الفصل الثالث
وفي السُنّة المطهّرة أيضاً أحاديث كثيرة عن الصحابة يروونها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، في بعضها الثناء والمدح لهم والاَمر بحبهم على نحو العموم ، وفي بعضها القدح والذم الشديد والاخبار عن سوء العاقبة للاَكثرية الساحقة منهم ، وفي بعضها المدح أو القدح لاشخاصٍ معينين منهم .
وإذا أردنا أن نصل إلى حقيقة الاَمر وواقع الحال في هذه الاحاديث كان من الضروري النظر فيها من جهة السند ومن جهة الدلالة ودراسة النسب الموجودة فيما بينها .
لكنّا نستعرض فيما يلي طائفةً من الروايات الواردة في المسألة ، مع غض النظر عن أسانيدها :
روايات المدح والثناء :
فهذه أولاً نصوص روايات وردت في الكتب في مدح الاَصحاب عامةً أو المهاجرين والاَنصار كلّهم أو الانصار كلّهم فقط ونحو ذلك :
( 62 )
الرواية الاُولى : « اللّهمَّ امضِ لاَصحابي هجرتهم ، ولا تردّهم على أعقابهم» (1) .
الرواية الثانية : « الاَنصار كرشي وعيبتي» (2).
الرواية الثالثة : « في كلِّ دُور الاَنصار خير » (3).
الرواية الرابعة : « المهاجرون والاَنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة » (4).
الرواية الخامسة : « اللّهمَّ لا عيش إلاّ عيش الآخرة ، فاغفر للمهاجرين والاَنصار» (5) .
الرواية السادسة : قبل بدء القتال في غزوة بدر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «اللّهمَّ إن تَهْلِكَ هذه العصابة اليوم لا تُعبد» (6).
الرواية السابعة : « يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم ، قالوا : بم يارسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : بالثناء الحسن والثناء السيء ، أنتم شهداء الله في الاَرض» (7) .
الرواية الثامنة : « طوبى لمن رآني وآمن بي ، وطوبى ثم طوبى ـ يقولها
____________
1) صحيح البخاري 5 : 87 ـ 88 .
2)السيرة النبوية ، لابن كثير 2 : 282 .
3) صحيح مسلم 4 : 1785 .
4) بحار الاَنوار 22 : 311 ، عن أمالي ابن الشيخ : 168 .
5) صحيح البخاري 5 : 137 . وتفسير القمي 1 : 177 .
6) السيرة النبوية ، لابن هشام 2 : 279 .
7) تفسير القرآن العظيم 1 : 197 .
( 63 )
سبع مرات ـ لمن لم يرني وآمن بي » (1).
الرواية التاسعة : قال له رجلان : يا رسول الله ، أرأيت من رآك فآمن بك وصدّقك واتبعك ، ماذا له ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : « طوبى له » (2).
الرواية العاشرة : « لا زال هذا الدين ظاهراً على الاَديان كلها ما دام فيكم من رآني » (3).
الرواية الحادية عشر : « أثبتكم على الصراط أشدّكم حبّاً لاَهل بيتي ولاَصحابي » (4).
الرواية الثانية عشر : كان بين خالد بن الوليد وبين أحد المهاجرين الاَوائل كلام ، فقال خالد له : «تستطيلون علينا بأيامٍ سبقتمونا بها» ، فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فقال : « دعوا لي أصحابي ، فو الذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد ـ أو مثل الجبال ـ ذهباً ما بلغتم أعمالهم » (5).
والظاهر أنّ الروايتين الاَخيرتين ليست عامّة في جميع الصحابة السابقين والمتأخرين في الاِيمان والجهاد ، وإنّما هي مختصة في بعض منهم .
فقد جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين حبّ أهل بيته: وأصحابه ، فلو كان قصده جميع الصحابة لحدث تناقض لاَنّ بعض الصحابة آذى بضعته من
____________
1) الخصال 2 : 342 .
2) بحار الاَنوار 22 : 306 ، عن أمالي ابن الشيخ : 332 .
3) نوادر الراوندي : 15 .
4) نوادر الراوندي : 23 .
5) مجمع الزوائد 10 : 15 .
