2 ـ قاعدة التسليط :
ومن ذلك قاعدة التسليط المعروفة في الفقه، وفحوى هذه القاعدة ولاية الإنسان على نفسه. ومن شؤون هذه الولاية أن يحقّ للناس أن يختاروا لأنفسهم إماماً يتولى أمورهم.
وللمناقشة في دلالة هذه القاعدة على (التفويض) مجال واسع، فإنّ أدلة هذه القاعدة ـعلى فرض صحتهاـ واردة في مورد الأموال، والتعدي منها إلى الأنفس يحتاج إلى عناية.
وأقول : على فرض صحة القاعدة، وصحة الاستدلال بها على الولاية الشاملة على الأنفس... فلا يصح الاستدلال بها على تفويض أمر الإمامة إلى الناس. فإن مجال تطبيقات هذ القاعدة هي الاختيارات التي تتعلق بشؤون الأفراد كما في مسألة أصالة (الإباحة) في مسألة (الحظر والإباحة) المعروفة، فإنّ قاعدة التسليط وأصالة الإباحة واردتان في موارد الاختيارات التي تتعلق بشؤون الأفراد، ولا يمكن أن نتمسّك بها في مثل أمر الإمامة الذي يتعلق بأمر الأمّة كلها.
فليس من الممكن ـعادةًـ تحصيل إجماع الأمّة على إمامة شخص وولايته.
وعندئذ فإمّا أن تنفذ القاعدة والأصل في كل فرد فرد سلباً وايجاباً، فيتحول أمر الولاية والإمامة إلى فوضى لا يقرّها الشرع ولا العقل.
واما أن نلغي إرادة الأقلية ونأخذ بإرادة الأكثرية، وهو نقض للقاعدة وللأصل معاً، فتستبطن القاعدة نقض نفسها.
ولا يمكن الدفاع عن هذا (النقض) بضرورة التفكيك في تطبيق القاعدة بين الأكثرية التي تختار إماماً لنفسها والأقلية إلتي ترفضه، فتنفذ القاعدة في الأكثرية، ونلغيها في الأقلية، بحكم العقل، بادعاء أنّ هذه القاعدة ليست قاعدة عقلية آبية للتخصيص، وإنما هي قاعدة شرعية تقبل التخصيص بحكم العقل.
فإذا كان تطبيق القاعدة في مورد الأكثرية والأقلية مجتمعين يؤدي الى خلل وفساد في المجتمع، فإنّ العقل يحكم بضروره إلغاء القاعدة في مورد الأقلية، وتخصيصها بالأكثرية.
أقول : لا يمكن الدفاع عن تطبيق قاعدة التسليط على الإمامة بمثل هذا الدفاع، وذلك لأنّ لإلغاء حق الأقلية في اختيار الإمام وجهاً آخر لا يمكن توجيهه، وهو تحكيم إرادة الأكثرية السياسية على الأقلية. فإنّ الحاكم المرشح من قبل الأكثرية يحكم الأقلية بالضرورة، وهو بمعنىتحكيم إرادة الأكثرية على الأقلية... وهذا شيء آخر غير إلغاء حق الأقلية في اختيار الإمام وحرمانها من ممارسة حقها في اختيار الإمام، والتفكيك في تطبيق قاعدة التسليط بين الأقلية والأكثرية.
وبتعبير آخر: هو نحو من ولاية الأكثرية على الأقلية، ولا يتم بناءً على المنطلق (التوحيدي) الذي انطلقنا منه إلاّ بتفويض من الله تعالى للأكثرية في اختيار الإمام للأقلية، بل في اختيار الإمام للجيل القابل الذي يواجه أمراً واقعاً لم يشترك في تقريره واختياره، ولم يؤخذ برأيه فيه.
فنعود مرة أخرى إلى مسألة (التفويض) من جانب الله للأكثرية في تقرير مصير الأقلية، ومصير الجيل القادم الذي لم يبلغ سن النضج الشرعي بعد، ومن دون إثبات هذا التفويض من جانب الله تعالى لا يحق للأكثرية إلزام الأقلية بولاية شخص، ولا يحق لها إلزام الجيل المقبل برأيها وقرارها.
ونحن لم نجد من خلال الاستعراض للنصوص الواردة في الكتاب وما صح من حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مثل هذا التفويض.
وبتوضيح آخر: إنّ القاعدة تسلِّط الإنسان على أن يفعل ما يشاء فيما يتعلق بنفسه وماله، في غير ما حرّم الله تعالى، وفي غير ما تعلق به حقوق الآخرين، ولا تسلِّط الإنسان على اختيارات الآخرين وشؤونهم وحقوقهم، ولا تفوّضه أن يتصرف في حقوق الآخرين، من دون إذنهم.
