نتناول في هذا البحث المتواضع قضية الإمامة الشرعية بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم
)، وطريقة الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) في تناولها وعرضه له.
لقد مثل مفهوم الإمامة عند أهل البيت (عليهم السلام) قضية مركزية في حركة الإسلام التاريخية, وليس لدى الإمام الصادق (عليه السلام) فحسب, إلا أن الإمام الصادق (عليه السلام) كان من أكثر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) إثارة وبلورة لهذه القضية؛ بحكم الظروف الموضوعية التي عاشها, والتي مكنته من أن يطرح كثيراً من مفاهيم الإسلام الحنيف، علانية بعد أن حاربتها السياسات الزمنية قبل عصره وفي عهده.
على إن الإمام الصادق (عليه السلام) كان قد واصل مسيرة أبيه الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) في نشر المعرفة، بعد أن بقر ذلك الإمام العظيم بطون العلم بقراً وأخرج غوامضه, وأفاضت حقائق العلم النبوي على دنيا الإنسان.
وسيكون هذا البحث المتواضع حول الإمامة الشرعية بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ضوء ما قدّمه إمام المسلمين جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) من أحاديث، وأفكار طفحت بها كتب المسلمين, ودونها المولعون بحفظ أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) وسير بحثنا هذا متدرجا حسب العناوين التالية:
مهمة الإمام (عليه السلام):
من خلال استقراء سريع لأحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) حول حيثيات الإمامة وشروطها وآفاقها العظيمة, نجد أن الإمام أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) يسلط الأضواء كاشفة على حقيقة المهام الكبرى التي ينهض بها الإمام الحق في دنيا المسلمين, مع ما يتمتع به من صفات رفيعة تؤهله للنهوض بهذه الأعباء الثقيلة. فمن خطبة للإمام الصادق (عليه السلام) يصف فيها أئمة الحق من آل محمد (صلى الله عليه وآله) ويبسط القول في مسؤوليتهم الرسالية السامية نقتطف الفقرات الآتية:
((أئمة من الله يهدون بالحق وبه يعدلون. حجج الله ودعاته ورعاته على خلقه. يدين بهديهم العباد وتستهل بنورهم البلاد وينمو ببركتهم التلاد. جعلهم الله حياة للأنام، ومصابيح للظلام، ومفاتيح للكلام، ودعائم للاسلام، جرت بذلك فيهم مقادير الله على محتومه. فالإمام هو المنتجب المرتضى، والهادي والقائم المرتجى. اصطفاه الله بذلك واصطنعه على عينه في الذر حين ذرئه وفي البرية حين برأه طلا قبل خلق نسمة عن يمين العرش, محبواً بالحكمة في علم الغيب عنده, اختاره بعلمه وانتجبهه لطهره. بقية من آدم (عليه السلام) وخيرة من ذرية نوح (عليه السلام) ومصطفى من آل إبراهيم (عليه السلام) وسلالة من إسماعيل (عليه السلام) وصفوة من عترة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). لم يزل مرعيا بعين الله يحفظه ويكلؤه بستره, مطروداً عنه حبائل إبليس وجنوده, مدفوعاً عنه وقوب الغواسق ونفوث كل غاسق, مصروفاً عنه قوارف السوء, مبرءاً من العاهات، محجوباً عن الآفات، معصوماً من الزلات، مصوناً من الفواحش كلها, معروفا بالحلم والبر في يفاعه, منسوباً إلى العفاف والفضل عند انتهائه, مسنداً إليه أمر والده صامتا في المنطق في حياته, فإذا انقضت مدة والده إلى أن انتهت به مقادير الله إلى مشيئته وجاءت الإرادة من الله فيه إلى محبته، وبلغ منتهى مدة والده, فمضى وصار أمر الله إليه من بعده، وقلّده دينه وجعله الحجة على عباده، وقيّمه على بلاده, وأيده بروحه وآتاه علمه وأنبأه فصل بيانه واستودعه سرّه وانتدبه لعظيم أمره, وأنبأه فضل بيان علمه، ونصبه علما لخلقه، وجعله حجّة على أهل عالمه وضياء لأهل دينه، والقيم على عباده، رضي الله به إماما لهم. استودعه سرّه واستحفظه علمه واستخبأه حكمته، واسترعاه لدينه وانتدبه لعظيم أمره وأحيا به مناهج سبيله وفرائضه وحدوده. فقام بالعدل عند تحير أهل الجهل)).
