عربي
Thursday 29th of August 2024
0
نفر 0

مسؤوليتنا في مجال الثقافة

 

  

 

أشكر الله سبحانه وتعالى الذي وفقني لأكون بين جمع من الأساتذة الملتزمين والمحترمين. وأتمنى أن يكون ذلك انطلاقة لحركة مباركة للقيام بالمسؤوليات والتكاليف الكبيرة والثقيلة الملقاة على عاتقنا في هذه المرحلة. وفي بداية الأمر اسمحوا لي أن أذكر مقدمة صغيرة حول أهمية هذه المسؤولية، ثم أتعرض في الجلسات المقبلة لأبحاث ومواضيع مختلفة يطلبها الإخوة الأعزاء.

يوجد في الدين الإسلامي مبدأ باسم «توازن المسؤوليات والكفاءات»؛ بمعنى أن الله سبحانه وتعالى يطلب التكليف والمسؤولية من الشخص على قدر ما أعطاه من نعم واستعدادات وقدرات. وقد كثرت الأبحاث حول مسؤولية الإنسان، لِما لهذا الموضوع من أهميّة فائقة، ولكن أُحبّ أن أذكر توضيحاً صغيراً قبل الدخول في بحث «توازن المسؤوليات والكفاءات».

 الإنسان المسؤول أو المطالب بالحقوق:

رغم أنّ الإنسان يدرك بفطرته أنّه لم يُترك من دون أيّ تكليف ومسؤولية كما تُركت الحيوانات، كذلك جاءت الأديان لتؤكِّد هذه المسألة، ولعلّكم سمعتم قول الفيلسوف الغربي المشهور (عمانوئيل كانت): «لقد أثار إعجابي في هذا العالم أمران: الأول: منظر النجوم في السماء. والثاني: نداء الفطرة في داخل الإنسان، والفطرة هي أجمل نداء موجود».

وعلى كلّ حال فالإنسان يدرك بفطرته أنّه متحمل لبعض التكاليف، وعليه بعض المسؤوليات، ولا يمكن لنا الآن الدخول في بيان هذا الإدراك الفطري وإثباته لأنه يحتاج إلى بحث مستقل عن بحثنا.

وفي مقابل النظرية القائلة: بفطرية المسؤولية هناك نظرية أُخرى كانت موجودة قديماً، إلا أنّها لاقت رواجاً في العقود الأخيرة، وهي تصف تلك النظرية القائلة > بأنّ الإنسان مكلف ومسؤول < بأنها نظرية قديمة وتفكير رجعي لا بدّ  من طرحه جانباً، لأن الناس في هذا العصر يسعون لاستيفاء حقوقهم ومتطلباتهم من العالم والطبيعة والله والحكومة، وقد انتهى ذلك الزمن الذي كان يُعتبر فيه الإنسان عبداً لله؛ وبدأ عصر سيادة الإنسان، ذلك العصر الذي ضيّعته البشرية ـ للأسف ـ طيلة قرون، وهو عصر استيفاء وإحياء الحقوق بدل اشتغال الإنسان بالسؤال والبحث عن تكليفه ومسؤوليته.

إذاً هناك نظريتان، الثانية منهما تعتبر الإنسان طالباً ومستوفياً للحقوق، بينما الأُولى ترى أن الإنسان مسؤول ومحاط بالتكاليف من كلّ جانب، ولا بدّ له من امتثال كلّ الأوامر والنواهي الملقاة على عاتقه. والعقل والوجدان والفطرة الإنسانية يشهدون على صحة هذه النظرية، أضف إلى ذلك اتفاق الأديان على هذا الأمر، وقد ذكر القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على أنّ الإنسان مكلف ومسؤول، ونحن هنا نشير إلى بعض منها:

{ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُون}([1]).

{ ... وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }([2]).

{ ...إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }([3]).

{  وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ }([4]).

{ ...وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُولاً}([5]).

{ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}([6]).

