تنزيه آدم عليه السلام
تنزيه آدم عن الغواية :
( مسألة ) فمما تعلقوا به قوله تعالى في قصة آدم ( ع ) : ( وعصى آدم ربه فغوى ) . قالوا وهذا تصريح بوقوع المعصية التي لاتكون إلا قبيحة ، وأكده بقوله ( فغوى ) ، وهذا تصريح بوقوع المعصية ، والغي ضد الرشد .
( الجواب ) : يقال لهم أما المعصية فهى مخالفة الامر ، والامر من الحكيم تعالى قد يكون بالواجب وبالمندوب معا ، فلا يمتنع على هذا أن يكون آدم عليه السلام مندوبا إلى ترك التناول من الشجرة ، ويكون بمواقعتها تاركا نفلا وفضلا وغير فاعل قبيحا ، وليس يمتنع أن يسمى تارك النفل عاصيا كما يسمى بذلك تارك الواجب . فإن تسمية من خالف ماأمر به سواه كان واجبا أو نفلا بأنه عاص ظاهرة ، ولهذا يقولون أمرت فلانا بكذا وكذا من الخير فعصاني وخالفني ، وإن لم يكن ماأمره به واجبا ، وأما قوله ( فغوى ) ، فمعناه انه خاب ، لانا نعلم انه لو فعل ما ندب اليه من ترك التناول من الشجرة لاستحق الثواب العظيم . فاذا خالف الامر ولم يصر إلى ما ندب إليه ، فقد خاب لامحالة ، من حيث انه لم يصر إلى الثواب الذى كان يستحق بالامتناع ، ولا شبهة في أن لفظ غوى يحتمل الخيبة . قال الشاعر :
فمن يلق خيرايحمد الناس أمره * ومن يغو لا يعدم على الغي لائما فإن قيل : كيف يجوز أن يكون ترك الندب معصية ؟ أو ليس هذا يوجب ان توصف الانبياء ( ع ) بأنهم عصاة في كل حال ، وأنهم لا ينفكون من المعصية لانهم لا يكادون ينفكون من ترك الندب ؟
قلنا : وصف تارك الندب بانه عاص توسع وتجوز والمجاز لا يقاس عليه ولا يعدى به عن موضعه . ولو قيل انه حقيقة في فاعل القبيح وتارك الاولى والافضل ، ولم يجز إطلاقه أيضا في الانبياء ( ع ) إلا مع التقييد لان استعماله قد كثر في القبائح ، فإطلاقه بغير تقييد موهم ، لكنا نقول : ان أردت بوصفهم بأنهم عصاة أنهم فعلوا القبايح فلا يجوز ذلك ، وان أردت انهم تركوا ما لو فعلوه استحقوا الثواب وكان أولى فهم كذلك .
فإن قيل : فأي معنى لقوله تعالى : ( ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ) وأي معنى لقوله تعالى : ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه انه هوالتواب الرحيم ) فكيف تقبل توبة من لم يذنب ؟ ام كيف يتوب من لم يفعل القبيح ؟
قلنا : أما التوبة في اللغة : الرجوع ، ويستعمل في واحد منا وفى القديم تعالى . والثانى ان التوبة عندنا وعلى أصولنا فغيرموجبة لا سقاط العقاب ، وإنما يسقط الله تعالى العقاب عندها تفضلا ، والذى توجبه التوبة وتؤثره هو استحقاق الثواب ، فقبولها على هذا الوجه انما هو ضمان الثواب عليها . فمعنى قوله تعالى : ( تاب عليه ) انه قبل توبته وضمن له ثوابها ، ولابد لمن ذهب إلى ان معصية آدم عليه السلام صغيرة من هذا الجواب ، لانه إذا قيل له كيف تقبل توبته وتغفر له معصيته ؟ قد وقعت في الاصل مكفرة لا يستحق عليها شيئا من العقاب ، لم يكن له بد من الرجوع إلى ما ذكرناه ، والتوبة قد تحسن ان تقع ممن لا يعهد من نفسه قبيحا على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والرجوع اليه ، ويكون وجه حسنها في هذا الموضع إستحقاق الثواب بها أو كونها لفظا ، كما يحسن أن تقع ممن يقطع على انه غير مستحق للعقاب ، وأن التوبة لا تؤثر في اسقاط شئ يستحقه من العقاب ، ولهذا جوزوا التوبة من الصغائر وإن لم تكن مؤثرة في اسقاط ذم ولا عقاب .
فان قيل : الظاهر من القرآن بخلاف ما ذكرتموه ، لانه اخبر ان آدم عليه السلام منهي عن أكل الشجرة بقوله : ( ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ) وبقوله : ( ألم انهكما عن تلكما الشجرة ) ؟ وهذا يوجب بأنه ( ع ) عصى بأن فعل منهيا عنه ولم يعص بان ترك مأمورا به .
