عربي
Friday 17th of May 2024
0
نفر 0

الاكراه على الفعل المحظور

النوع الثاني : الاكراه على الفعل المحظور
لا شكّ أنّ الشريعة لم تبح جميع الاَفعال المحظورة بلا قيد أو شرط ، لاَنَّ الاَفعال المحرمة ـ في نظر الشريعة الغراء ـ على نحوين :
أحدهما ، تسوغ معه التقية حال الاكراه عليه ، وأمثلته كثيرة كالتقية في السرقة ، أو اتلاف مال الغير ، أو الاِفطار في شهر رمضان ، أو تأخير الصلاة، أو الامتناع عنها إذا اقتضى الاكراه ذلك ، أو شرب الخمر ـ على خلاف فيه ، ونحوها من الاُمور التي يجوز ارتكابها عند الاكراه عليها .
والآخر ، لا تسوغ معه التقية مطلقاً وفي جميع الاَحوال مهما بلغت درجة الاكراه عليه ، كالاقدام مثلاً على قتل مسلم بريء بحجة الاكراه ،
____________
1) التفسير الكبير | الفخر الرازي 8 : 15 .


( 20 )

فهنا لو أقدم المكره على القتل فلولي الدم القصاص بلا خلاف بين سائر فقهاء الشيعة ، وأحاديثهم المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعترته عليهم السلام صريحة بهذا كل الصراحة ، وأيدهم على هذا أكثر فقهاء المذاهب سوى الاحناف كما سيأتي بيانه في مكان آخر في هذا البحث .
ومما يجب التنبيه عليه هنا ، هو أن التقية ليست واجبة شرعاً في جميع حالات الاكراه ، فهي قد تكون واجبة ، أو محرمة ، أو مباحة ، أو مندوبة ، أو مكروهة بحسب الاحكام التكليفية الخمسة ، ولكن ليس لاحكامها ضابط معين بحيث لا يمكن تجاوزه في جميع حالات الاكراه ومن أي مُكرَه ، كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدم .
نعم يستثنى من ذلك ما نصّ عليه الدليل المعتبر ، وأمّا ما لا نصّ فيه من صور الاكراه فيترك تقدير الاقدام على التقية فيه لمن يحمل عليها قسراً، مع مراعاة اجتناب أصعب الضررين ، وسيأتي المزيد من التوضيح في بيان حكم ما يُكْرَه عليه ، مع صلة بعض القواعد الفقهية بهذا البيان .
حكم ما يُكّرَه عليه :
إنّ من الثوابت التي لا يشك بها أحد هو أن الدين الاِسلامي دين اليسر ورفع الحرج ، إذ أباحت الشريعة الاِسلامية للمضطر والمكره ارتكاب المحظور شرعاً ، كل ذلك من أجل أن يعيش الاِنسان حياة حرّة كريمة بعيدة عن كل ما يتلفها أو ينتقص من كرامتها وقدرها ، حتى ولو أدّى ذلك إلى ارتكاب المحرمات ، أو المساس بحقوق الآخرين التي صانتها الشريعة الاِسلامية نفسها وبأروع ما يكون .
ومن هنا انطلق فقهاء المذاهب الاِسلامية ليقعّدوا بعض القواعد


( 21 )

الفقهية المعبرة عن يسر هذا الدين العظيم وروحه السمحة ، ومن بين تلك القواعد الفقهية المتفق عليها ، قاعدة الضرر يُزال ، وقاعدة الضرورات تبيح المحظورات ، وغيرهما من القواعد الفقهية المتفرعة عن قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) (1) . وقد استمدوا هاتين القاعدتين من أُصول التشريع الاِسلامي: قرآناً وسُنّة .
والسؤال المهم هنا ، هو : هل أنّ الشريعة الاِسلامية أباحت للمُكْرَهِ أو المضطر كل محرم ـ مهما كان ـ بسبب ذلك الاكراه أو الاضطرار .
وبعبارة أُخرى : هل أن حديث الرفع المشهور عند جميع المذاهب الاِسلامية) (2)، يجري على كل اكراه ، أو أنّ له حدوداً ثابتة لا يمكن تجاوزها بحال ؟
والواقع ، إن الاِجابة المفصلة على هذا التساؤل المهم جداً في بيان حكم ما يُكرَه عليه ، لا يمكن أن تتم ما لم يُعرَف قبل ذلك نوع الضرر المهدد به المكرَه ، مع معرفة الآثار السلبية الناجمة عن تنفيذ المكرَه للنطق أو الفعل الذي أُكْرِه عليه .
بمعنى ، ان تكون هناك معرفة بحجم الضرر المهدد به المُكْرَه ، مع معرفة المحرّم الذي يراد تنفيذه كرها ؛ لكي تجري عملية موازنة بين الضررين ، حتى يرتكب أخفهما حرمة في الشريعة .
وفي المسألة صور كثيرة جداً ، إذ قد يكون الاِكراه ، على قتل مسلم ، أو
____________
1) اُنظر : الاَشباه والنظائر | السيوطي : 173 القاعدة الرابعة ، طبعة دار الكتاب العربي . واُنظر قاعدة لا ضرر | السيد السيستاني 1 : 158 .
2) سيأتي ذكر الحديث في أدّلة التقية من السُنّة النبوية .