مبدأ توازن المسؤولية والكفاءات:

وعلى هذا ليس هناك أيّ نقاش في أصل كون الإنسان مكلفاً ومسؤولاً، ولكن النكتة المهمّة التي ينبغي التوجه إليها هي: أن هذه التكاليف ليست ثابتة على حدّ سواء ولجميع الأفراد وفي جميع الأزمنة، بل نراها تتفاوت بسبب العوامل والظروف المختلفة.

فمن العوامل التي تؤديّ إلى تفاوت درجة المسؤوليات: القوى والقدرات التي يمتلكها الأشخاص، وهذا هو ما أشرنا إليه في أوّل البحث باسم مبدأ توازن المسؤولية والكفاءات، فبما أنّ قدرات الأشخاص الجسمية والبدنية واستعداداتهم الفكرية والروحية ومواقعهم الاجتماعية وأمثال ذلك ليست متساوية، لذلك نرى أن مسؤولياتهم متفاوتة وليست بدرجة واحدة. فكل شخص مسؤول على قدر ما يمتلك من كفاءات: {لا يُكَلِّفُ اللهُ  نَفْساً إلا وُسْعَهَا}([7]).

فلا أحد يشك أن الأعمال التي يقوم بها رئيس الجمهورية أو أحد الوزراء لا تقاس من ناحية مقامه الاجتماعي بالأعمال التي يقوم بها موظف عادي، ومن هنا لا تقاس مسؤولية هذا بمسؤولية ذاك.

ومن العوامل المؤدّية إلى شدّة وضعف المسؤولية أيضاً: شدة وضعف الخطر الذي يشعر به الفرد أو المجتمع، فكلما اشتد الخطر عظمت وكبرت المسؤولية.

وعلى سبيل المثال: لو كان يسود المجتمع حالة الأمن والأمان وكان كلّ شيء فيه خاضع للرقابة الكاملة، لرأينا أبناءه يعيشون باستقرار كامل وراحة بال تامة، بينما لو سيطر على المجتمع حالة من عدم الأمن والاستقرار بسبب ضعف القوى النظامية والعسكرية، وسيطر عليه الأشرار والمجرمون، لرأينا عندها أن الشخص يشعر بمسؤولية أكبر تجاه حفظ زوجه وأولاده وبيته وأمواله وحمايتهم. ولو شاع أنّ السوق مليء باللحم والأغذية المسمومة لوجدنا أن الشخص يضطر لإجراء بعض التدابير اللازمة، إذاً على قدر ما يكون الخطر أقوى وأكبر، فإن الإحساس الداخلي بوجوب أخذ التدابير اللازمة يقوى ويكبر أيضاً.

طبعاً لا بدّ من الالتفات إلى أن هذه القاعدة متعلقة بمقام الإثبات لا بمقام الثبوت، بمعنى أنّها تجري عندما نلمس الخطر ونشعر به، أو عندما نحتمل الخطر ويثبت لنا وجوده عبر إحدى الطرق؛ بينما لا تجري هذه القاعدة فيما لو كان الخطر موجوداً ثبوتاً وواقعاً ولكننا لا نعلم بثبوته ولم يصل إلينا بطريق ما، ومهما كان هذا الخطر كبيراً فإنّه لن يلاقي أي سعي وأيّ تحرك منّا، إذاً لا بدّ لنا أولاً أن نلمس الخطر ونشعر به حتى نستطيع أن ندرك مسؤوليتنا تجاهه.

مدى القابلية والمسؤولية عند أساتذة الجامعة والحوزة:

إنّ ما يتعلق بهذا المجلس ويرتبط بالإخوة الأعزاء هو المسؤولية الملقاة على عاتقنا، فإنها ومن جهات مختلفة أثقل بكثير من المسؤولية الملقاة على عاتق الآخرين.

فمن هذه الجهات:

أولاً: القدرات الذاتية والاستعدادات التي منحكم الله سبحانه وتعالى إياها، فلو كانت استعداداتكم عادية لما كنتم أساتذة في الجامعات، وتحقيقاتكم وشهاداتكم العليا تشير إلى مدى ذكائكم وقوّة استعدادكم.

