عربي
Sunday 28th of April 2024
0
نفر 0

هل القرآن هدى للمتقين فقط؟

هل القرآن هدى للمتقين فقط؟


و هنا يواجهنا سؤال مثير، كيف يكون القرآن هدى للمتقين و لا يكون هدى لكل الناس؟ و هل يحتاج المتقون الذين يعيشون الهدى في كيانهم إلى هداية ليكون القرآن هاديا لهم؟
و الجواب: هو أن المتّقين هم الذين يشعرون بمسؤوليتهم الفكرية و الاجتماعية تجاه العقيدة و الحياة، فهم الذين يعيشون تقوى الفكر التي توحي بالتأمّل و التفكير العميق، فيطلبون الهداية من موقع المواجهة الحادة للمشاكل الصعبة التي تعترضهم في قضايا الصراع، فيقفون أمامها موقف الجادّ الذي لا يعيش حالة اللامبالاة و الاسترخاء الفكري، بل يحاول أن يدخل عملية الصدام                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 107
 الفكري ليفكّر في ما يعرض عليه ليناقشه، فإمّا أن يقتنع به و إمّا أن يرفضه على أساس من الوعي، ثم إن المتّقين هم الذين يخافون اللَّه و يحبونه بإخلاص و إيمان، فيشعرون من خلال ذلك بالمسؤولية التي تتحول إلى مراقبة و محاسبة في الفكر و العمل، فيندفعون في عملية ملاحقة للأسس التي يرتكز عليها الهدى من أجل أن تكون موضع تفكير و مناقشة.
أما الآخرون من غير المتّقين، فهم الذين لا يشعرون بالمسؤولية تجاه أنفسهم، و تجاه ربهم، بل و تجاه الحياة كلها. إنهم يواجهون الحياة مواجهة اللامبالاة و الهروب من كل شي‌ء يتعب الفكر و الوجدان، فلا يحاولون أن يهتدوا، و لا يريدون أن يفكروا بالهدى، فلا يمكن للكتاب أن يكون هدى لهم، لأن الهدى لا بد له من عقل مفتوح و وجدان سليم، و لكنه يظل يطرق أسماعهم منتظرا حالة الوعي الجديدة التي تربطهم بالإرادة الواعية ليهديهم من موقع إرادتهم للهداية، في آفاق اللَّه الرحبة الممتدة بالإيمان.
                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 108
الآيات [سورة البقرة (2): الآيات 3 الى 5]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى‌ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
معاني المفردات‌
يُؤْمِنُونَ: الإيمان: الإذعان للحق على سبيل التصديق.
بِالْغَيْبِ: هو ما لا يقع تحت الحواس و لا تقتضيه بداية العقول، و هو مقابل الشهود الذي يمثل عالم الحسّ.
وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ: يؤدّونها بحدودها و فرائضها و توفية شروطها، من القيام للشي‌ء، و هو مراعاته و حفظه.
رَزَقْناهُمْ: الرزق: هو العطاء الجاري، و هو نقيض الحرمان.
يُنْفِقُونَ: أي: يخرجون أموالهم و يبذلونها لغيرهم ممن يحتاج إليها، من نفق الشي‌ء إذا خرج و مضى، يقال: نفقت الدابة: إذا خرج روحها.                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 109
 يُوقِنُونَ: اليقين: هو سكون الفهم مع ثبات الحكم، و سمّي العلم يقينا لحصول القطع عليه و سكون النفس إليه، فكل يقين علم و ليس كل علم يقينا، و كأن اليقين علم يحصل بعد الاستدلال و النظر لغموض المعلوم المنظور إليه، أو لإشكال ذلك على الناظر، و لهذا لا يقال في صفات اللّه موقن لأن الأشياء كلها في الجلاء عنده على السواء.
الْمُفْلِحُونَ: الفلاح: هو النجاح، و هو الظفر بالحاجة و إدراك البغية، و أصله من الفلح، و هو القطع، و منه: قيل للفلّاح: الحرّاث لأنه يشق الأرض، و في المثل: الحديد بالحديد يفلح، أي: يشق. فالمفلح على هذا كأنه قطع له بالخير.
المعرفة بين اتجاهات العقل و الحسن‌
إننا نواجه في هذه الآيات تحديدا لصفات المتقين في إيمانهم و سلوكهم ضمن إطار يحدّد أصول العقيدة، و يشتمل على الجوانب الأساسية من حركة العقيدة في الحياة. و هنا، نحاول استحياء هذه الصفات من حيث طبيعتها و مدلولها و دورها في حياتنا الروحية و العملية.
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ الإيمان بالغيب صفة أساسية من صفات المتقين.
و للكلمة مجالات متنوّعة تتحرك فيها، فما هو المراد من الإيمان بالغيب؟
