عربي
Wednesday 24th of July 2024
0
نفر 0

الصحابة في السُنّة المطهّرة

الفصل الثالث


الصحابة في السُنّة المطهّرة


وفي السُنّة المطهّرة أيضاً أحاديث كثيرة عن الصحابة يروونها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، في بعضها الثناء والمدح لهم والاَمر بحبهم على نحو العموم ، وفي بعضها القدح والذم الشديد والاخبار عن سوء العاقبة للاَكثرية الساحقة منهم ، وفي بعضها المدح أو القدح لاشخاصٍ معينين منهم .
وإذا أردنا أن نصل إلى حقيقة الاَمر وواقع الحال في هذه الاحاديث كان من الضروري النظر فيها من جهة السند ومن جهة الدلالة ودراسة النسب الموجودة فيما بينها .
لكنّا نستعرض فيما يلي طائفةً من الروايات الواردة في المسألة ، مع غض النظر عن أسانيدها :
روايات المدح والثناء :
فهذه أولاً نصوص روايات وردت في الكتب في مدح الاَصحاب عامةً أو المهاجرين والاَنصار كلّهم أو الانصار كلّهم فقط ونحو ذلك :


( 62 )

الرواية الاُولى : « اللّهمَّ امضِ لاَصحابي هجرتهم ، ولا تردّهم على أعقابهم» (1) .
الرواية الثانية : « الاَنصار كرشي وعيبتي» (2).
الرواية الثالثة : « في كلِّ دُور الاَنصار خير » (3).
الرواية الرابعة : « المهاجرون والاَنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة » (4).
الرواية الخامسة : « اللّهمَّ لا عيش إلاّ عيش الآخرة ، فاغفر للمهاجرين والاَنصار» (5) .
الرواية السادسة : قبل بدء القتال في غزوة بدر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «اللّهمَّ إن تَهْلِكَ هذه العصابة اليوم لا تُعبد» (6).
الرواية السابعة : « يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم ، قالوا : بم يارسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : بالثناء الحسن والثناء السيء ، أنتم شهداء الله في الاَرض» (7) .
الرواية الثامنة : « طوبى لمن رآني وآمن بي ، وطوبى ثم طوبى ـ يقولها
____________
1) صحيح البخاري 5 : 87 ـ 88 .
2)السيرة النبوية ، لابن كثير 2 : 282 .
3) صحيح مسلم 4 : 1785 .
4) بحار الاَنوار 22 : 311 ، عن أمالي ابن الشيخ : 168 .
5) صحيح البخاري 5 : 137 . وتفسير القمي 1 : 177 .
6) السيرة النبوية ، لابن هشام 2 : 279 .
7) تفسير القرآن العظيم 1 : 197 .


( 63 )

سبع مرات ـ لمن لم يرني وآمن بي » (1).
الرواية التاسعة : قال له رجلان : يا رسول الله ، أرأيت من رآك فآمن بك وصدّقك واتبعك ، ماذا له ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : « طوبى له » (2).
الرواية العاشرة : « لا زال هذا الدين ظاهراً على الاَديان كلها ما دام فيكم من رآني » (3).
الرواية الحادية عشر : « أثبتكم على الصراط أشدّكم حبّاً لاَهل بيتي ولاَصحابي » (4).
الرواية الثانية عشر : كان بين خالد بن الوليد وبين أحد المهاجرين الاَوائل كلام ، فقال خالد له : «تستطيلون علينا بأيامٍ سبقتمونا بها» ، فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فقال : « دعوا لي أصحابي ، فو الذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد ـ أو مثل الجبال ـ ذهباً ما بلغتم أعمالهم » (5).
والظاهر أنّ الروايتين الاَخيرتين ليست عامّة في جميع الصحابة السابقين والمتأخرين في الاِيمان والجهاد ، وإنّما هي مختصة في بعض منهم .
فقد جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين حبّ أهل بيته: وأصحابه ، فلو كان قصده جميع الصحابة لحدث تناقض لاَنّ بعض الصحابة آذى بضعته من
____________
1) الخصال 2 : 342 .
2) بحار الاَنوار 22 : 306 ، عن أمالي ابن الشيخ : 332 .
3) نوادر الراوندي : 15 .
4) نوادر الراوندي : 23 .
5) مجمع الزوائد 10 : 15 .