( 22 )

زنا ، أو قطع بعض الاطراف ، أو شرب خمر ، أو قذف مؤمن ، أو شهادة زور ، أو سرقة مال ، ونحوها .
وقد يكون التهديد والوعيد ، بالقتل ، أو التعذيب ، أو السجن ، أو النفي، أو الاهانة ، أو التشهير ، أو الغرامة المالية ، أو هتك العرض ، أو تهديم الدار، أو الفصل من الوظيفة ، وغيرها .
وهذه الصور الكثيرة يمكن جمعها في ثلاث صور لا رابع لها وهي :
الصورة الاُولى : ان يكون الضرر المهدد به المُكْرَه تافهاً وحقيراً ، بينما يكون المحرّم المراد ارتكابه عظيماً وجسيماً .
الصورة الثانية : عكس الاُولى .
الصورة الثالثة : يتساوى فيها الاَمران .
وهذا ـ مع قربه من الاجابة على التساؤل السابق ـ إلاّ إنّه لا يكفي في ذلك ؛ لوجود جوانب أُخر ذات صلة وثقى بتحديد الجواب ، ويأتي في مقدمتها ، اختلاف الناس وتفاوت رتبهم ودرجاتهم ، فالاِمام ليس كالمأموم ، والرئيس يختلف عن المرؤوس ، والعالم ليس كالجاهل ، والفقيه ليس كالمقلد ، والنابه الذكي ليس كالخامل الغبي .
ولاشك ان هذا الاختلاف في رتب الناس ودرجاتهم يؤثر سلباً أو إيجاباً في تقدير موقف المكرَه نفسه أولاً ، مع تأثيره المباشر أيضاً في تقدير الافعال أو الاَقوال المطلوبة منه ثانياً ، وفي تقدير الاُمور المخوف بها ثالثاً .
إذ قد (يكون الشيء اكراهاً في شيء دون غيره ، وفي حق شخص دون


( 23 )

آخر) (1).
فقد يرى بعضهم في نوع الضرر المهدد به ما يبرر له ارتكاب المحرم ؛ لاَجل التخلص من ذلك الضرر بأية وسيلة .
ويرى الآخر في ارتكاب المحرم البسيط عند الالجاء القهري إليه خطراً جسيماً على العقيدة الاِسلامية برمتها ، بناءعلى موقعه الديني الرفيع مثلاً، فتراه يقدم على التضحية بكل غالٍ ونفيس ولا يتقي من أحد .
هذا زيادة على أن الاختلاف المذكور له تأثيره المباشر في مسألة التخلص من التقية باستخدام التورية ، فيخدع بها المُكرِه ويخلّص نفسه بها من شرّه .
دور القواعد الفقهية في بيان حكم ما يُكرَه عليه :
حاول الفقهاء ان يجدوا الاِجابة العامّة الشافية للتساؤل السابق من خلال قواعدهم الفقهية المسلّمة الصحة الخاصة بالضرر وكيفية التعامل معه وازالته ، وسوف نشير إلى أهم تلك القواعد على النحو الآتي :
1 ـ قاعدة : يرتكب أخف الضررين لدفع أعظمهما :
صلة القاعدة بالاكراه والتقية :
تصب هذه القاعدة في رافد الاجابة على التساؤل السابق حول حديث الرفع ؛ لاَنّها تفيدنا في معرفة حكم ما يكره عليه الاِنسان ، وقد مرّ ورود لفظ (الاكراه) في الحديث صراحة .
____________
1) الاشباه والنظائر | السيوطي : 370 .


( 24 )

