النوع الثاني : الاكراه على الفعل المحظور
لا شكّ أنّ الشريعة لم تبح جميع الاَفعال المحظورة بلا قيد أو شرط ، لاَنَّ الاَفعال المحرمة ـ في نظر الشريعة الغراء ـ على نحوين :
أحدهما ، تسوغ معه التقية حال الاكراه عليه ، وأمثلته كثيرة كالتقية في السرقة ، أو اتلاف مال الغير ، أو الاِفطار في شهر رمضان ، أو تأخير الصلاة، أو الامتناع عنها إذا اقتضى الاكراه ذلك ، أو شرب الخمر ـ على خلاف فيه ، ونحوها من الاُمور التي يجوز ارتكابها عند الاكراه عليها .
والآخر ، لا تسوغ معه التقية مطلقاً وفي جميع الاَحوال مهما بلغت درجة الاكراه عليه ، كالاقدام مثلاً على قتل مسلم بريء بحجة الاكراه ،
____________
1) التفسير الكبير | الفخر الرازي 8 : 15 .
( 20 )
فهنا لو أقدم المكره على القتل فلولي الدم القصاص بلا خلاف بين سائر فقهاء الشيعة ، وأحاديثهم المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعترته عليهم السلام صريحة بهذا كل الصراحة ، وأيدهم على هذا أكثر فقهاء المذاهب سوى الاحناف كما سيأتي بيانه في مكان آخر في هذا البحث .
ومما يجب التنبيه عليه هنا ، هو أن التقية ليست واجبة شرعاً في جميع حالات الاكراه ، فهي قد تكون واجبة ، أو محرمة ، أو مباحة ، أو مندوبة ، أو مكروهة بحسب الاحكام التكليفية الخمسة ، ولكن ليس لاحكامها ضابط معين بحيث لا يمكن تجاوزه في جميع حالات الاكراه ومن أي مُكرَه ، كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدم .
نعم يستثنى من ذلك ما نصّ عليه الدليل المعتبر ، وأمّا ما لا نصّ فيه من صور الاكراه فيترك تقدير الاقدام على التقية فيه لمن يحمل عليها قسراً، مع مراعاة اجتناب أصعب الضررين ، وسيأتي المزيد من التوضيح في بيان حكم ما يُكْرَه عليه ، مع صلة بعض القواعد الفقهية بهذا البيان .
حكم ما يُكّرَه عليه :
إنّ من الثوابت التي لا يشك بها أحد هو أن الدين الاِسلامي دين اليسر ورفع الحرج ، إذ أباحت الشريعة الاِسلامية للمضطر والمكره ارتكاب المحظور شرعاً ، كل ذلك من أجل أن يعيش الاِنسان حياة حرّة كريمة بعيدة عن كل ما يتلفها أو ينتقص من كرامتها وقدرها ، حتى ولو أدّى ذلك إلى ارتكاب المحرمات ، أو المساس بحقوق الآخرين التي صانتها الشريعة الاِسلامية نفسها وبأروع ما يكون .
ومن هنا انطلق فقهاء المذاهب الاِسلامية ليقعّدوا بعض القواعد
( 21 )
الفقهية المعبرة عن يسر هذا الدين العظيم وروحه السمحة ، ومن بين تلك القواعد الفقهية المتفق عليها ، قاعدة الضرر يُزال ، وقاعدة الضرورات تبيح المحظورات ، وغيرهما من القواعد الفقهية المتفرعة عن قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) (1) . وقد استمدوا هاتين القاعدتين من أُصول التشريع الاِسلامي: قرآناً وسُنّة .
والسؤال المهم هنا ، هو : هل أنّ الشريعة الاِسلامية أباحت للمُكْرَهِ أو المضطر كل محرم ـ مهما كان ـ بسبب ذلك الاكراه أو الاضطرار .
وبعبارة أُخرى : هل أن حديث الرفع المشهور عند جميع المذاهب الاِسلامية) (2)، يجري على كل اكراه ، أو أنّ له حدوداً ثابتة لا يمكن تجاوزها بحال ؟
والواقع ، إن الاِجابة المفصلة على هذا التساؤل المهم جداً في بيان حكم ما يُكرَه عليه ، لا يمكن أن تتم ما لم يُعرَف قبل ذلك نوع الضرر المهدد به المكرَه ، مع معرفة الآثار السلبية الناجمة عن تنفيذ المكرَه للنطق أو الفعل الذي أُكْرِه عليه .
بمعنى ، ان تكون هناك معرفة بحجم الضرر المهدد به المُكْرَه ، مع معرفة المحرّم الذي يراد تنفيذه كرها ؛ لكي تجري عملية موازنة بين الضررين ، حتى يرتكب أخفهما حرمة في الشريعة .