ثانياً: ومن تلك الجهات التي جعلت مسؤوليتكم أكبر، منزلتكم الاجتماعية، حيث بإمكانكم التأثير على الطلاب الجامعيين وعلى جيل الشباب، وهذه مهمّة لا يقدر على أدائها الأفراد العاديون، بل ولا أيّ مسؤول في الإدارات والوزارات، وأنتم من خلال تربيتكم لجيل الشباب وتقديمِ الأفكار والآراء لهم ترسمون مستقبل هذه الدولة، فإنّ المسؤولين والمدراء المستقبليّين والأشخاص الذين سوف يستلمون المناصب الحساسة والحرجة ـ من القيادة ورئاسة الجمهورية مروراً بممثلي المجلس إلى سائر المناصب الإدارية ـ يُنتخبون من بين هؤلاء الشباب الموجودين في الحوزة والجامعة، ونستنتج من ذلك أنّ مسؤولية الأُستاذ الحوزوي والجامعي أكبر من هذه الجهة وأخطر بكثير من مسؤولية الآخرين.

ثالثاً: هناك جهة ثالثة تجعل مسؤوليتنا ومسؤوليتكم ثقيلة وكبيرة، وهي عبارة عن عامل مرحلي، فنحن نمرّ في ظروف صعبة جداً، يشتد فيها خطر العدو، وخصوصاً في غزوه الثقافي، وتجتاح كيانَنا غاراتُه وهجماتُه الثقافية. وما كان يردّده البعض حتى الآونة الأخيرة: من أنّ ذلك مجرّد معاملة وتبادل ثقافي، ليس إلا توهّماً محضاً، ولا أظنّ أبداً بقاء أدنى تردد في ذلك لدى من عنده قليل من الحنكة والوعي السياسي، وأنّ هناك خطراً ثقافياً كبيراً يهدّد مجتمعنا ولا سيما جيل الشباب الصاعد، فإذا تأخرنا عن المواجهة ولم نحدّ من توغّل العدو الثقافي فسوف نصل وبسرعة إلى نقطة تحوُّل ثقافي شامل. وقد وضعت وسائل الإعلام منها الفضائيات وشبكة الإنترنت العالمية إمكانات كبيرة بيد الشياطين لم يعهد لها مثيل من قبل، ونرى العدو يستفيد منها يوماً بعد يوم بتوسيع دائرة نشاطاته الثقافيه التخريبية، ويخترق حواجزنا الثقافية واحداً تلو الآخر.

الانحطاط الثقافي والأخلاقي في العالم المعاصر:

 لقد أصبح الانحطاط والفساد الأخلاقي والثقافي في هذه الأيام وخيماً وشديداً جداً إلى درجة ارتفعت له صيحات الغربيين أنفسهم وضاقوا به ذرعاً، وبما أنّكم مطّلعون على هذا الأمر أقتصر على ذكر مورد وكما يقول المثل «القليل يدلّ على الكثير».

تعرض القرآن الكريم لقصة قوم لوط، ووبّخهم على العمل الشنيع الذي كانوا مبتلين به، حيث كانوا يُرضون غرائزهم الجنسية مع الجنس المماثل، ووصف عملهم هذا بالفاحشة: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}([8])، ورفضه رفضاً شديداً، إلا أنّهم أصرّوا على هذا العمل القبيح، ولم يستجيبوا لنصائح وإنذارات النبي لوط × حتى نزل بهم عذاب الاستئصال فأبادهم جميعاً. وهذه قصة ترتبط ببلد صغير في هذا العالم ومع رجال محدودين، أمّا اليوم فانظروا ماذا يجري في هذا العالم، حيث يظهر من خلال الإحصاءات التي يقدمها الغربيّون أنفسهم أنّ أكثر من خمسين بالمائة من شخصيات الدول المرموقة مبتلون بهذه العادة الأخلاقية السيئة، وقد وصل الأمر إلى الدعوة العلنية والقيام بالمظاهرات تأييداً لهذا الفعل القبيح، بل قام مجلس النواب في بعض هذه الدول بالتصويت على بعض المواد في هذا المجال وأقرها قانوناً رسمياً.