( 64 )
بعده ، وبعضهم كان مبغضاً لاَهل بيته ، وقد وصل حد البغض إلى قتالهم واستباحة دمائهم ، فقد حارب معاوية وعمرو بن العاص وبسر بن أرطأة وآخرون الاِمام عليّاً عليه السلام ومن بعده الاِمام الحسن عليه السلام ، فكيف يجتمع حب الاِمام عليّ عليه السلام وحبّ معاوية وأتباعه في قلب واحد ، والكلام موجّه إلى الصحابة ، فكيف يوجّه الصحابة إلى حبّ الصحابة ؟
ورواية «دعوا لي أصحابي» مختصة أيضاً ببعض الصحابة ؛ لاَنّ الاَمر موجّه إلى خالد بن الوليد وهو من الصحابة ، يأمره بالكّف عن صحابي آخر، ويقارن بين أعمال المتقدمين في الاِيمان والهجرة والنصرة وأعمال المتأخرين ، فالرواية واضحة الدلالة باختصاصها ببعض الصحابة .
وما تقدّم من ثناء مشروط بشروط ، منها : الاِيمان الحقيقي ، فلا يكون من في قلبه مرض مراداً قطعاً ، والاستقامة على المنهج الاِسلامي وحسن العاقبة ؛ لاَنَّ بعض الصحابة ارتدّوا ثم عادوا إلى الاِسلام، وبعضهم منافقون اسرّوا نفاقهم ، ولكنّه ظهر من خلال أعمالهم ومواقفهم كما سيأتي بيانه .
وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بعض الصحابة بأسمائهم ، ووجّه الاَنظار إلى عدد محدود منهم ، فكرّر مدحهم والثناء عليهم وجعلهم الصفوة من بين آلاف الصحابة ، ولم يساو بين السابقين في الهجرة والاِيمان وبين المتأخرين الذين أسلموا خوفاً أو طمعاً .
وفي مقابل الثناء على بعض الصحابة ، وردت أحاديث مفتعلة منسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحق آخرين من الصحابة .
وقد كثر تزوير الاَحاديث في عهد بني أُمية ، قال ابن عرفة ، المعروف
( 65 )
بنفطويه : (إنّ أكثر الاَحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أُمية، تقرباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أُنوف بني هاشم) (1).
وقال أبو الحسن المدائني : (كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله... أن برئت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته) ، ثم كتب : (ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإنَّ هذا أحب إليَّ وأقرّ لعيني ، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته وأشدّ إليهم من مناقب عثمان وفضله... فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها... فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة... حتى انتقلت تلك الاَخبار والاَحاديث إلى أيدي الديانين الذين لايستحلّون الكذب والبهتان ، فقبلوها ورووها ، وهم يظنون أنّها حقّ ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها ، ولا تدينوا بها) (2).
روايات الذم والتقريع :
شخصية الاِنسان تتحكم فيها عوامل ثلاثة : الفكر ، والعاطفة ، والاِرادة، وهي التي تحدّد موقف الاِنسان وسلوكه في الحياة ، فالاِيمان بعقيدة معينة وفكرة معينة يجعل الشعور الباطني حركة سلوكية في الواقع، ويحوّل هذه الحركة إلى عادة ثابتة متفاعلة مع ما يحدّد لها من تعاليم ومفاهيم وقيم ، إن تطابقت الارادة مع أُسس الاِيمان وقواعده ، والاِرادة هي الحد الفاصل بين مرحلة الشعور ومرحلة الواقع ، وبها تتميز
____________
1) شرح نهج البلاغة 11 : 46 .
2) شرح نهج البلاغة 11 : 44 ـ 46 .
( 66 )
شخصية الاِنسان في الخارج في قرارها النهائي ، وكل هذه العوامل مرتبطة في ظواهرها مع عوامل اُخرى كالوراثة والمحيط الاجتماعي التي تؤثر على تلك العوامل تأثيراً إيجابياً أو سلبياً ، وبالتالي تؤثر على تحديد شخصية الاِنسان ، ولذا نرى الصحابة متفاوتين في شخصياتهم ، فمنهم من هو في قمة التكامل والسمو ، ومنهم من هو في مراتب أدون فأدون ، تبعاً لتفاوت درجات الاِيمان ودرجات الاُنس بالعقيدة والفكر ، ودرجات الارتباط بالقدوة الصالحة المجسدة للعقيدة والشريعة في واقعها السلوكي، والتفاعل مع المغريات والمثيرات الخارجية إندفاعاً وإنكماشاً ، فبعض الصحابة الذين بقي إيمانهم متزعزاً قد نكصوا على أعقابهم وارتدّوا عن الاِسلام ، وبعضهم عاد إلى الاِيمان بعد ردته خوفاً أو طمعاً أو استسلاماً للاَمر الواقع أو قناعة بصحة الرسالة ، وبعضهم لم يقاوم جبهة التصدّع في شخصيته ، فاستسلم للاَهواء واستجاب للمغريات الخارجية كحب الرئاسة وحب المال ، فانحرف عن الاستقامة في موقفه وسلوكه العملي ، ولذا جاءت الروايات في مقام التحذير من الانحراف والنكوص والتردّد ، وجاء بعضها في مقام الذم والتقريع لمواقف سلوكية اتّخذها بعض الصحابة في مراحل حياتهم .