فللإنسان أن يبيع ما يشاء من أمواله أو يهديه، أو يتصرف فيها بما يرى في غير ما حرّم الله، وفي غير ما يتعلق به حقوق الآخرين. وليس له أن يبيع أموال الآخرين، أصالة، ووكالة ما لم يفوّضه الآخرون في ذلك.
وسرّ ذلك أنّ هذه القاعدة فقط تسلِّط الإنسان على ما يتعلق بنفسه وشؤونه ولا تفوّضه في شؤون الآخرين.
وبعد هذا التوضيح نعود إلى تطبيق القاعدة والأصل على مسألة الإمامة العامة والولاية... فنقول:
إنّ القاعدة تسلِّط الإنسان على طاعة من يحب في غير معصية الله تعالى، كما أنّ الأصل يبيح له ذلك، وهذا أمر يتعلق به، فله أن يطيع من يحب في غير معصية، وله أن يخالف من يحب مخالفته في غير معصية... وهذا هو حد دلالة القاعدة والأصل.
ولكن ما لا يصح له: أن يختار إماماً وحاكماً للجميع، فهذا ليس من شأنه، وإنما هو من شأن الله تعالى الذي يملك الحكم والولاية على الجميع (إن الحُكمُ إلاّللهِ).
وكذلك الأمر في (الأصل)، فإنّ أصالة الإباحة تبيح له فقط التصرف فيما خلق الله تعالى لعباده من رزق، ولم يفوّضه هذا الأصل فيما يتعلق بشؤون الآخرين وحقوقهم.
وعليه فلا يمكن التمسك بالقاعدة والأصل لإثبات التفويض من جانب الله تعالى للانسان في اختيار الإمام وولي الأمر للأمّة.
إذن نستطيع أن نقول بعد هذا الاستطراد: إنّ قواعد وأصولاً فقهية من قبيل (قاعدة التسليط) و (أصالة الإباحة الأولية) لا يمكن التمسك بها في توجيه شرعية مسألة الاختيار في أمر الإمامة، وتبقى دلالة هذه القاعدة وذلك الأصل في دائرة الشؤون الفردية فقط، دون الشؤون المتعلقة بالأمّة في أمر السيادة والولاية وأمثالها. على أنّ هذه القاعدة، إذا صحّت دلالتها، لا تزيد على أفضل التقادير على تمكين الناس من طاعة من يريدون طاعته فيما يصح لهم أن يفعلوه بأنفسهم، وتمكّن الحاكم بالمقابل من الأمر والنهي وإلزام الناس بالطاعة في نفس الدائرة التي سلّط الناس عليها. ولا تدل بوجه من الوجوه على شرعية التصرفات التي لا تصح إلاّ من الإمام، ولم يسلّط الله الناس عليها، مثل تزويج غير البالغة، وتطليق المرأة عن زوجها، وإجراء الحدود الشرعية ومسائل الجباية، وغير ذلك من الأمور التي لا تصح إلاّ من الإمام، وهي كثيرة.
فإنّ قاعدة التسليط لا تزيد على تمكين الإمام من إلزام الناس بما سلّط الله الناس عليها.
والأمور التي ذكرناها لا تدخل في دائرة الأمور التي سلّط الله الناس عليها، وتقع خارج مساحة قاعدة التسليط بالضرورة، وهي من مقوّمات الإمامة والولاية، ولا تتم الإمامة والولاية إلاّ بها.
وتعتمد هذه النظرية شرعية وأصالة اللزوم في كل التزام وعقد، إلاّ ما خرج بدليل، انطلاقاً من قوله تعالى: (أوفوا بالعقود)، والوفاء بالعقد هو الالتزام به ولزومه من الناحية الشرعية.
والأمر بين الأمّة والإمام عقد شرعي قائم بطرفين هما الأمّة والإمام، ومضمون هذا العقد الطاعة من طرف والعدالة ورعاية مصالح الأمّة من جانب آخر، فيتعهد الإمام للأمّة برعاية مصالح الأمّة والعدل بين الرعية، وتتعهد الأمّة له بالطاعة. وقد أمر الله تعالى المؤمنين بالوفاء بالعقود.
تعتمد هذه النظرية سلطان الإنسان على نفسه وماله، فإذا كان الإنسان يملك نفسه وماله جاز له أن يعطي حق السيادة على نفسه للحاكم بموجب عقد واتفاق فيما بين الأمّة وبين الإمام. وعندئذ لا يصح له أن يتراجع عن قراره، ويلزمه هذا العقد بموجب قانون وجوب الوفاء بالعقود المستخرج من آية الوفاء بالعقود في القرآن في سورة المائدة.