ويتوقف هذا على بيان صلة القاعدة بالاكراه والتقية ، إذ قد يقع الاِنسان بين ضررين وهو مضطر إلى أحدهما ، فيرتكب أخفهما لدفع أعظمهما بموجب القاعدة وحينئذ لا اكراه في المقام ولا تقية من أحد !!
ولكن القاعدة لم توضع لاَجل هذا فحسب ، بل هي عامة تنطبق على موارد الضرر كافة ومن بينها الضرر الناتج بفعل الاكراه الذي لا خلاص منه إلاّ بالتقية شأنها بذلك شأن القواعد الفقهية الاُخرى الآتية الخاصة بالضرر . وتوضيح ذلك يتم من خلال معرفة أقسام الضرر تبعاً لاَسبابه ، وهي :
1 ـ الضرر الناتج من نفس المتضرر ، وهو ما يعبر عنه بالضرر الحاصل من سوء الاختيار كموارد تعجيز الانسان نفسه مثلاً .
2 ـ الضرر الناتج بفعل العامل الطبيعي كالزلازل ونحوها .
3 ـ الضرر الناتج من شخص آخر ، ويعبر عن الضررين الاخيرين بالضرر الحاصل من غير سوء الاختيار .
ومن الواضح ان الاكراه لا يكون إلاّ من الغير كما تقدم في أركانه ، وهذا يعني صلة الضرر الاَخير بالاكراه إذا كان من ظالم ؛ لاَنّ الضرر الحاصل من الغير قد يكون باكراه وقد لا يكون . على أن بعض فقهائنا الاَعلام أدخل موارد التقية حتى في الضرر الناتج عن سوء الاختيار ، كما نجده صريحاً في تقريرات بحث السيد الخوئي الاصولية (1)، إذ ورد فيها القول بصحة تعجيز الاِنسان نفسه في موارد التقية . وبما ان القاعدة لم تختص بمورد ضرري معين كما هو حال القواعد الفقهية الاُخرى ، بل ناظرة إلى مطلق
____________
1) محاضرات في اصول الفقه | محمد اسحاق الفياض 4 : 243 ، مبحث الاَجزاء ، في مسألة حكم الاَضرار بسوء الاختيار .


( 25 )

الضرر فتكون صلتها بالاكراه والتقية واضحة جداً .
وهذه القاعدة الفقهية لا خلاف في صحتها عند جميع الفقهاء ، وهي منسجمة تماماً مع روح التشريع الاِسلامي ومرونته ، وجارية على وفق مقتضيات العقل السليم ، فهي على ما يقول السيد الخوئي قدس سره : (من القضايا التي قياساتها معها ، فلا تحتاج إلى برهان أو مؤنة الاستدلال) (1).
وفيها يقول الندوي : (إذا اجتمع للمضطر محرمان كل منهما لا يباح بدون الضرورة ، وجب تقديم أخفهما مفسدة وأقلهما ضرراً ، لاَن الزيادة لا ضرورة إليها فلا يباح) (2).
وقال الزيلعي: (الاَصل في جنس هذه المسائل : إنّ من ابتُلِيَ ببليتين ، وهما متساويتان يأخذ بأيهما شاء ، وإن اختلفتا يختار أهونهما ؛ لاَنَّ مباشرة الحرام لا تجوز إلاّ للضرورة ، ولا ضرورة في حق الزيادة) (3).
وفي هذا الصدد ، يقول الغزالي : (وارتكاب أهون الضررين يصير واجباً بالاضافة إلى أعظمهما ، كما يصير شرب الخمر واجباً في حق من غص بلقمة ـ أي : ولم يجد ماءً ـ ، وتناول طعام الغير واجباً على المضطر في المخمصة ، وإفساد مال الغير ليس حراماً لعينه ، ولذلك لو اُكْرِه عليه بالقتل وجب أو جاز) (4).
____________
1) اُنظر : مصباح الاُصول 2 : 562 في التنبيه السابع من تنبيهات قاعدة لا ضرر ، المسألة الاُولى .
2) القواعد الفقهية | علي أحمد الندوي : 225 ، دار القلم ، دمشق | 1412 هـ ، وأشار في هامشه إلى قواعد ابن رجب الحنبلي : 246 القاعدة رقم | 112 .
3) الاَشباه والنظائر | ابن نجيم الحنفي : 89 .
4) المستصفى | الغزالي 1 : 89 دار الكتب العلمية | 1403 هـ .


( 26 )

وقد صيغت هذه القاعدة بألفاظ أُخرى في كتب القواعد الفقهية وغيرها ، ومن تلك الصياغات ما تجده في شرح القواعد الفقهية إذ وردت بهذه الصيغة : (إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما) (1) وهي نفسها عند ابن نجيم الحنفي (2)ونظيرها عند آخرين (3).
هذا ، وقد فرّع فقهاء العامّة على هذه القاعدة جملة من الفروع ، نذكر منها ما ذكره الشيخ الزرقا من فروع هذه القاعدة وهي :
أ ـ تجويز السكوت على المنكر إذا كان يترتب على انكاره ضرر أعظم .
ب ـ تجوز طاعة الاَمير الجائر إذا كان يترتب على الخروج عليه شرّ أعظم (4) .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

دور الامام الجواد عليه السلام في الفقه
كيف تعامل أهل البيت (عليهم السلام) مع الناس
مدرسة الإمام زين العابدين (عليه السلام)
إقامة محفل قرآني لأطفال الروضة في حرم الامام علي ...
وصايا الإمام الصادق ( عليه السلام )
معاشرة فاطمة ( عليها السلام ) للإمام علي ( عليه ...
حديث الثقلين - طرق حديث الثقلين - صحة سند الحديث
تلاميذ الامام الصادق(عليه السلام) من أعلام السنة
وصية فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) للإمام علي ( ...
أدعية الإمام الرضا عليه السلام

 
user comment