كتاب الغيبة
تاليف
الشيخ الاجل ابن ابى زينب محمد بن ابراهيم النعمانى
من اعلام القرن الرابع
تحقيق: على اكبر الغفارى
بسم الله الرحمن الرحيم
حدثنا الشيخ ابوالفرج محمد بن على بن يعقوب بن أبى قرة القناني(1) - رحمه الله - قال: حدثنا أبوالحسين محمد بن على البجلي الكاتب - واللفظ من أصله ; وكتبت هذه النسخة وهو ينظر في أصله - قال: حدثنا أبوعبدالله محمد بن إبراهيم النعمانى بحلب(2): الحمد لله رب العالمين، الهادي من يشاء إلى صراط مستقيم، المستحق الشكر من عباده بإخراجه إياهم من العدم إلى الوجود، وتصويره إياهم في أحسن الصور، و إسباغه عليهم النعم ظاهرة وباطنة لا يحصيها العدد على طول الامد كما قال عزوجل: " إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها "(3)، وبمادلهم عليه وأرشدهم إليه من العلم بربوبيته والاقرار بوحدانيته بالعقول الزكية(4) والحكمة البالغة، والصنعة المتقنة، والفطرة
___________________________________
(1) القنانى - بفتح القاف ونونين بينهما ألف - نسة إلى قنان بن سلمة بن وهب بن عبدالله بن ربيعة بن الحارث بن كعب من مذحج كما في اللباب لابن الاثير.
والرجل عنونه النجاشى وقال محمد بن على بن يعقوب بن اسحاق بن أبى قرة أبوالفرج القنانى الكاتب، كان ثقة، وسمع كثيرا وكتب كثيرا، وكان يورق لاصحابنا - إلى آخر ما قال -.
(2) وفى نسخة: " حدثنى محمد بن على أبوالحسين الشجاعى الكاتب - حفظه الله - قال: حدثنى محمد بن ابراهيم ابوعبدالله النعمانى رحمه الله تعالى في ذى الحجة سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة قال: ".
وفى بعض النسخ مكان " أبوالحسين " " ابوالحسن " ولعله هو الصواب.
(3) ابراهيم: 34.
(4) في بعض النسخ " المرضية ".
(*)
[19]
الصحيحة، والصبغة الحسنة، والآيات الباهرة، والبراهين الظاهرة، وشفعه ذلك ببعثه إليهم الخيرة من خلقه رسلا مصطفين، مبشرين ومنذرين، دالين هادين، مذكرين ومحذرين، ومبلغين مؤدين، بالعلم ناطقين، وبروح القدس مؤيدين، وبالحجج غالبين، وبالايات لاهل الباطل قاهرين، وبالمعجزات لعقول ذوي - الالباب باهرين، أبانهم من خلقه بما أولاهم من كرامته، وأطلعهم على غيبه، ومكنهم فيه من قدرته، كما قال عزوجل: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول [فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا] "(1) ترفعا لاقدارهم، وتعظيما لشأنهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولتكون حجة الله عليهم تامة غير ناقصة.
والحمد لله الذي من علينا بمحمد سابق بريته إلى الاقرار بربوبيته، وخاتم أصفيائه إنذارا برسالته، وأحب أحبائه إليه، وأكرم أنبيائه عليه، وأعلاهم رتبة لديه، وأخصهم منزلة منه، أعطاه جميع ما أعطاهم، وزاده أضعافا على ما آتاهم، وأحله المنزلة التى أظهر بها فضله عليهم، فصيره إمامالهم إذ صلى في سمائه بجماعتهم وشرف مقامه على كافتهم، وأعطاه الشفاعة دونهم، ورفعه مستسيرا إلى علو ملكوته(2) حتى كلمه في محل جبروته بحيث جاز مراتب الملائكة المقربين، ومقامات الكروبيين والحافين.