ولكننا نشك في الأصل الذي يعتمده قانون شرعيّة العقد وأصالة اللزوم في العقود، وهو سلطان الإنسان على نفسه. فقد سبق أن ناقشنا قاعدة التسليط ودلالتها على مبدأ التفويض. ولا يصح من العقود ولا يلزم إلاّ ما جعل الله تعالى للإنسان فيه سلطاناً عليه. فما ملّك الله عباده من أنفسهم وأموالهم وسلّطهم عليه صح لهم أن يتنازلوا عنه ويمنحوه لمن يشاؤون بالعقود والاتفاقيات، ولزمهم الوفاء بالعقد، وما لم يملّكهم الله تعالى، ولم يسلّطهم عليه من أنفسهم وأموالهم، فلا يصح لهم أن يتنازلوا عنه بعقد أو غيره.
إذن الكلام يرجع مرة أخرى إلى قاعدة (التسليط). وقد ناقشنا هذه القاعدة من قبل، فلا نعيد المناقشة.
4 ـ التمسك بأدلة (وجوب نصب الإمام) و (طاعة أولي الأمر) :
وقد يستند بعض الفقهاء والمتكلمين إلى:
أ ـ أدلة وجوب نصب الإمام على عموم المسلمين.
ب ـ وعلى أدلة وجوب طاعة أُولي الأمر. في تصحيح فرضية (التفويض)، وفي شرعية (الاختيار). وتوضيح هذا الاستناد:
إنّ أدلة وجوب نصب الإمام على المسلمين تستبطن تفويض المسلمين أمر اختيار الإمام. وهذا التفويض يصحّح شرعيّة (الاختيار) هذا في النقطة الأولى.
وفيما يتعلق بأدلة وجوب طاعة أُولي الأمر:
يستند بعض الفقهاء في وجوب طاعة المتصدين للحكم وتقرير شرعيّة ولايتهم إلى إطلاق قوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم)باعتبار أنّ إطلاق (أُولي الأمر) يقتضي وجوب الطاعة لكل من يتولى أمر المسلمين، مهما كان مصدر ولايته (النص) أو (الاختيار) أو (استخدام القوة).
ولنا ملاحظات جوهرية على هذا المستند وذاك، نوردها فيما يلي إن شاء الله.
وروح المؤاخذة التي ترد على هذا الدليل أنّ أدلة وجوب نصب الإمام لا تدل على أكثر من وجوب نصب الإمام الذي يأذن به الله تعالى.
ولا يتكفل الدليل وجود هذا الإذن وعدمه، على نحو العموم أو الخصوص في الشخص المرشح للولاية.
وبتعبير آخر: الحكم بوجوب نصب الإمام يتكون من موضوع وحكم. أمّا الموضوع فهو الشخص المؤهل للحكم، أو المأذون له بالولاية على المسلمين، من جانب الله، وأمّا الحكم فهو وجوب النصب، ووجوب تمكينه من الحكم.
والحكم يترتّب على موضوعه الشرعي المحدد، وهو الشخص الذي أذن الله تعالى بتنصيبه للإمامة.
وفعند وجود الموضوع في الخارج يتحقق الحكم، ويجب النصب، وعند انتفاء الموضوع في الخارج ينتفي الحكم، فإنّ الحكم يثبت بثبوت موضوعه وينتفي بانتفاء موضوعه، ولا يثبت الحكم موضوعه.
فيبقى التساؤل عن الدليل على شرعية الانتخاب والاختيار وشرعية تصدي الشخص الذي تمّ انتخابه من جانب الناس لأمر الولاية والحكم على قوّته، ولايكون في الأمر بوجوب النصب، ولا الحكم بوجوب الطاعة دليل على شرعية ولاية المنصوب باختيار الناس، ما لم يرد دليل شرعي على صلاحيّة المتصدين للحكم للولاية والإمامة، من جانب الله تعالى وصلاحية الناس في اختيار الإمام من جانب الله تعالى.
لا يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقيّة :
ولأنّ هذه الشبهة تتفق بين حين وآخر لبعض الفقهاء والمتكلمين، لا بدّ من توضيح أكثر لهذا النقد الذي شرحناه آنفاً، باستخدام بعض مصطلحات (علم الأصول).
فأقول : إنّ القضايا الحقيقية من قبيل (وجوب طاعة أولي الأمر) و (وجوب مبايعة أُولي الأمر) تتكون من موضوع وحكم، والحكم هو وجوب الطاعة والبيعة والالتزام بها، وحرمة نقضها، والموضوع هو (أُولو الأمر).