لم يكتفِ المسلمون بإمامة القرآن والسنّة؟
إن هذا السؤال قديم جديد, فقد طرحه بعض من المسلمين في الماضي، ويطرحه بعض المسلمين في الحاضر.
ففي المهام العظيمة التي تطرح عادة للإمام (عليه السلام) يأتي هذا السؤال: لِمَ لا نكتفي بالقرآن الكريم، وسنّة المعصوم (عليه السلام) إماماً هاديا للعباد، بعد غيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
وهذا السؤال القديم الجديد قد أجاب الإمام جعفر بن محمد (عليه السلام) عنه إجابة تعد غرة على جبين الزمان.
فالقرآن الكريم بسبب تركيبة كلامه، وأساليبه الخاصة في العرض للأفكار والأحكام والقضاء, تستطيع الخطوط الفكرية والسياسية المختلفة أن تستدل به على صحة توجيهاتها وارتباطها بالحق, إذ يستطيع المجبّرة أن يستعينوا ببعض الآيات لتبرير الكثير من أفكارهم ومتبنياتهم, كقوله تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) الذي استفادوا من ظاهره في تبرير عقيدتهم في الجبر.
كما أن بمقدور المجسّمة أن يدعموا نزوعهم لتجسيم الله عزّ وجلّ بآيات يستفاد من ظاهرها ذلك, كقوله تعالى: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) و (وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) كما يستطيع المعتزلة أن يبرروا نظرية الإرادة المطلقة التي يعتقدونها بالنسبة لعموم البشر من خلال قوله تعالى: (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)
والأمر بالنسبة للسنّة الشريفة أعقد، لا سيما بعد شيوع ظاهرة الوضع، والتزوير التي طالت المتن، والسند معاً, حتى اختُلق لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صحابة لا أصل لوجودهم في شجرة البشرية.
ومن أجل ذلك كان وجود القيّم الحي على القران الكريم، ضرورة لا بد لحماية هذا الدين السماوي الخاتم. وإليك ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن هذا الموضوع.
عن يونس بن يعقوب، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام)، فورد عليه رجل من أهل الشام, فقال: إني رجل صاحب كلام، وفقه، وفرائض، وقد جئت لمناظرة أصحابك, فقال أبو عبدالله (عليه السلام) ـ والحديث طويل ناخذ منه موضع الحاجةـ:(( كلّم هذا الغلام)) ـ يعني هشام بن الحكم، وكان أصغر أصحاب الإمام سنّاًـ ، فقال هشام بن الحكم للشامي: يا هذا أربك أنظر لخلقه أم خلقه لأنفسهم؟ فقال الشامي: بل ربي أنظر لخلقه, قال: ففعل بنظره لهم ماذا؟ قال: أقام لهم حجّة، ودليلاَ كي لا يتشتتوا، أو يختلفوا, يتالفهم، ويقيم اودهم، ويخبرهم بفرض ربّهم. قال: فمن هو؟ قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال هشام: فبعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: الكتاب والسنّة. قال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب، والسنة في رفع الاختلاف عنّا؟ قال الشامي: نعم. قال: فلِمَ اختلفنا أنا وأنت، وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياك؟ قال: فسكت الشامي, فقال أبو عبدالله (عليه السلام) للشامي: ((مالك لا تتكلم؟)) قال الشامي: إن قلت: لم نختلف كذبت, وإن قلت: إن الكتاب والسنة يرفعان عنّا الاختلاف أبطلت، لأنهما يحتملان الوجوه, وإن قلت: قد اختلفنا، وكل واحدٍ منّا يدّعي الحق، فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنّة, الاّ أن لي عليه هذه الحجّة, فقال أبو عبدالله (عليه السلام): ((سله تجده مليّاً)), فقال الشامي: ياهذا, مَنْ أنظر للخلق أربهم أو أنفسهم؟ فقال هشام: ربهم أنظر لهم منهم لأنفسهم, فقال الشامي: فهل أقام لهم من يجمع لهم كلمتهم، ويقيم أودهم، ويخبرهم بحقهم من باطلهم؟ قال هشام: في وقت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الساعة؟ قال الشامي: في وقت رسول الله, والساعة من؟ فقال هشام: هذا القاعد الذي تُشدّ إليه الرحال، ويخبرنا بأخبار السماء، والأرض وراثة عن أب عن جد. قال الشامي: فكيف لي أن أعلم ذلك؟ قال هشام: سله عمّا بدا لك. قال الشامي: قطعت عذري فعليّ السؤال. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ((يا شامي, أخبرك كيف كان سفرك، وكيف كان طريقك؛ كان ...)). فأقبل الشامي يقول: صدقت. أسلمت لله الساعة. فقال أبو عبدالله (عليه السلام):(( بل آمنت بالله الساعة. إن الإسلام قبل الإيمان وعليه يتوارثون ويتناكحون, والإيمان عليه يثابون)), فقال الشامي: صدقت، فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) رسول الله، وأنك وصي الأوصياء .
من مات وليس له إمام هدى مات على ضلال:
من مبادئ هذا الدين التي يتبناها المسلمون جميعا، إنه لا بدّ للمسلم من إمام يقتدي به، ويسلك دربه، ويستنير بهداه. ولدى المسلمين أحاديث رووها بطرقهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الشان. والمسلمون وإن اختلفوا في المصاديق، أي فيمن يكون إماماً، ويستحق هذا الموقع الحسّاس في دنيا المسلمين, إلا أنهم متفقون على وجود هذا المبدأ من الناحية النظرية على الأقل.
وهذه الحقيقة الإعتقادية يرسّخها أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في أذهان المسلمين, لأنها جزء من الحق الذي يحرصون على إرساء دعائمه، وقواعده في عقول المسلمين وأفكارهم.
وقد حرص الإمام الصادق (عليه السلام) على ترسيخ هذه اللبنة في البناء العام؛ لإطروحة الإمامة الشرعية في أذهان المسلمين.
فعن الفضيل بن يسار قال: ( ابتَدَأنا أبو عبدالله (عليه السلام) يوماً وقال: ((قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من مات وليس له إمام فميتته ميته جاهلية)), فقلت: قال ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال:(( أي والله قد قال)). قلت: فكل من مات وليس له إمام فميتته ميته جاهلية؟ قال:(( نعم)) .
عن ابن أبي يعفور قال: ( سالت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((من مات وليس له إمام فميتته ميته جاهلية)). قال: فقلت: ميتة كفر؟. قال:(( ميتة ضلال)). قلت: فمن مات اليوم، وليس له إمام فميتته ميتة جاهلية؟ فقال:(( نعم))
الإمامة عهد رباني إلى الخلق:
ومن دعائم الإمامة الشرعية، أن تكون عهداً ربانياً يتلقاه العباد؛ تبليغاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يبلغ العباد بسائر الأحكام الرئيسية التي يصدع بها النبي المرسل (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويدعوا قومه إليها, وكما كشف كثير من أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وآثاره عن تلك الحقيقة رأى الإمام أبو عبدالله الصادق (عليه السلام) لزاماً عليه أن يدل الناس على ذلك, وهذه بعض أقواله بهذا الشان:
عن عمرو بن الأشعث قال: ( سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: ((أترون الموصي منّا يوصي إلى من يريد! لا والله ولكن عهد من الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لرجل فرجل حتى ينتهي الأمر إلى صاحبه)).
