بتسارع التحولات الاقتصادية والاجتماعية وازدياد الضغوط السياسية والثقافية في أوائل الخمسينات وما بعدها بدت بوادر ظهور مرحلة تاريخية اُخرى تختلف عن سابقتها من ناحية الميول الفكرية والثقافية والرغبات الاجتماعية والدعوات السياسية ونظام القيادة، فقد حطّمت سرعة التحولات الاقتصادية والصناعية جدران المجتمعات التقليدية المغلقة مما عرّضها للتيارات الفكرية والفلسفية والعلمية الجديدة، وجعلها حسّاسة وغاضبة تجاه الاحتقار المباشر أو غير المباشر الذي كان يوجّه لتراثها وثقافتها ودينها.
وأدّى تمركز المجتمعات في المدن الكبيرة وتطور وسائل الإعلام وتعميم التعليم والتربية وزيادة التضادّ الطبقي وضعف أو انهيار التقاليد والعوامل التي تحدد مكانة الفرد في المجتمع إلى حصول وضع جديد قاد في النهاية إلى زعزعة مكانة النخبة المتجددة الحاكمة وأفكارها ومآربها التي كانت تبدو وكأنها راسخة لا تحرّكها الهزاهز([1]).
أمّا كيف تم هذا التحول؟ وكيف بدأت المرحلة التالية؟ وكيف اندثرت الأرضية الاجتماعية والثقافية لتلك السلطة المطلقة؟ ولِمَ ظهر هذا الاتجاه؟ وأين برزت قوته؟ فهي أسئلة تحتاج إلى أجوبة مفصّلة لسنا بصدد ذكرها الآن، والمهم هو أن هذه المرحلة بدأت قبل عقدين أو ثلاثة، بتقدم وتأخر وشدة وضعف حسب المناطق – كما قلنا – وظهرت مؤشّراتها خلال العقد الماضي، ومن خصائصها المهمة: "البحث عن الأصالة" و "الانفصالية".
وبعبارة ثانية: فإنّ الهدف الذي تتوخّاه هو العودة إلى الأصالة القومية والوطنية والدينية والعنصرية واللغوية والثقافية والمميّزات التاريخية، حتى لو استلزم الأمر نوعاً من التجزئة([2]).
ويمكن رؤية مظاهر بروز هذه المرحلة في الكثير من دول العالم الثالث، فالاضطرابات الاجتماعية والسياسية التي ترتبط بالظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية فيها ناتجة عن ظهور هذه المرحلة الجديدة، ويمكن أيضاً أن نصنّف الحركة الإسلامية في العقد الأخير ضمن هذه المرحلة([3]).
تختلف المرحلة الجديدة عن سابقتها اختلافاً كبيراً، سواء من ناحية طبيعتها، أو من جهة أرضيتها الاجتماعية والثقافية وأهدافها واتجاهاتها، فقد جاء ظهور المرحلة الاُولى كنتيجة للتماسّ مع الثقافة الجديدة والعدول عن مسير التاريخ الماضي والسعي لتكييف المجتمع مع هذه الثقافة، وعلى الأقل في الاُمور التي ترتبط بأصحاب السلطة والقرار.
أما المرحلة الجديدة فقد جاءت كردّ فعلٍ على هذا التوجّه الذي لم يكن يفكر بشيء سوى التبعية والتغرّب اللامحدود، ومحاولة للعودة إلى الأصالة رغم الثمن الذي كان لابد وأن يدفع غالياً لهذه العودة. في تلك المرحلة أمسكت النخبة المتغربة بزمام الاُمور وعاش الناس عملياً على هامش الحياة، بينما عادت الاُمور في هذه المرحلة ليمسك بها الشباب، ودخلت الجماهير الحياة الاجتماعية والسياسية بصورة فعّالة.
على الرغم من التباين الكبير بين المرحلتين إلا أنّ ظهور المرحلة الثانية كان نتيجة طبيعية ومنطقية لحاكمية المرحلة الاُولى، فحينما دخلت المدنية الجديدة العالم الثالث سلبت الألباب بحيث فقدت الناس مقاومتها إزائها، فانجرّت مجموعة صغيرة نحوها، واتخذ عامة الناس موقف المتفرِّج حيالها دون إبداء أي ردّ فعل حادٍّ تجاهها وفضّلوا الصمت، ولم يكن هذا بمعنى الاستسلام التام لها، لاسيما في المناطق ذات الثقافة والحضارة العريقة، بل إنما دخلت الجماهير في حالة من الكُمون ولم تخرج منها حتى العقدين أو الثلاثة الأخيرة، وكان خروجها منها طليعة ظهور المرحلة الثانية.
