إنّ الاَفعال الواردة تقية ، المنسوبة إلى الصحابة أو التابعين وغيرهم من علماء المذاهب والفرق الاِسلامية في كتب العامّة أكثر من أن تحصى ، وسوف نقتطف منها ما يأتي :
ما فعله ابن مسعود وابن عمر :
كان ابن مسعود يتقي من الوليد بن عقبة بن أبي معيط والي عثمان على المدينة ، فيصلي خلفه ، على الرغم من أنّ الوليد هذا كان مشهوراً بالفسق وشرب الخمر ، حتى أنّه جُلد على شرب الخمر في عهد عثمان (1)، وكان يأتي المسجد ثملاً ويؤم الصحابة في الصلاة .
وفي شرح العقيدة الطحاوية : «أنّه صلّى بهم الصبح مرّة أربعاً !! ثم قال: أزيدكم ؟ فقال له ابن مسعود : مازلنا معك منذ اليوم في زيادة» (2).
وأما ابن عمر فقد كان يصلي خلف العتاة الفاسقين ويأتم بهم كالحجاج ابن يوسف الثقفي (3)وكان المعروف عنه أنّه «لا يأتي أمير إلاّ صلّى خلفه وأدّى إليه زكاة ماله» (4).
____________
1) صحيح مسلم 3 : 1331 | 1707 كتاب الحدود ، باب الخمر .
2) شرح العقيدة الطحاوية | القاضي الدمشقي 2 : 532 ، ط1 ، مؤسسة الرسالة، بيروت | 1408 هـ .
3) المصنف | ابن أبي شيبة 2 : 378 ، الدار السلفية ، بومباي ، الهند . والسنن الكبرى | البيهقي 3 : 122 ، دار المعرفة ، بيروت .
4) الطبقات الكبرى | ابن سعد 4 : 149 .
( 138 )
وفي حديث جابر بن عبدالله الانصاري ، قال : «سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منبره يقول : لا تؤمّنَ امرأة رجلاً ، ولا يؤم اعرابي مهاجراً ، ولا يؤم فاجرٌ مؤمناً إلاّ أن يقهره بسلطانه أو يخاف سوطه أو سيفه» .
وبهذا الحديث احتج ابن قدامة الحنبلي قائلاً : «لا تجوز الصلاة خلف المبتدع والفاسق في غير جمعة وعيد ، يصليان بمكان واحد من البلد ، فان من خاف منه إن ترك الصلاة خلفه، فانه يصلي خلفه تقية ثم يعيد الصلاة»(1).
ومنه يعلم أنّه لا معنى لصلاة ابن مسعود وابن عمر خلف الفاسقين غير التقية .
ويؤيد خوف ابن مسعود من الظالمين ما مرّ في تقيته القولية من قوله : «ما من سلطان يريد أن يكلفني كلاماً يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلاّ كنت متكلماً به» .
وأما خوف ابن عمر فيدل عليه مبايعته ليزيد بن معاوية وانكاره على عبدالله بن مطيع خروجه على يزيد أبان ما كان من موقعة الحرّة الشهيرة (2) مع أن يزيد كان فاسقاً كافراً باجماع أهل الحق من هذه الاُمّة .
ويدل على خوفه أيضاً ما رواه الهيثمي بسنده عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : «سمعتُ الحجاج يخطب ، فذكر كلاماً انكرته ، فاردت ان أغيّر، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ،
____________
1) المغني | ابن قدامة 2 : 186 ، 192 . والحديث في سنن ابن ماجة 1 : 343 (نقلنا ذلك من بحث «التقية في آراء علماء المسلمين | الشيخ عباس علي براتي : 82» منشور في مجلة رسالة الثقلين، العدد الثامن ، السنة 1414 هـ ، اصدار المجمع العالمي لاَهل البيت عليهم السلام ، قم) .
2) صحيح مسلم 3 : 1478 | 1851 ، كتاب الامارة ، باب رقم | 13 .
( 139 )
قال : قلت : يا رسول الله ! كيف يذل نفسه ؟ قال : يتعرض من البلاء لما لايطيق ») (1).
ويظهر من تاريخ ابن عمر أنّه وقرَ هذا الحديث في سمعه وطبقه في غير موضعه مراراً في حياته .
