عربي
Monday 20th of May 2024
0
نفر 0

الضرر والهلاك في النصوص والآثار

الضرر والهلاك
في النصوص والآثار



 

   


 

 

 


ما يؤدي إلى نقصٍ أو هلاك.. في النصوص والآثار..

قد أشرنا في المطالب المتقدمة، إلى كثير مما يفيد في استفادة حكم إلحاق الإنسان بنفسه الأذى والألم، وحتى الجرح..

ونقول هنا:

إن هذا الذي ذكرناه توضحه نصوص كثيرة، تفوق حد التواتر، وهي على درجة كبيرة من التنوع، في سياقاتها، وفي مضامينها، كلها تدل على أن الضرر ذو مراتب، وعلى أن ما كان من مراتبه محكوماً بالحرمة، فليس لأجل أن حرمته ذاتية، أو لأنه قبيح عقلاً، بل هو تابع في ذلك لما يعرض له من عناوين، وأنه قد تعرض عليه عناوين مختلفة الأحكام، فمنها ما هو حرام، ومنها ما هو واجب، ومنها المستحب والمكروه، والمباح..

بل قد قلنا: إنه حتى قتل النفس، ليس حراماً ذاتاً، وإنما الميزان هو ما يطرأ عليه من عناوين. ولذلك أمر الله تعالى نبيه إبراهيم [عليه السلام] بذبح ولده. كما أن الشارع قد أوجب هذا القتل، كما في صورة القصاص، وكما في قوله تعالى، مخاطباً بني إسرائيل:

 

   


{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}..(1).

وعلى كل حال، فإن ثمة نصوصاً كثيرة قد تحدثت عن حكم ما فيه أذى وجرح، قد يصل إلى حد إتلاف بعض الأعضاء، أو فوق ذلك، أو دونه.. كما سنرى وهناك نصوص تحدثت أيضاً عما فيه خوف ضرر تارة, وعما فيه خوف هلاك أخرى..

وهي نصوص تضمنت أقوالاً، وأفعالاً، للأئمة أنفسهم [عليهم السلام] تارة, وفي حضورهم أخرى..

وفي تلك النصوص الحديث المرسل والمسند، وفيها الصحاح والحسان، وغير ذلك..

وكلها تؤكد حقيقة واحدة، وتشير على أمر فارد، وهو أن جميع ذلك ليس قبيحاً عقلاً، وأن في بعضه اقتضاء للقبح، قد يزيله ويحل محله مقتضٍ آخر، وقد يبقى على حاله.. وبعضه لا دليل على وجود اقتضاء ذلك فيه أصلاً..

وكلا الصنفين يكون خاضعاً في موارده للعناوين الطارئة، وتابعاً في أحكامه، للوجوه والاعتبارات المختلفة. فإذا كان جرح الرأس، واللطم وغير ذلك من موارد ومصاديق إحياء أمرهم [عليهم السلام]، الذي ورد الأمر به عنهم، ومنهم [عليهم السلام] فإن ذلك الضرب والجرح والألم يصبح من الأمور المحبوبة والمطلوبة لله تعالى.

بل لقد صدر عن الأنبياء والأئمة [عليهم السلام]، أو بحضورهم كما

____________

(1) سورة البقرة 54.

 

 


نطقت به النصوص والآثار الآتية، ما هو أعظم من اللطم، أو جرح الرؤوس:

وكفى شاهداً على ذلك ما فعله النبي يعقوب بنفسه [على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام].. حين بكى على ولده، حتى ابيضت عيناه من الحزن.. وكاد أن يهلك كما قال له أبناؤه..

وقال له أبناؤه: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ}(1).

وهذا خير دليل على أن فعل ما يؤدي إلى العمى أو إلى الهلاك، ليس قبيحاً عقلاً، ولا هو حرام ذاتاً، بل هو تابع للعناوين التي تَعْرُضُ له، أو توجب المصير إليه..