الإيمان بالغيب هو الإيمان بالأشياء التي لا يصل إليها الحس بشكل مباشر، و منها الإيمان باللّه، فالإنسان يؤمن باللّه من خلال آثاره، و من خلال مخلوقاته في ما تدل عليه من عظمة الخلق، على الرغم من أنه لا يمسّ و لا                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 110
 يرى، لأن الوجدان يفرض ذلك كحقيقة حاسمة ترتكز على الأسس العلميّة و العقليّة و بذلك تتحول التقوى الفكرية إلى حركة في داخل الذات، تثير فيها اليقين و تقودها نحو الإيمان. أما غير المتقين، فلا يؤمنون إلا بالحسّ و التجربة من دون أن ينفذوا إلى ما وراءهما من قواعد و ركائز فالقيمة الفكرية في القضايا عندهم هي في خضوعها للملاحظة الحسيّة بعيدا عن كل مضمون عقلي أو فكر سابق، لأن الإيمان بالحسّ- كما يقول البعض- يحمل للإنسان المقاييس الطبيعية، التي يمكنه من خلالها أن يعرف الحق و الباطل، إذ من الممكن أن يدرك الإنسان نتائج التجربة في حالتي النجاح و الفشل، فإذا نجحت انطلقت الحياة معه في عملية تكرار يكتشف أبعاد النجاح، و إذا فشلت فإنّها تقف عند حدود التجربة في مراحلها المحدودة، فلا تتكرر لأن الخطأ لا يغري بمعاودة التجربة من جديد.
أمّا الأفكار العقلية- حسب هذا الرأي- فلا يمكن للإنسان أن يلمس بوجدانه مدى الحق و الباطل فيها بطريقة حسيّة، لأنه لا يملك الميزان في ذلك، لأنها ليست من الأشياء المرئية التي تخضع للملاحظة و التأمّل ليرتكز الإيمان من خلالها على قاعدة متينة. و ربما كانت هذه الشبهة من أقوى الشبهات التي أثارها الحسّيون في مقابل العقليّين الذين يقولون بأن هناك أساسا للمعرفة غير الحس.
و لكننا نلاحظ على هذه الشبهة- في مجال الجواب- أنها لا تصمد أمام النقد لأسباب، منها:
أولا: إنّ هذا الدليل الذي أقاموه على خطأ الرجوع إلى العقل، هو دليل عقلي خاضع للملاحظة و التأمّل التجريديّين في البداية، لأنهم يقولون: لو لم نعتمد على الحسّ و التجربة أساسا للمعرفة، لما كان لدينا مقياس دقيق للحق و الباطل، و هذا مما يوحي لنا بطرح سؤال محدد: هل معاني هذه الفكرة من                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 111
 المعاني المحسوسة التي تخضع للتجربة؟! فإن لم تكن كذلك، كانت النتيجة محاولة لإبطال الدليل العقلي بالدليل العقلي. و في هذا تأكيد و تأييد للفكرة التي تؤمن بوجود دليل غير التجربة كأساس للإيمان و القناعة الفكرية و الوجدانية.
ثانيا: إن الحسّ و التجربة لا يصلحان أساسا للمعرفة بشكل عام من دون ضمّ المقدّمات العقلية، لأن التجربة محدودة بزمان و مكان معينين، فلا تنتج إلا النتائج المحدودة بحجم التجربة، أمّا في الإطار العام الذي يمتد خارج نطاقها في تجارب أخرى لم تحدث، فلا مجال لاستكشاف أيّ شي‌ء منها. فإذا أجرينا تجربة معينة و أدّت إلى نتيجة معينة، ثم عاودنا التجربة مع نتيجة مماثلة و هكذا إلى ما شاء اللّه، فإن المنطق الحسّي لا يسمح- من ناحية ذاتية- بأي حكم مماثل في ما يستحدث من تجارب، لأنها لم تخضع للملاحظة بشكل مباشر. كما أننا إذا طرحنا القضية في حالة اختلاف التجربة الثانية عن التجربة الأولى، فإننا لا نستطيع اكتشاف الخطأ من خلال ذلك، لأن لكل منهما، مثلا، ظروفا محدّدة تجعل أية واحدة منهما خاضعة للحظة الزمنية التي عاشت فيها إذا ليس لأي من نماذج التجربة سعة تتجاوز نطاقها.
و لكن المنطق العقلي هو الذي يمدّ التجربة إلى المجال الواسع الذي يتجاوز الظروف الطارئة من الزمان و المكان. و لنضرب لذلك مثلا: لو واجهنا قانونا علميا مثل «الحركة تولّد الحرارة» من خلال مليون تجربة لحالة الحركة، فلا نستطيع الإقرار بالقانون العلمي بصفته الشاملة الممتدة إلا على أساس أحكام عقلية مجرّدة مثل حكم العقل «بأنّ حكم الأمثال في ما يجوز و في ما لا يجوز واحد» و الذي يعني أن الأشياء المتماثلة في الخصائص و في الظروف تكون مماثلة في النتائج، و مثل حكم العقل «بأن الواحد لا يصدر عن متعدد» أو «أن الواحد لا يصدر إلا عن واحد»، و قاعدة «أن الشي‌ء لا يصدق في حالة صدق نقيضه» ... فلو لا ضمّ هذه القواعد العقلية المسلم بها، لما استطعنا أن                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 112