من آثار الجاهلية :
في أحد الاَيام قام أحد الكفّار بتذكير نفر من الصحابة من الاَوس والخزرج بقتلاهم في الجاهلية ، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الاَشعار في يوم بعاث ، وهو اليوم الذي اقتتل فيه الاَوس والخزرج ، فهاجتهم تلك الاَشعار وتنازعوا وتفاخروا ، وغضبوا جميعاً ، فخرجوا إلى الحرّة ومعهم السلاح ، وقبل بدء القتال خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال :
( 67 )
«يا معشر المسلمين ، الله الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للاِسلام وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألَّف به بين قلوبكم » فعرف القوم أنّها نزعة من الشيطان وكيد من عدّوهم ، فبكوا وعانق الرجال من الاَوس والخزرج بعضهم بعضاً (1).
فلولا الاسراع في حل الاَزمة لحدث القتال ولبقيت آثاره قائمة ، حدث ذلك ورسول الله بين أظهرهم ، فكيف يكون الوضع لو لم يكن معهم كما حدث بعد رحيله !
وفي أحد الاَماكن ازدحم على الماء أحد المهاجرين وأحد الاَنصار ، فصرخ أحدهم : يا معشر المهاجرين ، وصرخ الآخر ، يا معشر الاَنصار ، وكادت تحدث الفتنة لولا تدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تجاوزها وإشغال المسلمين بالمسير لمدة يومين (2).
وقد خالف خالد بن الوليد المهمة التي كُلِّف بها ، وهي الدعوة السلمية إلى الاِسلام ، وقام بقتل جماعة من بني جذيمة ثأراً لعمّه المقتول في الجاهلية ، وحينما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعمل خالد رفع يديه إلى السماء ثم قال : « اللّهمَّ إنّي أبرأُ إليك ممّا صنع خالد » (3).
الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
كثر الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته ، وقد حذّر صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة
____________
1) السيرة النبوية ، لابن هشام 2 : 204 ـ 205 .
2) السيرة النبوية ، لابن هشام 3 : 303 . والطبقات الكبرى ، لابن سعد 2 : 65 .
3) صحيح البخاري 5 : 203 . وتاريخ اليعقوبي 2 : 61 . وتاريخ الطبري 3 : 67 . والكامل في التاريخ 2 : 256 .
( 68 )
من الكذب عليه في الحديث والرواية فقال صلى الله عليه وآله وسلم :
« لا تكذبوا عليَّ فإنَّهُ من كَذَبَ عليَّ فليلج النّار » (1).
« من كذَّب عليَّ فليتبوأ مقعده من النّار » (2).
« من تعمّدَّ عليَّ كذباً فليتبوأ مقعده من النّار » (3).
« من يقل عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النّار » (4).
ولتفشي الكذب مطلقاً سواءً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو في الشؤون الاُخرى وتتابعه ، كان صلى الله عليه وآله وسلم يحذّر من ذلك وينهى عن ممارسته بعد وقوعه، وكان يكرّر هذا التحذير في أوقات ومناسبات عديدة ليرتدع الكذّابون عن الكذب ، فقد قام صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً وقال : « ما يحملكم على أن تتابعوا على الكذب ، كما يتتابع الفراش في النّار ! كلّ الكذب يكتب على ابن آدم إلاّ رجل كذب في خديعة حرب ، أو اصلاح بين اثنين ، أو رجل يحدّث امرأته فيرضيها » (5).
ووضّح الاِمام علي عليه السلام أصناف نقلة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقسمهم إلى أربعة :
الاَول : المتعمد للكذب .
____________
1) صحيح البخاري 1 : 38 . وصحيح مسلم 1 : 9 .