منها : مبايعته ليزيد حينما خاف سيفه ولم ينكر عليه كما أنكر الاحرار من هذه الاُمّة .
ومنها : أنّه حينما أمن من سوط أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وسيفه ، لم يبايعه واعتزل الاَمر ، ولو كان هناك أدنى خوف على حياته لبايع راغماً .
ومنها : سكوته على التعريض المباشر الذي وجهه إليه معاوية بعد أحداث قصة التحكيم المعروفة بقوله ـ كما في صحيح البخاري ـ : «من كان يريد أن يتكلم في هذا الاَمر فليطلع لنا قرنه، ولنحن أحقّ به منه ومن أبيه»(2).
وقد صرّح العلماء بأن مراد معاوية بقوله : (منه ومن أبيه) هو التعريض بابن عمر ، أي : ولنحن أحق به من عبدالله بن عمر ومن أبيه عمر بن الخطاب(3).
وقد فهم ابن عمر هذا التعريض ولكنه سكت هلعاً من معاوية وزبانيته، باعترافه هو كما في ذيل حديث البخاري ، قال ابن عمر :
____________
1) كشف الاَستار عن زوائد مسند البزار على الكتب الستة | نور الدين الهيثمي 4 : 112 | 3323 ، ط2 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1404 هـ .
2) صحيح البخاري 5 : 140 كتاب بدء الخلق ، باب غزوة الخندق .
3) اُنظر ما قاله العيني في عمدة القارى 17 : 185 ـ 186 . وابن حجر في فتح الباري 7 : 223 . والقسطلاني في ارشاد الساري 6 : 324 ـ 325 ، كلّهم في شرح حديث البخاري المتقدم .
( 140 )
«فحللت حبوتي ، وهممت أن أقول : أحق بهذا الاَمر من قاتلك وأباك على الاِسلام ، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع ، وتسفك الدم» .
ما فعله عبدالله بن حذافة السهمي القرشي :
هذا الصحابي أرسله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكتابه إلى كسرى يدعوه إلى الاِسلام ، في قصة مشهورة ، وقد أسرته الروم في بعض غزواته على قسارية في عهد عمر ، واكرهه ملك الروم على تقبيل رأسه فلم يفعل فقال له ـ في قول ابن عباس ـ : «قبّل رأسي وأطلقك وأطلق معك ثمانين من المسلمين . قال : أما هذه فنعم ، فقبّل رأسه وأطلقه ، وأطلق معه ثمانين من المسلمين ، فلمّا قدموا على عمر بن الخطاب قام إليه عمر فقبّل رأسه، قال : فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمازحون عبدالله ، فيقولون : قبلت رأس علجٍ . فيقول لهم : أطلق الله بتلك القبلة ثمانين من المسلمين»(1).
ما فعله جابر بن عبدالله الاَنصاري من بسر بن أبي أرطأة :
أورد اليعقوبي في تاريخه : أن معاوية وجّه بسر بن أبي أرطأة في ثلاثة آلاف رجل إلى المدينة ثم مكّة ثم صنعاء ليدخل الرعب في نفوس المسلمين ، فطبق وصيته حتى أنّه خطب بأهل المدينة وشتمهم قائلاً : يا معشر اليهود وأبناء العبيد.. أما والله لاَوقعن بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين.. ودعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه،.. وتفقد جابر بن عبدالله..
فانطلق جابر بن عبدالله الانصاري إلى أُم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إنّي خشيت أن أقتل ، وهذه بيعة ضلال ؟
____________
1) أُسد الغابة في معرفة الصحابة | ابن الاثير 3 : 212 ـ 213 | 2889 في ترجمة عبدالله بن حذافة ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت .
( 141 )
قالت : «إذن فبايع ، فإن التقية حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلب ، ويحضرون الاَعياد مع قومهم» (1).
ونظيرها في رواية ابن أبي الحديد أيضاً (2).
ما فعله حذيفة بن اليمان :
هذا الرجل الصحابي كان معروفاً بالمداراة ، حتى قال السرخسي الحنفي في مبسوطه : «وقد كان حذيفة رضي الله عنه ممن يستعمل التقية على ما روي أنه يداري رجلاً ، فقيل له : إنّك منافق !! فقال : لا ، ولكني اشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كلّه» (3).
