عربي
Sunday 19th of May 2024
0
نفر 0

العامل بعد اتحاده بالعمل ( وفي هذا المقام يكون الحديث في العامل دون العمل ) يحتاج في عمله إلى القوة والطاقة والعلة، ولكل معلول علة وكل علة معلولة لعلة أخرى فوقها، ولابد أن ترتقي كل العلل في عالم الوجود إلى علة العلل ونهاية العلل وغاية الغايات ومسبب الأسبا

أضغط هنا لقراءة المقال على موقع جريدة الرأي

العامل بعد اتحاده بالعمل ( وفي هذا المقام يكون الحديث في العامل دون العمل ) يحتاج في عمله إلى القوة والطاقة والعلة، ولكل معلول علة وكل علة معلولة لعلة أخرى فوقها، ولابد أن ترتقي كل العلل في عالم الوجود إلى علة العلل ونهاية العلل وغاية الغايات ومسبب الأسباب بلا سبب وهو ذات الله عز وجل، فكل ما ينتهي بالعرض لابد أن ينتهي بالذات.
و تعبير «علة العلل» والسلوك إلى الله عز وجل هو طي الطريق للوصول إلى لقاء جمال ذي الجمال المطلق، والسير هو مشاهدة آثار وخصائص المنازل التي يطويها السالك منزلاً بعد آخر والمترتبة بعضها على بعض، أو كما يقول بعض العرفاء أن السير عبارة عن تلبس الأحوال المتعاقبة، ولما كان مبدأ السير والسلوك إلى الله هو النقص والاحتياج الفطري كما قال سبحانه وتعالى «وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئا» ومنتهاه جناب الحق المنزه عن كل نقص « وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى» فعلى السالك إلى الله أن يطوي المنازل منزلاً بعد منزل لكي يرقى من حد الضعف والنقص إلى القوة والكمال أكثر فأكثر إلى أن يصل إلى أوج الجمال وغايته وهو مقام الإنسان الكامل.
ويرى العرفاء أن طريق ارتباط الممكنات بالله سبحانه وتعالى طريق ترتيبي أي حسب قانون العلية والمعلولية، فكل موجود مكمن يرتبط بالحق تبارك وتعالى بواسطة سلسلة من المظاهر والعلل، وعبر هذه السلسلة تجري الفيوضات الإلهية والتجليات الرحمانية لتصل إلى الموجود حسب قابليته واستعداده. وقد ورد عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «أبى الله إلا أن يجري الأشياء إلا بالأسباب فجعل لكل شيء سببا وجعل لكل سبب شرحا وجعل لكل شرح علما وجعل لكل علم بابا ناطقا عرفه من عرفه وجهله من جهله ذاك رسول الله ونحن» ولذا فللتوجه إلى الحق سبحانه وتعالى لابد من طي حلقات هذه السلسلة والصعود إلى سلم المقامات واحدا تلو الآخر حتى يصل إلى غاية الغايات ومسبب الأسباب.
والحديث في العلة والمعلول يجرنا إلى الحديث في مسألة الجبر والتفويض والاختيار وجهة انتساب أفعال البشر، وهي من جملة المسائل التي شغلت أذهان البشرية حتى يومنا هذا، وقد ذهبت كل طائفة من الحكماء والمتفكرين والمتكلمين إلى تفسير تلك المعضلة حسب مبانيها ومبادئها الفكرية، وللعرفاء آراء خاصة بهم في هذا الشأن سنبينها بحول الله وقوته في هذا المنزل.
يتفق عرفاء مذهب الإمامية وحكماؤه على نفي الجبر والتفويض، ويستندون في أقوالهم إلى الأحاديث الشريفة الواردة عن أهل البيت (ع)، فقد روي عن صادق آل محمد مولانا جعفر بن محمد (ع) أنه قال «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين» وهذا لا يعني - كما يراه العرفاء - أن بعض أفعال العباد جبري وبعضها الآخر تفويضي ولا يعني أيضا أن كل عمل تركيب من الجبر والاستقلال ولا معناه خلوه عنهما ولا أنه اضطرار من جهة واختيار من جهة أخرى، ثم قيل: ما أمر بين أمرين ؟ فقال (ع) «مثل ذلك رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته ففعل تلك المعصية فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الذي أمرته بالمعصية».
بيد أن الحكماء يطرحون معنى «أمر بين أمرين» على نحو العلة الطولية أي أن كل أمر وفعل يكون العبد فيه علة قريبة ويكون الحق سبحانه وتعالى فيه علة بعيدة، في حين أن العرفاء يطرحون ذلك على نحو التوحيد الأفعالي، ويستشكلون على الحكماء في تفسيرهم هذا ويقولون: ليس الأمر كذلك بأن تكون فاعلية الحق تبارك وتعالى تعلو فاعلية العبد لأن في ذلك إشارة إلى التفويض الخاص المستلزم لاستقلال الفعل، ثم إن مؤدي هذا التفسير هو تحديد فعل الله تبارك وتعالى ولكن كما أن الحق تبارك وتعالى غير محدود فإن فعله أيضاً غير محدود، فهو الداني في علوه والعالي في دنوه وقد قال الإمام علي (ع) «هو في الأشياء على غير ممازجة خارج منها على غير مباينة».