2) صحيح البخاري 1 : 38 . وسنن ابن ماجة 1 : 13 .
3) صحيح البخاري 1 : 38 . وصحيح مسلم 1 : 10 .
4) صحيح البخاري 1 : 38 . وبنحوه في المستدرك على الصحيحين 1 : 102 .
5) الدر المنثور 4 : 317 .
( 69 )
الثاني : المتوهم في نقل الحديث ، إلاّ أنّه غير متعمد .
الثالث : القليل العلم بالناسخ والمنسوخ في الاَوامر والنواهي .
الرابع : الصادق الواضع للحديث في موضعه .
وقال في معرض هذا التقسيم : « إنَّ في أيدي الناس حقاً وباطلاً ، وصدقاً وكذباً... ولقد كُذِبَ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عهده ، حتى قام خطيباً فقال : من كذبَ عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النّار » (1).
فالكذب على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة لا تقبل التأويل ـ وسيأتي ذكر مصاديقها في البحوث القادمة ـ وهو أشدّ أنواع الكذب تأثيراً في بلبلة المفاهيم والتصورات وخلق الاضطراب في المواقف الخاصة والعامّة ، لما فيه من إغراءٍ بالقبيح والمنكر ، وتحريف للمنهج الاِسلامي الثابت في مفاهيمه وقيمه وموازينه .
روايات التحذير من سفك الدماء لاَجل الدنيا :
حذّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من التنافس على الدنيا ، وخصوصاً في بعض محاورها وهي السلطة التي تسفك من أجلها الدماء ، ويستحل الصحابي دم صحابي مثله من أجل الحصول عليها وعلى المكاسب والمغانم التي تكون وسيلة لوجودها .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « ... إنّي لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي ، ولكنّي أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها ، وتُقتلوا ، فتهلكوا ، كما هلك
____________
1) نهج البلاغة : 325 ـ 326 الخطبة 210 .
( 70 )
من كان قبلكم » (1).
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بأنّهم سيحرصون على الاِمارة فقال : « إنّكم ستحرصون على الاِمارة ، وستصير ندامة وحسرة يوم القيامة ، فبئست المرضعة ، ونعمت الفاطمة » (2).
وحذّر صلى الله عليه وآله وسلم من الرجوع إلى الكفر من بعده ، وجعل سفك الدماء علةً لهذا الكفر ، وقد يكون مقصوده صلى الله عليه وآله وسلم هو الكفر الحقيقي ؛ لاَنَّ المؤمن لايستحلَّ دم أخيه ما دام مؤمناً بالله تعالى وبالعقاب يوم القيامة ، وقد يكون مقصوده هو الانحراف الحقيقي عن الاِسلام في الواقع العملي ، وفي صدد ذلك التحذير قال صلى الله عليه وآله وسلم : « لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعضٍ » (3)ُس .
وسيأتي في هذا الشأن تفصيل في الفصل الاَخير .
روايات الارتداد والرجوع على الاَعقاب :
وردت روايات مستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكدَّ فيها أنّ النكوص والانقلاب على الاَعقاب واقع بعده من قبل الصحابة .
قال صلى الله عليه وآله وسلم : « أنا فرطكم على الحوض ، وسأنازع رجالاً فأغلب عليهم ، فلاَقولنَّ ربِّ أُصيحابي أُصيحابي ! فيقال لي : إنّك لا تدري ما أحدثوا
____________
1) صحيح مسلم 4 : 1796 .
2) مسند أحمد 3 : 199 . وبنحوه في تحف العقول : 25 .
3) مسند أحمد 1 : 664 و 6 : 19 . وصحيح البخاري 1 : 41 . وصحيح مسلم 1 : 82 . وسنن ابن ماجة 2 : 130 .
( 71 )
بعدك (1) .
والرواية واضحة الدلالة في أنّ هؤلاء الاَصحاب كانوا معروفين في الناس بالاستقامة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنّهم انحرفوا من بعده .