والحكم يترتّب على موضوعه الحقيقي الموجود في الخارج، أو (الموضوع التقديري)، ولذلك فإنّ كلّ قضية حقيقية تنحل إلى قضية شرطية، يكون فيها المقدّم: (الشرط) هو الموضوع، والتالي: (النتيجة) هو الحكم، ويكون معنى وجوب طاعة أُولي الأمر وجوب الطاعة، إذا تصدّى ولي الأمر بحدوده وشروطه الحقيقية لأمر الولاية، وشروطه وحدوده الحقيقية هي التي يحدّدها الله تعالى على نحو العموم أو الخصوص، ومن دون ذلك لا يكون الشخص المرشّح لولاية الأمر ولياً للأمر.
والقضية الحقيقية تتكفّل لإثبات الحكم عند تحقّق الموضوع، فإذا شككنا في موضوع خارجي أنه مصداق للموضوع أو لا، فلا يمكن التمسك بإطلاق الموضوع أو عمومه لإدخال المصداق المشكوك فيه في عموم الموضوع أو إطلاقه.
فإذا أُمرنا بمراجعة الأطباء مثلاً على نحو العموم أو الإطلاق، في حالات المرض، وشككنا في موضوع خارجي (شخص متصدّي للطبابة) أنّه طبيب أم لا، فلا يمكن التمسك بعموم مراجعة الأطباء أو إطلاقه لإدخال المصداق المشكوك فيه في الأطباء، ووجوب مراجعته والأخذ بمشورته الطبيّة.
ولذلك يقول علماء الأصول: إنّ القضية الحقيقية لا يثبت موضوعها في موارد الشك في المصداق، ولا يمكن التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية، إذا ورد مخصص على العموم، واحتملنا دخول مصداق من المصاديق المشتبه به في المخصص، فيكون خارجاً عن العموم، أو في العام فيكون غير مشمول للمخصص. فإنّ علماء الأصول يذهبون، قولاً واحداً، إلى عدم جواز التمسك بالعموم في مثل هذه الموارد إذا كانت الشبهة في المصداق.
والأمر في الأوامر الواردة بطاعة أُولي الأمر، ومبايعتهم، والالتزام ببيعتهم، وحرمة نقضها كذلك... ليس فيها أيّة دلالة إطلاقاً على وجوب طاعة المتصدين لولاية الأمر، وشرعية ولايتهم ما لم يرد إذن صريح من الله تعالى بولايتهم.
فإذا شككنا في هذا الإذن للشخص المتصدي للولاية (على نحو الشك في الانطباق والمصداق) انتفى الحكم بالطاعة قطعاً. فلا يشمل الأمر بطاعة أولي الأمر إلاّ الذين نعلم بأنّ الله تعالى أذن لهم بالولاية، وولاّهم أُمور الناس، ولا يمكن الاستناد إلى هذه الآية في الحكم بطاعة المتصدين للحكم، مالم نعلم انطباق الإذن بالولاية عليهم، وما لم يرد نص صريح عموماً أو خصوصاً من الله تعالى أو رسوله بتنصيبهم أو تأهيلهم للحكم، وليس فيما بين أيدينا مما صح من حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مثل هذا النص.
روى أبو داود في السنن عن أبي هريرة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمّروا أحدهم»([1]) وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمّروا أحدهم»([2]).
فإنّ هذا (التأمير) من التفويض في التأمير، والتفويض تام بنص صريح من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وما يصح في ثلاثة في سفر يصح في الجماعة في سفر وحضر، وما يصح في الجماعة يصح في الأمّة.
وهو قياس غريب، وغرابته أنه قياس مع الفارق، ولا يصح قياس جماعة أو رهط في السفر يتخذون لأنفسهم أميراً، يرجعون إليه فيما يختلفون فيه بـ (الأمّة) في عرضها العريض في أمر الولاية والإمامة. ولا يمكن أن يكون هذا الحديث وأمثاله سنداً ودليلاً لمثل هذا الأمر.
على أنّ مثل هذا التأمير لا يلزم رفقة السفر بالطاعة، بالتأكيد، ولم يخلق الله تعالى بعد، الفقيه الذي يفتي بموجب هذه الرواية بحرمة مخالفة الأمير الذي يختاره الثلاثة أو الأربعة من بينهم، ووجوب طاعته في كلّ شيء يختلفون فيه من أمور السفر.
