لاشكّ انّ الشفاعة من المفاهيم الإسلاميه التي وردت في الكتاب والسنّة النبويّة الشريفة بشكل صريح وكوّنت جزءاً من ثقافة المسلمين واهتمامهم وجرت عليها سيرة المسلمين، وليس من السهل إنكارها، ويتعذّر ذلك إلاّ مع وجود تفسيرات خاطئة لمعناها، وهو ما دعا البعض الي طرح شبهات تنمّ عن عدم فهم الشفاعة وفقاً للمنظور الإسلامي الصحيح. وفي هذا البحث سنسلّط الضوء علي معني الشفاعة لغة واصطلاحاً، ومفهومها في القرآن والسنّة النبويّة، وما يرتبط بذلك من الشفيع والمشفوع لهم، ومن ثَم نجيب عن الشبهات التي أُثيرت حول الشفاعة، ونخلص بعدها الي نيتجة البحث وفيما يلي بيان ذلك:
معنی الشفاعة في اللغة والاصطلاح
الشفع ما كان من العدد أزواجاً. نقول: كان وتراً فشفعته بالآخر حتي صار شفعاً. والشافع: الطالب لغيره، وتقول استشفعت بفلان فتشفع لي إليه فشفّعه في. والشافع:المعين1. واستشفعته الي فلان، أي سألته أن يشفع لي إليه وتشفّعت إليه في فلان فشفعني فيه تشفيعاً2. وللشفاعة أصل واحد يدل علي مقارنة الشيئين، من ذلك الشفع، خلاف الوتر، تقول كان فرداً فشفعته3. وأمّا معني الشفاعة في الاصطلاح هي طلب رفع المضار عن الغير ممّن هو أعلي رتبة منه لأجل طلبه4. وعرّفها المحقّق الحلّي بأنّها حقيقة في إسقاط المضار، فلا يكون حقيقة في غيره دفعاً للاشتراك5. وعرّفها السيّد الطباطبائي فقال: الشفاعة علي ما نعرف من معناها إجمالاً بالقريحة المكتسبة من الاجتماع والتعاون و(هي من الشفع مقابل الوتر كأنّ الشفيع ينضمّ الي الوسيلة الناقصة التي مع المستشفع فيصير به زوجاً بعدما كان فرداً فيقوي علي نيل ما يريده، لو لم يكن يناله وحده لنقص وسيلته وضعفهاوقصورها) من الأُمور التي نستعملها لإنجاح المقاصد، ونستعين بها علي حوائج الحياة، وجل الموارد التي نستعملها فيها إمّا مورد يقصد فيها جلب المنفعة والخير، وإما مورد يطلب فيها دفع المضرّة والشرّ، لكن لا كلّ نفع وضرّر»6. أمّا صاحب تفسير الأمثل فقال: الشفاعة هي العون الذي يقدمه قوي لضعيف لكي يساعده علي اجتياز مراحل تكامله بسهولة ونجاح. إلاّ أن الكلمة تستعمل عادة في التوسط لغفران الذنوب. غير أنّ مفهوم الشفاعة أوسع من ذلك وتشمل جميع العوامل والدوافع والأسباب في عالم الوجود7. وهذه التعاريف مستقاة من نصوص القرآن الكريم والسنّة النبويّة كما أنّها أخذت بعين الاعتبار المعني اللغوي في صياغتها.
معنی الشفاعة في القرآن
وردت مادة « شفع » في ثلاثين موضعا من القرآن الكريم، وإذا ما تدبرنا هذه الثلاثين موضعا أمكنناالخروج برؤية واضحة عن مفهوم الشفاعة في القرآن الكريم، والشفاعة تعني في الاستعمالات العرفية تدخل شخص لدي شخص آخر بهدف تحصيل استحقاق منه في حق أو حكم ثابت في عاتق شخص ثالث. وهذا هو المعني الذي استعمله القرآن الكريم فرفضه تارة وآمن به تارة اُخري . ولذا فالشفاعة في القرآن الكريم علي قسمين : 1 ـ شفاعة باطلة لأنها تتضمن معني الشرك، من قبيل قول المشركين عن الأصنام: (هؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)8. وبطلان هذه الشفاعة أوضح من أن يحتاج إلي بيان ، فهؤلاء اعتقدوا في الشفاعة تدبيرا وتأثيرا علي اللّه سبحانه وتعالي وهو باطل، فإن الشفاعة تقتضي بطبعها أن يكون الشفيع مقبولاً لدي المشفّع ، فكيف تكون الأصنام شفيعا عند اللّه ؟ ثم إنّ الشفيع ليس له قدرة مستقلة عن اللّه سبحانه، وبالتالي لا يمكن افتراض أن يكون مؤثرا فيه ، ولذا فهذه ليست شفاعة أصلاً وإنما ركام من الخيالات والأوهام . وفي ردّها، قال القرآن الكريم : (وَاتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ)9، وأوضح من ذلك قوله تعالي : (لَيْسَ لَهُم مِن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ)10، وقوله تعالي : (قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ)11 فكلام المشركين عن الشفاعة والشفعاء بلا أساس ولا مستند، لأن الشفاعة رحمة يفيضها اللّه علي عباده عبر وسائط يختارها ويعينها بنفسه، والرحمة لا تدرك المشركين ، والشفعاء وسائط يعينهم اللّه ولا يختارهم المشركون ، والشفيع واسطة في انتقال الرحمة وليس سبباً فيها ، ولأجل هذه الخصائص بطلت الشفاعة الشركية. 