قلنا : أما النهي والامر معا فليسا يختصان عندنا بصيغة ليس فيها احتمال ولا اشتراك ، وقد يؤمر عندنا بلفظ النهي وينهى بلفظ الامر ، فإنما يكون النهي نهيا بكراهة المنهي عنه . فاذا قال تعالى : ولا تقربا هذه الشجرة ، ولم يكره قربها ، لم يكن في الحقيقة ناهيا ، كما أنه تعالى لما قال : ( اعملوا ما شئتم وإذا حللتم فاصطادوا ) ، ولم يرد ذلك ، لم يكن أمرا . فإذا كان قد صح قوله ( ولا تقربا هذه الشجرة ) إرادة لترك التناول ، فيجب ان يكون هذا القول أمرا ، وإنما سماه منهيا عنه ، ويسمى أمره له بأنه نهي من حيث كان فيه معنى النهي ، لان النهي ترغيبا في الامتناع من الفعل ، وتزهيدا في الفعل نفسه . ولما كان الامر ترغيبا في الفعل المأمور به وتزهيدا في تركه ، جاز ان يسمى نهيا . وقد يتداخل هذان الوصفان في الشاهد فيقول احدنا قد أمرت فلانا بأن لا يلقى الامير ، وإنما يريد أنه نهاه عن لقائه ، ويقول نهيتك عن هجر زيد وإنما معناه امرتك بمواصلته ، فإن قيل ألا جعلتم النهي منقسما إلى منهي قبيح ومنهي غير قبيح ، بل يكون تركه أفضل من فعله ، كما جعلتم الامر منقسما إلى واجب وغير واجب .
قلنا الفرق بين الامرين ظاهر ، لان انقسام المأمور به في الشاهد إلى واجب وغير واجب غير مدفوع ، ولا خاف ، وليس يمكن أحد أن يدفع ان في الافعال الحسنة التي يستحق بها المدح والثواب ما له صفة الوجوب ، وفيها ما لا يكون كذلك . فاذا كان الواجب مشاركا للندب في تناول الارادة له واستحقاق الثواب والمدح به ، فليس يفارقه إلا بكراهة الترك . لان الواجب تركه مكروه والنفل ليس كذلك . فلو جعلنا الكراهة تتعلق بالقبيح وغير القبيح من الحكيم تعالى ، وكذلك النهي . كما جعلنا الامر منه يتعلق بالواجب وغير الواجب ، لارتفع الفرق بين الواجب والندب مع ثبوت الفصل بينهما في العقول .
فان قيل : فما معنى حكايته تعالى عنهما قولهما : ( ربنا ظلمنا انفسنا ) وقوله تعالى : ( فتكونا من الظالمين ) .
قلنا : معناه أنا نقصنا انفسنا وبخسناها ما كنا نستحقه من الثواب بفعل ما أريد منا من الطاعة ، وحرمناها الفايدة الجليلة من التعظيم من ذلك الثواب ، وإن لم يكن مستحقا قبل ان يفعل الطاعة التي يستحق بها ، فهو في حكم المستحق ، فيجوز ان يوصف بذلك من فوت نفسه بأنه ظالم لها ، كما يوصف من فوت نفسه المنافع المستحقة . وهذا معنى قوله تعالى : ( فتكونا من الظالمين ) .
فإن قيل فاذا لم تقع من آدم عليه السلام على قولكم معصية ، فلم أخرج من الجنة على سبيل العقوبة وسلب لباسه على هذا الوجه ؟ ولولا أن الاخراج من الجنة وسلب اللباس على سبيل الجزاء على الذنب ، كما قال الله تعالى : ( فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما ) وقال تعالى في موضع آخر : ( فأخرجهما مما كانا فيه ) ؟ .
قلنا : نفس الاخراج من الجنة لا يكون عقابا ، لان سلب اللذات والمنافع ليس بعقوبة ، وإنما العقوبة هي الضرب والالم الواقعان على سبيل الاستخفاف والاهانة . وكذلك نزع اللباس وابداء السوأة . فلو كانت هذه الامور مما يجوز ان تكون عقابا ويجوز ان يكون غيره لصرفناها عن باب العقاب إلى غيره ، بدلالة ان العقاب لايجوز ان يستحقه الانبياء عليهم السلام . فاذا فعلنا ذلك فيما يجوز أن يكون واقعا على سبيل العقوبة ، فهو اولى فيما لا يجوز أن يكون كذلك ،
فان قيل فما وجه ذلك ان لم تكن عقوبة ؟ .
قلنا : لا يمتنع ان يكون الله تعالى علم ان المصلحة تقتضي تبقية آدم عليه السلام في الجنة وتكليفه فيها متى لم يتناول من الشجرة ، فمتى تناول منها تغيرت الحال في المصلحة وصار اخراجه عنها وتكليفه في دار غيرها هو المصلحة . وكذلك القول في سلب اللباس حتى يكون نزعه بعد التناول من الشجرة هو المصلحة كما كانت المصلحة في تبقيته قبل ذلك ، وإنما وصف إبليس بأنه مخرج لهما من الجنة من حيث وسوس اليهما وزين عندهما الفعل الذي يكون عنده الاخراج ، وإن لم يكن على سبيل الجزاء عليه لكنه يتعلق به تعلق الشرط في مصلحته ، وكذلك وصف بأنه مبدئ لسوأتهما من حيث اغواهما ، حتى اقدما على ما سبق في علم الله تعالى بأن اللباس معه ينزع عنهما ، ولابد لمن ذهب إلى ان معصية آدم عليه السلام صغيرة لا يستحق بها العقاب من مثل هذا التأويل ، وكيف يجوز ان يعاقب الله تعالى نبيه بالاخراج من الجنة أو غيره من العقاب ، والعقاب لابد من ان يكون مقرونا بالاستخفاف والاهانة ، وكيف يكون من تعبدنا الله فيه بنهاية التعظيم والتبجيل مستحقا منا ومنه تعالى الاستخفاف والاهانة : وأي نفس تسكن إلى مستخف بقدره مهان موبخ مبكت ؟ وما يجيز مثل ذلك على الانبياء ( ع ) إلا من لا يعرف حقوقهم ولا يعلم ما تقضيه منازلهم .