إذن هذه الطاعة من الطاعة التطوعية غير الملزمة حتى في موردها، فضلاً عن الموارد التي تقاس بها، والإمارة غير ملزمة.
6 ـ تأمير الخلفاء الثلاثة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
وروى أحمد بن حنبل في المسند (1/175 ح861) في مسند علي (عليه السلام) قال: قيل يا رسولالله(صلى الله عليه وآله وسلم)، من يؤمّر بعدك؟ قال: «إن تؤمّروا أبا بكر (رضي الله عنه) تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة. وإن تؤمّروا عمر (رضي الله عنه) تجدوه قوياً أميناً، لا يخاف في الله لومة لائم. وإن تؤمّروا علياً (رضي الله عنه)، ولا أراكم فاعلين تجدوه هادياً مهدياً، يأخذ بكم الصراط المستقيم».
وأمارات الوضع على هذه الرواية أوضح من أن تخفى.
ولست أعرف موقعاً لكلمة (ولا أراكم فاعلين) فإن كان المقصود الإمارة بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة فهذه الكلمة لا تخصّ علياً (عليه السلام) وحده، وإنما تشمل الخليفة الثاني والثالث أيضاً وإن كان المقصود بالخلافة مطلقاً، فقد فعل الناس ذلك، وأمّروا علياً (عليه السلام) عليهم بعد خلافة عثمان بن عفان. والوصف الوارد في هذه الرواية عن علي(عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخلافة الخليفة الأول والثاني يختلف عن الوصف الذي يصف به الإمام خلافة أبي بكر وعمر في خطبة الشقشقية، كما في نهج البلاغة. ولا نستطيع أن نجمع بين رأي الإمام في خلافة الخليفة الأول والثاني وبين الرواية المنسوبة إليه عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
وروي في الصحيح عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما([3])».
فقد يتمسّك بها في أنّ الخلافة تنعقد بالبيعة ولا تحتاج إلى النص، ولذلك فقد تنعقد البيعة لخليفتين، ولا يمكن ذلك إلاّ على مبدأ الاختيار والتفويض والاكتفاء به عن النص. وهذا أكثر ما يمكن أن توجّه به هذه الرواية في مسألة (التفويض في الإمامة).
ومع الغض عن بعض الملاحظات الواردة في متن الرواية من قبيل كلمة (الخليفة) و (الخليفتين) فإنها من المصطلحات المستحدثة بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
أقول : إنّ هذه الرواية ليست بصدد بيان الوسائل الشرعية لانعقاد الإمامة والخلافة، وإنما هي فقط بصدد دفع مفسدة تعدد محاور الولاية والحكم في المسلمين، وما يؤدي ذلك إليه من فساد في المجتمع وهلاك للحرث والنسل في الصراع على السلطة.
ولدفع هذه المفسدة يجب على المسلمين أن يقتلوا ثاني الخليفتين; لتستقر أمورهم السياسية.
8 ـ شرعية البيعة والشورى في كلمات الإمام (عليه السلام):
وروى الشريف الرضي أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) عندما تولّى الخلافة بعث جرير بن عبدالله البجلي بكتاب إلى معاوية بن أبي سفيان يطلب فيه منه البيعة. وهذا نص الكتاب برواية الشريف.
«بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضا، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة رَدّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاّه الله ما تولّى»([4]).
قال الزبير بن بكار في (الموفقيات)([5]): إنّ علياً (عليه السلام) لما بعث جريراً إلى معاوية خرج وهو لا يرى أحداً قد سبقه إليه. قال: فقدمت على معاوية فوجدته يخطب الناس، وهم حوله يبكون حول قميص عثمان وهو معلق على رمح مخضوب بالدم فدفعت إليه كتاب علي (عليه السلام) فقال معاوية: أقم فإنّ الناس قد نفروا عند قتل عثمان حتى يسكنوا... ثم جاءه كتاب آخر من الوليد بن عُقْبة.