2 ـ شفاعة شرعية صحيحة، وهي ما كانت بإذن اللّه ، ومن قبل أفراد رضي اللّه عنهم وعيّنهم للشفاعة ، ولصالح أفراد رضي اللّه في الشفاعة لهم ، فهنا ثلاثة شروط . ورد الشرط الأول في عدة آيات، منها: قوله تعالي : (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ)12. وهذه الآية بنفسها دالة علي الشرط الثاني لأن الإذن إذا صدر من اللّه سبحانه يكون إذنا في الشفاعة وفي الشفيع ، بمايعني رضا اللّه سبحانه وتعالي عن الشفيع . أما الشرط الثالث فقد ورد فيه قوله تعالي : (َلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَي)13. وحيث إنّ القسم الأوّل من الشفاعة يفتقد هذه الشروط لذا سيجد المشركون أنفسهم في يوم القيامة بلا شفعاء، وسيدركون بطلان الشفاعة التي اعتقدوها، وسيقولون بألسنتهم (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ)14. ونحن إذا تأمّلنا في القرآن الكريم لاحظنا اتجاهاً عاماً واُسلوباً شائعاً في التعبير عن مظاهر القدرة والكمال؛ يتمثل بالنفي ثم الإثبات ثم الإفاضة. فنجد آيات تنفي هذه المظاهر عن غير اللّه ، واُخري تثبتها للّه سبحانه، وقسم آخر يشير الي إفاضة اللّه بعض هذه القابليات علي بعض مخلوقاته، وهذا الاُسلوب بمراحله الثلاث استعمله القرآن الكريم في مجالات الرزق والخلق والحكم والملك والتوفّي. وهو جارٍ في موضوع الشفاعة أيضاً، فإنّ الآيات النافية للشفاعة عن غير اللّه سبحانه غرضها حصر الكمال والقدرة باللّه ونفيها عمن سواه، والآيات المثبتة للشفاعة غرضها بيان أن الذات الإلهية تتصف بهذاالمظهر من مظاهر القدرة والرحمة اتّصافاً ذاتياً، والآيات التي تثبت الشفاعة لغير اللّه سبحانه غرضها التأكيد علي قدرته ببيان أن هذه القدرة في أعلي مراحلها، بحيث إنّ اللّه سبحانه وتعالي قد يتولي الشفاعة بنفسه وقد يحوّلها الي من يرتضيه من عباده وأوليائه، وهذا لا يجعل الشفاعة بمعني الوساطة بل المقصود منها الإعانة كما يظهر ذلك من قوله تعالي: (قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً)15 في أنّ الإعانة والشفاعة جميعاً مختصّة باللّه سبحانه، وليس لأحد منها نصيب بنحو الاستقلال16. إنّ العمل إنّما ينجي في محكمة العدل الإلهي إذا كان بالنحو المقتضي للنجاة، وهل هناك من يستطيع الادعاء بأنه مستغنٍ بعمله عن رحمة اللّه سبحانه؟ بل يوغل القرآن الكريم في هذا الاتجاه حينما يشعرنا بأن الاُمور لا تخرج عن يده وسلطانه وقدرته سبحانه وتعالي حتي عندما يقضي بقضاء حتمي لا تغيير له، كقوله تعالي: ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّماوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ* وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِخَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)17. فمع أنه تعالي قد حكم بالخلود في النار علي الأشقياء، وبالخلود في الجنّة علي السُعداء مادامت السموات والأرض غير أنّه تعالي علّقه علي مشيئته، إشعاراً منه بأن الاُمور لا تخرج من يديه وقبضته حتي تلك التي يُصدر فيها أحكاماً حتمية، فإذا كانت أحكامه تعالي الحتمية لا تسلب عنه القدرة علي شيء، ولا تضطرّه الي شيء، ولا توجب عليه شيئاً، وإذا كان اللّه سبحانه وتعالي يؤكد لنا علي قدرته المطلقة التي لا يحدّها ولا يقيدها شيء، فمن المناسب جداً أن يشير الي أنّ عمل الإنسان مهما كان صالحاً لا يغنيه عن رحمة الباري تعالي ولا يحدّ من قدرته، واذا كانت مشيئة اللّه شرطاً في خلود من حكم اللّه نفسه بخلوده في الجنة أو في النار، فمن الأولي أن تكون شرطاً فيمن لم يصدر بحقه بعد الحكم الإلهي. وليست الشفاعة إلا مظهراً لإرادة اللّه ومشيئته ورحمته المطلقة، وهي لا تكون للكافرين والمشركين بل لمن أحرز بعض مقدماتها كالذي يريد بلوغ مقام علمي رفيع لابد وأن يكون قد أحرز بعض مقدماته، وبلغ درجة قريبة منه، فتكونالشفاعة هنا ذات معني معقول، وهو المساعدة علي بلوغ الهدف. ولا يكون لها معني إذا طلبها الاُمي الذي لم يسعَ لأي من المقدمات ورغب في بلوغ ذلك عن طريق الشفاعة. وكذلك لا تتم الشفاعة لمن لا رابطة له تربطه بالمشفوع عنده أصلاً، كالجاحد الطاغي علي سيده، فإنه لا ينال رضي سيده بالشفاعة، فالشفاعة متممة للسبب وليست موجدة له. كما أن تأثير الشفيع عند المولي لا يكون جزافاً، فلا يحق له أن يطلب من المولي إبطال قوانين الجزاء والعقاب، ولا إبطال مولويته بحق عبيده، ولا يطلب منه رفع اليد عن أحكامه وتكاليفه، بل لابد للشفيع من أن يسلّم للمولي بمولويته علي عبيده، وبقوانينه وأحكامه بحقهم، وبما يجريه من الجزاء عقاباً أو ثواباً لهم. وإنّما يتمسّك الشفيع بصفات في المولي توجب العفو والصفح، وبصفات في العبد تستدعي الرأفة والرحمة، كحسن سابقته، وسوء حاله، واعتذاره. أي أن دور الشفيع ليس اخراج العبد من مولوية المولي ودائرة أحكامه وجزاءاته، وإنما يتمثل دوره في السعي لنقل العبد من حكم مولوي الي رحمته تعالي.