( 64 )

بعده ، وبعضهم كان مبغضاً لاَهل بيته ، وقد وصل حد البغض إلى قتالهم واستباحة دمائهم ، فقد حارب معاوية وعمرو بن العاص وبسر بن أرطأة وآخرون الاِمام عليّاً عليه السلام ومن بعده الاِمام الحسن عليه السلام ، فكيف يجتمع حب الاِمام عليّ عليه السلام وحبّ معاوية وأتباعه في قلب واحد ، والكلام موجّه إلى الصحابة ، فكيف يوجّه الصحابة إلى حبّ الصحابة ؟
ورواية «دعوا لي أصحابي» مختصة أيضاً ببعض الصحابة ؛ لاَنّ الاَمر موجّه إلى خالد بن الوليد وهو من الصحابة ، يأمره بالكّف عن صحابي آخر، ويقارن بين أعمال المتقدمين في الاِيمان والهجرة والنصرة وأعمال المتأخرين ، فالرواية واضحة الدلالة باختصاصها ببعض الصحابة .
وما تقدّم من ثناء مشروط بشروط ، منها : الاِيمان الحقيقي ، فلا يكون من في قلبه مرض مراداً قطعاً ، والاستقامة على المنهج الاِسلامي وحسن العاقبة ؛ لاَنَّ بعض الصحابة ارتدّوا ثم عادوا إلى الاِسلام، وبعضهم منافقون اسرّوا نفاقهم ، ولكنّه ظهر من خلال أعمالهم ومواقفهم كما سيأتي بيانه .
وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بعض الصحابة بأسمائهم ، ووجّه الاَنظار إلى عدد محدود منهم ، فكرّر مدحهم والثناء عليهم وجعلهم الصفوة من بين آلاف الصحابة ، ولم يساو بين السابقين في الهجرة والاِيمان وبين المتأخرين الذين أسلموا خوفاً أو طمعاً .
وفي مقابل الثناء على بعض الصحابة ، وردت أحاديث مفتعلة منسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحق آخرين من الصحابة .
وقد كثر تزوير الاَحاديث في عهد بني أُمية ، قال ابن عرفة ، المعروف


( 65 )

بنفطويه : (إنّ أكثر الاَحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أُمية، تقرباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أُنوف بني هاشم) (1).
وقال أبو الحسن المدائني : (كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله... أن برئت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته) ، ثم كتب : (ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإنَّ هذا أحب إليَّ وأقرّ لعيني ، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته وأشدّ إليهم من مناقب عثمان وفضله... فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها... فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة... حتى انتقلت تلك الاَخبار والاَحاديث إلى أيدي الديانين الذين لايستحلّون الكذب والبهتان ، فقبلوها ورووها ، وهم يظنون أنّها حقّ ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها ، ولا تدينوا بها) (2).
روايات الذم والتقريع :
شخصية الاِنسان تتحكم فيها عوامل ثلاثة : الفكر ، والعاطفة ، والاِرادة، وهي التي تحدّد موقف الاِنسان وسلوكه في الحياة ، فالاِيمان بعقيدة معينة وفكرة معينة يجعل الشعور الباطني حركة سلوكية في الواقع، ويحوّل هذه الحركة إلى عادة ثابتة متفاعلة مع ما يحدّد لها من تعاليم ومفاهيم وقيم ، إن تطابقت الارادة مع أُسس الاِيمان وقواعده ، والاِرادة هي الحد الفاصل بين مرحلة الشعور ومرحلة الواقع ، وبها تتميز
____________
1) شرح نهج البلاغة 11 : 46 .
2) شرح نهج البلاغة 11 : 44 ـ 46 .


( 66 )