فلما جاءه هذا الكتاب وصل بين طومارين أبيضين ثم طواهما، وكتب عنوانهما ودفعهما إليّ، لا أعلم ما فيهما ولا أظنهما إلا جواباً، وبعث معي رجلاً من بني عبس، فخرجنا حتى قدمنا إلى الكوفة، واجتمع الناس في المسجد، لا يشكون أنها بيعة أهل الشام، فلما فتح علي (عليه السلام) الكتاب لم يجد شيئاً، وقام العبسي فقال: إني أحلف بالله لقد تركت تحت قميص عثمان أكثر من خمسين ألف شيخ خاضبي لحاهم بدموع أعينهم متعاقدين متحالفين ليقتلن قتلته في البر والبحر، ثم دفع إلى علي (عليه السلام) كتاباً من معاوية ففتحه فوجد فيه:
أتاني أمر فيه للنفس غُمّةٌ***وفيه اجتداعٌ للأُنوف أصيلُ
مصابُ أميرِ المؤمنين وهدّةٌ***تكاد لها صمُّ الجبال تزولُ([6])
يقول عبدالحميد بن أبي الحديد في شرح هذا الكتاب: واعلم أنّ هذا دال بصريحه على كون الاختيار طريقاً إلى الإمامة، كما يذكره أصحابنا المتكلمون; لأنّه احتج على معاوية ببيعة أهل الحل والعقد له، ولم يراع في ذلك إجماع المسلمين كلهم، وقياسه على بيعة أهل الحل والعقد لأبي بكر، فإنه ما روعي فيها إجماع المسلمين، لأنّ سعد بن عبادة لم يبايع، ولا أحد من أهل بيته وولده، ولأن علياً وبني هاشم ومن انضوى إليهم لم يبايعوا في مبدأ الأمر، وامتنعوا، ولم يتوقف المسلمون في تصحيح إمامة أبي بكر وتنفيذ أحكامه على بيعتهم. وهذا دليل على صحة (الاختيار) وكونه طريقاً إلى الإمامة، وأنه لا يقدح في إمامته (عليه السلام) امتناع معاوية من البيعة وأهل الشام.
فأما الإمامية فتحمل هذا الكتاب منه (عليه السلام) على التقيّة، وتقول: إنّه ما كان يمكنه أن يصرح لمعاوية في مكتوبه بباطن الحال، ويقول له: أنا منصوص عليّ من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ومعهود الى المسلمين أن أكون خليفة فيهم بلا فصل، فيكون في ذلك طعن على الأئمة المتقدمين، وتفسد حاله مع الذين بايعوه من أهل المدينة. وهذا القول من الإمامية دعوى لو عضدها دليل لوجب أن يقال بها، ويصار إليها، ولكن لا دليل لهم على ما يذهبون إليه من الأصول التي تسوقهم إلى حمل هذا الكلام على التقية([7]).
وليس ابن أبي الحديد مصيباً فيما يراه من دلالة كتاب علي (عليه السلام) على شرعية مبدأ الاختيار.
ونستطيع أن نفهم هذه الحقيقة من خلال نقطتين:
النقطة الأُولى : أن الإمام (عليه السلام) ليس بصدد بيان رأيه في شرعية البيعة والاختيار في هذا الكتاب وإنما يخاطب بهذا الكلام معاوية بن أبي سفيان، ومعاوية لا يعترف بالنص، ولا يريد أن يتخلى عن ولاية الشام، ويطمع في إمرة المؤمنين، ولا طمع للإمام في أن يقنع معاوية بن أبي سفيان بوجهة نظره ورأيه في الإمامة، ولا طمع للإمام في أن ينصاع معاوية للحق فهو (عليه السلام) يعلم أن معاوية مقدم على التجنّي عليه وعلى المسلمين فيقول له في هذا الكتاب نفسه: «فتجنّ ما بدا لك والسلام».
وإنما يريد الإمام في هذا الكتاب أن يلزم معاوية أمام الملأ من أهل الشام بإمامته وطاعته ولزوم بيعته وحرمة مخالفته بما يلتزم به، فقد انعقدت له الإمامة بما انعقد من قبله للخلفاء الثلاثة.
فلم ينعقد على خلافة أحدهم إجماع المسلمين، ولم تضرّ بشرعية خلافة أحدهم مخالفة من خالف من المسلمين، إذا اجتمع وجوه الأنصار والمهاجرين. وعلى ذلك فإنّ معاوية ملزم بالاستجابة لبيعة المسلمين للإمام من بعد خلافة عثمان، فقد بايعه من وجوه الأنصار والمهاجرين الذين بايعوا من قبله أبا بكر وعمر. فلا يكون تخلف معاوية وأهل الشام ناقضاً لبيعته إذا اجتمع على بيعته من اجتمع على بيعة الشيخين من قبله.
فليس لمعاوية ولا لأهل الشام أن يردوا بيعة الإمام (عليه السلام)، كما ليس لأهل المدينة أن يختاروا غير من اختاره شيوخ المهاجرين والأنصار. وكتاب الإمام (عليه السلام)الى معاوية صريح في هذا الإفحام والإلزام لمعاوية أمام الملأ من أهل الشام بما يلتزم به، وليس في هذا الكتاب أيّة إشارة إلى أن الإمام (عليه السلام) يقرّر في هذا الكتاب رأيه في مسألة (الاختيار)، وإنّما هو كتاب سياسي لإحراج معاوية وإفحامه في مسألة الاختيار والبيعة.
