ثالثاً: السؤال الثالث: |
|
|
وبعد فاصلٍ قصير من الصمت ابتدأنا (سعيد) قائلاً :
أرجو أن لا أكون أطلت عليكم فهل ترون أن نؤجل بقية كلامنا للغد ؟
فقلنا جميعاً: كلا . . كلا . . لم تطل ، ونرجو منك أن تتابع الكلام وتحدثنا عن السؤال الثالث الذي فهمته من كلامنا
حول الشعائر الحسينية.
فقال (سعيد): أما السؤال الثالث الذي تضمنه سؤالكم السابق فهو :
لماذا البكاء على الحسين (عليه السلام) ، فالبكاء ليس هو الطريق الوحيد لإثارة عواطف الناس وأحاسيسها ، بل هناك الفرح والسرور ، وممكن أن تثار بهما العاطفة ، فلماذا خصوص البكاء والحزن في المراسيم والشعائر الحسينية ؟! بل لماذا اللطم وضرب الصدور ؟ لماذا لا نحتفل ونوزع الحلوى بين الناس لأجل ذلك ؟
فماذا تقولون أنتم في جواب هذا السؤال ؟
فسبقت أنا أصحابي وقلت : نحن نعلم بالوجدان أن الضحك غير مناسب في مثل هذه المناسبات لكنني لا أعلم الجواب الدقيق لذلك .
فقال (سعيد) : لقد اقتربت في كلامك من الجواب ، ولكن الأدق أن يقال: إن العواطف والأحاسيس لها أنواع مختلفة ،
وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى دليل ، فنحن نعلم أن الإنسان يضحك في حالات الفرح ويبكي في حال الحزن ، ويتألم في حال الألم و... إلى ما شاء الله من الأحاسيس ، وإثارة أي نوع من العاطفة لابدّ أن يكون مناسباً لتلك الحادثة ، فلا يمكن للإنسان أن يبكي بكاءً حزيناً ويقول: أنا حزين وأبكي لأنني فرحان ، كما لا يمكنه أن يضحك في حال الحزن!!
فالمهم إن نوع العاطفة يتناسب مع نوع الحادثة ، فشهادة الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وصحبه في تلك الحادثة المهولة التي أعطت أعظم الدروس في التضحية من أجل العقيدة والمبدأ لا يناسبها الفرح والسرور؛ لأنها بنفسها حادثة محزنة ومؤلمة ، غاية الحزن والألم فلابدّ فيها من عاطفة تلائهما ، ولابدّ من القيام بعمل يثير حزن الناس ، ويجري دموعهم ، ويفرس العشق والحماس والحرقة في قلوبهم ، والشيء الذي يمكن أن يقوم بهذا الدور في هذه الحادثة هو إقامة مراسم العزاء والبلاء ، بينما السرور والضحك لا يستطيع أن ينهض بهذا
الدور.
إن الضحك لا يخلق من الإنسان إنساناً طالباً للشهادة.
ولا يعبّد الطريق أمامه كي يتحمل أعباء آلام ومصاعب الحروب التي تفرض على المؤمنين. إن مثل هذه الأمور تحتاج إلى عشق نابع من البكاء والحماس والحرقة ، وسبيل ذلك هو إقامة مجلس العزاء.
رابعاً: السؤال الرابع: |
|
|
بقي سؤال واحد كان بودي أن الحقه بالأسئلة السابقة من الممكن أن يثار وبالخصوص في زماننا هذا ، زمن المغالطات والتلاعب بالألفاظ لتحقيق الأغراض.
فلقائل أن يقول: آمنّا معكم بأن تاريخ الحسين (عليه السلام) تاريخ مشرق يجب تخليده ، ولابدّ من إقامة العزاء في ذكراه ، إلا أنكم في عزائكم هذا تفعلون أمراً آخر، وهو أنكم تلعنون أعداء الحسين وقتلته ، وهذا إحساس سلبي لا يصنع
منّا أناساً متحضّرين ، فعلينا أن نتعامل مع جميع الناس بوجه حسن؛ بالابتسام إليهم ، والتسامح معهم ، فالمجتمع اليوم لا يستسيغ هذه الأعمال ، علماً أن الإسلام دين محبة وتسامح ورحمة ورأفة؟
والجواب على ذلك: إن من يطرح هكذا أفكار إن كان جاهلاً وينطق عن جهله ، فمن السهولة اجابته إلاّ أن الكثير ممّن يطرح هذه الأفكار إنّما لهم أغراض خاصة أو يريدون تنفيذ ما يخطّطه الآخرون ، لكننا نفترض أن السؤال سؤال علمي ، فلابدّ حينئذ من الاجابة عليه بصورة علمية ، مهما كان مصدره ، ويمكن الإجابةً عليه بأن نقول:
إنّ النفس البشرية كما أنها لا تحتوي على العلم فقط بل لابدّ لها من العاطفة أو الأحاسيس ، فهي في نفس الوقت لا تحتوي على الأحاسيس الإيجابية فقط ، بل ضمت أحاسيس سلبيه كذلك، فكما أن الفرح قد غرس فينا فكذلك الحزن ، فالله تعالى أوجد فينا قابلية الضحك كما أوجد قابلية البكاء ،
ولكل منهما دور في حياة الإنسان ، فنحن نحتاج إلى الضحك في محله ، ونحتاج إلى البكاء في محله ، فإذا عطلنا أحدهما فإننا عطلنا جزءاً من وجودنا وسيصبح خلقه فينا لغواً حينئذٍ.
كما أن الله تعالى خلق فينا المحبة لنبرزها للآخرين الذين يخدموننا أو للأفراد الذين يملكون كمالاً ما، سواء كان كمالاً جسدياً أو روحياً أو عقلياً ، فعندما يتعرف المرء على إنسان يمتلك كمالاً ما فإنه ينجذب إليه ، كما يوجد في الإنسان شيء يقابل المحبة موجود في فطرته وهو البغض والعداوة ، يبرزه الإنسان لمن أراد به السوء والأذى ، وهذا أمر فطري.
وليس هناك عدو أعدى من الذي يريد سلب الدين عن الإنسان ، فهذا العدو هو أشد الأعداء ضراوة ؛ لأنه يريد سلب السعادة الأبدية من الإنسان ، قـال الله تعالى : « إِنَّ الشَّيْطَان
لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا » (1) ، فالشيطان عدو لنا ؛ لأنه يريد سلب ديننا عنّا ، ولا يمكن في حال من الأحوال أن نتصالح مع الشيطان ، وإذا حدث أن تصالح إنسان مع الشيطان فسينقلب ذلك الإنسان بنفسه ويصير شيطاناً ، فإن كان لابدّ من محبة أولياء الله وعباده المخلصين ، فلابدّ حينئذٍ من معاداة أعداء الله ؛ لأن الإنسان إذا لم يعاد أعداء الله ويبغضهم سيصبح بالتدريج منهم ، ويكون سلوكه كسلوكهم ، وسيقبل أعمالهم وأفعالهم وأقوالهم ، نتيجة لمعاشرته لهم.
أنظروا ـ يا أخواني ـ إلى القرآن ماذا يقول: « وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ » (2) ، يعني أترك الذين يهينون الدين ويستهزئون به. ثم يقول في موضع آخر إن من لا يقبل النصيحة السابقة فإن الله تعالى سيلحقه بأولئك
(1) سورة فاطر: الآية 6. |