ما فعله الزهري في كتم فضائل أمير المؤمنين علي عليه السلام :
أخرج ابن الاَثير في أُسد الغابة في ترجمة جندع الانصاري الاَوسي بسنده عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري قال : «سمعت سعيد بن جناب يحدث عن أبي عنفوانة المازني ، قال : سمعت أبا جنيدة جندع بن عمرو بن مازن ، قال : سمعتُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « من كذّب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار » وسمعته ـ وإلاّ صُمَّتا ـ يقول : وقد انصرف من حجة الوداع ، فلمّا نزل غدير خم ، قام في الناس خطيباً وأخذ بيد علي ، وقال : « من كنت وليّه فهذا وليّه ، اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه » .
قال عبيدالله : فقلت للزهري : لا تحدث بهذا بالشام ، وأنت تسمع ملء
____________
1) تاريخ اليعقوبي 2 : 197 ـ 199 ، دار صادر ، بيروت .
2) شرح نهج البلاغة | ابن أبي الحديد 2 : 9 ـ 10 ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، ط2 ، دار احياء التراث العربي ، بيروت | 1385 هـ .
3) المبسوط | السرخسي 24 : 46 ، من كتاب الاِكراه .
( 142 )
أذنيك سب عليٍّ . فقال : والله إنّ عندي من فضائل علي ما لو تحدثت بها لقتلت» (1).
أقول : وقد كان زيد بن أرقم الصحابي المعروف يتقي من الامويين وأذنابهم في كتم حديث الغدير ، وقد أشار لهذا أحمد في مسنده من طريق ابن نمير ، عن عطية العوفي قال : «سألت زيد بن أرقم فقلت له : إنّ ختناً لي حدثني عنك بحديث في شأن علي يوم غدير خم، فأنا أحب أن اسمعه منك ؟
فقال : إنكم معشر أهل العراق فيكم ما فيكم ! فقلت له : ليس عليك مني بأس... الخبر» (2).
ما فعله أبو حنيفة مع المنصور العباسي :
كان أبو حنيفة يجاهر في أمر إبراهيم بن عبدالله بن الحسن ، ويفتي الناس بالخروج معه على المنصور العباسي ، ولكن لما انتهت ثورة إبراهيم بقتله ، تولى أبو حنيفة نفسه مهمة الاِشراف على ضرب اللِّبن وعدّه في بناء مدينة بغداد بأمر المنصور العباسي (3).
ولا شكّ أنّه كان كارهاً لذلك ، ولكنه اتقى من بطش المنصور في هذه الوظيفة التي كُلِّف بها من قبل المنصور نفسه الذي كان على علم بموقفه من ثورة إبراهيم بن عبدالله ، فحاول أن يجد مبرراً لقتله في هذه المهمة ،
____________
1) أُسد الغابة 1 : 364 | 812 .
2) مسند أحمد 4 : 368 واُنظر تعليق العلاّمة الاميني عليه في الغدير 1 : 380 .
3) تاريخ الطبري 1 : 155 في حوادث سنة 145 هـ . وأحكام القرآن | الجصاص 1 : 70 ـ 71 في تفسير الآية 124 من سورة البقرة .
( 143 )
ولكن أبا حنيفة أدرك ذلك منه فاتقاه في قبول ذلك العمل .
ومن تقيته الفعلية مع المنصور أيضاً ما رواه الخطيب في تاريخه من أن أبا حنيفة قبل قضاء الرصافة في آخر أيامه بعد الضغط الشديد عليه بحيث لم يجد بداً من ذلك .
وقد أيّد هذا ابن خلكان أيضاً ، فذكر أن المنصور لمّا أتم بناء مدينة بغداد أرسل إلى أبي حنيفة ، وعرض عليه قضاء الرصافة فأبى ، فقال المنصور : إن لم تفعل ضربتك بالسياط ! قال أبو حنيفة : أو تفعل ؟
قال : نعم .
فقعد أبو حنيفة في القضاء يومين ، فلم يأته أحد ، فلما مضى يومان اشتكى أبو حنيفة ستة أيام ثم مات (1).
