لماذا يأذن الحسين (ع) لاصحابه بالتفرق عنه ؟ |
أثبتنا في البحث السابق أن الأمرة والحكم كانا على رأس متطلبات الحسين (ع) من وراء ثورته الخالدة لأجل الوصول بهما إلى غايته الكبرى وهدفه الأعلى على أكمل وجه وهو اصلاح المجتمع وإعادة نظام الإسلام إلى المجتمع الإسلامي وطبعاً أن هذا الهدف لا يتم إلا من طريق السلطة ، فالسلطة إذاً كانت الطريق الأمثل أمام الحسين (ع) للوصول إلى اداء رسالته وتحقيقها كاملة . والحسين (ع) طلب السلطة وسعى اليها قطهاً وبلا شك . وهنا يبرز سؤال ويعترضنا استفهام حساس وهو لماذا إذا أجاز لأتباعه وأصحابه الذين خرجوا معه وانضموا اليه أن يتفرقوا عنه وهو في أمس حاجة إلى الاستكثار من الأعوان تحقيقاًَ لما طلب من الحكم والسلطان . وفعلاً تفرقوا عنه قبل لقاء العدوا حتى لم يبق معه منهم إلا القليل الذي لم يتجاوز النيف وسبعين رجلاً بعد أن كانوا معه حوالي الستة آلاف رجل تقريباً . فهل هذا سلوك ثائر يريد الاستيلاء على الحكم ؟
نقول أجل أن الحسين (ع) ثائر لأجل إحقاق الحق ونشر العدل والخير . والحق لا يتحقق من طريق الباطل والعدل لا ينشر بواسطة الظلم والخير لا يعطى على أيدي المبطلين وبكلمة واحدة الورد لا يجنى من العوسج والعسل لا ينال من الحنظل .
ومكلف الأيام ضد طباعها ـ متطلب في الماء جذوة نار ... إن الحسين (ع) أراد السلطة لاستخدامها في مصلحة المجتمع ولخدمة الدين والإسلام فلا يجوز
|
|
|
ٍٍأن يطلبها بطريق خداع الجماهير والتغرير بهم واغفالهم عن حقائق الأمور وواقع الحوادث ورفع الشعارات الكاذبة والدعايات المضللة . مثله مثل أبيه الإمام علي (ع) الذي رفض الخلافة يوم الشورى لما توقف حصولها على كلمة كذب واحدة حيث قيل له نبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وعلى سيرة الشيخين أبي بكر وعمر . فقال (ع) : كلا بل على كتاب الله وسنة رسوله فقط . وكان (ع) يسعه أن يقول نعم وينال الخلافة ثم يسير بعد ذلك حسب كتاب الله وسنة رسوله لا غير ولم يكن ملزماً بالشرط الأخير شرعاً لأن سيرة الشيخين إن كانت موافقة لكتاب الله وسنة رسوله فهي داخلة في الشرط حتماً وإن كانت مخالفة لهما فلا يجوز للمسلم أن يعمل بها ... ولكن الإمام (ع) مع ذلك كره أن يقول لشيء نعم وهو يعلم من نفسه أنه لا يلتزم به وبذلك فوت الخلافة على نفسه مدة اثني عشر سنة تقريباً وهي مدة خلافة عثمان بن عفان .
فسياسة الحسين هي بعينها سياسة أبيه علي (ع) وجده النبي (ص) وهي سياسة الإسلام والحق التي ترتكز على الصراحة والصدق والواقعية وتأبى الكذب والانتهازية واللف والدوران .