وفي المسألة صور كثيرة جداً ، إذ قد يكون الاِكراه ، على قتل مسلم ، أو
____________
1) اُنظر : الاَشباه والنظائر | السيوطي : 173 القاعدة الرابعة ، طبعة دار الكتاب العربي . واُنظر قاعدة لا ضرر | السيد السيستاني 1 : 158 .
2) سيأتي ذكر الحديث في أدّلة التقية من السُنّة النبوية .
( 22 )
زنا ، أو قطع بعض الاطراف ، أو شرب خمر ، أو قذف مؤمن ، أو شهادة زور ، أو سرقة مال ، ونحوها .
وقد يكون التهديد والوعيد ، بالقتل ، أو التعذيب ، أو السجن ، أو النفي، أو الاهانة ، أو التشهير ، أو الغرامة المالية ، أو هتك العرض ، أو تهديم الدار، أو الفصل من الوظيفة ، وغيرها .
وهذه الصور الكثيرة يمكن جمعها في ثلاث صور لا رابع لها وهي :
الصورة الاُولى : ان يكون الضرر المهدد به المُكْرَه تافهاً وحقيراً ، بينما يكون المحرّم المراد ارتكابه عظيماً وجسيماً .
الصورة الثانية : عكس الاُولى .
الصورة الثالثة : يتساوى فيها الاَمران .
وهذا ـ مع قربه من الاجابة على التساؤل السابق ـ إلاّ إنّه لا يكفي في ذلك ؛ لوجود جوانب أُخر ذات صلة وثقى بتحديد الجواب ، ويأتي في مقدمتها ، اختلاف الناس وتفاوت رتبهم ودرجاتهم ، فالاِمام ليس كالمأموم ، والرئيس يختلف عن المرؤوس ، والعالم ليس كالجاهل ، والفقيه ليس كالمقلد ، والنابه الذكي ليس كالخامل الغبي .
ولاشك ان هذا الاختلاف في رتب الناس ودرجاتهم يؤثر سلباً أو إيجاباً في تقدير موقف المكرَه نفسه أولاً ، مع تأثيره المباشر أيضاً في تقدير الافعال أو الاَقوال المطلوبة منه ثانياً ، وفي تقدير الاُمور المخوف بها ثالثاً .
إذ قد (يكون الشيء اكراهاً في شيء دون غيره ، وفي حق شخص دون
( 23 )
آخر) (1).
فقد يرى بعضهم في نوع الضرر المهدد به ما يبرر له ارتكاب المحرم ؛ لاَجل التخلص من ذلك الضرر بأية وسيلة .
ويرى الآخر في ارتكاب المحرم البسيط عند الالجاء القهري إليه خطراً جسيماً على العقيدة الاِسلامية برمتها ، بناءعلى موقعه الديني الرفيع مثلاً، فتراه يقدم على التضحية بكل غالٍ ونفيس ولا يتقي من أحد .
هذا زيادة على أن الاختلاف المذكور له تأثيره المباشر في مسألة التخلص من التقية باستخدام التورية ، فيخدع بها المُكرِه ويخلّص نفسه بها من شرّه .
دور القواعد الفقهية في بيان حكم ما يُكرَه عليه :
حاول الفقهاء ان يجدوا الاِجابة العامّة الشافية للتساؤل السابق من خلال قواعدهم الفقهية المسلّمة الصحة الخاصة بالضرر وكيفية التعامل معه وازالته ، وسوف نشير إلى أهم تلك القواعد على النحو الآتي :
1 ـ قاعدة : يرتكب أخف الضررين لدفع أعظمهما :
صلة القاعدة بالاكراه والتقية :
تصب هذه القاعدة في رافد الاجابة على التساؤل السابق حول حديث الرفع ؛ لاَنّها تفيدنا في معرفة حكم ما يكره عليه الاِنسان ، وقد مرّ ورود لفظ (الاكراه) في الحديث صراحة .
____________
1) الاشباه والنظائر | السيوطي : 370 .
( 24 )
ويتوقف هذا على بيان صلة القاعدة بالاكراه والتقية ، إذ قد يقع الاِنسان بين ضررين وهو مضطر إلى أحدهما ، فيرتكب أخفهما لدفع أعظمهما بموجب القاعدة وحينئذ لا اكراه في المقام ولا تقية من أحد !!