ما فعله مالك بن أنس مع الاَمويين والعباسيين :
ويدل على تقيته من الامويين ما قاله الذهبي في ميزان الاعتدال ، قال : «وقال مصعب ، عن الدراوردي ، قال : لم يرو مالك ، عن جعفر ، حتى ظهر أمر بني العباس» (2).
وقد صرّح أمين الخولي (ت | 1385 هـ) ، بان امتناع مالك بن أنس من الرواية عن الاِمام جعفر الصادق عليه السلام في عهد الامويين ، إنّما هو بسبب خشيته منهم (3).
____________
1) تاريخ بغداد | الخطيب البغدادي 13 : 329 . ووفيات الاَعيان | ابن خلكان 5 : 47 ، دار صادر ، بيروت | 1398 هـ .
2) ميزان الاعتدال 1 : 414 | 1519 .
3) مالك بن أنس | أمين الخولي : 94 ، ط1 ، القاهرة | 1951 م .
( 144 )
وأما عن تقيته من العباسيين فهي كنار على علم لا تخفى على معظم الباحثين المطلعين على حياته في ظل الدولة العباسية .
فقد كان مؤيداً لثورة محمد بن عبدالله وأخيه إبراهيم على المنصور العباسي ولكن سرعان ما تم توطيد العلاقة بينه وبين المنصور نفسه بفضل التقية حتى أصبح ذلك الرجل الناقم على المنصور جبروته وطغيانه والمفتي بالخروج عليه والمحث على خلع بيعته ، هو نفسه ـ كما جاء في مقدمة تحقيق كتابه الموطأ ـ الرجل الذي يأمر بحبس من يشاء ، أو يضرب من يريد وفي دولة المنصور نفسه (1)!!
____________
1) راجع مقدمة تحقيق كتاب الموطأ ، ط 1 ، دار القلم ، بيروت | 1382 هـ الوسائل 12 : 262 | 4 باب 27 من أبواب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكرالاَحكام الشرعية الفرعية : إمّا عبادات كالصوم والصلاة ، أو معاملات .
والمعاملات : إمّا أن تكون عقوداً مثل البيع والشراء ، أو ايقاعات كالطلاق والعتق ، أو أحكاماً مثل الحدود والتعزيرات .
ومع كون التقية من الفروع الشرعية بلا خلاف ، إلاّ أنّ فقهاء العامّة لم يفردوا لها عنواناً باسم التقية في كتبهم الفقهية ، وإنّما بحث معظمهم مسائلها في قسم العقود من المعاملات ، وتحديداً في كتاب الاِكراه .
والسبب في ذلك ، هو علاقة التقية بالاكراه مع دخول كل منهما في أغلب الفروع الشرعية . وهذا السبب ليس كافياً في الواقع ، فالشهادات مثلاً مع
( 145 )
صلتها الوثقى بالقضاء ، ودخولها في أغلب الفروع إلاّ أنهم أفردوا لها عنواناً، وكذلك الحال مع الاِقرار والصلح وغيرهما من العناوين الفقهية، وهذا مايسجل ثغرة في المنهج الفقهي الخاص بترتيب مسائل الفقه وتبويبها .
بل ، وثمّة إشكال آخر على بحث مسائل التقية تحت عنوان الاكراه ؛ لما مرّ سابقاً من انتفاء الاكراه في بعض أقسام التقية ، ولهذا ترك بعضهم مسائلها موزعة على مواردها في أغلب الاَبواب الفقهية .
ومن هنا صار بحث التقية فقهياً بحثاً مضنياً يتطلب الرجوع إلى أبواب الفقه كافة ، بغية الوقوف على مسائلها ، وهو ما حاولنا القيام به ، مع مراعاة الاختصار باجتناب الاطالة ما أمكن ، والاكتفاء بالاَهم دون المهم ، والبعد عن كلِّ ما فيه من غموض أو تعقيد .
وقد ارتأينا تقسيم مسائلها على غرار التقسيم الفقهي السائد لفروع الاحكام ، مسبوقاً بما اتصل منها بركن الرسالة الاَعظم : الاِيمان بالله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، أو بالاَخلاق والآداب العامّة كما في مداراة الناس ومعاشرتهم بالحسنى ، كما سنبينه قبل ذلك التقسيم ، وعلى النحو الآتي .