الشفاعة في الأحادیث
وردت أحاديث كثيرة صريحة في الشفاعة عن الرسول (صلّي اللّه عليه و آله)، وأهل بيته (عليهم السلام) ومنها: 1 ـ عن أبي نضرة قال: خطبنا ابن عبّاس علي منبر البصرة فقال: قال رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله): إنّه لم يكن نبي إلاّ له دعوة قد تنجزها في الدنيا وإنّي قد اختبأت دعوتي شفاعة لأُمّتي وأنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر... فيقال ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعط واشفع تشفع، قال (صلّي اللّه عليه و آله) فأرفع رأسي فأقول أي ربّي أُمّتي أُمّتي فيقال لي: أُخرج من النار مَن كان في قلبه كذا وكذا فأخرجهم18. 2 ـ عن أبي هريرة عن النبي (صلّي اللّه عليه و آله) في قوله تعالي: (عَسَي أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحمُوداً)19 قال: الشفاعة20. 3 ـ عن كعب الأحبار، والحديث نفسه عن أبي هريرة أنّ النبي (صلّي اللّه عليه و آله) قال: لكلّ نبي دعوة يدعوهاوأُريد أن اختبئ دعوتي شفاعة لأُمّتي يوم القيامة21. 4 ـ قال رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله): إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمتي22. 5 ـ قال رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله): ... فمن سأل لي الوسيلة حلّت له شفاعتي23. 6 ـ عن جابر بن عبداللّه قال، قال رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله): أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي... وأعطيت الشفاعة ولم يعط نبي قبلي24. 7 ـ قال رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله): إنّ ربّكم تطول عليكم في هذا اليوم فغفر لمحسنكم وشفّع محسنكهم فأفيضوا مغفوراً لكم25. 8 ـ قال رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله): يا بني عبدالمطّلب إنّ الصدقة لا تحلّ لي ولا لكم، ولكني وعدتالشفاعة26. ومن طريق أهل البيت وردت روايات كثيرة في الشفاعة، نذكر منها: 1 ـ في تفسير نور البراهين عن الإمام موسي بن جعفر (عليهما السلام) عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قال: «سمعت رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) يقول: شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي... راوي الحديث ابن أبي عمير يقول: فقلت له: يابن رسول اللّه كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر واللّه يقول: (َلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَي)27. ومن يرتكب الكبائر لا يكون مرتضي به؟ فقال: يا أبا أحمد ما من مؤمن يرتكب ذنباً إلاّساءه ذلك وندم عليه وقد قال النبي (صلّي اللّه عليه و آله): كفي بالندم توبه... فمن لم يندم علي ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ولم تجب له الشفاعة وكان ظالماً واللّه تعالي ذكره يقول (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ)28»29. صدر الحديث يتضمّن أنّ الشفاعة تشمل مرتكبيالكبائر. لكنّ ذيل الحديث يوضّح أن الشرط الأساس في قبول الشفاعة هو الإيمان الذي يدفع المجرم الي مرحلة الندم وجبران ما فات، ويبعده عن الظلم والطغيان والعصيان. 2 ـ في كتاب «الكافي» عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليهما السلام) في رساله كتبها الي أصحابه قال: «من سرّه أن ينفعه شفاعة الشافعين عند اللّه فليطلب الي اللّه أن يرضي عنه»30. يتبيّن من سياق الروايه، أنّ كلام الإمام (عليه السلام) يستهدف إصلاح الخطأ الذي وقع فيه بعض أصحاب الإمام في فهم مسألة الشفاعة، ويرفض بصراحة مفهوم الشفاعة الخاطيء المشجع علي ارتكاب الذنوب. 3 ـ وعن الصادق (عليه السلام) أيضاً: «إذا كان يوم القيامة بعث اللّه العالم والعابد فإذا وقفا بين يدي اللّه عزّ وجلّ قيل للعباد: إنطلق الي الجنّة، وقيل للعالم: قف تشفع للناس بحسن تأديبك لهم»31. في هذا الحديث نجد ارتباطاً بين «تأديب العالم» و «شفاعته لمن أدبّهم» وهذا الارتباط يوضّح كثيراً منالمسائل المبهمة. أضف الي ما سبق أنّ في اختصاص الشفاعة بالعالم وسلبها من العابد، دلالة أُخري علي أنّ الشفاعة في المفهوم الإسلامي ليست معاملة وعقداً وتلاعباً بالموازين، بل مدرسة للتربية، وتجسيد لما مرّ به الفرد من مراحل تربوية في هذا العالم32. 4 ـ وروي عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قوله: «لنا شفاعة ولأهل مودّتنا شفاعة»33. 5 ـ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «المؤمن مؤمنان ؛ مؤمن وفي للّه بشروطه التي شرطها عليه، فذلك مع النبيّين والصدّيقين والشّهداء والصالحين وحُسن أُولئك رفيقا، وذلك من يشفع ولا يشفع له وذلك ممّن لا تصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة، ومؤمن زلّت به قدم فذلك كخامة الزرع كيفما كفأته الريح انكفأ وذلك ممّن تصيبه أهوال الدنيا والآخرة ويشفع له وهو علي خير»34. وهناك أحاديث أُخري تتناول الشفاعة ـ التي ارتكزت في أذهان المسلمين كحقيقة ثابتة لا سبيل لإنكارها ـ عزفناعن ذكرها رعاية للاختصار35.