شخصية الاِنسان في الخارج في قرارها النهائي ، وكل هذه العوامل مرتبطة في ظواهرها مع عوامل اُخرى كالوراثة والمحيط الاجتماعي التي تؤثر على تلك العوامل تأثيراً إيجابياً أو سلبياً ، وبالتالي تؤثر على تحديد شخصية الاِنسان ، ولذا نرى الصحابة متفاوتين في شخصياتهم ، فمنهم من هو في قمة التكامل والسمو ، ومنهم من هو في مراتب أدون فأدون ، تبعاً لتفاوت درجات الاِيمان ودرجات الاُنس بالعقيدة والفكر ، ودرجات الارتباط بالقدوة الصالحة المجسدة للعقيدة والشريعة في واقعها السلوكي، والتفاعل مع المغريات والمثيرات الخارجية إندفاعاً وإنكماشاً ، فبعض الصحابة الذين بقي إيمانهم متزعزاً قد نكصوا على أعقابهم وارتدّوا عن الاِسلام ، وبعضهم عاد إلى الاِيمان بعد ردته خوفاً أو طمعاً أو استسلاماً للاَمر الواقع أو قناعة بصحة الرسالة ، وبعضهم لم يقاوم جبهة التصدّع في شخصيته ، فاستسلم للاَهواء واستجاب للمغريات الخارجية كحب الرئاسة وحب المال ، فانحرف عن الاستقامة في موقفه وسلوكه العملي ، ولذا جاءت الروايات في مقام التحذير من الانحراف والنكوص والتردّد ، وجاء بعضها في مقام الذم والتقريع لمواقف سلوكية اتّخذها بعض الصحابة في مراحل حياتهم .
من آثار الجاهلية :
في أحد الاَيام قام أحد الكفّار بتذكير نفر من الصحابة من الاَوس والخزرج بقتلاهم في الجاهلية ، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الاَشعار في يوم بعاث ، وهو اليوم الذي اقتتل فيه الاَوس والخزرج ، فهاجتهم تلك الاَشعار وتنازعوا وتفاخروا ، وغضبوا جميعاً ، فخرجوا إلى الحرّة ومعهم السلاح ، وقبل بدء القتال خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال :


( 67 )

«يا معشر المسلمين ، الله الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للاِسلام وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألَّف به بين قلوبكم » فعرف القوم أنّها نزعة من الشيطان وكيد من عدّوهم ، فبكوا وعانق الرجال من الاَوس والخزرج بعضهم بعضاً (1).
فلولا الاسراع في حل الاَزمة لحدث القتال ولبقيت آثاره قائمة ، حدث ذلك ورسول الله بين أظهرهم ، فكيف يكون الوضع لو لم يكن معهم كما حدث بعد رحيله !
وفي أحد الاَماكن ازدحم على الماء أحد المهاجرين وأحد الاَنصار ، فصرخ أحدهم : يا معشر المهاجرين ، وصرخ الآخر ، يا معشر الاَنصار ، وكادت تحدث الفتنة لولا تدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تجاوزها وإشغال المسلمين بالمسير لمدة يومين (2).
وقد خالف خالد بن الوليد المهمة التي كُلِّف بها ، وهي الدعوة السلمية إلى الاِسلام ، وقام بقتل جماعة من بني جذيمة ثأراً لعمّه المقتول في الجاهلية ، وحينما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعمل خالد رفع يديه إلى السماء ثم قال : « اللّهمَّ إنّي أبرأُ إليك ممّا صنع خالد » (3).
الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
كثر الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته ، وقد حذّر صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة
____________
1) السيرة النبوية ، لابن هشام 2 : 204 ـ 205 .
2) السيرة النبوية ، لابن هشام 3 : 303 . والطبقات الكبرى ، لابن سعد 2 : 65 .
3) صحيح البخاري 5 : 203 . وتاريخ اليعقوبي 2 : 61 . وتاريخ الطبري 3 : 67 . والكامل في التاريخ 2 : 256 .


( 68 )

من الكذب عليه في الحديث والرواية فقال صلى الله عليه وآله وسلم :
« لا تكذبوا عليَّ فإنَّهُ من كَذَبَ عليَّ فليلج النّار » (1).
« من كذَّب عليَّ فليتبوأ مقعده من النّار » (2).
« من تعمّدَّ عليَّ كذباً فليتبوأ مقعده من النّار » (3).
« من يقل عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النّار » (4).
ولتفشي الكذب مطلقاً سواءً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو في الشؤون الاُخرى وتتابعه ، كان صلى الله عليه وآله وسلم يحذّر من ذلك وينهى عن ممارسته بعد وقوعه، وكان يكرّر هذا التحذير في أوقات ومناسبات عديدة ليرتدع الكذّابون عن الكذب ، فقد قام صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً وقال : « ما يحملكم على أن تتابعوا على الكذب ، كما يتتابع الفراش في النّار ! كلّ الكذب يكتب على ابن آدم إلاّ رجل كذب في خديعة حرب ، أو اصلاح بين اثنين ، أو رجل يحدّث امرأته فيرضيها » (5).
ووضّح الاِمام علي عليه السلام أصناف نقلة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقسمهم إلى أربعة :
الاَول : المتعمد للكذب .

____________
1) صحيح البخاري 1 : 38 . وصحيح مسلم 1 : 9 .
2) صحيح البخاري 1 : 38 . وسنن ابن ماجة 1 : 13 .
3) صحيح البخاري 1 : 38 . وصحيح مسلم 1 : 10 .
4) صحيح البخاري 1 : 38 . وبنحوه في المستدرك على الصحيحين 1 : 102 .
5) الدر المنثور 4 : 317 .