ثم أن الستة آلاف رجل الذين كانوا مع الحسين (ع) كان اكثرهم من الأعراب وأهل الأطماع والمرتزقة الذين يتبعون القادة طمعاً في الغنائم والمناصب والأرزاق خرجوا مع الحسين (ع) والتحقوا به في أثناء الطريق علماً منهم بأن الحسين (ع) قادم على بلد قد دان له أهلها بالطاعة والولاء وبايعه أهلها بالإجماع وسوف ينتصر بهم حتماً ويصلون بإتباعه إلى مغانم وأرباح . وكان الحسين (ع) يعرف ذلك في نفوسهم فلما تجلى غدر أهل العراق وظهر انقلابهم ولم يبق هناك أمل في انتصاره بهم على الأعداء بل أصبحوا هم من الأعداء والمحاربين له وذلك بقتلهم سفيره مسلم بن عقيل (ع) وقتل رسوليه عبد الله بن يقطر وقيس ابن مسهر الصيداوي رحمهما الله تعالى . عند ذلك تغير مجرى الثورة السابق وتحولت من حرب هجومية متكافئة وجهاد منظم مفروض حسب المقاييس
|
|
|
ٍٍٍالشرعية . إلى حرب فدائية استشهادية ليس فيها أمل في الانتصار العسكري وإنما المقصود منها التضحية والشهادة لغرض التوعية وتنبيه الرأي العام ولفت الأنظار إلى حقيقة الحكم القائم وواقع الزمرة الحاكمة وعزلهم عن الأمة المسلمة فيحبط بذلك مؤامراتهم العدوانية ضد الإسلام ومصلحة المسلمين . قال العقاد في ص 193 «وعلى هذا النحو تكون حركة الحسين (ع) قد سلكت طريقها الذي لا بد لها أن تسلكه وما كان لها قط من مسلك سواه ... حيث وصل الأمر إلى حدٍ لا يعالج بغير الاستشهاد» .
لذا فقد كره الحسين (ع) أن يترك أتباعه غافلين عن هذا التطور وجاهلين لهذا التحول المصيري الهام خوف أن يباغتوا بالمصير الذي لا يرغبون فيه فيسلموه عند الوثبة ، ويهزمون من الميدان عند اللقاء ويتفرقون عنه ساعة بدء المعركة . وفي ذلك وهن كبير يصيب معنوية القائد ويضعف مقاومة المخلصين من أصحابه . وإن تلك الاجازة لهم بالانصراف إذا شاءوا كانت من الحسين (ع) بالنسبة لهم أولاً للاختيار والامتحان . وثانياً بمثابة مخض وغربلة فاستخرج الزبدة منهم وهم نيف وسبعون رجلاً وقد بلغوا إلى ليلة عاشوراء إلى ما يقارب الثلاثمائة رجل كل منهم فدائي مخلص للحسين (ع) بايعوه على الموت واختاروا الشهادة على الحياة والقتل على البقاء في الدنيا ... ولقد اختبرهم مراراً فما وجد فيهم إلا الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنية دونه استئناس الطفل بلبن أمه حسب شهادة الحسين (ع) في حقهم . قالوا له في بعض تلك الاختبارات : يا سيدنا لو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك على الاقامة فيها فقال لهم الحسين (ع) اعلموا أنكم كلكم تقتلون ولا يفلت منكم أحد . فقالوا الحمد لله الذي من علينا بشرف القتل معك ولا أرانا الله العيش بعدك أبداً وقال له مسلم بن عوسجة الأسدي (ره) : أنحن نتخلى عنك وبماذا نعتذر إلى الله في اداء حقك . أما والله لا افارقك حتى أطعن في صدورهم برمحي وأضرب بسيفي ما ثبت قائمة بيدي ولو لم يكن معي سلاح اقاتلهم به لقذفتهم
|
|
|
ٍٍٍٍٍٍٍبالحجارة حتى أموت معك . وقال له سعيد بن عبد الله الحنفي والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسوله فيك . أما والله علمت أني أقتل ثم احيا ثم أحرق حياً ثم أذرى يفعل بي ذلك سبعين مرة لما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك وكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً . وقال له زهير بن القين البجلي (ره) والله لوددت اني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل كذلك ألف مرة وأن الله عز وجل يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك . وهكذا تكلم الباقون من أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً فجزاهم الحسين (ع) خيراً .