وقد طرحت مسألة التوحيد الأفعالي في القرآن الكريم تكراراً ومراراً كما في قوله تعالى «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ» وكذلك قوله تعالى «أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً» وقوله تعالى «قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ» وقوله تعالى «وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين» وغيرها من الآيات المباركات.
وعلى هذا لا بد من الاستناد إلى التوحيد الأفعالي وهو التوحيد في أفعال الله وأنه لا مؤثر في الوجود إلا هو وأنه مبدأ كل وجود وفعل، فكما أن وجود العبد مظهر من مظاهر العبد ومظهر من مظاهر الله سبحانه وتعالى وشأن من شؤونه (هذا نفي التفويض)كذلك فعله مظهر من مظاهر فعل الله سبحانه وتعالى وبالتالي إرادته واختياره مظهر من مظاهر إرادة الله عز وجل واختياره ( هذا نفي الجبر ) ويمكن القول ان كل تأثير يشاهد من سبب من الأسباب إنما هو اسم من أسماء الله الحسنى والسبب مظهره.
ثم إن العرفاء قائلون بهذه الحقيقة وهي « أن لا مؤثر في الوجود إلا الله» وإسناد الأفعال إلى الإنسان إسناد مجازي لا حقيقي لأن كل الأشياء كمرائي لذات الحق البسيطة التي هي الكل بلا تكثر، وقوله تعالى «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى» دليل على هذا القول، فقد نسب الحق تعالى الرمي إلى رسوله ( ص ) ونفاه عنه ونسبه إلى نفسه، وكذلك في قول الله تعالى «قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ» «فنسب القتل إليهم والتعذيب إلى نفسه بأيديهم والتعذيب هناك عين القتل، فما من سبب من الأسباب ولا علة من العلل إلا وتأثيره بالله ونحو تصرفه بإذن الله فلا سلطان في الوجود إلا سلطانه ولا قيومية إلا قيوميتة المطلقة.
يقول الحكيم الشيرازي (قده): « ان الشرور هي عدم الذوات او عدم كمال لها ونقصان وقصور وليست من مظاهر تجليات الحق جلا وعلا لأن الوجودات بما هي وجودات خير محض وباقية على خيريتها مادامت غير نازلة إلى عالم التصادم والتضاد ولم تنته سلسلتها إلى حيز المكان والزمان، وأما إذا أنجزت سلسلة الوجود إلى عالم الأجسام والظلمات ومضائق الأكوان والازدحامات فبعض الوجودات مع أنه خير محض بالذات والعرض بحسب ذاته وبالقياس إلى ما لا يستضر به يوصف بالشرية لأنه يؤدي إلى عدم ذات أو عدم كمال لذات، ولذا فمنبع الشرور هو نقصانات الوجود عن الكمال الأتم والجمال الأعظم.
ويمكن القول بأن لكل شيء ممكن وجهين: وجه جهة وجود وظهور ( جهة واجب الوجود وهو الحق تعالى ) ووجه جهة الذات والماهية ( جهة ممكن الوجود وهو الخلق ) وللحق تعالى إفاضة الوجود على الماهيات، ولما كانت الإفاضة كلها خيرا محضا فالوجود بما هو وجود خير محض، وأن لكل شيء نسبتين: نسبة وجوبية إلى الفاعل والمصدر ونسبة إمكانية إلى القابل والمظهر وأن جهة الخيرية في الأشياء هي الوجود وجهة الشرية هي الماهيات، وعلى قول الإمام علي (ع) « فالإيجاد والإفاضة والفعلية والتكميل والتحصل والبقاء واللطف والرحمة من جنب الله وقدرته، والقابلية والقصور والخلل والفتور والفناء والدثور والتجدد والزوال والقهر والغضب من قبل الخلق واستعداداتهم.
وخلاصة القول ان النقائص والذمائم ترجع إلى خصوصيات القوابل لا إلى الفيض الصادر من الحق جل وعلا، فوجود كل شرف وكمال وخير وسلام ونور يضاف إلى الحق تعالى ولزوم كل شر آفة وقصور وظلمة يضاف إلى الخلق، وهنا يرتفع توهم التناقض بين آيتين كريمتين من كتاب الله عز وجل إحداهما قوله عز وجل: « وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ» والأخرى قوله تعالى « مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ» ومن الملاحظ أن هناك فرقا في التعبيرين « من الله» و«من عند الله» فالحسنات والسيئات كلها من عند الله لأنها مظاهر للحق تعالى وتنزلات من خزانته إلى هذا العالم، وأما ما يناسب جناب الحق تعالى فهو الجانب الحسن من الشيء وأما الجانب السيئ منه وهو أمر نسبي وعدمي فيتعلق بالإنسان وكل ما هو مادي.
و على هذا وإن كان أرباب التوحيد الأفعالي يرون أن « لا مؤثر ولا فاعل إلا هو» إلا أنهم يرجعون كل فعل إلى محله الخاص به وينسبونه إلى محل صدوره ومن هنا كانت مسألة الثواب والعقاب.