ويوجد في هذه الأيام لهؤلاء الأشخاص الشاذين جنسياً نوادٍ ومراكز ومجمَّعات ثقافية ومكتبات ومجلات خاصة بهم، وما كنتُ لأُصدِّق لو لم أرَ عن كثب، ففي إحدى المرّات حيث كنت مدعوّاً لإلقاء محاضرة في مدينة (فيلادلفيا)، وسنحت الفرصة آنذاك للتجول في بعض مدنها ومن جملتها واشنطن، وكان ذلك في سيارة معاون أحد الوزراء، وعندما وصلت بنا السيارة إلى تقاطع يوجد بالقرب منه مكتبة جميلة جداً فقلت عندها: أُحبّ أن أُلقي نظرة على هذه المكتبة، إلا أن المعاون رفض وقال: ليس من المناسب أبداً أن نترجل من السيارة هنا، وعندما سألته عن السبب أجاب: هذه المكتبة للشاذين جنسياً!! وقد رأيت على جنب ذلك التقاطع رجالاً كثيرين يتزيّون بزيّ النساء، ويعرضون أنفسهم باللباس القصير، ومختلف الأدوات التجميلية النسائية.

هذا حال الدنيا في هذه الأيام! وقاحة وقلة حياء! فكيف الحال مع وجود وسائل الإعلام والفضائيات وشبكة الإنترنت؟ فإنّ هذه الجرثومة الأخلاقية الخطيرة ستنتشر بشكل أسرع وأسهل. ولقد دقّ علماء النفس والتربية والتعليم في دول الغرب ناقوس الخطر، وأعلنوا الجدّ في أخذ الحيطة والحذر لما يتعلمه الأطفال من أمور غير أخلاقية، ولما يرونه عبر الإنترنت من أمور مستهجنة جداً. ونرى اليوم هوليوود تضع الأفلام الجذابة الساحرة بالاستفادة من التقنيّات الحديثة، وتبثّ ذلك إلى جميع أنحاء العالم، ولا تدعو أفلامها إلا للفساد والانحطاط الأخلاقي. ويا حبذا لو ينتهي الأمر عند هذا الحد، ولا يمتد إلى ما هو أشد وأعظم خطراً وهو الخطر الفكري، فكمّا أنّ الفساد الأخلاقي في هذه الآونة ليس له مثيل، كذلك الأمر بالنسبة للفساد الفكري الرائج هذه الأيام فإنّه لم يخطر على بال أي شيطان سابق، فإن إبليس اللعين الذي يُعتبر ـ منذ خلقة نبينا آدم × إلى يومنا هذا ـ أكبر عامل فساد فكري وعقائدي للبشر، يعضُّ على أنامله تعجباً ممّا يرى من الشبهات المنحرفة والضالة التي يطرحها بعض شياطين الإنس! فقد خلقوا جوّاً سيطر على الأرجاء بحيث لو قال شخص أنا عندي يقين بأمر ما، قالوا له: يا لك من إنسان أحمق وعديم الفهم! نعم، لقد صار افتخار البشر، وبحسب الاصطلاح «علماء العصر»، بأنّ تقول: عندي شك وترديد في كلّ شيء، ولا يوجد شيء يقيني وثابت، بل ولا يوجد أيّ شيء في هذا العالم قابل للإثبات.



[1] ) سورة الحجر: 93 ـ 92.

[2] ) سورة النحل: 93.

[3] ) سورة الإسراء: 36.

[4] ) سورة الصافات: 24.

[5] ) سورة الأحزاب: 15.

[6] ) سورة التكاثر: 8

[7] )  سورة البقرة: 286.

[8] ) سورة العنكبوت: 28.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

من خالف التقية في محل وجوبها
الإمامة من خلال حديث الإمام الصادق(عليه السلام)
التوسل بأُم البنين عليها‌السلام
حقوق ودور المرأة في المجتمع
التربیة بالقصص القرآنیة
کتب ومصادر الحديث في العهد الاموي
التهاون واحتقار الذنوب
السيد محمد ابن الإمام الهادي (ع)
من معجزات النبي الاكرم صلى الله عليه و آله وسلم
المهدي المنتظر سيملك العالم كله ويكون دولة ...

 
user comment