أجل والله جزاهم الله خيراً لقد سجلوا بموقفهم هذا رقماً قياسياً خالداً وضربوا أروع مثال للتضحية في سبيل الكرامة وللعمل الفدائي الصحيح . ألا هكذا فليكن العمل الفدائي وإلا فلا . فهم قدوة كل عمل فدائي مثمر ومخلص ولا يمكن أن ينجح أي عمل فدائي ما لم يكن الحسين (ع) وأصحابه مثله الأعلى وقدوته المثلى . إخلاص للقضية واستصغار لكل غال وعزيز في سبيلها ودون تحقيقها . ولقد أجاد من وصفهم بقوله :
فسـامـوهـم إمـا الحيـاة بذلـة |
أو الموت فاختـاروا أعزالمراتب |
|
بنفسي هم مـن مستميتين كسـروا |
جفون المواضي في رجوه الكائب |
|
وصالوا على الأعداء أُسداً ضوارياً |
بعوج المواضي لا بعوج المخالب |
|
أصيبـوا ولكـن مقبلين دماؤهـم |
تسيل على الأقدام دون العـراقب |
وأخيراً نقول : أن الحسين (ع) حافظ على قدسية ثورته ونبل نهضته وشرف تضحيته بذلك العمل . اي بأن أبعد عنها الأوباش وأهل الأطماع والانتهازيين عملاً بمضمون الآية الكريمة : «وما كنت متخذ المضلين عضداً» وعملاً بالقاعدة المعروفة (فاقد الشيء لا يعطيه) . أجل إن شرف كل ثورة يتوقف إلى حد كبير على شرف الثائرين وحسن نواياهم واخلاص نياتهم . ثم أن الاصلاح لا يأتي على أيدي غير الصالحين . وهذا من أعظم الدروس نفعاً للأجيال في ثورة الحسين (ع) .
كتب الحسين(ع) إلى من تخلف عنه كتاباً لما نزل كربلاء قال فيه أما بعد فمن لحق بي منكم استشهد ومن لم يلحق لم يبلغ الفتح والسلام .
فأي فتح هذا الذي يقصده الحسين (ع) مع علمنا بانه قتل هو وأصحابه وأهل بيته وسبيت حريمه وحمل رأسه إلى ابن زياد ويزيد ؟ نقول :
كان للحسين (ع) من وراء ثورته المقدسة هدفان : هدف قريب مباشر وهدف بعيد وغير مباشر .
أما الهدف القريب المباشر فهو استرجاع حقه الشرعي والطبيعي في الخلافة والحكم لأجل اصلاح المجتمع واعادة نظام الإسلام إلى الحياة الاجتماعية واحياء سنة جده الرسول (ص) واماتة البدع وتصحيح الأخطاء والانحرافات التي تراكمت على المسلمين منذ وفاة محمد (ص) من جراء السياسات المختلفة التي مارسها الحكام من ذلك اليوم إلى يوم الحسين (ع) . مما أدى إلى أن لا يبقى من الإسلام بأيدي المسلمين إلا اسمه ولا من القرآن الكريم إلا رسمه .
وأما الهدف البعيد غير المباشر فهو وضع النقاط على الحروف . ووضع الحدود والعلامات الواضحة بين الإسلام الحقيقي والإسلام المزيف . ولفت الأنظار إلى فشل السياسة السابقة التي أدت إلى الوضع الفاسد القائم وإلى خطأ المفاهيم التي سار عليها المسلمون بعد وفاة الرسول (ص) .
والخلاصة : كان هدفه الأول احياء الإسلام فكرياً وعملياً . وهدفه الثاني
|
|
|
احيائه فكرياً على الأقل . وهو وإن فاته تحقيق الهدف الأول بسبب غدر أهل الكوفة ، ولم يتسن له أن يقيم حكومة إسلامية صحيحة ويطبق النظام الإسلامي الصحيح بين المسلمين .
ولكن حقق هدفه الثاني بلا شك ونزه دين الله وشريعة الإسلام وسنة خاتم الأنبياء عن الشوائب المهينة والمظاهر المشوهة والمفاهيم المغلوطة التي ألحقت به وتراكمت عليه وأظهر وجه الإسلام الجميل ومنظره الجذاب وصورته السماوية الغراء من بين ركام البدع والاجتهادات الضالة والاستحسانات الفاسدة .
وكمثل على ذلك نقول أن مما شاع وذاع بين الخبراء والباحثين هو أن من أهم النتائج والآثار لمأساة الحسين (ع) وحادثة كربلاء انتشار التشيع وظهور مذهب أهل البيت (ع) أكثر فأكثر وتزايد عدد الشيعة في العالم الإسلامي رغم أن انبثاق التشيع كان مقارناً مع انبثاق فجر الإسلام ومنذ أوائل البعثة المحمدية غير أنه كان محدوداً ومحصوراً في نطاق أعيان الصحابة واعلام المهاجرين والأنصار بالاضافة إلى بني هاشم . أما بعد ثورة الحسين (ع) فإنه أي التشيع أصبح منتشراً في كافة الأقطار وبين عامة الطبقات ... والسؤال الآن هو كيف كان ذلك ولماذا ؟
الجواب : أقول لأن الرأي العام وكل انسان حر عاقل ذو وعي وضمير لما سمع بأنباء تلك المجزرة الرهيبة التي أبيد فيها آل رسول الله (ص) وبما تلاها من الجرائم والموبقات وأبشع المنكرات التي تأباها حتى الوحوش ...