وعن معاوية بن عمار, عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: ((إن الإمامة عهد من الله عزّ وجلّ معهود لرجال مسمين. ليس للإمام أن يزويها عن الذي يكون بعده)).
الأئمة صنفان:
وكما أن الرسول الحق يصده مدعٍ للرسالة والنبوة, وهو من الامتحانات التي تَعَرَضَ لها العباد منذ بدايات عصر النبوة، كذاك الحال بالنسبة للإمامة, فمع ظهور إمام للحق، لا بد أن يظهر إمام للباطل، يدعوا الناس إلى باطله، ويتلبّس بلباس الحق ليوهم العباد، ويصدّهم عن الله عزّ وجلّ.
وقد ازدحم تاريخ الرسالات – ولا سيما تاريخ المسلمين منذ بداية عصره, بأئمة الضلال, ومن أجل ذلك نصّ القرآن الكريم على هذه الحقيقة، وأشار إلى أن الأئمة صنفان: صنف يهدي إلى الحق، وصنف يدعو إلى النار (وَجَعَلْنَاهُمْ أئمةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) ، (وَجَعَلْنَاهُمْ أئمةً يَدْعُونَ إلى النَّارِ).
وهكذا اهتم أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بتثقيف الأمة، وفتح قلوب أبنائها لهذه الحقيقة؛( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ ), ولكي لا يضل الناس في ضجيج الادعاء المستطيل من أئمة السوء وقادة الضلال.
ولهذا رسّخ أبو عبدالله الصادق (عليه السلام) أبعاد هذا المفهوم مرشداً ومحذّراً بقوله: ((إن الأئمة في كتاب الله عزّ وجلّ إمامان, قال الله تبارك وتعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أئمةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) لا بأمر الناس، يقدمون أمر الله قبل أمرهم، وحكم الله قبل حكمهم. قال: (وَجَعَلْنَاهُمْ أئمةً يَدْعُونَ إلى النَّارِ) يقدمون أمرهم قبل أمر الله، وحكمهم قبل حكم الله، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عزّ وجلّ)).
وعن أبي جعفر الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قال: ((لما نزلت هذه الاية (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) قال المسلمون: يا رسول الله ألست إمام الناس كلهم أجمعين))؟ قال:(( فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنا رسول الله إلى الناس أجمعين، ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من الله من أهل بيتي, يقومون في الناس فيكذبون، ويظلمهم أئمة الكفر، والضلال، وأشياعهم. فمن والاهم واتبعهم وصدّقهم فهو منّي، ومعي وسيلقاني, ألا ومن ظلمهم وكذّبهم فليس منّي ولا معي وأنا منه بريء))
إذن بم يثبت إمام الحق؟
وإذا كان الاهتداء إلى الإمامة الشرعية من الأمور التي يحيط بها الكثير من العقبات، والأشواك كما لاحظنا, فما سبيل الإسلام الحنيف إلى الإرشاد إلى أئمة الهدى ياترى؟
لقد أطنب المتخصصون بعلم العقيدة من أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في توضيح هذه المسالة ودراستها؛ حتى ألف المحدث الأكبر الحر العاملي كتابا ضخماً أسماه ( إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات), وأفرد الكثير من العلماء والعارفين فصولاً هامة في مؤلفاتهم للحديث حول كيفية إثبات الإمام الحق، والادلة على معرفته, ويذكرون لذلك أمرين أساسيين هما الوصية أو النص, والمعجزة. كما يذكرون أموراً أُخرى هامة. وقد اهتم أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في تبيان هذا الأمر، وتسليط الضوء عليه. وكان الإمام أبو عبدالله الصادق (عليه السلام) قد أعطى أولوية لهذا الموضوع في كثير من أحاديثه عن عبد الأعلى قال: ( قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): المتوثب على هذا الأمر المدعي له ما الحجّة عليه؟ قال: ((يسأل عن الحلال والحرام)). قال: ثم أقبل عليّ فقال:(( ثلاث من الحجّة لم تجتمع في أحد إلا كان صاحب هذا الأمر: أن يكون أولى الناس بمن كان قبله ويكون عنده السلاح ويكون صاحب الوصية الظاهرة التي إذا قدمت المدينة سالت عنها العامة والصبيان: إلى من أوصى فلان؟ فيقولون: إلى فلان ابن فلان)).