وفي قول الله جلا وعلا « أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً» إثبات لمشيئة العبد وهذا نفي الجبر وجعلها بعد مشيئة الله تعالى وهذا نفي التفويض، ثم يقول الله تعالى « وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى» فبيد العباد طاعة الله أو معصيته إلا أنه لا حول عن المعصية ولاقوة عن الطاعة إلا بالله ولا مشيئة إلا بعد مشيئته، وذلك قول الإمام علي (ع) لعباية بن ربعي الأسدي « أما سمعت الناس يسألون الحول والقوة حيث يقولون لا حول ولا قوة إلا بالله» فقال الرجل وما تأويلها ؟ قال(ع) «لا حول لنا عن معاصي الله إلا بعصمة الله ولا قوة لنا على طاعة الله إلا بعون الله».
وعن مولانا الإمام الرضا(ع)» انه حين ذكر عنده الجبر والتفويض قال «الا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه احد الا وكسرتموه ؟» فقيل له: إن رأيت ذلك، فقال(ع) «إن الله عز وجل لم يطع بإكراه ولم يعص بغلبة ولم يهمل العباد في ملكه هو المالك لما ملكهم والقادر على ما أقدرهم عليه فإن ائتمر العباد بطاعته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه».
يقول العراء ان السالك إلى الله بعد معرفة هذه المقدمات العرفانية ومعرفة حقيقة «لا جبر ولا تفويض» وأن الإنسان هو الفاعل والمختار ونهاية العلل هي ذات الله سبحانه وتعالى يعلم أن الشيطان عدو مبين ولا ينسب إليه من القوة شيئا بل أن مكر الله خفي وكيده متين، وعلى هذا نقول لولا نور العرفان وطي منازل السير والسلوك إلى الله تعالى لمانزلت هذه الآية الكريمة على قلب رسول الله ( ص ) «إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً » فالشيطان عدو حاضر وقوي وعازم على إغواء بني آدم أجمعين «فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» ولكن بنور العرفان والسلوك إلى الله تعالى يكون كيد الشيطان ضعيفاً وهو المعترف بذلك على نفسه « إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ».
أيها السالك إلى الله بعد معرفة المراتب ومعرفة فاعلية الإنسان واختياره وإرادته وأن نهاية العلل هي ذات الله تبارك وتعالى يصل إلى مقام تتواضع له السماوات والأرضون والمُلك والملكوت وكل شيء في عالم الوجود سوى الله يتواضع له، ومن هنا كان نزول هذه الآية الكريمة «إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً» فالشيطان غوي وقوي ناصب حبائله لبني آدم إلا من أخلص لله تعالى، وعند أبواب المخلصين يضعف الشيطان ويتلاشى كل ما أتى به من مكائد وحيل، فهل يقدر الشيطان أن يوسوس في قلب العارف ليأكل لقمة حرام أو شبهة مثلاً ؟ العارف لا يبالي بالحلال المباح فضلاً عن الحرام والشبهة.
أيها السالكون إلى الله تعالى، احذروا مكائد الشيطان ومحاولاته في جعل الموانع في طريق سيركم وسلوككم إلى الله والدخول في العرفانيات، فإذا كانت مجالسكم مجالس لهو وعبث (والعياذ بالله) يسود الظلام في قلوبكم يكون مرتعاً للشيطان وبالتالي يسهل عليه الهجوم والغلبة، أما إذا كانت مجالسكم مجالس ذكر وعلم هنالك تكون القلوب مستنيرة بأنوار الله سبحانه وتعالى فينكشف الشيطان ولا يكون له أدنى مجال للنفوذ إلى تلك القلوب المستنيرة.
ليس دور العرفان والمعرفة إلا إخراج الإنسان من الظلمات إلى النور، وكلما اقترب السالك إلى الله أكثر ابتعد عن الظلمات أكثر فيشعر الشيطان بالهزيمة والخيبة، ولهذا كانت مقدمات العرفان أصعب من الهدف المتوسط في العرفان والهدف المتوسط أصعب من الهدف العالي في العرفان.
اللهم يا سبب كل ذي سبب ويا مسبب الأسباب من سبب، سبب لي سببا لن أستطيع له طلبا صل على محمد وآل محمد وأغنني بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك يا حي يا قيوم.

 

 

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

في الورع و الترغيب منه
لماذا نزل القرآن في ليلة القدر ؟
نساء الجنة
تعدّد البلدان حسب الرؤية الفقهيّة
مسجد السهلة؛ بيت الأنبياء ومقام الأولياء ومقصد ...
الرجعة باختصار
أوّل‌ من‌ كُنِّي‌ بأبي‌ تراب‌
باب في غيبة يوسف عليه السلام
قبسات من نهج البلاغة – السادس
النهی عن الجدال والمراء فی الله عز وجل

 
user comment