4 ـ بغير عدل أفشوه فيكم ولا امل أصبح لكم فيهم:
يقول لهم الاءمام (ع): اءنّ الذي تغيّر هو القلوب، تحولت من الهدي اليالضلال، ومن أولياء الله الي أعداء الله، وانقلبت من الولاء الي البراءة، ومنالبراءة الي الولاء دون أن يتغيّر بنو امية عمّا كانوا عليه.
«بغير عدل افشوه فيكم»:
هاهم بنو امية يمارسون الظلم، كما كانوا يمارسونه من قبل، وامعنوافي الظلم والضلال، وأسرفوا علي أنفسهم في ذلك ايّما اءسراف.
فلم يحدث انقلاب في واقع بني امية، اءنما الذي حدث ردّة فيالقلوب، من محور الولاء الي البراءة، ومن محور البراءة الي الولاء. فاءنهؤلاء الناس انقلبوا من ولاء اهل البيت الي ولاء بني أمية، دون أن يتغيراهل بيت الرسالة: عمّا كانوا عليه من الهدي والصلاح، او يتغير بنوأمية عمّا كانوا عليه من الضلال والظلم.
ولكن الناس انقلبوا من البراءة من بني أمية الي البراءة من اهلالبيت: وقتالهم، ومن الولاء لاهل البيت: الي الولاء لبني أميّة.
«ولا امل اصبح لكم فيهم»:
وكما لم يكن هذا الانقلاب بسبب حصول انقلاب في بني أمية منالظلم الي العدل، كذلك لم يكن بسبب أنَّ الناس اصبح لهم أمل في عدلبني أمية بعد ذلك.
اذن، لم ينخدع الناس ببني اُمية حينما والوهم، وقاتلوا أعداءهموخصومهم.
فاءن لم يكن الناس مخدوعين، فماذا جري في نفوسهم حتي انقلبوامن ا´ل رسول الله الي ا´ل اُمية؟ اءنَّ الذي حدث هو أن بني اُمية اذلّوهمبالاءرهاب والطمع.
وفرق بين الخداع والاءذلال؛ فاءنّ الذي ينخدع بعدوّه: يُحِبُّ عدوهويواليه ويحارب اعداءه خطاً، وهذا عجز في الوعي والمعرفة، وليس ذُلاًوعجزاً في الكرامة. واما الذي يوالي عدوّه ويعطيه سيفه وماله ثم يعطيهقلبه وحبه وهو يعلم انه له عدوّ فهذا هو الذلّ بعينه وانعدام الكرامة.
وهذا لن يكون في امة اءلا بالاءذلال، والاءذلال قد يكون بالاءرهابوالقوة، وقد يكون بالمال والذهب.
وقد استعمل بنو أمية كلا الامرين: الاءذلال بالقوّة والاءرهاب والاءذلالبالمال والسلطان فأذلوا الناس، نعم استعملوا التغرير والاعلام والخداع، اءلاّأن اءسرافهم في الظلم والترف والمعصية كان اظهر من أن يخفي علي احد.
5 ـ ويّحكم، اهؤلاء تقصدون وعنّا تتخاذلون؟:
وهذه اعجب ردّة في حياة الاءنسان؛ ينقلب فيها الاءنسان علي نفسه،فيحب عدوّه ويعادي وليّه، وهو بمعني أن ينسي الاءنسان نفسه.
لانّ نفس الاءنسان حب وبغض، يحب اولياءه يبغض أعداءه، فاءذانسي الاءنسان نفسه، نسي من يجب ان يحب ومن يجب ان يبغض،واعظم من ذلك ان ينقلب عنده الحب والبغض، فيحب عدوّه ويبغضوليه.
وهذه الحالة هي التي يعاقب الله بها الذين ينسونه، فينسيهم أنفسهم(نسوا الله فانساهم انفسهم).
والذين خاطبهم الحسين(ع) يوم عاشوراء، كانوا من الذين نسوا اللهفأنساهم أنفسهم، ونسوا حبهم وبغضهم، فأحبوا بني اُمية، وكان عليهم أنيعادوهم، لما جنت ايديهم من الظلم والعصيان، وقاتلوا اولياءهم الذينامر الله تعالي المسلمين بمودّتهم واتباعهم في ا´يات محكمات منكتابه.