أقول لما اطلع عليها صار يفكر في نفسه ويتساءل : من أين جاءت هذه العصابة المجرمة الأموية إلى السلطة وكيف توصل هؤلاء الطغاة المتمردون على أبسط القوانين الانسانية والإسلام إلى الأمرة والحكم فسودوا وجه التاريخ الإسلامي والعربي وملأوا الدنيا بالظلم والفساد . من الذي مكن لهم ومهد الطريق أمامهم إلى الخلافة الإسلامية ؟
|
|
|
فيأتيه الجواب طبعاً وبكل بساطة . أنه بسبب الغلطة الكبرى والخطأ الذي ارتكبه بعض الصحابة بعد وفاة النبي محمد (ص) بانكارهم الحق الشرعي والطبيعي في الخلافة لعلي بن أبي طالب (ع) بعد الرسول ورفضهم النصوص القرآنية والوصايا النبوية في خلافة علي وولايته العامة على الأمة بعد النبي (ص) وادعوا أن الله لم يعين لرسوله خليفة قط والرسول لم يختر لنفسه نائباً ووصياً . وأن أمر القيادة والإمامة بعد الرسول موكول إلى اهواء الناس وآرائهم . فأدى ذلك بطبيعة الحال إلى أن يتقمص الخلافة ويتسلم زمام السلطة والقيادة العامة بعد الرسول الأكرم (ص) أشخاص جديدو عهد بالإسلام وأهدافه بعيدون عن تفهم جوهره ولبابه . بعد لم يعرفوا الإسلام بروحه وحقيقته وواقعه الذي هو تربية روحية وتهذيب خلقي وتكوين انساني أكثر من كونه توسعاً اقليمياً وسلطة زمنية وحركة سياسية .
لذلك صاروا يخبطون خبط عشواء ويتخبطون في أمر الخلافة بغير هدى ولا طريق معين فتارة يعتمدون في اختيار الخليفة مبدأ الانتخابات العام وتارة مبدأ النص والاختيار الفردي وأخرى مبدأ الشورى من قبل أشخاص معدودين وهكذا كلما إعتمدوا مبدأ جاء بنتيجة أسوأ من الأول إلى أن صارت الخلافة الإسلامية لعبة صبيانية ومطمعاً لكل طامع حقير .
لقد هزلت حتى بدا من هزالها |
كلاها وحتى استامها كل مفلس |
فيا ترى هل يجوز على الله سبحانه وتعالى وهو علام الغيوب القادر الحكيم هل يجوز له أن يرضى لعباده هذا الخبط والضلال فلا يختار لهم قائداً مخلصاً وإماماً عالماً وخليفة كفؤاً بعد نبيه محمد (ص) الذي لا نبي بعده ؟
كلا وحاشا وسبحانه وتعالى عما يزعم الجاهلون ويقوله الظالمون . قل لي بربك أيها المنصف إلى أي شيء أوكلهم الله بعد رسوله في أمر التنظيم والتوجيه . أإلى القرآن الكريم فقط ؟ وفيه الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والمجمل
|
|
|
والمفصل والتفسير والتأويل . مع العلم بأنه سبحانه أمرهم فيه أن يرجعوا لمعرفة آياته وتأويلها إلى الراسخين في العلم . أي علم القرآن . وأمرهم بأن يسألوا أهل الذكر عما يجهلون منه فمن هم هؤلاء الراسخون في العلم ومن هم أهل الذكر . أفلا يجب عليه تعالى أن يعرف العباد بهم ؟ وإلا فما وجه الحكم في الأمر بشيء مجهول . ثم بأي حجة يحتج الله سبحانه على عباده إذا ضلوا بعد النبي (ص) ولم يهتدوا إلى أهل الذكر وإلى العلماء الراسخين ؟ وهذا القرآن كما تراه يحتمل سبعين وجهاً في التفسير والتأويل على حد الحديث الشريف الذي مؤداه أن للقرآن سبعين بطناًَ فمن فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ... هذا من جهة .