ولكن القاعدة لم توضع لاَجل هذا فحسب ، بل هي عامة تنطبق على موارد الضرر كافة ومن بينها الضرر الناتج بفعل الاكراه الذي لا خلاص منه إلاّ بالتقية شأنها بذلك شأن القواعد الفقهية الاُخرى الآتية الخاصة بالضرر . وتوضيح ذلك يتم من خلال معرفة أقسام الضرر تبعاً لاَسبابه ، وهي :
1 ـ الضرر الناتج من نفس المتضرر ، وهو ما يعبر عنه بالضرر الحاصل من سوء الاختيار كموارد تعجيز الانسان نفسه مثلاً .
2 ـ الضرر الناتج بفعل العامل الطبيعي كالزلازل ونحوها .
3 ـ الضرر الناتج من شخص آخر ، ويعبر عن الضررين الاخيرين بالضرر الحاصل من غير سوء الاختيار .
ومن الواضح ان الاكراه لا يكون إلاّ من الغير كما تقدم في أركانه ، وهذا يعني صلة الضرر الاَخير بالاكراه إذا كان من ظالم ؛ لاَنّ الضرر الحاصل من الغير قد يكون باكراه وقد لا يكون . على أن بعض فقهائنا الاَعلام أدخل موارد التقية حتى في الضرر الناتج عن سوء الاختيار ، كما نجده صريحاً في تقريرات بحث السيد الخوئي الاصولية (1)، إذ ورد فيها القول بصحة تعجيز الاِنسان نفسه في موارد التقية . وبما ان القاعدة لم تختص بمورد ضرري معين كما هو حال القواعد الفقهية الاُخرى ، بل ناظرة إلى مطلق
____________
1) محاضرات في اصول الفقه | محمد اسحاق الفياض 4 : 243 ، مبحث الاَجزاء ، في مسألة حكم الاَضرار بسوء الاختيار .
( 25 )
الضرر فتكون صلتها بالاكراه والتقية واضحة جداً .
وهذه القاعدة الفقهية لا خلاف في صحتها عند جميع الفقهاء ، وهي منسجمة تماماً مع روح التشريع الاِسلامي ومرونته ، وجارية على وفق مقتضيات العقل السليم ، فهي على ما يقول السيد الخوئي قدس سره : (من القضايا التي قياساتها معها ، فلا تحتاج إلى برهان أو مؤنة الاستدلال) (1).
وفيها يقول الندوي : (إذا اجتمع للمضطر محرمان كل منهما لا يباح بدون الضرورة ، وجب تقديم أخفهما مفسدة وأقلهما ضرراً ، لاَن الزيادة لا ضرورة إليها فلا يباح) (2).
وقال الزيلعي: (الاَصل في جنس هذه المسائل : إنّ من ابتُلِيَ ببليتين ، وهما متساويتان يأخذ بأيهما شاء ، وإن اختلفتا يختار أهونهما ؛ لاَنَّ مباشرة الحرام لا تجوز إلاّ للضرورة ، ولا ضرورة في حق الزيادة) (3).
وفي هذا الصدد ، يقول الغزالي : (وارتكاب أهون الضررين يصير واجباً بالاضافة إلى أعظمهما ، كما يصير شرب الخمر واجباً في حق من غص بلقمة ـ أي : ولم يجد ماءً ـ ، وتناول طعام الغير واجباً على المضطر في المخمصة ، وإفساد مال الغير ليس حراماً لعينه ، ولذلك لو اُكْرِه عليه بالقتل وجب أو جاز) (4).
____________
1) اُنظر : مصباح الاُصول 2 : 562 في التنبيه السابع من تنبيهات قاعدة لا ضرر ، المسألة الاُولى .
2) القواعد الفقهية | علي أحمد الندوي : 225 ، دار القلم ، دمشق | 1412 هـ ، وأشار في هامشه إلى قواعد ابن رجب الحنبلي : 246 القاعدة رقم | 112 .
3) الاَشباه والنظائر | ابن نجيم الحنفي : 89 .
4) المستصفى | الغزالي 1 : 89 دار الكتب العلمية | 1403 هـ .
( 26 )
وقد صيغت هذه القاعدة بألفاظ أُخرى في كتب القواعد الفقهية وغيرها ، ومن تلك الصياغات ما تجده في شرح القواعد الفقهية إذ وردت بهذه الصيغة : (إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما) (1) وهي نفسها عند ابن نجيم الحنفي (2)ونظيرها عند آخرين (3).
هذا ، وقد فرّع فقهاء العامّة على هذه القاعدة جملة من الفروع ، نذكر منها ما ذكره الشيخ الزرقا من فروع هذه القاعدة وهي :
أ ـ تجويز السكوت على المنكر إذا كان يترتب على انكاره ضرر أعظم .
ب ـ تجوز طاعة الاَمير الجائر إذا كان يترتب على الخروج عليه شرّ أعظم (4) .