ولست أدري ماذا في هذا الخطاب من الم يعتصر قلب الاءمام(ع) ؟المنابع من الاءشفاق عليهم لهذه الحالة التي وصلوا اليها من البؤس، وليسلانّ الاءمام فقد نصرتهم له في محنته.
6 ـ يا عبيد الاُمة وشذّاذ الا´فاق (الاحزاب):
هذه اخلاقية العبيد، اءن العبيد ولاؤهم لمن يشتريهم، ليس لولائهماصل ثابت، فمن يشتريهم من سوق النخاسة يستحق ولاءهم، كانوايحبونهم ام يحقدون عليهم، فيتحول ولاؤهم من مولي الي' مولي في سوقالنخاسة في لحظة واحدة، عندما يدفع المولي' الجديد الثمن الي الموليالقديم، وعندما يدفع المولي القديم السوط الي المولي الجديد.
اءنهم في ساعة واحدة ينسون ولاءهم وحبهم القديم، ليقدّموا اليالمولي' الجديد ولاءهم الجديد.
(وشذّاذ الاحزاب) اءنّ الناس ولاؤهم لاحزابهم، في السرّاء والضرّاء،وفي الهزيمة والانتصار، ولكن شذّاذ الاحزاب، ولاؤهم للمنتصر دائماً،حقاً كان ام باطلاً.
وهذه حالة ولاء سياسية عائمة، لها مدلولات نفسية خطيرة، تكشفعن فقدان الاصالة والقيم في النفس، والتبعية المطلقة للمنتصر والقاهر،والانسلاخ الكامل من الذات والقيم.
7 ـ فَسُحقاً لكم يا عبيد الاُمة، وشذّاذ الاحزاب:
وهنا يدعو عليهم الاءمام(ع) بالبعد من رحمة الله، والسحق هو البعد،والاءمام(ع) ينطق هنا في هذا الدعاء عن سنن الله؛ ذلك ان لرحمة الله تعاليمنازل في حياة الاءنسان، تنزل عليه منها الرحمة، فاذا ابتعد الانسان عنهذه المنازل ابتعد عن رحمة الله، وهذه سنة الله في عباده، ولنتامل في هذهالسنة: اءن بين رحمة الله الهابطة علي الناس ومنازل هذه الرحمة علاقةمتبادلة.
فالرحمة النازلة تُفَعّل مواضع نزولها، فاءذا نزل المطر علي أرضاخضرت وأثمرت وأينعت وازدهرت وا´تت اُكلها. وهذا هو فعل(الرحمة النازلة) بـ (مواضع نزولها).
ومواضع الرحمة تستنزل الرحمة، ولا تنزل الرحمة علي مواضعهااءلاّ اءذا كانت مؤهلة لنزول الرحمة، وهذا التاهيل هو (الطلب التكويني)لرحمة الله بلسان الاستعداد، ولابد من هذا التاهل والاستعداد لقبولالرحمة حتي تنزل الرحمة، وبعكسه الاءعراض عن رحمة الله، فاءنه يدفعالرحمة ويُبعّدها. والرحمة الاءلهية نازلة لا تنقطع، ولكن هناك عوامللاستقبال رحمة الله، تستنزل الرحمة، وعوامل لرفض رحمة الله.
تاملوا في دعاء العبد الصالح نوح(ع) علي قومه: (وقال نوح ربّ لا تذرعلي الارض من الكافرين دياراً، اءنّك اءن تذرهم يُضلّوا عبادك ولا يلدوا اءلاّ فاجراًكفّاراً).
وهو دعاء عجيب، ينطق فيه نوح(ع) بسنن الله في نزول الرحمةوانقطاعها، لقد نضب فيهم كل استعداد لقبول الخير، وكل استعداد بطلبالرحمة: (ولا يلدوا اءلا فاجراً كفّاراً) فعلي ماذا تنزل رحمة الله؟
اءن لرحمة الله تعالي في حياة الانسان منازل تتنزّل عليها، فاءذا انعدمتهذه المنازل ونضب معينها في نفس الاءنسان، فلا يبقي لرحمة الله تعاليموضع في حياة الاءنسان، فيستحقون عندئذٍ البعد من رحمة الله.
والحسين(ع) يدعو الله تعالي علي أولئك الناس يوم عاشوراء؛ لانهذه القلوب فقدت كلّ القيم التي هي منازل الرحمة في نفوسهم، فلم يبقلنزول رحمة الله موضع في نفوس هؤلاء وحياتهم، فيقول لهم: (فسحقاً ياعبيد الاُمة).