النقطة الثانية : إنّ الإمام لم يكن يرى أنّ بيعة وجوه المسلمين وأصحاب الحل والعقد منهم سبب شرعي كاف في انعقاد الإمامة والخلافة، ولم يكن يعتقد بشرعية بيعة الخليفة حتى بعد اجتماع وجوه المهاجرين والأنصار في المدينة عليه واستقرار خلافته. وبقي الإمام قابضاً يده عن البيعة حتى رأى أن لموقفه من خلافة الخليفة مردود سلبي على الإسلام فبايع عندئذ.
يقول (عليه السلام) في ذلك: «فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي، أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أهل بيته، ولا أنهم مُنَحُّوهُ عني من بعده، فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه. فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم... فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين»([8]).
وكذلك كان رأي الإمام في خلافة الخليفة الثاني والثالث من بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول (عليه السلام) لما عزموا على بيعة عثمان:
«ولقد علمتم أني أحق الناس من غيري، ووالله لأسلّمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه([9]).
فالإمام (عليه السلام) يرى أنّ الخلافة كانت من حقه، وأنّ تنحيتها عنه كان جوراً سلّم بها ما سلمت أُمور المسلمين، إيثاراً لمصلحة الأُمة على مصلحته.
وفي جواب كتاب معاوية إليه عن بيعته لأبي بكر التي تمت بالرغم عن رغبته، يقول (عليه السلام): «وقلت: إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع، ولعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت، وأن تفضح فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً، ما لم يكن شاكّاً في دينه، ولا مرتاباً بيقينه»([10]).
وله (عليه السلام) كلام كثير وواضح في أنّ الخلافة كانت له من بعد رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة روى كثيراً منها الشريف في النهج، يقول (عليه السلام): «فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقّي، مستَأثَراً عليّ منذ قبض الله نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يوم الناس هذا»([11]).
وقال في جواب بعض أصحابه، وقد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به، فقال (عليه السلام): «يا أخا بني أسد، إنك لقلق الوضين، ترسل في غير سَدَدْ، ولك بعد ذمامة الصِهْر وحق المسألة، وقد استعلمت فاعلم: أما الاستبداد علينا بهذا المقام، ونحن الأعلون نسباً، والأشدّون برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)نَوْطاً، فإنها كانت أَثَرة شحّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، والحكم لله»([12]).
ويقول (عليه السلام): «وقد قال قائل: إنك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص، فقلت: بل أنتم والله، لأحرص وأبعد، وأنا أخَصُّ وأقرب، وإنما طلبت حقاً لي وأنتم تَحولُونَ بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه»([13]).
ثم يقول (عليه السلام): «اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي، وصغّروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي. ثم قالوا: ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه، وفي الحق أن تتركه»([14]).
وللإمام كلام كثير يرويه الشريف في النهج على هذا النمط. ولسنا نشك نحن في بيعة الإمام للخلفاء الثلاثة الأول، وإنما نشك كل الشك أن تكون هذه البيعة قائمة على أساس الإيمان بشرعية البيعة، وشرعية الخلافة القائمة على البيعة، أو شرعية مبدأ (الاختيار)، وإنما كانت قائمة على مصلحة وحدة الموقف الإسلامي، والإيمان بخطر انثلام هذه الوحدة على الإسلام نفسه.
ومن يقرأ (الشقشقية) لا يشك في أنّ الإمام كان يعتقد بأنّ بيعة المهاجرين والأنصار غير ملزمة له، ولا يشك أنّ رأي الإمام في خلافة الخلفاء الثلاثة من قبله لم يكن إيجابياً، ولا يشك في أنّ الإمام (عليه السلام) كان يرى أنّ الخلافة له من بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
يقول (عليه السلام) فيما جرى عليه من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهباً» فإن كان كلام الإمام حجة، وكان نهج البلاغة حجة، فإنّ الشقشقية من كلام الإمام في (نهج البلاغة)، وإن كان غير ذلك فلا حجة في النص السابق.
وليس أقوى من هذه الكلمة نص في الدلالة على عدم اعتراف الإمام بشرعية البيعة وشرعية الخلافة القائمة على هذه البيعة، واستحقاقه للخلافة من بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) دون غيره.
قال مصدِّق([15]): كان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل، فقلت له: أتقول إنّها ـالشقشقيةـ منحولة؟
فقال: لا والله، وإني لأعلم أنها كلامه، كما أعلم أنك مصدّق.