من هو الشفیع؟
إتّضح مما سبق أن الشفاعة من جملة خصائص المولوية، فمن اتصف بالمولوية استطاع في دائرة نفوذ مولويته أن يمنح الشفاعة لمن يشاء لتكون مظهراً لرحمة المولي وقدرته في وقت واحد، وحيث إن مولوية اللّه سبحانه هي المولوية الحقيقية الوحيدة في الوجود، وما عداها مولويات اعتبارية ، لذا كانت الشفاعة من جملة الحقائق المختصة به، قال تعالي: (قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً)36 وما عداها إما شفاعة كاذبة؛ كقول المشركين: (وَيَقولونَ هؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)37. أو شفاعة قد أذن اللّه بها فهي مأخوذة منه، عائدة إليه؛ كقوله تعالي: ( لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمنِ عَهْداً)38. وقد صرّح القرآن الكريم بأن الشفاعة المأذون بها تعطيلأصناف منهم : 1 ـ الأنبياء: قال تعالي: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً)39. وفي الآية أعلاه قيود دقيقة لابدّ من الالتفات إليها وهي: جاء في تفسير (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي بخسوها حقّها بادخال الضرّر عليها بفعل المعصية من استحقاق العقاب، وتفويت الثواب بفعل الطاعة، أو قيل: (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والنفاق. (جَاءُوكَ) تائبين مقبلين عليك مؤمنين بك (فَاسْتَغْفَرَوا اللّهَ) لذنوبهم ونزعوا عمّا هم عليه (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) أي سألت اللّه أن يغفر لهم ذنوبهم (لَوَجَدُوا اللّهَ) أي لوجدوا مغفرة اللّه لذنوبهم40. وكما في قصّة يوسف إذ جاء إخوة يوسف يسألون أباهم أن يستغفر لهم خطاياهم: (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ* قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)41. 2 ـ الملائكة: قال تعالي: ( وَكَم مِن مَلَكٍ فِي السَّماوَاتِ لاَتُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَي)42. 3 ـ الشهداء بالحقّ: قال تعالي: ( وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)43. والشهداء بالحق هم طائفة من المؤمنين لابد وأن يكونوا أقلّ منزلة من الأنبياء (عليهم السلام)، وأعلي درجة من سائر أفراد الأُمة، ولاشك أنّ أهل البيت (عليهم السلام) يأتون في طليعة هؤلاء بوصفهم أبرز مصداق لمن شهد بالحق وعمل به وجاهد من أجله، فضلاً عن كونهم ممّن نصّ القرآن الكريم علي عصمتهم44. وإذا طالعنا الأحاديث النبوية الشريفة وجدنا فيها تفسير ذلك : قال رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله): «يشفع يوم القيامة الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء»45. وقال (صلّي اللّه عليه و آله): «الشفعاء خمسة: القرآن، والرحم، والأمانة، ونبيّكم وأهل بيته (عليهم السلام)»46. وقد ذكر الشيخ محمّد بن عبدالوهاب نفسه في كتاب (كشف الشبهات): «أن الشفاعة اُعطيها غير النبي (صلّي اللّه عليه و آله) فصحّ أنّ الملائكة يشفعون ، والأفراط47 يشفعون، والأولياء يشفعون»48 استناداً الي أحاديث أوردها البخاري في صحيحه ومسلم في صحيحه أيضاً49، وأحمد في مسنده بهذا المعني كما يلي: عن أبي سعيد الخدري، عن النبي (صلّي اللّه عليه و آله)، قال: «قد أعطي كلّ نبيّ عطية، فكل قد تعجلها، وإني أخّرت عطيتي شفاعة لاُمّتي، وإن الرجل من اُمّتي ليشفع لفئام من الناس فيدخلون الجنة، وإن الرجل ليشفع للقبيلة ، وإن الرجل ليشفع للعصبة، وإن الرجل ليشفع للثلاثة، وللرجلين، وللرجل»50. وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذاالحديث فاقرأُوا إن شئتم: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً)51، فيقول اللّه عزّ وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون...»52
المشفوع لهم