الأئمة شهداء الله على خلقه:
ومن خواص الأئمة من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنهم شهداء الله تعالى على خلقه, وحججه في أرضه وعلى عباده. وقد وردت حول هذه الحقيقة طائفة من الأحاديث من أهل البيت (عليهم السلام) كالوارد عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) والإمام محمد الباقر (عليه السلام) والإمام الكاظم (عليه السلام). وقد تحدث الإمام الصادق (عليه السلام) غير مرّة حول هذا المفهوم.
قال (عليه السلام) في قول الله عزّ وجلّ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا) قال: (( نزلت في أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة في كل قرن منهم إمام منّا شاهد عليهم، ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) شاهد علينا)).
وعن بريد العجلي قال:( سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) قال: نحن الأمة الوسطى، ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه)). قلت قول الله عز وجل: (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) قال: إيانا عنى خاصة (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ) في الكتب التي مضت وفي هذا القران (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الشهيد علينا بما بلغنا عن الله عزّ وجلّ, ونحن الشهداء على الناس فمن صدق صدقناه يوم القيامة، ومن كذب كذبناه يوم القيامة)).
أئمة أهل البيت هم الهداة إلى الله عز وجل:
ومن الخصائص الذاتية لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، أنهم الهداة إلى الله تعالى بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهم حبل الله المتين وصراطه المستقيم, ومثلهم في هذه الأمة كسفينة نوح (عليه السلام) من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى, وهم الصراط المستقيم المتصل بالله عزّ وجلّ بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهم كهف الأنام وهم الملاذ، وهم الموئل.
وإذا تتبعنا القرآن الكريم وسنّة المعصوم (عليه السلام) لوجدنا من النصوص ما لا يحصى كثرة، تؤكد عوامل كونهم الهداة إلى الله تعالى دون سواهم, إذ هم المطهرون من الرجس، وهم نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهم قرباه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصله وعترته, وهم الراسخون في العلم, وهم الصادقون الذين دعا الله تعالى عباده للكون معهم, وهم ترجمان الوحي وباب مدينة علم الله, وهم صنو القرآن الكريم (بنص حديث الثقلين).
إن هذه الحقائق الناصعة التي اختص بها آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هي التي دعت الرسالة الإسلامية أن تمنحهم صفة الهداة إلى الله تعالى دون سواهم. وقد عبرت السنة الحق عن ذلك تصريحا ودلّت الناس إليه, فقد روى أبو بصير أنه قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) فقال:(( رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المنذر، وعلي الهادي. يا أبا محمد, هل من هادٍ اليوم؟)) قال: بلى جعلت فداك. ما زال منكم هاد بعد هاد حتى دفعت اليك, فقال:(( رحمك الله يا أبا محمد، لو كانت إذا نزلت آية على رجل، ثم مات ذلك الرجل، ماتت الآية مات الكتاب، ولكنه حيّ يجرى فيمن بقي، كما يجرى فيمن مضى)).
الأئمة هم خلفاء الله في أرضه وولاة أمره في عباده:
والأئمة من آل البيت (عليهم السلام) هم خلفاء الله في أرضه بعد النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، والأنبياء، والأوصياء السابقين الذين عناهم الله عزّ وجلّ بقوله: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرضِ خَلِيفَةً) فخليفة الله تعالى في أرضه، وعباده من يحمل مؤهلات الخلافة بحق؛ لكي يكون حاملا لوظيفة (خليفة الله) في الأرض, وفي إقامة حدود الله وإجراء شرعه في عباده.