ومن الجهة الأخرى يقول المثل المأثور : حدث العاقل بما لا يليق فإن صدق فلا عقل له . فهل يليق أيها العاقل المنصف بمقام رسول الله (ص) وهو الفرد الأكمل في النوع الانساني عقلاً وحكمة أن يموت ويترك رسالته دون تعيين نائب عنه في رعايتها ونشرها وصيانتها والدفاع عنها ؟ يموت تاركاً الأمة التي تعب على إنشائها طيلة ثلاث وعشرين سنة دون تعيين راعٍ يرعاها وبلا أن ينصب خليفة عنه لقيادتها وهي بعد في بداية الطريق ودور الطفولة ومرحلة الخطر . محاطة بالأعداء والموتورين والطامعين من الخارج ومهددة بالمنافقين والانتهازيين والمؤلفة قلوبهم من الداخل ؟ يموت بدون وصية وبدون تعيين وصي وبدون أن يختار نائباً وخليفة عنه في أمته فيخالف بذلك كافة الاعراف العقلائية وأبسط النواميس العقلية وقانون الأنبياء والمرسلين ؟ قل لهؤلاء الذين يزعمون أن محمداً (ص) مات ولم يعين لنفسه خليفة ووصياً ...
قل لهم هل فعل ذلك نبي أو رسول قبل محمد ؟ أي نبي من آدم فمن بعده مات قبل أن يعين ويختار وينصب خليفة ووصياً ؟ فكيف يشذ محمد (ص) عن سيرة الأنبياء ويخالف مسلك المرسلين مع كونه آخرهم وخاتمهم ؟
هاك كتب التاريخ وسير الأنبياء فراجعها لتعرف أنه ما من نبي من آدم (ع)
|
|
|
ٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍإلى عيسى فارق الحياة وخرج من هذه الدنيا إلا بعد أن اختار لنفسه وصياً وعين نائباً وعرفه لأمته وسلمه كتبه ومواريث العلم والنبوة . سواء كان ذلك الوصي والخليفة نبياً أيضاً كأكثر أوصياء الأنبياء أو لم يكن نبياًَ بل كان إماماً وخليفة فقط يقوم بمهام النبي ويرعى شؤون أمته ورسالته . واليك أسماء البارزين من أولئك الأنبياء وأسماء خلفائهم الذين قاموا بعدهم بوصية خاصة ونص وتعيين :
1ـ آدم (ع) : أبو البشر وأول الأنبياء . خلف ولده الثالث شيت (ع) وصياً وخليفة من بعده وسلم اليه الصحف التي أنزلها الله عليه والكلمات التي تلقاها من ربه فتاب عليه بعد أن كان قد أوصى إلى ولده هابيل واختاره خليفة عنه فحسده أخوه الأكبر قابيل وقتله حسب ما هو معروف ومشروح في الكتاب العزيز .
2 ـ نو ح عليه السلام شيخ المرسلين . خلف ولده الصالح سام ، واختاره خليفة على أمته من بعده وسلم اليه الصحف والكتب المنزلة عليه بعد أن هلك ابنه الأكبر الكافر (كنعان) مع المشركين والكفرة في الطوفان على ما ذكر من قصته في القرآن .
3ـ ابراهيم الخليل (ع) خلف ابنه الأكبر اسماعيل (ع) خليفة على أمته من بعده وأوصاه أن يخلف أخاه الأصغر اسحاق (ع) من بعده وأوصى اسحاق أن يخلف ابنه الأكبر يعقوب .
4 ـ موسى بن عمران كليم الله (ع) عين أولاً أخاه ووزيره في الرسالة هارون بن عمران ليخلفه في أمته ولكن وافاه الأجل المحتوم قبل موسى (ع) فأوصى موسى إلى يوشع بن نون (ع) وخلفه إماماً على أمته وسلمه التوراة والمواريث ولما مات موسى وقام يوشع بن نون مقامه حسدته زوجة موسى وهي صفيراء بنت شعيب فأثارت ضده الفتنة وحاربته ولكن الله سبحانه نصره عليها وقصته مذكورة في كتب سيرة الأنبياء .
|
|
|
5 ـ داود (ع) اختار ولده سليمان في حياته وأوصى اليه وسلمه الزبور ومواريث النبوة فقام من بعده بأمر الرسالة .
6 ـ عيسى بن مريم (ع) روح الله وآيته أوصى إلى شمعون الصفا وهو من خلص الحواريين فقام شمعون الصفا من بعد أن رفع عيسى عليه السلام قام مقامه خليفة في أمته ووصياً على رسالته .