وأنزل عليه كتابا جعله مهيمنا على كتبه المتقدمة، ومشتملا على ما حوته من العلوم الجمة وفاضلا عليها بأن جعله كما قال تعالى " تبيانا لكل شئ(3) " لم يفرط فيه من شئ، فهدانا الله عزوجل بمحمد(صلى الله عليه وآله) من الضلالة والعمى، وأنقذنا به من الجهالة والردى، وأغنانا به وبما جاء به من الكتاب المبين - وما أكمله لنا من
___________________________________
(1) الجن: 26.
(2) في بعض النسخ " ورفعه مستزيدا إلى علو مملكته ".
(3) النحل: 89.
(*)
[20]
الدين، ودلنا عليه من ولاية الائمة الطاهرين الهادين - عن الآراء والاجتهاد، و وفقنا به وبهم إلى سبيل الرشاد(1).
صلى الله عليه وعلى أخيه أمير المؤمنين تاليه في الفضل ومؤازره في اللاواء والازل(2) وسيف الله على أهل الكفر والجهل، ويده المبسوطة بالاحسان والعدل، والسالك نهجه في كل حال(3) والزائل مع الحق حيثما زال، والخازن علمه(4)، والمستودع سره، الظاهر على مكنون أمره، وعلى الائمة من آله الطاهرين الاخيار الطيبين الابرار.
معادن الرحمة، ومحل النعمة، وبدور الظلام، ونور الانام، وبحور العلم وباب السلام الذى ندب الله عزوجل خلقه إلى دخوله، وحذرهم النكوب عن سبيله حيث قال: " يا أيهاالذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين " أفضل صلواته وأشرفها، وأذكاها وأنماها، وأتمها وأعلاها وأسناها، وسلم تسليما كثيرا كما هو أهله وكما محمد وآله(عليه السلام) أهله منه.
أما بعد: فإنا رأينا طوائف من العصابة المنسوبة إلى التشيع المنتمية(5) إلى نبيهامحمد وآله صلى الله عليهم - ممن يقول بالامامة التي جعلها الله برحمته دين الحق ولسان الصدق وزينا لمن دخل فيها(6) ونجاة وجمالا لمن كان من أهلها وفاز بذمتهاو تمسك بعقدتهاو وفى لها بشروطها من المواظبة على الصلوات وإيتاء الزكوات والمسابقة
___________________________________
(1) الضمير المفرد راجع إلى الكتاب أو النبى صلى الله عليه وآله، والضمير الجمع راجع إلى الائمة عليهم السلام.
(2) اللاواء: الشدة والمحنة.
والازل - بالزاى الساكنة - الضيق والشدة.
(3) في بعض النسخ " على كل حال ".
(4) في بعض النسخ " والحاوى علمه ".
(5) الانتماء: الانتساب.أى المنتسبة إلى النبى صلى الله عليه وآله.
(6) في بعض النسخ " زينة لمن دخل فيها ".
(*)
[21]
إلى الخيرات، واجتناب الفواحش والمنكرات، والتنزه عن سائر المحظورات، ومراقبة الله تقدس ذكره في الملا والخلوات، وتشغل القلوب وإتعاب الانفس والابدان في حيازة القربات - قد تفرقت كلمها(1)، وتشعبت مذاهبها، واستهانت بفرائض الله عز وجل، وحنت(2) إلى محارم الله تعالى، فطار بعضها علوا، وانخفض بعضها تقصيرا، وشكوا جميعا إلا القليل في إمام زمانهم وولى أمرهم وحجة ربهم التي اختارها بعلمه كما قال عزوجل: " [وربك] يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة(3) " من أمرهم، للمحنة الواقعة بهذه الغيبة التي سبق من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ذكرها، وتقدم من أمير المؤمنين(عليه السلام) خبرها، ونطق في المأثور من خطبه والمروي عنه من كلامه وحديثه بالتحذير من فتنتها، وحمل أهل العلم والرواية عن الائمة من ولده(عليهم السلام) واحدا بعد واحد أخبارها حتى ما منهم أحد إلا وقد قدم القول فيها، وحقق كونها ووصف امتحان الله - تبارك وتعالى اسمه - خلقه بها بما أوجبته قبائح الافعال ومساوي الاعمال، والشح المطاع، والعاجل الفاني المؤثر على الدائم الباقي، والشهوات المتبعة، والحقوق المضيعة التي اكتسبت سخط الله عز وتقدس، فلم يزل الشك والارتياب قادحين في قلوبهم - كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في كلامه لكميل ابن زياد في صفة طالبي العلم وحملته: " أو منقادا لاهل الحق لابصيرة له، ينقدح الشك في قلبه لاول عارض من شبهة "(4) - حتى أداهم ذلك إلى التيه والحيرة والعمى والضلالة ولم يبق منهم إلا القليل النزر الذين ثبتوا على دين الله وتمسكوا بحبل الله ولم يحيدوا عن صراط الله المستقيم، وتحقق فيهم وصف الفرقة الثابتة على الحق التى لا تزعزعها الرياح ولا يضرها الفتن، ولا يغرها لمع السراب، ولم تدخل في دين الله بالرجال فتخرج منه بهم.