( 69 )

الثاني : المتوهم في نقل الحديث ، إلاّ أنّه غير متعمد .
الثالث : القليل العلم بالناسخ والمنسوخ في الاَوامر والنواهي .
الرابع : الصادق الواضع للحديث في موضعه .
وقال في معرض هذا التقسيم : « إنَّ في أيدي الناس حقاً وباطلاً ، وصدقاً وكذباً... ولقد كُذِبَ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عهده ، حتى قام خطيباً فقال : من كذبَ عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النّار » (1).
فالكذب على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة لا تقبل التأويل ـ وسيأتي ذكر مصاديقها في البحوث القادمة ـ وهو أشدّ أنواع الكذب تأثيراً في بلبلة المفاهيم والتصورات وخلق الاضطراب في المواقف الخاصة والعامّة ، لما فيه من إغراءٍ بالقبيح والمنكر ، وتحريف للمنهج الاِسلامي الثابت في مفاهيمه وقيمه وموازينه .
روايات التحذير من سفك الدماء لاَجل الدنيا :
حذّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من التنافس على الدنيا ، وخصوصاً في بعض محاورها وهي السلطة التي تسفك من أجلها الدماء ، ويستحل الصحابي دم صحابي مثله من أجل الحصول عليها وعلى المكاسب والمغانم التي تكون وسيلة لوجودها .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « ... إنّي لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي ، ولكنّي أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها ، وتُقتلوا ، فتهلكوا ، كما هلك
____________
1) نهج البلاغة : 325 ـ 326 الخطبة 210 .


( 70 )

من كان قبلكم » (1).
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بأنّهم سيحرصون على الاِمارة فقال : « إنّكم ستحرصون على الاِمارة ، وستصير ندامة وحسرة يوم القيامة ، فبئست المرضعة ، ونعمت الفاطمة » (2).
وحذّر صلى الله عليه وآله وسلم من الرجوع إلى الكفر من بعده ، وجعل سفك الدماء علةً لهذا الكفر ، وقد يكون مقصوده صلى الله عليه وآله وسلم هو الكفر الحقيقي ؛ لاَنَّ المؤمن لايستحلَّ دم أخيه ما دام مؤمناً بالله تعالى وبالعقاب يوم القيامة ، وقد يكون مقصوده هو الانحراف الحقيقي عن الاِسلام في الواقع العملي ، وفي صدد ذلك التحذير قال صلى الله عليه وآله وسلم : « لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعضٍ » (3)ُس .
وسيأتي في هذا الشأن تفصيل في الفصل الاَخير .
روايات الارتداد والرجوع على الاَعقاب :
وردت روايات مستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكدَّ فيها أنّ النكوص والانقلاب على الاَعقاب واقع بعده من قبل الصحابة .
قال صلى الله عليه وآله وسلم : « أنا فرطكم على الحوض ، وسأنازع رجالاً فأغلب عليهم ، فلاَقولنَّ ربِّ أُصيحابي أُصيحابي ! فيقال لي : إنّك لا تدري ما أحدثوا
____________
1) صحيح مسلم 4 : 1796 .
2) مسند أحمد 3 : 199 . وبنحوه في تحف العقول : 25 .
3) مسند أحمد 1 : 664 و 6 : 19 . وصحيح البخاري 1 : 41 . وصحيح مسلم 1 : 82 . وسنن ابن ماجة 2 : 130 .


( 71 )