فإلى ما يلي من نصوص وآثار تظهر هذه الحقيقة وتؤكدها.. وسوف نحاول أن نتجنب قدر الإمكان ما يرتبط بمراسم عاشوراء، فنقول:

المعصوم واحتمال الضرر الكبير والهلاك:

إننا إذا انتقلنا إلى عالم النصوص الواردة عن النبي وأهل بيته الطاهرين [صلوات الله وسلامه عليهم] أجمعين، فسوف يكون أمامنا موارد كثيرة تدخل في هذا السياق، وتشير إلى هذا الاتجاه، فهناك موارد أوجبها الشارع، أو مارسها أهل الشرع، بمرأى وبمسمع من المعصوم، رغم أنها قد كان فيها احتمال الهلاك ملموساً وظاهراً.. أو كان فيها الضرر البالغ محققاً تارة، ومظنوناً، أو محتملاً أخرى..

____________

(1) سورة يوسف، الآية 84.

 

  


ونذكر من ذلك ما يلي:

1 ـ الكليني: عن أحمد بن محمد بن سعيد، عن جعفر بن عبد الله العلوي، وأحمد بن محمد الكوفي، عن علي بن العباس، عن إسماعيل بن إسحاق، جميعاً عن أبي روح فرج بن قرة، عن مسعدة بن صدقة، قال حدثني ابن أبي ليلى، عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه:

أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة, إلى أن قال:

«وقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها، وقُلبها، وقلائدها، ورعاثها، ما تمنع [تمتنع خ.ل.] منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلاً منهم كلم، ولا أريق له [لهم خ. ل] دم. فلو أن امرءأًً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان عندي به [به عندي خ. ل] جديراً»(1).

فهو [عليه السلام] لا يلوم من يموت من المسلمين أسفاً لأجل سلب امرأة كافرة حجلها، وقُلبها، ورعاثها، رغم أنه ليس هو مسؤولاً عن

____________

(1) الكافي ج5 ص4 ونهج البلاغة، الخطبة رقم 27 والبيان والتبيين ج2 ص54 والكامل للمبرد ج1 ص20 والعقد الفريد ج4 ص66 ومصادر نهج البلاغةج1 ص395ـ397 عنهم والأخبار الطوال ص211 وأنساب الأشراف ط الأعلمي ص442 ومعاني الأخبار ص309 والأغاني ج15 ص45 والغارات 476 ووسائل الشيعة وعن التهذيب للطوسي ج2 ص416 ط أمير بهادر والبحار ط حجرية ج8 ص699و700.

 

   


حمايتها، لأنها معاهدة لمدة على متاركة الحرب، حتى إذا انقضت تلك المدة، فربما تعود إلى حرب المسلمين، وإلى السعي في أذاهم وقتلهم..

بل إنه [عليه السلام] يرى أن من يموت أسفاً لهذا الأمر جديرٌ بذلك.. رغم أن ما جرى لهذه الكافرة المعاهدة هو مجرد سلب حليها منها، دون أن تتعرض لضرب، ولا لهتك، ولا لأسر، ولا لقتل..

فإذا كان الموت أسفاً على سلب امرأة كافرة غير موجب للّوم، بل هو مما يجدر بالإنسان المسلم أن يوصله أسفه إليه، فالموت حزناً على الحسين [عليه السلام]، وأسفاً لما جرى عليه، وعلى أصحابه لا يوجب اللوم، بل يكون في محله.. والموت في هذه الصورة، لا يكون قبيحاً عقلاً، ولا حراماً ذاتاً، بل هو قد أخذ مشروعيته من هذا العنوان العارض عليه، فما بالك باللطم المؤلم، أو جرح الإنسان الرأس، الذي لا يؤثر على حياة الإنسان بشيء؟!

2 ـ قد أوجب الله تعالى جهاد العدو أو أجازه ـ ونقصد به الجهاد الإبتدائي، لا الدفاعي ـ مع ما في هذا الجهاد من احتمال القتل، أو قطع بعض الأعضاء، أو الجرح.. فلو كان القتل حراماً ذاتاً، فإنه يجب التحرز عن كل ما يؤدي أو يحتمل أن يؤدي إليه.. ويكون كالظلم، الذي لا يمكن أن يكون حلالاً في أي وقت من الأوقات، فضلاً عن أن يكون واجباً..