وفي رواية أخرى أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال : « ليردنَّ على الحوض رجال ممّا صحبني ورآني ، حتى إذا رفعوا إليَّ ورأيتهم اختلجوا دوني ، فلاَقولنَّ : ربِّ أصحابي أصحابي ! فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك » (2).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّكم محشورون إلى الله تعالى... ثم يؤخذ بقوم منكم ذات الشمال ، فأقول : يا ربِّ أصحابي ! فيقال لي : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، لم يزالوا مرتدين على أعقابهم مذ فارقتهم ، فأقول كما قال العبد الصالح : (وكُنتُ عَليهِم شَهيداً مادُمتُ فِيهِم فَلمَّا تَوفَّيتني كُنتَ أنتَ الرقيبَ عَليهِم وأنتَ على كُلِّ شيءٍ شَهيدٌ * إن تُعذِّبهُم فإنَّهم عِبادُكَ وإن تَغْفِر لهُم فإنَّكَ أنتَ العَزيزُ الحَكِيم ) » (3).
والعذاب المذكور في الآية قرينة على ارتكاب الذنب والاتّصاف بالفسق والخروج عن العدالة والاستقامة ، وإلاّ لا موجب لعذاب العادل النزيه .
ومن خلال تتبع الروايات نجد أنَّ الانحراف عن نهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والابتعاد عن المفاهيم والقيم الاِسلامية المعبّر عنه بالارتداد والرجوع
____________
1) مسند أحمد 2 : 35 . وبنحوه في صحيح مسلم 4 : 180 .
2) مسند أحمد 6 : 33 . وبنحوه في صحيح البخاري 8 : 148 و9 : 58 .
3) مسند أحمد 1 : 389 . وبنحوه في : صحيح البخاري 6 : 69 ـ 70 ، 122 . والآية من سورة المائدة 5 : 117 ـ 118 .
( 72 )
على الاَعقاب والتقهقر ، قد عمّ عدداً كبيراً من الصحابة الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صحبة ليست بالقصيرة ، وقد عبّر صلى الله عليه وآله وسلم عن كثرتهم بالقول : « بينا أنا قائم إذا زمرة ، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هَلُمَّ ، فقلت : أين؟ قال : إلى النار والله ، قلتُ : وما شأنهم ؟ قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم... قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم » (1).
والروايات المتقدّمة تنصّ على أنّ المتسائل هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمجيب غيره ، وهنالك روايات تنصّ على أنّ المجيب هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة حيثُ يخاطب بعض أصحابه في يوم القيامة بإثبات إنحرافهم عن الاستقامة بعد رحيله من الدنيا ، كما هو في الرواية عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « ما بال أقوام يقولون : إنّ رحمي لا ينفع ، بلى والله إنّ رحمي موصولة في الدنيا والآخرة ، وإنّي أيُّها الناس فرطكم على الحوض ، فإذا جئت قام رجال ، فقال هذا : يا رسول الله ، أنا فلان ، وقال هذا : يا رسول الله أنا فلان ، وقال هذا : يا رسول الله أنا فلان ، فأقول قد عرفتكم ولكنكم أحدثتم بعدي ورجعتم القهقرى » (2).
وتنص الروايات على أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبرء منهم ولا يتدخل في إنقاذهم ممّا هم فيه عند ورودهم الحوض ، ففي رواية يقول صلى الله عليه وآله وسلم : «..فأقول أصحابي أصحابي ! فقيل : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ،
____________
1) صحيح البخاري 8 : 151 .
2) المستدرك على الصحيحين 4 : 74 ـ 75 .
( 73 )
فأقول: بعداً بعداً.. ـ أو ـ سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي » (1).
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحذّر من الانحراف بعد رحيله ، ويجعل ملاك التقييم هو حسن أو سوء العاقبة ، ففي رواية أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال لشهداء أُحد : «هؤلاء أشهد عليهم » فقال أبو بكر : (ألسنا يا رسول الله بإخوانهم ؟ أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا) فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « بلى ، ولكن لاأدري ما تحدثون بعدي » (2).
وقد أكدّ بعض الصحابة حقيقة الانحراف عن نهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد رحيله ، ومن ذلك قول أُبي بن كعب : (مازالت هذه الاُمّة مكبوبةً على وجهها منذ فقدوا نبيّهم) (3).
وقوله : (ألا هلك أهل العقدة ، والله ما آسى عليهم ، إنّما آسى على من يُضلّون من الناس) (4).
____________
1) مسند أحمد 3 : 410 . وبنحوه في صحيح مسلم 4 : 1793 .
2) موطأ مالك 2 : 462 دار احياء التراث العربي ـ بيروت 1370 هـ .
3) شرح نهج البلاغة 20 : 24 .
4) شرح نهج البلاغة 20 : 24 .