وقع البحث بين علماء المسلمين فيمن تكون له الشفاعة، فقالت المعتزلة : إن شفاعة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله) تكون للمطيعين، لأجل زيادة الثواب وعلوّ الدرجة لهم، ولا يمكن أن تكون للعاصين، للآيات الدالة علي إرتهان الإنسان بعمله، ولأن الشفاعة لاتمحو الذنوب. وجاء عن أبي الحسن الخياط ـ أحد أعلام المعتزلة ـ أنه كان يحتجّ علي القائلين بالشفاعة بقوله تعالي: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ)53. ولا يخفي أنّ المراد من الآية الكريمة الكافرين والمشركين وهؤلاء لا تشملهم الشفاعة، وإنّما تشملالشفاعة أهل الإيمان ممّن ارتكب الكبائر. وعلي ذلك رأي جمهور المسلمين أن الشفاعة لأهل المعصية من المسلمين، دون الكفار والمشركين لقوله (صلّي اللّه عليه و آله): «ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي»54. وقد استدلّ العلاّمة الطباطبائي علي هذا الرأي بالقرآن الكريم، حيث قال تعالي: ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ* إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَـمِينِ* فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ* عَنِ الْمُـجْرِمِينَ* مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ* وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ* وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضينَ* وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتَّي أَتَانَا الْيَقِينُ* فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ»)55. حيث ميّزت هذه الآيات بين أصحاب اليمين وبين المجرمين، وذكرت صفات جرّت المجرمين الي النار وأدّت الي انتفاء الشفاعة عنهم. ومقتضي هذا البيان، ومن خلال سياق المقابلة والمقارنة والمقايسة ، أن أصحاب اليمين الذين لم يتصفوا بتلكالصفات قد فازوا بشفاعة الشافعين، وكأن مصير المجرمين كان لأجل سببين، أحدهما : ارتكاب مخالفات أساسية في مقياس الدين، ثانيهما: انتفاء الشفاعة بحق من يرتكب مثل هذه المخالفات. ومن خلال سياق المقابلة نفهم أنّ مصير أصحاب اليمين ناتج عن انتفاء هذين السببين، فلم يرتكبوا مخالفات أساسية من جهة، بالنحو الذي جعلهم مشمولين بالشفاعة من جهة ثانية، فأصحاب اليمين هم الفائزون بالشفاعة، وهم المرضيون ديناً واعتقاداً سواء كانت أعمالهم مرضية غير محتاجة الي الشفاعة يوم القيامة أو لم تكن، وهم المعنيون بالشفاعة، فالشفاعة للمذنبين من أصحاب اليمين، ومن كان له ذنب باق الي يوم القيامة فهو لا محالة من أهل الكبائر، إذ لو كان الذنب من الصغائر فقط لكان مكفّراً عنه وبذلك اتّضح: أنّ الشفاعة لأهل الكبائر من أصحاب اليمين. وقد قال النبي (صلّي اللّه عليه و آله): «إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي أمّا المحسنون فما عليهم من سبيل»56. وبالتطبيق بين هذا الموضع وبين قوله تعالي: (َلاَيَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَي)57 يعتقد (قدس سره) أن أصحاب اليمين هم الذين ارتضي اللّه سبحانه الشفاعة لهم، وأن الارتضاء المذكور في الآية ليس ارتضاءً للعمل، لأن بعض أعمال المشفوع لهم سيئة غير مقبولة، فلابد أن يكون معني الارتضاء هو ارتضاء الدين، بمعني كون دين المشفوع لهم مستوفياً للشروط الأساسية المطلوبة.
شبهات و ردود
وفي ضوء ما سبق نستطيع أن نجيب علي عدّة شبهات اُثيرت حول الشفاعة هي: الشبهة الأُولي: إنّ الشفاعة تعني خضوع اللّه سبحانه لتأثير مخلوق من مخلوقاته . الجواب : إنّ المغفرة الإلهية لها عدّة أسباب، منها: الدعاء، والتوبة، والشفاعة.. وكما أن قبول الدعاء والتوبة وتحقق المغفرة بهما، لا يعني خضوع الخالق للمخلوق، وإنما يعني إفاضة الرحمة الإلهية علي العبد بعد تحقق شرطها وبنحو قرّره اللّه سبحانه نفسه ، ولم يفرضه أحد عليه، كذلك الشفاعة سبب علّق عليه الخالق سبحانه إفاضة الرحمة علي عباده، وهذا التعليق جاء لغرض تربوي يتمثل بتوثيق صلةالناس بالأنبياء والأولياء وتوكيد موقعهم كقدوة وقطب وقائد للمجتمع البشري . وما دام إنّ اللّه سبحانه هو الذي فتح باب الشفاعة وهو الذي عيّن الشفعاء وحدّد خصائص ونوعية المشفوع لهم فلا يبقي أي أساس لهذا الإشكال . الشبهة الثانية: إنّ اللازم من الشفاعة أن يكون الشفيع أكثر رحمة وشفقة من اللّه سبحانه وتعالي. الجواب: قد اتّضح مما تقدم أن اللّه هو الذي جعل الشفاعة وأذن بها لمن شاء. فالشفاعة ليست مبادرة يقوم بها الشفيع بنحو مستقل عن الارادة الإلهية ، وإنّما هي باب فتحه اللّه وحدد شروطه وأشخاصه ليفيض رحمته علي عباده عبر الشفعاء ، فشفقة الشفعاء شعاع مستعار من تلك الشمس. الشبهة الثالثة: إنّ الشفاعة تعني وجود حكمين مختلفين للعبد: حكم قبل الشفاعة، وهو العقوبة بالعذاب، وحكم بعد الشفاعة، وهو النجاة والفوز بالنعيم . فإن كان