3 ـ قد أمر الله سبحانه بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم، فقال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ

 

 


إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(1).

وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ}(2). فلو كان القتل قبيحاً ذاتاً، لم يأمرهم الله سبحانه به.

4 ـ وقد قال الله تعالى لنبيه: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}(3).

وقال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً}(4).

وقال تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}(5) فهو [صلى الله عليه وآله] يعرض نفسه لأمور صعبة، تصل به إلى حد الهلاك، من أجل أناس يعلنون الحرب عليه، ويقتلون ذويه وأصحابه، ويفتكون حتى بمثل عمه حمزة، وعبيدة بن الحارث، وغيرهما ولو قدروا على قتله هو أيضاً، لاعتبروا ذلك من أعظم الأعياد عندهم..

مع أن بإمكانه [صلى الله عليه وآله] أن لا يهتم لهذا الأمر.

وهذا يشير إلى أن هذا المستوى من التعامل مع القضايا، أمر مسموح به، بل هو راجح، يستحق عليه رسول الله [صلى الله عليه وآله] هذه التسلية الإلهية، ولا يمكن أن يكون ما يفعله الرسول [صلى الله عليه وآله] من موارد

____________

(1) سورة البقرة / 57.

(2) سورة النساء / 66.

(3) سورة فاطر / 8.

(4) سورة الكهف / 6.

(5) سورة الشعراء / 3.

 

   


القبح العقلي، ولا هو محرم ذاتاً في أي حال من الأحوال..

وبعد هذا، أفلا يحق لنا نحن أن نأسف إلى حد الموت لقتل الإمام الحسين [عليه السلام]، أو إلى حد إلحاق بعض الأذى والألم بأجسادنا؟.

5 ـ قد تقدم أن الله تعالى قد أمر النبي إبراهيم [عليه السلام] بذبح ولده.. وقد أطاعه ولده في هذا الأمر.. فهل يصح: أن يقال: إن الله تعالى، قد أمره بما هو قبيح عقلاً، وحرام ذاتاً؟!

6 ـ رواية الفرار من الطاعون:

وقد أظهرت الروايات أيضاً: أن الفرار من الطاعون ليس واجباً، بل هو رخصة. وذلك معناه: أنه لا حرمة ذاتية، ولا قبح عقلياً، في البقاء في محيط الطاعون، إذا كان هناك ما هو أهم منه..

فعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن الحلبي، قال: سألت أبا عبد الله [عليه السلام] عن الوباء يكون في ناحية المصر، فيتحول الرجل إلى ناحية أخرى، أو يكون في مصر فيخرج منه إلى غيره؟!

فقال: لا بأس، إنما نهى رسول الله [صلى الله عليه وآله] عن ذلك لمكان ربيّة(1) كانت بحيال العدو، فوقع فيهم الوباء، فهربوا منه، فقال رسول الله [صلى الله عليه وآله]: الفارّ منه كالفارّ من الزحف، كراهية أن تخلو مراكزهم(2).

____________

(1) الربية والربيئة: العين على العدو، ولا يكون إلا على جبل، أو شرف..

(2) الكافي ج8 ص93 ط مطبعة النجف ـ النجف الأشرف / العراق ـ والوسائل ط مؤسسة آل البيت ج2 ص429 و430.

 

   


وقريب من ذلك: ما رواه الصدوق عن محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد، عن أبيه، عن فضالة، عن أبان الأحمر، عن أبي عبد الله [عليه السلام].

وثمة روايات أخرى بهذا المضمون أيضاً، فراجع(1).

ففي هذه الرواية:

أولاً: إنه [عليه السلام] لم يحتم على ذلك السائل التحول والابتعاد عن موضع الخطر، بل قال له: لا بأس..

إلا أن يقال: إن كلمة [لا بأس] قد وردت في مورد توهم الحظر، فهي تدل على عدم حرمة الفرار من الطاعون في الحالات العادية، وأما أنه واجب أو راجح أو مباح، فإنه [عليه السلام]، لم يكن بصدد بيان ذلك.

