5 - والعاقبة في هذا الصراع للمتقين. ومهما نشكّ في شيء فلا نشكّفي هذه الحقيقة. اءنّ الاُمة المؤمنة لا تدافع عن نفسها، واءنّما تدافع عن دينالله وشريعة الله وحدوده، ولا تواجه أعداءها واءنّما تواجه أعداء الله. ولاتحارب بحولها وقوّتها واءنّما تحارب بحول الله وقوّته.
فاءذا استوفت هذه الاُمّة الشروط ووضعت ثقتها في الله، واعطتنفسها الله، وتخففت عن التعلّق بالدنيا وحبّها وتحصّنت عن
اهوائها، وقامت لله تعالي مثني وفرادي؛ فاءنّ الله تعالي ينصرها طال عليهاالامر أم قصر.
فاءنّ ذلك وعد الله تعالي، ولا يخلف الله وعده. فلنستمع اءلي كتاب اللهالكريم وآياته اءلينا:
(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، اءنّهم لهم المنصورون، واءنّ جندنا لهمالغالبون)
(وكان حقاً علينا نصر المؤمنين)
(اءنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا)
(فاءنّ حزب الله هم الغالبون)
(وكفي بالله ولياً وكفي بالله نصيراً)
(وكفي بربّك هادياً ونصيراً)
(يا ايّها الذين آمنوا اءن تنصروا الله ينصركم ويثبّت اقدامكم)
اءنّ المعركة اءذا طالت، واءذا قست، فلن يتركنا الله لاعدائنا، ولن يتخلّيالله تعالي عنا، ولن يخلف الله وعده، تبارك وتعالي عن ذلك علوّاً كبيراً.
(هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله)
واءنّ محنة الصراع اءن طالت فلكي يمتحن الله قلوب عباده، ويعرفالثابتين منهم عن المهزومين - وهو العالم بخفايا القلوب -، ولكي يثبّتالله للمؤمنين قدم صدق علي ارض المعركة، ولكي يتخفّف المؤمنين فيهذا الصراع من حبّ الدنيا والتعلّق بها. ولكي يزدادوا يقيناً بالله تعالي فيخضّم هذا الصراع؛ فاءنّ الاءنسان لا يرزق اليقين في ايّام الراحة والعافية كمايناله في ساعات الاءبتلاء.
ولكي يتمرّس المؤمنون علي مواجهة التحدّيات الكبيرة وتجاوزالصعاب في سبيل الله ويزدادوا بأساً وقوّة وشجاعة ولكي يقوي فيقلوبهم الولاء والبراءة، فاءنّ الولاء يقوي من خلال التضحية والعطاء،والبراءة تقوي من خلال المواجهة والقتال.
وليس هذا الصراع وما يستتبعه من آلام وعناء يخصّ هذه الثورة اويخصّ هذا الدين، واءنّما هو سنّة الله تعالي في حياة الصالحين من عباده،الذين يرتضيهم الله تعالي لرحمته، والذين يسكنهم الله تعالي في جنّته مععباده الصادقين.
(ام حسبتم ان تُتركوا، ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم، ولم يتخذوا من دونالله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون)
(ام حسبتم ان تدخلوا الجنة ولمّا يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهمالبأساء والضرّاء)
اءنّ نفوسنا الضعيفة لتهوي ان تقتطف النصر من اقرب الطرق وبأيسرالاسباب، وان لا يُكلّفها دينها شيئاً، وان نمدّ ايدينا فننال النصر والاءمامةوالخلافة علي وجه الارض.
لكن الله الحكيم يعلم اءنّ النصر اءذا جاء يسيراً وعلي غير طريق ذاتالشوكة لا يؤهّل الاءنسان للاءمامة وخلافة الله علي وجه الارض، فيريد اللهتعالي لنا ان نتمرّس ونقوي، ونحقّق حاكميّة دين الله في الحياة عليطريق ذات الشوكة.
(وتودون انّ غير ذات الشوكة تكون لكم، ويريد الله ان يحقّ الحقّ بكلماتهويقطع دابر الكافرين، ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل ولو كره المجرمون)
ولنستمع اءلي هذه الا´يات البيّنات من كتاب الله من سورة آل عمرانتشرح سنن الله تعالي في الصراع، والعناء والمحبّة، والنصر والفتح فيتسلسل رائع جميل.