بعدك (1) .
والرواية واضحة الدلالة في أنّ هؤلاء الاَصحاب كانوا معروفين في الناس بالاستقامة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنّهم انحرفوا من بعده .
وفي رواية أخرى أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال : « ليردنَّ على الحوض رجال ممّا صحبني ورآني ، حتى إذا رفعوا إليَّ ورأيتهم اختلجوا دوني ، فلاَقولنَّ : ربِّ أصحابي أصحابي ! فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك » (2).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّكم محشورون إلى الله تعالى... ثم يؤخذ بقوم منكم ذات الشمال ، فأقول : يا ربِّ أصحابي ! فيقال لي : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، لم يزالوا مرتدين على أعقابهم مذ فارقتهم ، فأقول كما قال العبد الصالح : (وكُنتُ عَليهِم شَهيداً مادُمتُ فِيهِم فَلمَّا تَوفَّيتني كُنتَ أنتَ الرقيبَ عَليهِم وأنتَ على كُلِّ شيءٍ شَهيدٌ * إن تُعذِّبهُم فإنَّهم عِبادُكَ وإن تَغْفِر لهُم فإنَّكَ أنتَ العَزيزُ الحَكِيم ) » (3).
والعذاب المذكور في الآية قرينة على ارتكاب الذنب والاتّصاف بالفسق والخروج عن العدالة والاستقامة ، وإلاّ لا موجب لعذاب العادل النزيه .
ومن خلال تتبع الروايات نجد أنَّ الانحراف عن نهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والابتعاد عن المفاهيم والقيم الاِسلامية المعبّر عنه بالارتداد والرجوع
____________
1) مسند أحمد 2 : 35 . وبنحوه في صحيح مسلم 4 : 180 .
2) مسند أحمد 6 : 33 . وبنحوه في صحيح البخاري 8 : 148 و9 : 58 .
3) مسند أحمد 1 : 389 . وبنحوه في : صحيح البخاري 6 : 69 ـ 70 ، 122 . والآية من سورة المائدة 5 : 117 ـ 118 .


( 72 )

على الاَعقاب والتقهقر ، قد عمّ عدداً كبيراً من الصحابة الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صحبة ليست بالقصيرة ، وقد عبّر صلى الله عليه وآله وسلم عن كثرتهم بالقول : « بينا أنا قائم إذا زمرة ، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هَلُمَّ ، فقلت : أين؟ قال : إلى النار والله ، قلتُ : وما شأنهم ؟ قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم... قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم » (1).
والروايات المتقدّمة تنصّ على أنّ المتسائل هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمجيب غيره ، وهنالك روايات تنصّ على أنّ المجيب هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة حيثُ يخاطب بعض أصحابه في يوم القيامة بإثبات إنحرافهم عن الاستقامة بعد رحيله من الدنيا ، كما هو في الرواية عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « ما بال أقوام يقولون : إنّ رحمي لا ينفع ، بلى والله إنّ رحمي موصولة في الدنيا والآخرة ، وإنّي أيُّها الناس فرطكم على الحوض ، فإذا جئت قام رجال ، فقال هذا : يا رسول الله ، أنا فلان ، وقال هذا : يا رسول الله أنا فلان ، وقال هذا : يا رسول الله أنا فلان ، فأقول قد عرفتكم ولكنكم أحدثتم بعدي ورجعتم القهقرى » (2).
وتنص الروايات على أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبرء منهم ولا يتدخل في إنقاذهم ممّا هم فيه عند ورودهم الحوض ، ففي رواية يقول صلى الله عليه وآله وسلم : «..فأقول أصحابي أصحابي ! فقيل : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ،
____________
1) صحيح البخاري 8 : 151 .
2) المستدرك على الصحيحين 4 : 74 ـ 75 .


( 73 )

فأقول: بعداً بعداً.. ـ أو ـ سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي » (1).
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحذّر من الانحراف بعد رحيله ، ويجعل ملاك التقييم هو حسن أو سوء العاقبة ، ففي رواية أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال لشهداء أُحد : «هؤلاء أشهد عليهم » فقال أبو بكر : (ألسنا يا رسول الله بإخوانهم ؟ أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا) فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « بلى ، ولكن لاأدري ما تحدثون بعدي » (2).
وقد أكدّ بعض الصحابة حقيقة الانحراف عن نهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد رحيله ، ومن ذلك قول أُبي بن كعب : (مازالت هذه الاُمّة مكبوبةً على وجهها منذ فقدوا نبيّهم) (3).
وقوله : (ألا هلك أهل العقدة ، والله ما آسى عليهم ، إنّما آسى على من يُضلّون من الناس) (4).

____________
1) مسند أحمد 3 : 410 . وبنحوه في صحيح مسلم 4 : 1793 .
2) موطأ مالك 2 : 462 دار احياء التراث العربي ـ بيروت 1370 هـ .
3) شرح نهج البلاغة 20 : 24 .
4) شرح نهج البلاغة 20 : 24 .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

قبول الخلافة
تأملات وعبر من حياة يوسف (ع) - ج 2
أقوال علماء السنة في المذهب الشيعي
الثورة الحسينية اسبابها ومخططاتها القسم الاول
الكمالات المحمدية تصنيف مبتكر في الإعجاز الخلقي
صور التقية في كتب العامة
غزوة بدر تكسر شوكة الكفر والشرك
ما المقصود بليلة الهرير؟
يوم عاشوراء في اللغة والتاريخ والحديث
الشيعة في ألبانيا

 
user comment