ثانياً: إنه [عليه السلام] قد أوضح أن النبي قد حتم على ربية أن لا تهرب من الطاعون، لكي لا تخلو تلك المراكز منهم. واعتبر ذلك كالفرار من الزحف. والمراد بالربيئة، الكمين المراقب، والراصد للعدو..

وذلك معناه: أن دفع الضرر النوعي، مقدم على دفع وتحاشي الضرر الشخصي. فلا بد من دفع الأول، ولو بقيمة تعريض النفس للثاني..

فلا يصح قولهم: إن فعل ما فيه ضرر، قبيح بحكم العقل؟!.. وحرام بذاته شرعاً..

أليس هذا يدل على أن القبح ليس ذاتياً، وإنما الأمر مرهون

____________

(1) معاني الأخبار ص254 والوسائل ط مؤسسة آل البيت ج2 ص430 و431 وفي هامشه عن علل الشرائع ج2 ص520 ومسائل علي بن جعفر ص117.

 

 


بالعناوين العارضة، فقد تكون من موجبات التحريم، وقد يزول ذلك الموجب، ويحل محله ما يجعله راجحاً، بل واجباً..

إفعل حتى لو مرضت:

7 ـ ومما يدل على عدم الحرمة الذاتية، وعدم القبح العقلي، لما يعتبره الناس ضرراً، ما دلَّ على لزوم القيام ببعض الأعمال، التي فيها أذى، لا يرضى الناس بتعريض أنفسهم إليه في الظروف العادية..

ونذكر من ذلك:

ألف: ما رواه الشيخ عن محمد بن علي، عن محمد بن الحسن، عن سعد بن عبد الله، وأحمد بن إدريس، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن هشام بن سالم، عن سليمان بن خالد، وحماد بن عيسى، عن شعيب، عن أبي بصير.

وفضالة عن حسين بن عثمان، عن ابن مسكان، عن عبد الله بن سلميان، جميعاً عن أبي عبد الله [عليه السلام]: أنه سئل عن رجل كان في أرض باردة، فتخوَّف إن هو اغتسل أن يصيبه عنت من الغسل، كيف يصنع؟.

قال: يغتسل، وإن أصابه ما أصابه(1).

ب: وبهذا الإسناد، عن حماد، وعن حريز، عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد الله [عليه السلام] عن رجل تصيبه الجنابة في أرض

____________

(1) تهذيب الأحكام ج1 ص198 والإستبصار ج1 ص162 وسائل الشيعة ط مؤسسة آل البيت ج3 ص374.

 

 


باردة، ولا يجد الماء، وعسى أن يكون الماء جامداً؟ فقال: يغتسل على ما كان.

حدثه رجل: أنه فعل ذلك، فمرض شهراً من البرد، فقال: اغتسل على ما كان، فإنه لا بد من الغسل(1).

ولعل مورد هذه الرواية هو تعمد الجنابة، بعد دخول الوقت، ومع علمه بوجود البرد، أو بفقدان الماء.. فأراد [عليه السلام]: أنه غير معذور فيما أقدم عليه، من حيث أن فيه تضييعاً متعمداً للصلاة المفروضة، فجاء هذا الحكم في حقه، على سبيل العقوبة له..

فقد حتم عليه أن يغتسل، ويتحمل آثار ما أقدم عليه..

فلو كان هذا الإقدام على الضرر قبيحاً عقلاً، وحراماً ذاتاً، لم يكن معنى لتجويزه، فضلاً عن الأمر به على نحو الإلزام..

ذبح إبراهيم [عليه السلام] لولده:

8 ـ وقد ذكرنا في الفصل السابق أن الله سبحانه قد أمرنبيه ابراهيم [عليه السلام] بأن يذبح ولذه اسماعيل، وقد أطاع الله في ذلك، وشاركه في هذه الطاعة ولده اسماعيل.