___________________________________
(1) " قد تفرقت " الجملة مفعول ثان لرأينا وما بينهما جملة معترضة.
(2) كذا صححناه، وفى النسخ " وخفت " والمعنى استخفت محارم الله تعالى.
(3) القصص: 68.
(4) في اللغة قدح الشئ في صدرى أى أثر.
(*)
[22]
كما روينا عن أبي عبدالله جعفر بن محمد(عليهما السلام) أنه قال: " من دخل في هذا الدين بالرجال أخرجه منه الرجال كما أدخلوه فيه.ومن دخل فيه بالكتاب والسنة زالت الجبال قبل أن يزول ".
ولعمري ما اتى من تاه وتحير وافتتن وانتقل عن الحق وتعلق بمذاهب أهل الزخرف والباطل إلا من قلة الرواية والعلم وعدم الدراية والفهم فإنهم الاشقياء لم يهتموا لطلب العلم ولم يتعبوا أنفسهم وفى اقتنائه وروايته من معادنه الصافية على أنهم لوروواثم لم يدروا لكانوا بمنزلة من لم يرو، وقد قال جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام): " اعرفوا منازل شيعتنا عندنا على قدر روايتهم عنا وفهمهم منا " فإن الرواية تحتاج إلى الدراية، و " خبر تدريه خير من ألف خبر ترويه ".
وأكثر من دخل في هذه المذاهب إنما دخله على أحوال، فمنهم من دخله بغير روية ولاعلم، فلما اعترضه يسير الشبهة تاه.
ومنهم من أراده طلبا للدنيا وحطامها(1) فلما أماله الغواة والدنياويون إليها مال مؤثرا لها على الدين، مغترا مع ذلك بزخرف القول غرورا من الشياطين الذين وصفهم الله عزوجل في كتابه فقال: " شياطين الانس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا "(2).
والمغتر به فهو كصاحب السراب(3) الذي يحسبه الظمآن ماء، يلمعه عند ظمائه لمعة ماء، فإذا جاء لم يجده شيئا كما قال الله عزوجل(4).
ومنهم من تحلى بهذا الامر للرياء والتحسن بظاهره، وطلبا للرئاسة، و شهوة لها وشغفا بها(5) من غير اعتقاد للحق ولا إخلاص فيه، فسلب الله جماله وغير
___________________________________
(1) حطام الدنيا: ما فيها من مال، كثير أو قليل.
(2) الانعام: 112.
(3) كذا، ولعل الصواب " كطالب السراب ".
(4) يعنى به قوله تعالى في سورة النور آية 39.
(5) شعف به وشغف - بالمعجمة - اى أولع به وأحبه مفرطا.
(*)
[23]
حاله، وأعد له نكاله.
ومنهم من دان به على ضعف من إيمانه، ووهن من نفسه بصحة ما نطق به منه فلما وقعت هذه المحنة التي آذننا أولياء الله صلى الله عليهم بها مذ ثلاثمائة سنة تحير ووقف كما قال الله عزوجل من قائل: " كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لايبصرون "(1)، وكما قال: " كلما أضاء لهم مشوافيه وإذا أظلم عليهم قاموا "(2).