(وَلاَتَهِنُواْ وَلاَتَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ اءِنْ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* اءِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْمَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ا´مَنُواْ وَيَتَّخِذَمِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَيُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ا´مَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَـ'فِرِينَ*أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّـ'بِرِينَ)
وفي هذه الا´يات المباركة من سورة ا´ل عمران اجابات شافية علي كلالاسئلة التي تخطر علي باب المؤمنين في هذا الصراع الرهيب بينالاءسلام والكفر.
لقد كان المسلمون يظنّون بعد ان نصرهم الله تعالي ببدر.. ان النصرحليف الفئة المؤمنة دائماً، ولا يفارقهم ولا يعدوهم، وانّهم اءذا ا´منوا باللهورسوله وجاهدوا في سبيل الله فلن يتخلفوا عن النصر في حال منالاحوال. فلما اذاقهم الله مرّ الهزيمة في اُحد، وانتكس المسلمون في هذهالمعركة عندما خالف الرماة امر رسول الله(ص) وتخلوا عن مواقعهم بحثاًعن الغنائم.. اهتزّت نفوس المسلمين واهتزّت الثقة في نفوسهم بالنصر،وعادوا يشكّون في ان تكون لهم عاقبة الامر، وغلب الضعف عليالنفوس وتمكن الحزن من نفوسهم علي الذين استشهدوا في هذهالمعركة من سراة المسلمين، ومن الصفوة المؤمنة الذين صدقوا اللهواخلصوا له في العمل والجهاد.
فيعيد الله تعالي الي نفوسهم الثقة بالنصر اولاً ويطمئنهم بان العاقبةللمؤمنين، منهما كانت القروح والا´لام والانتكاسات والعناء خلال طريقذات الشوكة، ويمسح الضعف والوهن والحزن عن نفوسهم ويثبتافئدتهم وقلوبهم بالنصر والعلو (وَلاَتَهِنُواْ وَلاَتَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ اءِنْ كُنتُممُّؤْمِنِينَ).
ثم يذكّرهم الله تعالي ان ما مسّهم من القرح في الحرب لم يخصّهمفقط، واءنّما مسّ اعداءهم ايضاً، وهذا القرح وما يصيب المقاتلين من اذيوتعب وخسائر من متطلبات المعركة في كلّ من الطرفين، ولا يمكن انتجري معركة من دون قروح وا´لام:
(اءِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ...).
وقد جرت سُنّة الله تعالي ان يداول الايام بين الناس فيجعل يوماًللمؤمنين علي الكافرين، وا´خر للكافرين علي المؤمنين، وينصر هؤلاءفي يوم ويذيقهم مرّ الانتكاسة في يوم ا´خر.. وهكذا يداول بينهم النصر...علي ان العاقبة للمؤمنين فقط. وهذه المداولة لا تغير مشيئة الله تعالي فيان العاقبة للمتقين.
واءنّما يداول الايام بين الناس، ويذيق المؤمنين الشدّة والرخاء،ونشوة النصر حيناً ومرارة الهزيمة حيناً ا´خر ليتميّز الذين ا´منوا وصدقوافي اءيمانهم وثبتوا علي الاءيمان عن المنافقين وضعّاف النفوس واصحابالنفوس المهزومة.
فانّ مسيرة الدعوة لو كانت محفوفة بالنصر والغنائم دائماً، ومقرونةباليسر والرخاء لتراكمت عليها العناصر المنافقة والعناصر التي تحسنالتسلق، اُولئك الذين يغيبون حين الباس، ويحضرون حين توزيع الغنائم،وتطول السنتهم في المطالبة بالغنائم والحصص.
(فاءذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون اءليك تدور اعينهم كالذي يُغشي عليهمنالموت).
اءنّ مسيرة الدعوة لو كانت تخلو من المكاره ومرارة الاءنتكاساتلتجمّعت حولها هذه الطائفة من المنافقين، وضعفاء النفوس، واحتلّوا منهاالمواقع الحسّاسّة. واذا ما تولّت هذه الطائفة اُمور الدعوة والمسيرة تعطّلدورها القيادي في حياة الناس، وفقدت الدعوة قدرتها علي التغييروالقيادة وتحوّلت الدعوة من طريق ذات الشوكة في مواجهة الطاغوتاءلي مسيرة مترفة عامرة باللّذات ومتع الحياة، وفقدت كلّ اءمكاناتها عليالعمل والتغيير والحركة.
فلابدّ في هذه المسيرة بين حين وآخر من اءنتفاضة قويّة تطردالمنافقين وضعفاء النفوس عن موكب هذه الدعوة، وتستخلص المؤمنينالاقوياء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، واخلصوا لله في عملهم.