الأوّل هو الموافق للعدل والحكمة كانت الشفاعة أمرا مخالفا للعدل ، وإن كان الثاني هو الموافق للعدل والحكمة كان الأوّل ظلما. الجواب : إنّ لهذه الحالة نظائر ، ومن نظائرها نزول البلاء علي العبد قبل الدعاء، أو قبل إعطاء الصدقة، أو قبل صلة الرحم ، وارتفاع البلاء عنه بعد تحقق الدعاء، أو الصدقة أوصلة الرحم منه . والحكمة قائمة في نزول البلاء وفي ارتفاعه بتلك الأسباب معا، والأمر كذلك في الشفاعة. بمعني أن الذنب الصادر من المؤمن لا يشكّل علّة تامة لوقوع العقاب، بحيث لا يمكن أن ينفك العقاب عنه، وإنّما يشكل مقتضياً للعقاب، فإذا حصل ما يمنع وقوعه لم يقع، وقد وضع اللّه تعالي مواضع لوقوع العقاب ، كالتوبة، والشفاعة، والأعمال التي تكفّر الذنوب ، فإذا حصل شيء من هذا القبيل امتنع تحقق أثر الذنب. ويمكن أن يقال : بأن الحكم بالعقوبة قبل الشفاعة موافق لعدل اللّه ولعمل العبد واستحقاقه، والحكم بالنجاة بعد الشفاعة موافق لرحمة اللّه وشفقته ورأفته . الشبهة الرابعة: إنّ الوعد بالشفاعة موجب لجرأة الناس علي المعاصي. الجواب: إنّ الأمر إذا كان كذلك فلابد من غلق باب التوبة ورجاء الرحمة الإلهية ، فإن حكمة اللّه شاءت أن يفتح أبواب الأمل بوجه العاصين من عباده، لكي تبقي لهم بقية ارتباط معه ولا يقعون ضحية اليأس والقنوط الذي يؤدي بهم إلي المزيد من التردي والانحطاط . وسوف لا يكون في الشفاعة ـ كما في المغفرة وقبولالتوبة ـ إغراءٌ بالذنوب والمعاصي بحال من الأحوال ، وإنّما هي منافذ للرجاء والأمل ، وذلك لأمرين: أحدهما: إنّ الوعد بالشفاعة لم يعيّن أشخاص المذنبين الذين ستُقبل فيهم الشفاعة، فما زال العباد إذاً يرجون أن ينالوها، وليس أكثر ، ومن هنا دخلت في الدعاء علي هذا النحو، كما في دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) : «وشفِّع فيَّ محمّداً وآل محمّد، واستجب دعائي...»58. الثاني: إنّ المولي تعالي لم يحدد أنواع الذنوب التي تقبل فيها الشفاعة، ولم يصرح بمستوي تأثير الشفاعة ، فهل أنها ستزيل كل ألوان العقاب أصلاً، أم لا ؟ من هنا فالأمر لم يخرج عن دائرة الرجاء الي دائرة الإغراء. الشبهة الخامسة: إنّ الشفاعة الجائزة هي أن يدعو المؤمن قائلاً: «اللهم شفّع نبيّنا محمّداً فينا يوم القيامة»، ولا يجوز له أن يقول: يا رسول اللّه اشفع لي يوم القيامة. لأنه من الشرك في العبادة الذي يشبه عمل عبدة الأصنام الذين كانوا يقولون: (هؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)59 وأن اللّه يقول: (فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً)60، وبالتالي فالشفاعة بالصيغة الثانية تكون من قبيل طلب الشفاعة من غير مالكها، وأن طلب الشفاعة من الميت أمر باطل. الجواب: إنّ الشرك في العبادة يقوم علي ركنين هما: 1 ـ اعتقاد التدبير والخلق فيمن يُتخذ إلهاً، أو الاعتقاد بأن اُمور الخلق والتكوين قد فوّضت إليه. 2 ـ إبداء الخضوع والتسليم للذات المتخذة إلهاً كتعبير عن العبادة لها. وطلب الشفاعة من الرسول (صلّي اللّه عليه و آله) والأولياء يفتقد هذين الركنين، فليس هناك اعتقاد بقدرة ذاتية في الرسول (صلّي اللّه عليه و آله) علي التدبير والخلق، وليس هناك اعتقاد بأن الاُمور قد فوّضت إليه تقويضاً يخرجهم عن إرادة اللّه ، وليس هناك خضوع وتسليم له بما هو شخص وإنسان، وكل ما هناك أن للرسول (صلّي اللّه عليه و آله) عند اللّه مكانة ومنزلة رفيعة بحيث جعل له أن يشفع لأُمته. والآية الواردة في الاشكال بدايتها هكذا: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَاللَّهِ...)61، فالشفاعة الشركية الباطلة جاءت مقرونة بعبادة الأصنام، متفرعة عليها، ومن هنا جاء بطلانها ، وليس الأمر في طلب الشفاعة من الرسول مقروناً بعبادته حتي يكون باطلاً. ثمّ إنّ المعيار في الحكم بالصحة والبطلان ليس هو المشابهة الصورية بين فرض وفرض آخر، ولو كان الأمر كذلك لكان السعي والطواف ونحوهما من جملة مظاهر الشرك ، لأن المشركين كانوا يقومون بهما. وأما قوله تعالي: (فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللّه ُ إلهاً آخر) فالجواب فيه نفس ما مضي، وهو أن الآية ناظرة الي ما كان من الدعاء بنحو العبادة، واذا كان الداعي يخاطب رباً وإلهاً، فجاءت الآية لتنهي عن عبادة غيراللّه سبحانه وتعالي في باب الدعاء، وليست ناظرة الي كل طلب من كل مطلوب، ولو كانت بهذا المعني لكانت ناهية عن شيء هو قوام الحياة الاجتماعية بحيث لا يمكن افتراض قيام الحياة الاجتماعية بدونه وهو التعاون، وهل يعقل أن ينهي الشرع عن طلب يتقدم به المسلم لدي مسلم آخر ويريد منه إنجازه ؟ وهل يسمّي هذا النوع من السلوك دعاءً لغير اللّه ؟ قد يقال: إنّ الشفاعة ليست من هذا النوع، وإن وجه الاشكال فيها أنها طلب شيء من خصوصيات الإله والمعبود، وأن الآية ليست ناهية عن كل طلب، وإنما هي ناهية عن طلب ما كان من خصوصيات الاُلوهية، وأن هذا النوع من الطلب من مصاديق دعوة غير اللّه سبحانه. والجواب: إنّ طلب الشفاعة من الرسول (صلّي اللّه عليه و آله) لا يراد به اظفاء خصوصية الاُلوهية عليه (صلّي اللّه عليه و آله) حتي يكون من قبيل دعوة غير اللّه سبحانه، بل لمّا ثبت أن اللّه سبحانه وتعالي قد أذِن للرسول (صلّي اللّه عليه و آله) بالشفاعة جاز لنا أن نطلب ذلك منه، كما نطلب حاجتنا من كل قادر عليها، وهو طلب يؤكد التوحيد وليس فيه شائبة من الشرك، لأنه ينتهي الي إذن اللّه سبحانه. وإنما أبطل اللّه الشفاعة الشركية بقوله تعالي: ( وَيَقُولُونَ هؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)62 لأنّ هذه الشفاعة لا تنتهي الي إذن اللّه سبحانه ، فإن اللّه لم يأذن في شفاعة هؤلاء، ولم يجز للإنسان أن يختار شفعاءه بنفسه، وإنما أجاز له أن يطلب الشفاعة ممن هو مأذون من قبله تعالي في ذلك، وشفاعة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله) من هذا القبيل . وأما قولهم: «إنّ طلب الشفاعة من الرسول (صلّي اللّه عليه و آله) طلب لها من غير مالكها» فقد اتضح جوابه، فإن المالك الحقيقي للوجود هو اللّه سبحانه وتعالي، وكل مالك عداه إنما يملك بالملكية الاعتبارية الصورية، فإن كان الغرض من هذا الاشكال عدم جواز طلب شيء إلا من مالكه الحقيقي وهو اللّه سبحانه وتعالي، فهذا المعني يلزم منه إبطال الحياة الاجتماعية القائمة علي التعاون والتبادل وطلب الأشياء ممن يملكها بالملكية الاعتبارية، وطلب الشفاعة من الرسول (صلّي اللّه عليه و آله) طلب لها من مالكها الاعتباري، بعدما ثبت أن الرسول (صلّي اللّه عليه و آله) مأذون من قبل اللّه سبحانه في الشفاعة لاُمته، وإذا كان طلب الأشياء ممن يملكها بنحو الملكية الاعتبارية باطلاً وشركاً، فلتتوقف الحياة الاجتماعية لأنها حياة لا تقوم إلا بما هو شرك باطل!! وأمّا قولهم الأخير بأنّ: «طلب الشفاعة من الميت أمر باطل وأن شفاعة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله) من هذا القبيل» فهو أوهن من بيت العنكبوت، وهو لا يتناسب مع إنسان يؤمن بالغيب، وإنما يتناسب مع إنسانٍ مادي يري المادّة خلاصة الوجود وحدّها الأخير، فنحن لسنا ممن يؤمنبأن الجسد هو بداية الإنسان ونهايته، فاذا مات واُقبر واُلحد انتهي كل شيء، وإنما نؤمن بأن الحقيقة الإنسانية متجسدة بالروح، وأن الجسد مظهر مادي لهذه الحقيقة وأن الموت ينال الجسد ولا ينال هذه الحقيقة، هذا بالنسبة لكل إنسان، أما الأنبياء والأولياء المقربون من اللّه سبحانه وتعالي فلأرواحهم شأن خاص ومنزلة خاصة ليس بوسعنا إدراكها، وبالتالي فنحن لا نطلب الشفاعة من الجسد الميت، وانما نطلبها من الروح التي لا تموت، نطلبها من روح إنسان هو أشرف الأنبياء والمرسلين، ولو كانت علاقتنا بالرسول (صلّي اللّه عليه و آله) علاقة بجسد ميت فما معني سلامنا عليه في الصلوات اليومية الخمسة؟ وما معني شهادة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله) علينا وعلي أعمالنا كما هو صريح القرآن الكريم؟ وبعد كل هذا فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي (صلّي اللّه عليه و آله) أنّه علّم بعض أصحابه التوسل به وطلب الشفاعة منه، وذلك في المشهور من قصة الأعمي الذي شكي الي النبي (صلّي اللّه عليه و آله) حاله، فأرشده أن يتوضأ ويصلي ركعتين، ثم يقول بعدهما: «اللهم إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمّد نبي الرحمة، يا محمّد يا رسول اللّه ،إنّي أتوجه بك الي ربّي في حاجتي ليقضيها، اللهمّ فشفّعه فيَّ» فعل ذلك فردّ اللّه إليه بصره. وقد نقل ابن تيمية نفسه هذه القصة ونقل عن الكثير من السلف العمل بهذا الدعاء في حياة النبي وبعده63.