7 ـ زكريا عليه السلام أوصى في حياته إلى ولده يحيى عليه السلام وعينه خليفة عنه بعده ... وهكذا .
فكيف يجوز في عرف الشرع ومنطق العقل وسيرة العقلاء أن يشذ محمد (ص) عن سيرة سلفه الصالح ويخالف الأنبياء جميعاً فيموت ويترك أمته سدى حبلهم على غاربهم تتلاعب بهم الأهواء وهو أفضل الأنبياء عقلاً وحكمة ومعرفة ورسالته خاتمة الرسائل والشرايع جاءت لتدوم إلى الأبد وليهتدي بها البشرية جميعاً فهل هذا معقول ؟ والشيء الاخر هو :
ان السيرة الفطرية في سلوك كل بشر عادي أنه إذا كان مسئولا عن شيء أو يحرص على سلامة شيء من مال أو متاع أو عائلة ثم عرضت له حاجة تدعوه أن يغيب عن تلك المسئولية فإنه بحكم فطرته الارتكازية يفكر بمن يقوم مقامه مدة غيابه للحفاظ على ذلك الشيء واداء تلك المسئولية مدة غيابه .
فمثلاً رجل رب عائلة يريد السفر لعدة ايام أو أشهر فإنه بفطرته البشرية العادية يوصي إلى رجل رشيد من أقاربه أو جيرانه أو أصدقائه يوصيه بأن يرعى شؤون عائلته ويتفقد أمورهم مدة غيابه .
ومثل آخر : رجل صاحب مكتب أو متجر أو شيء من هذا القبيل يريد مغادرته لحاجة في الخارج خلال مدة العمل فإنه يكلف شخصاً أو ينصب شخصاً للقيام مقامه أو لرعاية المكتب على الأقل ريثما يذهب ويعود ولا يمكن أن يترك المكتب مهملاً مفتوحاً بدون رعاية من أحد .
|
|
|
وأخيراً فلنتصور رجلاً راعي معز أو غنم أو بقر يريد أن يترك القطيع في الصحراء ويعود إلى البلد لحاجة عارضة فهل يتركه بدون أن ينصب مكانه رجلاً لحراسة القطيع وحمايته مدة غيابه وإذا فعل وترك القطيع سدى وذهب عنه أفلا يلومه العقلاء على ذلك ويعتبرونه مقصراً في واجبه متهاوناً بمسئوليته .
وهنا نتساءل : هل كانت الأمة والرسالة أقل شأناً وقيمة عند محمد (ص) من الدكان أو المكتب عند صاحبه ومن قطيع الغنم عند الراعي ؟
أم أن محمد (ص) أقل حكمة وأضعف تفكيراً وشعوراً بالمسئولية من صاحب المتجر والدكان ومن راعي الغنم والبقر ومن الرجل العادي رب العائلة ؟ نعوذ بالله من هذه الافتراءات ونبرأ إلى الله من هذه المزاعم والأقوال ...
والأمر الرابع : أقول هل رأيت أو سمعت في العالم ملكاً بدون وليّ عهد معين في حياته أو رئيس جمهورية أو أمير دولي بلا نائب مخصوص مختار قبل وفاته ؟
فهل كان محمد (ص) أقل ادراكاًَ للأصول الادارية والسياسية والزعامة من كل الملوك والرؤساء . أم ماذا ؟ أم أن الملوك والرؤساء أكثر اشفاقاً على سلامة الشعوب والنظام من سيد المرسلين خاتم الأنبياء على أمته ورسالته ؟
أيقبل عقلك ويرضى وجدانك أن الخليفة الأول أبا بكر يهتم بأمر المسلمين فلا يفارق الحياة حتى ينص على عمر بن الخطاب بالخلافة من بعده ويكتب له العهد بذلك . والخليفة الثاني عمر يهتم بأمر القيادة الاسلامية وزعامة الأمة فلا يموت حتى يرشح ستة أشخاص من كبار الصحابة لمنصب الخلافة ويضع نظام الشورى ويؤكد على أن لا تمضي ثلاثة أيام بعد موته حتى يكون أحد هؤلاء السته قد تعين للخلافة وتسلم زمام أمور الأمة . ولكن محمد (ص) يموت بلا وصية وبدون وصي وخليفة ؟ أفيجوز أن يكون كل من أبي بكر وعمر بن الخطاب أشد حرصاً على مصلحة الإسلام والمسلمين من صاحب الرسالة ومؤسس الأمة محمد (ص) ؟
|
|
|
ان مبدأ الاعتراف بالأمر الواقع الذي يسير عليه أكثر المسلمين بزعم أن خلافة الثلاثة بعد النبي (ص) وقيامهم مقام الرسول (ص) أمر قد وقع وصار فيجب الاعتراف بصحته والإذعان لشرعيته ... أقول ان هذا ليس مبدءاًً شرعياً ولا يقره العقل والعقلاء . إذ ليس كل ما وقع في العالم وحدث في التاريخ هو حق وصواب وعدل وصلاح وليس كل مايحدث ويقع يجوز الاعتراف بصحته والالتزام بشرعيته .. ما أكثر الحوادث الباطلة والوقائع الفاسدة والقضايا التي تحققت في هذه الحياة ولكن على أساس الظلم والعدوان .