قال: فقلت له: إن كثيراً من الناس يقولون إنها من كلام الرضي رحمه الله تعالى.
فقال: أنّى للرضي، ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأُسلوب؟ قد وقفنا على رسائل الرضي، وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خَلٍّ ولا خَمْر. ثم قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صُنّفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي([16]).
والنتيجة التي نستخلصها من ضم هاتين النقطتين أنّ هذا الكتاب كتبه الإمام(عليه السلام) إلى معاوية على سبيل الجدل والإفحام له بما يعلن لأهل الشام أنه يلتزم به ويتبناه، ولا يمثل هذا الكلام رأي الإمام في شرعية مبدأ (الاختيار)، لما عرفنا بالضرورة من رأي الإمام في مسألة الاختيار، وفي خلافة الخلفاء الثلاثة من قبله، فيما رواه الشريف من كلامه في نهج البلاغة، وفيما رواه المؤرخون من موقفه من خلافة الخليفة الأول بالاتفاق، ومن دون خلاف.
فهذا الكلام إذن لا يكون حجة في شرعية مبدأ (الاختيار) على كل حال.
نعم; لا نعترض على حكم العقل بحسن التفويض من جانب الله تعالى إن لم نظفر بنص شرعي صريح في تفويض الأكثرية لأمر اختيار الإمام، فإنّ العقل يحكم بالضرورة في هذه الحالة بحسن التفويض من جانب الله تعالى للأكثرية في اختيار الإمام، وهذا هو حكم (العقل العملي) كما يقول علماء الأُصول، ويحكم (العقل النظري) بالملازمة بين حكم العقل العملي وحكم الشارع وهو سيد العقلاء، وواهب العقل للعقلاء.
وبضم هذين الحكمين إلى بعض يكتشف العقل حكم التفويض من الشارع للأكثرية في أمر انتخاب الإمام.
أقول : لا اعتراض لي على هذا الحكم العقلي، وهو صحيح ومتين. ولكن هذا الحكم العقلي يكشف إلى جنب هذه الحقيقة عن مسألة أُخرى، لا أعتقد أنّ عالماً من علماء المسلمين يقرّها ويرتضيها، وهي: أنّ الله تعالى قد ترك أمر الإمامة في أُمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي خير الأُمم، وأفضلها، وآخرها، فلم ينصب لهم إماماً، ولم يفوّض إليهم أمر اختيار الإمام في بيان صريح من الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، علماً بأنّه قد خصّ سبحانه وتعالى أمر الحكم والولاية والإمامة لنفسه تعالى فقال: (إنْ الحُكمُ إلاّ للهِ)، (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً) مريم: 64.
ولا يمكن الدفاع عن وجهة النظر هذه في اللجوء إلى حكم العقل بادّعاء ضياع النصوص المتعلقة بالتفويض فيما ضاع من حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّ خطورة هذه النصوص، وأهميتها السياسية، وارتباطها بأخطر قضية وأهمها في حياة المسلمين بعد مسألة التوحيد تمنع من هذا الاحتمال. فلا يمكن أن يضيع نص بهذه الأهمية تتعلق به شرعية خلافة الخلفاء بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولم يرو لنا المؤرخون وأصحاب السير فيما رووا لنا من أحداث اجتماع المسلمين يوم وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سقيفة بني ساعدة وانتخاب الخليفة نصاً يتضمن هذا التفويض الذي نبحث عنه في هذا المدخل.
[1و 2 ] سنن أبي داود : 3/36 ح2608، 2609.
[3] صحيح مسلم : 4/128 ح61 كتاب الإمارة.
[4] نهج البلاغة : ص366 كتاب 6.
[5] الأخبار الموفقيات : ص620 رقم405.
[6] شرح النهج لابن أبي الحديد: 14/38 ـ 40.
[7] شرح النهج لابن أبي الحديد : 14/36 ـ 37.
[8] نهج البلاغة : ص451 كتاب 62.
[9] نهج البلاغة : ص102 خطبة74.
[10] نهج البلاغة : ص387 كتاب 28.
[11] نهج البلاغة : ص53، خطبة6.
[12] نهج البلاغة : ص231، خطبة162.
[3 و 4 ] المصدر السابق : ص246، خطبة172.
[15] هو مصدِّق بن شبيب بن الحسين الصلحي الواسطي، توفي ببغداد سنة 605 هـ، ذكره القفطي في إنباه الرواة.
[16] شرح النهج لابن أبي الحديد : 1/205 خطبة 3.