___________________
1. كتاب العين 1: 260 ـ 261، مادة شفع.
2. الصحاح 3: 1238، مادة شفع، لسان العرب 8: 184، مادة شفع.
3. معجم مقايسس اللغة 3: 201، مادة شفع.
4. رسائل المرتضي 2: 273.
5. المسلك في أُصول الدين: 126.
6. تفسير الميزان 1: 157.
7. الأمثل في تفسير كتاب اللّه المنزل 2: 248.
8. سورة يونس : الآية 18
9. سورة البقرة : الآية 48
10. سورة الأنعام : الآية 51.
11. الزمر : 44 ،
12. سورة البقرة : الآية 255 .
13. الأنبياء : 28 .
14. الشعراء : 100 .
15. سورة الزمر: الآية 44.
16. انظر: الشرك وعبادة الأصنام في القرآن: 143.
17. سورة هود : الآيات 106 ـ 108.
18. مسند أحمد 3: 247 ـ 248.
19. سورة الإسراء: الآية 79.
20. مسند أحمد 2: 444.
21. صحيح البخاري 7: 145، كتاب الدعوات، صحيح مسلم 1: 130 ـ 131.
22. مسند أحمد 3: 213، سنن ابن ماجة 2: 1441، سنن أبي داود 2: 421، باب الشفاعة، سنن الترمذي 4: 45.
23. صحيح البخاري 1: 152، كتاب الأذان، سنن النسائي 2: 27.
24. سنن النسائي 1: 211.
25. الكافي 4: 258، ثواب الأعمال: 48.
26. الكافي 4: 58، تهذيب الأحكام 4: 58.
27. الأنبياء : 28 .
28. سورة غافر: الآية 18.
29. التوحيد: 408، تفسيرنور البراهين 2: 423، تفسير نور الثقلين.
30. الكافي 8: 11.
31. بصائر الدرجات: 28، علل الشرائع 2: 394.
32. الأمثل في تفسير كتاب اللّه المنزل 1: 205 ـ 206.
33. الخصال: 624.
34. الكافي 2: 248.
35. للمزيد من الإطلاع انظر كتاب: الشفاعة حقيقة إسلامية.
36. سورة الزمر: الآية 44.
37. سورة يونس : الآية 18
38. سورة مريم : الآية 87 .
39. سورة النساء: الآية 64..
40. تفسير مجمع البيان 3: 119.
41. سورة يوسف: الآيتان 97 و98.
42. سورة النجم : الآية 26.
43. سورة الزخرف : الآية 86.
44. راجع تفسير سورة الأحزاب : 32.
45. سنن ابن ماجة : 2 : 3 144 : 4313، تاريخ مدينة دمشق 34: 41، ترجمة عبدالجليل بن محمّد، برقم 3693، الجامع الصغير، جلال الدين السيوطي 1: 434، ح2834، كنز العمّال 10: 151، ح28770.
46. كنز العمّال : 1 : 390، الجامع الصغير 2: 86.
47. الأفراط: المتقدّمون الي الشفاعة ، راجع لسان العرب مادة فرط.
48. كشف الشبهات : 70.
49. صحيح البخاري 8: 300 ـ 301 كتاب التوحيد، صحيح مسلم 1: 124 ـ 128 (باب أدني أهل الجنّة منزلة).
50. مسند أحمد بن حنبل 3: 20 ما أُسند عن أبي سعيد الخدري.
51. سورة النساء: الآية 40.
52.صحيح مسلم 1: 116 كتاب (الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية) ذيل الحديث.
53. سوره الزمر: الآية 19.
54. الفصول المختاره: 78.
55. سورة المدثر : الآيات 38 ـ 48 .
56. تفسير الميزان 1: 170.
57. سورة الأنبياء : الآية 28 .
58. الصحيفة السجادية 2: 282، في أدعية شهر رمضان.
59. سورة يونس : الآية 18
60. سورة الجن: الآية 18.
61. سورة يونس: الآية 18.
62. سورة يونس: آية 18 .
63. انظر: التوسل والوسيلة لابن تيمية: 97 ـ 106.
--------------------
کتاب في رحاب أهل البیت(علیهم السلام)
انتهی/125
source : http://www.abna.ir/data.asp?lang=2&Id=181893