8 ـ غدر قديم وشجت عليه أصولكم:
في هذه الحالة يتحول الشر من حالة طارئة عارضة الي حالة أصيلةعريقة داخل النفس، وكما ان للخير عراقة وأصالة كذلك للشر عراقةواصالة، وجذور الخير تمتد الي الفطرة والعقل والضمير والقلب، وجذورالشر تمتد الي' الهوي'، وعندما يتاصّل الشر والهوي' في النفس يفقدصاحبه كل منابع الخير في نفسه، وتنضب في قلبه وضميره وعقلهوفطرته كل جذور الخير وأصول الخير.
ويدخل عامل الوراثة في تاصيل حالة الخير وحالة الشر معاً. ولستاقول: اءن الوراثة عامل قهري في تاصيل الخير والشر، ولكن اقول: اءنعامل الوراثة له دور هام في تاصيل الخير والشر.
اءن الوراثة تنقح الخير وتنقح الشر، ولكن من دون اءجبار وقهر .
ومن هنا فاءن البشرية تنشطر الي شطرين: الشجرة الطيّبة والشجرةالخبيثة، كل منهما شجرة، وللشجرة جذور وثمار، وتتشابه الجذوروالثمار في الشجرة، اءن الجذور أصل الشجرة والثمار فرعها، والشجرةواسطة في نقل الخصائص من الجذور الي الثمار.
وكذلك الشجرة الطيّبة والشجرة الخبيثة، كل منهما ينقلان الطيّبوالخبيث من الاسلاف الي الابناء فيتعرق في كل منهما الخير والشر.
وبالتالي فهاتان الشجرتان تشكلان خطين في تاريخ البشر: خطّاًصاعداً، مستمراً في الصعود، وخطّاً هابطاً مستمراً في السقوط. الاسرةالنمرودية في سقوط، والاسرة الاءبراهيمية في صعود. والاسرة الموسويةفي صعود، والاسرة الفرعونية في سقوط.
وقانون الوراثة ينقّح هذا الصعود، وذلك الهبوط، لا ينقل فقطخصائص الخير والشر من الاسلاف الي الابناء، واءنما ينقّحه ويصفّيه،ويفرز الشرّ عن الخير، ويفرز الخير عن الشر، وكلما يمر الزمن عليهاتين الاسرتين تتسع الفاصلة بينهما، حتي' اءذا خلصت نفوسهم عنالخير، ونضب معين الخير في نفوسه، نزل عليهم العذاب؛ لانهم لايستحقون الرحمة عندئذٍ كما حدث في عهد نوح(ع). والذي حدث فيعهد نوح(ع) يحدث في اي وقت ا´خر؛ فتنتهي الاسرة الخبيثة وتسقط،فتبدا دورة جديدة من التاريخ.
اءن قانون الوراثة ينقل خصائص الطيّب والخبيث من جيل الي جيل،وينقّح الطيّب والخبيث معاً.
والي هذا القانون، (قانون الوراثة) يشير الاءمام الحسين(ع): «اجل واللهغدر فيكم قديم، وشجت عليه اصولكم، وتازّرت عليه فروعكم، فكنتم اخبث ثمر،شجي للناظر وأكلة للغاصب».
(وشجت: اشتبكت، تازرت: هاجت) .
يقول لهم الاءمام(ع): اءن هذا الغدر والخبث فيكم أصيل وعريق، ورثهالابناء من الا´باء، اشتبكت عليه أصولكم وتازّرت وهاجت وتفتحتعليه فروعكم، فأنتم أخبث ثمر للشجرة الخبيثة.
ويبقي' أن نضيف الي هذا: أن الوراثة هنا، في القيم والسلوك لا ينطبقمع الوراثة الحياتية (البايولوجية)، وقانون الوراثة الحياتية لا ينطبقبالضرورة علي قانون الوراثة في القيم والسلوك والافكار.
وقد يتخالفان تماماً، كما حدث ذلك في ابن نوح(ع). اءن وراثة العمل،وهي غير الوراثة البايولوجية، وتعبير القرا´ن عن ابن نوح (ع) تعبير دقيق،(اءنّه عمل غير صالح)، واءن كان من ذرية نوح(ع)، وهو اءمام الصالحين.