ووجدنا الرواية قدأتت عن الصادقين(عليهم السلام) بما أمروا به من وهب الله عزوجل له حظا من العلم وأوصله منه إلى ما لم يوصل إليه غيره من تبيين ما اشتبه على إخوانهم في الدين، وإرشادهم في الحيرة إلى سواء السبيل، وإخراجهم عن منزلة الشك إلى نور اليقين.
فقصدت القربة إلى الله عزوجل بذكر ما جاء عن الائمة الصادقين الطاهرين(عليهم السلام) من لدن أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى آخر من روي عنه منهم في هذه الغيبة التي عمى عن حقيتها(3) ونورها من أبعده الله عن العلم بها والهداية إلى ما اوتي عنهم(عليهم السلام) فيها ما يصحح(4) لاهل الحق حقيقة ما رووه ودانوابه، وتؤكد حجتهم بوقوعها ويصدق ما آذنوا به منها.
وإذا تأمل من وهب الله تعالى له حسن الصورة وفتح مسامع قلبه، ومنحه جودة القريحة(5) وأتحفه بالفهم وصحة الرواية بما جاء عن الهداة الطاهرين صلوات الله
___________________________________
(1) و(2) البقرة: 17 و 20.
(3) في بعض النسخ " عن حقيقتها ".
(4) أى قصدت بذكر ما جاء عنهم عليهم السلام - لازالة الشبهات - ما يصحح لاهل الحق ما رووه ودانوابه، ولتؤكد بذلك حجتهم.
(5) منحه - كمنعه - أى اعطاه، والقريحة الطبيعة، وقريحة الشاعر أو الكاتب: ملكة يقتدربها على نظم الشعر او الكتابة، والجودة: الصلاح والحسن.
(*)
[24]
عليهم على قديم الايام وحديثها من الروايات المتصلة فيها، الموجبة لحدوثها، المقتضية لكونها مما قد أوردناه في هذا الكتاب حديثا حديثا، وروي فيه، وفكر فكرا منعما(1) ولم يجعل قراءته نظره فيه صفحا دون شافي التأمل ولم يطمح ببصره عن حديث منها يشبه ما تقدمه دون إمعان النظر فيه والتبيين له ولما يحوي من زيادة المعانى بلفظه من كلام الامام(عليه السلام) بحسب ما حمله واحد من الرواة عنه - علم(2) أن هذه الغيبة لو لم تكن ولم تحدث مع ذلك ومع ما روي على مر الدهور فيها لكان مذهب الامامة باطلا لكن الله تبارك وتعالى صدق إنذار الائمة(عليهم السلام) بها، وصحح قولهم فيها في عصر بعد عصر، وألزم الشيعة التسليم والتصديق والتمسك بما هم عليه وقوى اليقين في قلوبهم بصحة ما نقلوه، وقد حذر أولياء الله صلوات الله عليهم شيعتهم من أن تميل بهم الاهواء أو تزيغ بهم [و] بقلوبهم الفتن واللاواء في أيامها، ووصفوا ما يشمل الله تعالى خلقه به من الابتلاء عند وقوعها بتراخى مدتها وطول الامد فيها " ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة ".
فإنه روى عنهم(عليهم السلام) ما حدثنا به محمد بن همام قال: حدثنا حميد بن زياد الكوفى قال: حدثنا الحسن بن محمد بن سماعة قال: حدثنا أحمد بن الحسن الميثمي، عن رجل من أصحاب أبي عبدالله جعفر بن محمد(عليهما السلام) أنه قال: سمعته يقول: " نزلت هذه الآية التى في سورة الحديد " ولا تكونوا كالذين اوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الامد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون " في أهل زمان الغيبة، ثم قال عز وجل: " إن الله يحيى الارض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون "(3) وقال: إنما الامد أمدالغيبة ".
فإنه أراد عزوجل يا امة محمد أو يا معشر الشيعة: لا تكونوا كالذين اوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الامد، فتأويل هذه الآية جاء في
___________________________________
(1) أى شافيا دقيقا بالغا.وفي بعض النسخ " ممعنا " من الامعان.
(2) جواب قوله " واذا تأمل - الخ ".
(3) السورة: 16 و 17.
(*)
[25]