ولقد خاطب الله عزّ وجلّ رسوله إبراهيم (عليه السلام) بقوله: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
فإمام العباد الذي يحمل صفة الخلافة لله عزّ وجلّ من أبرز صفاته أن لا يكون ظالما لنفسه، ولا للآخرين, وإذا ظلم الآخرين، يعني الإعتداء على حقوقهم أو التقليل من شأنهم أو غير ذلك, فإن أوضح مصاديق ظلم العبد لنفسه، الشرك بالله (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) وعدم تهذيبها بقيم السماء، وخضوعها للهوى، والشيطان، وما إلى ذلك.
ومن أجل ذلك لا بد لإمام العباد، وخليفة الله تعالى فيهم، أن يكون منزّهاً من الأثام، طاهراً من الرجس، معصوماً عن الهوى والشيطان (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أهلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا).
ولقد كان الأئمة من آل البيت (عليه السلام) المصداق الحي لخلافة الله تعالى بعد النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، لمؤهلات أشرنا لبعضها، وسنعرض بعضا منها فيما يأتي من حديث.
ومن أجل ذلك أعلن الأئمة (عليهم السلام) هذه الحقيقة جهاراً؛ حتى قال أبو عبدالله الصادق (عليه السلام): ((نحن ولاة أمر الله، وخزنة علم الله، وعيبة وحي الله)). وقال حفيده الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): ((الأئمة خلفاء الله عزّ وجلّ في أرضه)).
الأئمة هم الصادقون:
في كتاب الله تعالى آية تدعو المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين, ويقفوا تحت رايتهم, ويتمسكوا بخطّهم, ويقتفوا آثارهم. فمَنْ هؤلاء الصادقون الذين يُدعى المؤمنون للكون معهم؟
نقل السيوطي في دره المنثور في تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)
عن ابن مردويه عن ابن عباس: ( أي كونوا مع علي بن أبي طالب) ونقل مثله عن ابن عساكر عن محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وذكر أخطب خوارزم المحدّث موفق بن أحمد الحنفي بسنده عن ابن عباس قال: (الصادقون محمد وأهل بيته)، وقد أورد صاحب ينابيع الموده الشيخ سليمان الحنفي القندوزي مثل ذلك عن أبي نعيم عن الصادق (عليه السلام)، وفيها وفي مناقب موفق بن أحمد الحنفي عن الرضا والباقر (عليهما السلام) قالا: ((الصادقون هم الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) )). وفي الكافي عن الإمام الباقر (عليه السلام) في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) قال: ((إيّانا عنى)).
وعن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) قال: ((قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من أراد أن يحيا حياتي، ويموت ميتتي، ويدخل جنة عدن التي غرسها الله ربي بيده, فليتولَ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وليتولَ وليه، وليعادَِعدوه، وليسلم للأوصياء من بعده, فإنهم عترتي من لحمي ودمي، أعطاهم الله فهمي وعلمي. إلى الله أشكو أمر أمتي، المنكرين فضلهم، القاطعين فيهم صلتي. وأيم الله ليقتلنّ أبني . لا أنالهم الله شفاعتي)).
وتدل الآية الكريمة – فيما تدل – على عصمة الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، لأن الصدق المقصود هنا هو الصدق في الأقوال والأفعال لكونه مطلقاً, ولو كان غير ذلك لما جازفت الآية الكريمة بفرض اتباعهم على سائر المؤمنين في كل عصر وجيل. وتمثل الآية دعوة صريحة دالة على وجوب اتباع المسلمين هؤلاء الصادقين, والاندماج بخطّهم, والكون معهم دون غيرهم.
هذه بعض الحيثيات الهامة التي تعامل من خلالها حديث الإمام أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) لإيضاح قضية الإمامة الشرعية بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).