطن الرماد والتي يمكن الاستناد اليها في الوصول إلى الضمير الباطن.
"من المتاهات التي أخضعها فرويد لبحوثه في بدء اختراعاته هي الأفعال الساهية، إن المراد من الأفعال الساهية في اصطلاح النفسيين، هو الأفعال التي تصدر من الانسان وهي فاقدة للأهمية في بداية الأمر. كالاشتباه في استعمال الألفاظ أو العبارات. إن علم النفس القديم كان يعزو عبثاً هذه الاشتباهات وهذا النوع من السهو في الكلام إلى الصدفة والتعب الفكري، والذهول وعدم الدقة. أما فرويد فلم يكتف بهذه الايضاحات وأخذ يبحث بدقة أكثر، لماذا ينفضح الذهول؟ وما معنى الذهول أصلاً؟ أليس سوى ظهور الأفكار والتوجيهات التي لا يراد لها الظهور في وقت ما؟ لماذا لا يقع عمل إرادي، ويقع بدلاً منه عمل من دون أن يريده شخص؟ نحن نفكر، نريد أن نتكلم وفجأة نعبر بعبارة أخرى غير التي كنا قد أعددنا لها في أذهاننا لماذا؟ لا بد من ميكانيكية تجعلنا نتفوه بكلمة بعيدة عن ذهننا تماماً بدل الكلمة التي نريد استعمالها كقطعة النقد الزائفة. لا بد من وجود ميكانيكية خاصة توجد انحرافاً في خواطرنا في نفس اللحظة التي نريد أداء الكلمة المقصودة".
"إن العمل العابث ليس كما تظن الغالبية عملاً ناشئاً من الذهول والارتباك في التفكير، بل إنه أحد الموارد التي تظهر فيها الفكرة المكبوتة من أعماق عالم اللاشعور. هذه الأخطاء إنما هي نماذج مما تحاول الارادة الشعورية إخفاءه بصورة دائمة".
"من هنا يستنتج: أن العمل العابث والساهي يفضح أمر صاحبه دائماً تقريباً"1.
إن الفتاة كانت تريد أن تقول (مشهد) ولكن فلتت على لسانها كلمة (كرج). ومع الانتباه إلى سوابق الفتاة وأنها تعيش حياتها في اضطراب وتشويش بال لفترة غير قصيرة، وأنها مصابة بمرض نفسي وتبتعد عن الزواج وعن ذكره فان الاتيان بتلك الكلمة أمر يسترعي الانتباه فباستطاعة الوالدين أن يكتشفا ضميرها الباطن ويطلعان على سرها المكتوم. ولقد ظن البعض أن فرويد هو أول من التفت إلى هذه النكتة مستعيناً بفلتات اللسان في الوصول إلى كشف الأسرار. يقول (فليسين شاله) في موضوع السهو، والاشتباه، ما يلي: "إن فرويد ينسب إلى جميع هذه الأفعال التي تعتبر لأول وهلة مجرد مصادفة واعتيادية، طابعاً لم يتوصل إليه فكر أحد، ويكتشف وراء تلك الأفعال عن قضايا مخبوءة أو استياء، أو ميل نحو أمر مضاد"2.
لقد صرح الامام أمير المؤمنين عليه السلام بهذه الحقيقة النفسية في كمال الوضوح حين قال: "ما أضمر أحد شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه"3.
يمثل فرويد للكلام الساهي العابث بمثال ننقطه نصاً:
"يقف معلم في حصة الانشاء بالنسبة إلى موضوع إنشائي أعده أحد تلاميذه. على سبيل التمجيد به، ويقول خطأ: (لا أعلم كيف اذم!) إن المعلم بحسب فحواه الارادية وأفكاره الشعورية لما كان في مقام التمجيد فلا بد أنه كان يريد أن يقول: (أمدح). ولكنه لما كان عالماً بتفاهة الموضوع الانشائي الذي كتبه التلميذ فكان مقصوده متوجهاً نحو (المذمة) نفسها. وعلى هذا فان فلتة المعلم في كلامه كشفت عن نيته الأصلية والباطنية تلك النية التي كان يريد أن يسترها بإرادته الشعورية لمبررات خاصة ويظهرها في صورة المدح والتمجيد. وفي الحقيقة فانه في حين ارتكاب ذلك الخطأ قد عبر عن عقيدته التي كان يبطنها، ولكنه كان يتفادى ظهورها"4.
وإذا حاول أحد أن يختصر هذه العبارة، ويوجز هذا النص فلن يستطيع أن يأتي بأجمع وأشمل من كلام الامام أمير المؤمنين عليه السلام. فسلام على روح طاهرة من إمام كشف كثيراً من الحقائق العلمية قبل أربعة عشر قرناً في عبارات قصيرة وجمل مفيدة.
لقد أخطأ فليسين شاله حين ادعى أن هذا الموضوع لم يخطر ببال أحد حتى زمان فرويد، وإن حديثه لا يستند إلى بحث علمي متين فليس فرويد أول من تنبه إلى فلتات اللسان. لقد سبقه إليها قائد الاسلام العظيم في عبارة قصيرة جداً بكل صراحة، وأوضح دورها في كشف الأسرار المخبوءة.
هناك أحاديث أخرى في الكتب الدينية في هذا الموضوع. وبالرغم من أنه لم يصرح فيها بالكلمات الساهية وفلتات اللسان، إلا أنه يمكن استفادة هذا الموضوع منها، يقول الامام أمير المؤمنين عليه السلام: "إن أحببت سلامة نفسك وستر معايبك، فأقلل كلامك، وأكثر صمتك"5إن الانسان لا يكشف عن عيوبه الباطنية مع إرادته واختياره أبداً، ولكنه حين يثرثر فقد تفلت من بين كلامه ودون اختيار أو قصد بعض أسراره وعيوبه، وكذلك ورد عنه عليه السلام: "قلة الكلام تستر العوار، وتؤمن العثار"6. ويقول الامام الجواد عليه السلام راوياً عن جده: "المرء مخبوء تحت لسانه"7أي أن اللسان يستطيع أن يكشف سر الانسان إما عمداً أو سهواً.
وعن الامام علي بن أبي طالب عليه السلام: "إياك وفضول الكلام فإنه يظهر من عيوبك ما بطن، ويحرك عليك من أعدائك ما سكن"8.
محمد تقي فلسفي
المصادر:
1- فرويد ص:35.
2- فرويد وفرويديسم ص:48.
3- نهج البلاغة ص:518.
4- فرويد ص:37.
5- غرر الحكم ودرر الكلم طبعة دار الثقافة. النجف الأشرف ص:274.
6- غرر الحكم ودرر الكلم ص:537، ط النجف.
7- بحار الأنوار ج 17ص101.
8- غرر الحكم ودرر الكلم ص:155.