حزن حتى الموت:

9 ـ ومما له ارتباط بأحداث عاشوراء، نشير إلى مورد واحد فقط،

____________

(1) تهذيب الأحكام ج1 ص198 والإستبصار ج1 ص163،ووسائل الشيعة ط مؤسسة آل البيت ج3 ص374.

 

 


هو ما ذكره المؤرخون أيضاً: أن الرباب بنت امرئ القيس بن عدي، زوجة الإمام الحسين [عليه السلام] قد بقيت سنة بعد الحسين [عليه السلام]، «لم يظلها سقف بيت حتى بليت وماتت كمداً»(1).

ومن المفترض: أن يكون هذا الأمر بمرأى وبمسمع من الإمام السجاد [عليه السلام]، لاسيما بعد أن طال عليها الأمر، ومضت الأشهر الكثيرة، حتى بليت، وهلكت.

فكيف لم ينهها [عليه السلام] عن هذا؟.

ولو أنه نهاها، فلا نظن أنها كانت تعصي له أمراً، ما دامت متفانية في حب أبيه سيد شباب أهل الجنة، وهي لم تكن لتحب الوالد، ثم تعصي أمر ولده وسيد الخلق من بعده، والذي لم تر منه إلا كل خير ورفق ومحبة.. فسكوته عنها إمضاء لفعلها، ودليل على أن ذلك الفعل ليس قبيحاً ذاتاً، ولا حراماً شرعاً..

وقد بقيت أمثلة أخرى صريحة في تجويز أو استحباب أو ايجاب أمور فيها احتمالات الهلاك، سنشير إليها في فصل: مراسم عاشورا، إن شاء الله..

____________

(1) الكامل لابن الأثير ج4 ص39 المطبوع مع تاريخ القرماني، وسكينة بنت الحسين [عليه السلام] ص68، تأليف الدكتورة عائشة بنت الشاطئ.. ومصادر ذلك كثيرة، تجدها في ترجمة الرباب في مختلف كتب التراجم التي تعرضت لحالها.

 

 


الجرح قد يجب وقد يستحب:

هذا.. وقد ورد ما يدل على استحباب أو وجوب جرح الإنسان نفسه في موارد عديدة.. مما يعني أن بعض موارد الجرح لا اقتضاء فيها للحرمة، فضلاً عن أن تكون من موارد الحرمة الذاتية، أو القبح العقلي.. ونذكر من هذه الموارد ما يلي:

1 ـ الحجامة، فإنها مستحبة، والروايات فيها كثيرة.

2 ـ ثقب أذن المولود، فإن ذلك من السنة، فقد روى الكليني بسند صحيح، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن عيسى، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله [عليه السلام]، قال:

ثقب أذن الغلام من السنة، وختان الغلام من السنة(1).

وروى علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسين بن خالد قال: سألت أبا الحسن الرضا [عليه السلام] عن التهنية بالولد متى؟

فقال: إنه قال: لما ولد الحسن بن علي هبط جبرئيل بالتهنية.. إلى أن قال: ويعق عنه، ويثقب أذنه. وكذلك حين ولد الحسين الخ..(2).

3 ـ والختان مستحب أيضاً، ورواياته كثيرة، ومنها صحيحة ابن سنان المتقدمة.

وروى الكليني أيضاً، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله عن علي [عليهما السلام]: إذا أسلم

____________

(1) الكافي ج6 ص36.

(2) الكافي ج6 ص34.

 

 


الرجل اختتن، ولو بلغ ثمانين(1).

وهناك روايات صحيحة أخرى، وردت في الكافي وغيره من كتب الحديث، تدل على استحباب الختان. فليراجعها من أراد..

وقد يجب الختان لأجل الحج.

مع أن الختان جرح للجسد، وفيه ألم وأذى.

4 ـ خفض النساء: وقد روي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله [عليه السلام] قال: خفض النساء مكرمة(2).

فالحكم باستحباب ذلك كله، أو بوجوبه، يدل على أنه ليس فقط قبيحاً عقلاً، ولا هو حرام ذاتاً، وإنما يدل على أنه لا اقتضاء فيه للحرمة أصلاً، بل تكون حرمته أو وجوبه بسبب صيرورته مورداً للعنوان الحرام أو الواجب، أو غيره..