فهذه مثلاً دولة إسرائيل القائمة في قلب العالم العربي الإسلامي وقد اعترف بها أكثر دول العالم وتؤيدها أكبر الحكومات مادياً ومعنوياً . فهل يجوز للعقل والشرع وعرف العقلاء الاعتراف بها وبشرعيتها لمجرد ذلك ؟ الجواب طبعاً كلا . لأنها وقعت على الغدر والخيانة والغصب كما أن المبدأ القائم على الفكرة القائلة بأن الصحابة كلهم عدول أخيار صلحاء لا يجوز الطعن فيهم ولا يحق لنا التنديد بهم . هذا المبدأ هو الآخر غير صحيح لا يقوم على أساس من المنطق والدليل إذ لا شك أنهم كانوا بشراً مثلنا غير معصومين من الخطأ والعصيان ومخالفة أوامر الرسول (ص) إلا من عصمه الله منهم بقوة الايمان والتقوى ومتانة العقيدة واستكمال التربية الاسلامية . وقد وقعت بينهم اختلافات شديدة أدت إلى أن يشتم بعضهم بعضاً ويقاتل بعضهم البعض وسفكت بينهم الدماء ، فهل كانوا جميعاً على حق في تلك المنازعات ؟ وهل كانوا كلهم عدولاً في خلال تلك الحروب والمعارك ؟ وهل القاتل والمقتول منهم في الجنة ؟
إن مجرد الصحبة للرسول (ص) ليست علة تامة لحصول الايمان والعصمة الحافظة . كيف لا وقد صرح القرآن الكريم بوجود عدد كبير من المنافقين بين صفوف الصحابة الذين كانوا مع الرسول (ص) في المدينة وقد دبر بعضهم عدة مؤامرات لاغتيال النبي (ص) فنجا منها بمعجزة . وكان فيهم أي في أولئك المنافقين عدد قد أتقنوا فن النفاق إلى حد خفي نفاقهم حتى على النبي (ص)
|
|
|
ٍٍٍٍٍٍٍٍٍفما كشفوا إلا بعد وفاته (ص) وقد ذكرهم تعالى لرسوله على نحو الاجمال فقال : «من أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم» . ثم كيف يستبعد منهم مخالفة أوامر الرسول (ص) في وصيه وخليفته علي بن أبي طالب بعد وفاته وقد خالفوا أوامره مراراً في حياته وهم معه وجهاً لوجه خذ مثلاً لذلك ما أجمع عليه المسلمون جميعاً وهي قضية طلب النبي (ص) الدواة والكتف في حال مرضه الذي توفي فيه ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً فعصوا أمره ولم يلبّوا طلبه وقالوا أنه يهجر . فغضب الرسول عليهم وقال قوموا عني . راجع ذلك في الصحاح والمسانيد . وفكر فيما شرحناه بعقلك وحكم وجدانك وضميرك لتعرف أن فكرة التشيع والمذهب الشيعي هما عصارة مدلول الكتاب العزيز والسنة الشريفة ونابعان من صميم العقل والضمير الإنساني . ولتعرف إن التشيع قائم على اساس متين من الدليل والمنطق والوجدان وهو عبارة أخرى عن الإسلام التام الكامل الشامل لكل ما جاء به محمد (ص) من عند الله تعالى بدون زيادة ولا نقصان . كيف لا وهو مذهب أهل البيت (ع) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ...