فليست مسيرة هذه الدعوة كسائر ما يألفه الناس من مسيراتالانظمة والحكومات التي تطلب الحياة الوديعة المترفة والعافية والابتعادعن المنغّصات حتّي تستطيع ان تعيش مع هؤلاء المنافقين، وتحقّقغاياتها من خلالهم.
امّا عندما تتعرّض هذه المسيرة للا´لام والمحن والمصائب ومتاعبالطريق والدم والانتكاسات المرّة فاءنّ جوّ الدعوة يصفو للمؤمنين،وتخلص هذه المسيرة للصفوة الصادقة من المؤمنين المجاهدين، ويتميّزالمؤمنون عن غيرهم (وليعلم الله الذين آمنوا)، وليس هذا فقط فائدةتداول الايام وتناوب النصر والهزيمة والشدّة والرخاء علي المؤمنين،واءنّما لكي يتّخذ الله منهم شهداء وقدوات وأئمة في الارض أيضاً.
فمن خلال هذه المعاناة، ومن خلال مرارة الانتكاسات وقروحالحروب، وآلام المواجهة تتكون في هذه الاُمة شهداء (بمعني شهداءالاعمال من قبيل قوله تعالي: (وكذلك جعلناكم اُمّة وسطاً لتكونوا شهداء عليالناس)... وقدوات دائمة وامثلة في الثبات والصبر والاءيمان.
اءنّ النماذج الاءيمانية الفريدة في تأريخ البشرية لا تتكون في الحياةالهادئة الوديعة المترفة، واءنّما تتكون في زحام متاعب الحياة، وفي وسطمتاعب العمل، وبين الدماء والدموع.
ولابدّ للمسيرة من هذه النماذج الفريدة في الاءيمان والثبات؛ وهذهالنماذج يتّخذها الله تعالي ويختارها في ظروف المحنة والتداول (ويتّخذمنكم شهداء)، ثم لهذا التداول فائدة ثالثة في تكوين هذه الاُمة وتقويمشخصيّتها؛ وهي انّ هذه القروح والا´لام والمتاعب لتمحّص المؤمنينوتزكيهم وتطهّر قلوبهم من ريب الشكّ، ومن سلطان الاهواء وتخلّصنفوسهم من نقاط الضعف، فلربّ اءنسان مؤمن تخفي عليه نقاط الضعفوالوهن في نفسه في ايام اليسر والعافية، فاءذا جدّ الجدّ واشتد اليأساكتشف نقاط الضعف في نفسه، فأعاد النظر في نفسه وأصلحها.
فلربّ ضعف في نفس الاءنسان لا يستطيع ان يسدّه الاءنسان ويصلحهفي أيام العافية، واءنّما تصلحه الشدة والمعاناة. فاءنّ المعاناة والشدّة كماتصفّي صفوف المؤمنين من المنافقين، كذلك تصفّي نفوس المؤمنينمن نقاط الضعف والوهن والشكّ، وتمحّص المؤمنين.
امّا بالنسبة اءلي الكافرين فاءنّ المعاناة والمحنة تمحقهم وتهلكهموتبيدهم، فلا يستطيع اُولئك ان يقاوموا المعاناة والمحنة.
(وليمحص الله الذين آمنوا، ويمحق الكافرين)
وبعد: فليس من الصحيح ان نتصور انّ كلّ مَن شهد هاتين الشهادتينواسلم او آمن بالله ورسوله يدخل الجنة، فاءنّ في الناس منافقين لا تتجاوزالشهادتان السنتهم، ولا تستقرّ في قلوبهم.
والمؤمنون درجات ومراتب في اءيمانهم، فليس كلّهم بمستوي واحدمن الاءيمان والعمل الصالح.
فهناك المؤمنون الذين يؤثرون العافية علي الجهاد والقتال فيسبيلالله.
وهناك المؤمنون المجاهدون.
وهناك المؤمنون المجاهدون الصابرون.
ومن الخطأ ان نتصور انّ هؤلاء جميعاً في الجنة في درجة واحدة.فلكل درجته وبرتبته ومكانته عند الله. وهذه المرتبة والمكانة تتحدّد فيظروف المحنة فقط؛ حيث يتميّز المؤمن عن المنافق، ويتميّزالمجاهدون عن غيرهم من المؤمنين، ويتميّز الصابرون عن غيرهم منالمجاهدين.
(ام حسبتم ان تدخلوا الجنّة، ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم، ويعلمالصابرين).