وفي غير السياق المتقدم نذكر:

5 ـ إن الزهراء [عليها السلام] كانت تطحن بالرحى حتى مجلت يداها(3).

بل لقد قال الراوندي: «كانت فاطمة جالسة قدامها رحى، تطحن بها الشعير، وعلى عمود الرحى دم سائل، والحسين في ناحية الدار

____________

(1) الكافي ج6 ص37.

(2) الكافي ج6 ص34 و37.

(3) البحار ج43 ص84.

 

 


يبكي»(1).

فلو كان الإدماء، أو إلحاق الأذى، والألم بالنفس حراماً ذاتاً، أو قبيحاً عقلاً، لم يجز للزهراء [عليها السلام] أن تفعل ما يوجب ذلك..

6 ـ إن الشارع قد حكم بجواز الفصد، وإخراج الدم.. وهذا شاهد آخر على ما ذكرناه..

7 ـ جواز نتف الشعر، الذي ورد التصريح بجوازه في الراويات (كما في الوسائل وغيرها).

والكلام فيه كالكلام فيما سبقه..

جواز الجرح لرغبة دنيوية:

8 ـ وأخيراً نقول: إن الفقهاء يحكمون بجواز إجراء عمليات هدفها مجرد التجميل، تلبية لرغبة شخصية ولهدف دنيوي بحت، وهو أن يصير ذلك الشخص بعدها أكثر مقبولية وجمالاً، بنظر الآخرين..

وقد أفتى الفقهاء بما يشير إلى مسايرة الشارع له في ذلك، فقد حكموا بأنه يسمح بالتيمم بدلاً عن الوضوء، ويسمح له بالصلاة من جلوس، أو في حال الاستلقاء، وأن يومئ للسجود، ويعفى له عن دم الجروح في الصلاة أيضاً. وما إلى ذلك..

وكل ذلك يدل على أنهم يرون: أن عروض عنوان المصلحة له ـ ولو كانت شخصية، وغير ذات أهمية، يكفي في تسويغ الإقدام على هذا الجرح.

____________

(1) الخرائج والجرائح ج 2 ص 530 و531.

 

 


فما يقال: من عدم جواز أن يجرح الإنسان نفسه، وأنه محرم، وقبيح بذاته، لا يمكن قبوله. فإن المحرم بذاته شرعاً، القبيح عقلاً، لا يمكن أن يصير حلالاً أو حسناً، فضلاً عن أن يصبح مستحباً، أو واجباً في بعض الموارد.

كما أننا لا نجد في كثير من الموارد المشار إليها ـ كمورد الجراحة للتجميل ـ مصلحة تلزم بالترخيص بهذا الحرام، فضلاً عن أن تجعله واجباً.

مفارقة ظاهرة:

ومن الطريف هنا: أن بعض من لا يبيح جرح الرأس في عاشوراء قد أجاز الملاكمة وغيرها من الألعاب القتالية الخطرة، والتي لا شك في تأثيرها السلبي على سلامة الأشخاص، وعلى حياتهم.

والمسوغ لذلك عنده هو أن لهذه المباريات غرضاً عقلائياً!!

مع العلم بأن هذه المباريات، فضلاً عما يصاحبها من أخطار، وما ينشأ من جرح وأذى.. إنما ترتكز في كثير من الأحيان إلى المقامرات والرهانات.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

أين دفنت السيدة زينب عليها السلام
السرّ الرابع - خواصّ الشيعة زوّار الإمام (عليه ...
شهادة فاطمة الزهراء ( عليها السلام )-2
لم يكن يعقوب يعرفها من قبل
الدعاء عند الحجر الاسود
حديث الغدير في مصادر أهل السنة
أين يقع غدير خُمّ؟
الأنفاس القدسية في أسرار الزيارة الرضوية
ليلة القدر فاطمة الزهراء (عليها السلام)
منزلة فاطمة الزهراء (عليها السلام)

 
user comment