والآن نختم البحث حول هذا الموضوع ونعود إلى الغرض المقصود وهو أن من ثمرات ثورة الحسين (ع) ومن نتائج تضحياته الجسام انتباه الرأي العام الإسلامي الى خطأ السياسات الارتجالية التي سار عليها ولاة الأمر منذ وفاة الرسول الأكرم (ص) والتي ادت بالمسلمين إلى النكسات والنكبات وتشتت الكلمة واندلاع الفتن والحروب الداخلية والمفاسد الاجتماعية وانحسار الروح الإسلامية من نفوس المسلمين . وأدت أخيراً الى هذه الوصمة المخزية ولطخة العار في جبين الانسانية حيث لم يمض على وفاة رسول الإسلام ونبي المسلمين سوى خمسين عاماً فقط وإذا المسلمون أنفسهم ينهالون على أهل بيت نبيهم وأولاد منقذهم وذرية سيدهم محمد (ص) قتلاً وتشريداً وابادة وتقطيع أوصال وحمل الرؤوس على أطراف الرماح من بلد إلى بلد وترك الجثث على وجه الرمال
|
|
|
ٍٍٍٍٍوحمل بنات رسول الله سبايا حواسر على الأقتاب تساق كما تساق سبايا الكفرة والأشرار كل ذلك بسبب أنهم أنكروا الظلم والفساد وعارضوا البدع والاستبداد . فهل ارتكبت أمة في العالم قبل هذه الأمة عاراً مثل هذا العار وجريمة ابشع وأخزى من هذه الجريمة ؟
قال السيد الرضى (ره) في قصيدة له :
جزورا جزر الأضاحي نسله |
ثـم ساقوا آله سوق الأمـا |
|
لو بسبطي قيصـر أو هرقل |
فعلـوا فعل يزيد مـا عدى |
|
ليس هـذا لرسـول الله يـا |
أمـة الطغيان والبغـي جزا |
كل ذلك من جراء الإعراض عن الإمامة الشرعية والخلافة الالهية بعد رسول الله (ص) . تماماً كما تنبأت به وحذرتهم عنه سيدة النساء فاطمة بنت محمد (ص) في الخطبة التي ألقتها على نساء المهاجرين والأنصار بعد اغتصاب الخلافة من الإمام علي (ع) حيث قالت عليها السلام :
«ويحهم أنا زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة والدلالة ومهبط الروح الأمين والطبين بامور الدنيا والدين ألا ذلك هو الخسران المبين وما الذي نقموه من أبي الحسن نقموا منه والله نكير سيفه وقلة مبالاته بحتفه وشدة وطأته ونكال وقعته وتنمره في ذات الله وتالله لو مالوا عن المحجة اللائحة وزالوا عن قبول الحجة الواضحة لردهم اليها ولحملهم عليها ولسار بهم سيراً سجحاً لا يكلم خشاشه ولا يكل سائره ولا يمل راكبه ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً تطفح ضفتاه ولا يترنق جانباه ولأصدرهم بطانا ولنصح لهم سراً واعلانا ولم يكن يتحلى من الغنى بنائل ولا من الدنيا بطائل غير ري الناهل وشبعة الكافل ولبان لهم الزاهـد مـن الراغـب والصـادق مـن الكـاذب : « ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون » .
|
|
|
ٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍويحهم « أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون» » .
أما لعمري لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج ثم احتلبوا ملء القعب دماً عبيطاً فهنالك يخسر المبطلون ويعرف التالون غب ما أسس الأولون ثم طيبوا عن دنياكم نفساً واطمئنوا للفتنة جأشا وابشروا بسيف صارم وسطوة معتد غاشم وبهرج شامل واستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيداً وجمعكم حصيداً فيا حسرة لكم وأنى بكم وقد عميت عليكم إن ألزمكموها وأنتم لها كارهون .
ونعود فنقول إن ثورة الحسين (ع) كانت ناجحة وفاتحة ورابحة . ولكن نجاحاً معنوياً وفتحاً فكرياً على الصعيد العالمي وربحاً عاطفياً ووجدانياً عمّ النوع الانساني بكل شعوبه وطوائفه وقومياته . وأما النصر العسكري والنجاح المسلح فليسا دائماً دليلاً على النجاح الحقيقي على حد الكلمة المأثورة : جولة الباطل ساعة وجولة الحق إلى قيام الساعة (والعاقبة للتقوى ...)
|
|
|