 نمدّ التجربة إلى أكثر من مجالها فإن القاعدة الأولى تتكفّل باعتبار الحالات التي لم تقع تحت التجربة، مماثلة في النتائج لمثيلاتها ممّا وقع تحت التجربة، و تنطلق القاعدة الثانية لتخضع النتيجة الواحدة للمليون حركة لعلة واحدة، و هي طبيعة الحركة بعيدا عن الخصائص الذاتية لكل واحدة منها، لأنه لا يمكن أن تصدر الحرارة الواحدة مثلا عن مليون سبب. و تأتي القاعدة الثالثة لتمنع افتراض الخطأ في موقع افتراض الصواب، لأنّ ذلك يؤدي إلى اجتماع النقيضين المستحيل.
في ضوء ما تقدم، نعرف أن المبادئ العقلية هي التي استطاعت أن تربطنا بالأفكار و القوانين العامّة من خلال التجارب المحدودة و لولاها لما استطاعت التجارب المحسوسة أن تمنح الإنسان الغنى العلمي و الفكري، سواء في القوانين العلمية العامة، أو في المبادئ العامة للحياة.
و ربما نحتاج إلى أن نلفت النظر إلى القاعدة الثالثة، كنموذج حاسم من نماذج المسلمات العقلية البديهية التي تعتبر مقياسا لمعرفة الحق و الباطل في شتى ألوان المعرفة فإن الوجود و العدم لا يمكن أن يجتمعا في إطار واحد في زمان واحد و من جهة واحدة، فهذه الفكرة من الأفكار العقلية القطعية التي لا مجال للشك فيها، كما لا يمكن لأية معرفة أن تستغني عنها، لأن أية وسيلة من وسائل المعرفة لا تملك أية قيمة لنتائجها إذا كان احتمال صدق نقيض النتيجة واردا في حساب الواقع، لأنّ القضية عندها ستواجه إمكانية الصدق و الكذب في وقت واحد. فلو لا هذه القاعدة العقلية التي لا تستند إلى أي أساس تجريبي محسوس، لما أمكن قيام أو إثبات أية معرفة من المعارف.
و خلاصة الحديث، في ما قدمناه، أن التجربة ليست هي المقياس الوحيد لمعرفة الحق و الباطل لتتجمّد المعرفة عند المحسوس، بل هناك العقل                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 113
 الذي يربط الإنسان بالقاعدة الصلبة لمعرفة، سواء في الأفكار التجريدية أو في الأفكار التجريبية.
الإيمان بالغيب‌
و من هذا الاتجاه، نتحرك في الاستدلال على سلامة الفكرة الدينية التي تعتقد بوجود أشياء غير منظورة من القوى و العوالم و الأشياء، كنتيجة لوجود أسس موضوعية في عالم الواقع، للاستدلال على هذه الأشياء، بمعونة الأدلة العقلية الثابتة كما في الإيمان بوجود اللّه سبحانه و تعالى، فإن كل ما حولنا يدل على وجوده و إن لم تدركه أبصارنا، و لم تلمسه حواسنا، انطلاقا من القاعدة العقلية التي تقرّر أن كل ممكن لا بد له من علة موجدة لا تخضع لعلة أخرى، و قد نستطيع إدراك ذلك ببعض وسائل الإيضاح، فنلاحظ أننا نؤمن بأشياء غير محسوسة لنا في نطاق الكون، مما لم يتيسر لنا رؤيته من خلال وسائل القناعة التي نملكها في حياتنا العملية، مما يعني أن المبدأ الذي يقرر واقعية الإيمان بغير المحسوس صحيح و واقع .. أمّا إمكانية الرؤية في ما يستقبل و عدم إمكانيتها فلا يغيّران من الموضوع شيئا. و الإيمان بالغيب هو امتداد للتفكير القائل بأن الحسّ و التجربة ليسا كل شي‌ء في المعرفة بل هناك العقل الذي يسير إلى جانب الحس ليمدّنا بالمعرفة، من خلال الحس أو العقل.
                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 114


source : دار العرفان
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

كلمات سيد القائد في يوم القدس العالمي
الإيمان وعلامات المؤمن
ادعية السفر
الولاء والبراءة‌ بالموقف‌ والعمل‌ وليس‌ ...
أنهم من نور واحد
ادعية مستجابة
أخلاق وصفات الإمام علي بن الحسين السجاد عليه ...
الجمالیة فی أدعیة الامام السجاد(ع)[القسم الثاني]/ ...
دعوة إبراهيم و إسماعيل عند رفع القواعد من البيت
المنهج التثقيفي عند الإمام محمد الباقر عليه ...

 
user comment