على أية حال كان لابدّ من أن يمرّ وقت ليس بالقصير، وتطرأ بعض التحولات، وتُكسب بعض التجارب، وتنمو روح مجابهة الواقع السلبي، وجرأة الوقوف بوجه التيار الحاكم لكي يحصل مثل هذا التطور الكبير، لكنّ التطورات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة في الكثير من بلدان العالم الثالث وفّرت في الحقيقة أفضل الفرص لظهور المرحلة التاريخية الثانية. فالشابّ وهو يترعرع في مجتمع تقليدي يفتقر لأدنى الخصائص اللازمة التي تؤهّله للوقوف بوجه القوة الحاكمة وثقافتها ونظام قيمها، ولربما يدفعه الإيمان والصلابة والتعصب للإقدام على عمل ما، لكن لا يمكن لهذا الإقدام أن يستبدل إلى تيار يقترن بظهور مرحلة تاريخية جديدة.
وكمثال على ذلك: حركة السِيخ التي جابهت الحكومة المركزية بشدة منذ أوائل الثمانينات، فوجودها مرهون بالتحولات الكبرى في المجتمع الهندي خلال العقود الأخيرة وكيفية تخطيط الساسة الهنود. ولا ريب في أنّ مثل هذه الحركة لم تكن ترى النور، أو – على الأقلّ – لم تكن بمثل هذه القوة لو توفّرت لها كل العوامل الاُخرى سوى العامل الأخير([4]).
يمكن تحليل وجود الحركة الإسلامية الحالية كمَعْلم سياسي ديني للمرحلة التاريخية الثانية بلحاظ ما ذكرناه أعلاه، رغم أنّ هذه الحركة تتميز بعمق وشمولية غير متوفّرة في الحركات السياسية المشابهة لها في المناطق غير الإسلامية من العالم الثالث، ويعود سبب هذه الميزة إلى طبيعة الإسلام نفسه وحضارته.
فالإسلام كدين وعقيدة وحضارة وكتراث ثمين يبعث على الفخر يؤلِّف الهوية التاريخية والحاضرة للمسلمين، وقد تعرّض للانتقاد والهجوم والعدوان بصورة مستمرة منذ أن اتصلت المجتمعات الإسلامية بالمدنية الجديدة. ورغم أنّ المسلمين أبدوا ردود فعل معينة إزاء هذه الهجمات حسب الظروف التي أحاطت بهم بيد أنّ هذه الردود لم تتقدم إلى حدِّ طرد سلطة الفكر والنهج المتغرّب الحاكمة في المجتمعات الإسلامية، وإذا وجدت بعض الحالات الشاذة فإنها كانت محدودة قليلة الأهمية نابعة من التعصّب الديني، وليس من البلوغ الفكري والثقافي والاجتماعي.
والطريف في الأمر أنّ سيطرة الغرب خلال هذه المدة بلغت حدّاً بحيث كان يستعان به حتى في الدفاع عن الإسلام وردّ الاتهامات الموجَّهة إليه، فيُسـتدلّ –مثلاً– على صحة الإسلام وكونه حقّاً لانسجامه مع معايير المدنية الجديدة! وقد بذلت كل الجهود في هذه المدة لإثبات مسايرة الإسلام لهذه المدنية وتكيّفه معها لإضفاء الشرعية على وجوده([5]).
استمرت هذه الظروف إلى حدود الستينات، لكنّ مجموعة من العوامـل –يطول بنا المقام لو أردنا الخوض فيها– دفعت المسلمين ولا سيما الشبّان وطلبة الجامعات إلى طريق آخر حالهم في ذلك حال زملائهم في العالم الثالث ولكن بسرعة أكبر، وبهذا بدأت المرحلة الثانية، والتي ظهرت مبكّراً في البلدان التي شهدت تحولات اقتصادية واجتماعية وفكرية وثقافية سريعة، وتعرّضت الثقافة الإسلامية فيها إلى هجوم وضغوط متزايدة، وكانت أكثر قوة وعمقاً، وتركت تأثيرها على المناطق الاُخرى تبعاً لتوفّر الأرضية الاجتماعية والفكرية والدينية والنفسية فيها وانسجامها مع المرحلة الجديدة([6]).
التحّولات في الكتلة الشرقية:
من المناسب أن نشير هنا إلى تحولات الكتلة الشرقية التي تأثّرت بالحقائق والدعوات الثقافية والقومية والدينية لشعوب تلك المنطقة، ورغم أنّ الأسباب التي جرّت هذه الكتلة للعودة إلى أصالتها تختلف عن العلل التي تقود العالم الثالث نحو أصالته الوطنية والثقافية والدينية، لكن لا ينكر بأن الاثنين يتابعان حالياً أهدافاً فيها أوجه شَبَهٍ في هذا المجال، وأكبر الظنّ أنّ نجاح أيٍّ منهما في تحقيق أهدافه سيؤدي إلى إثارة الآخر وتحريكه، ولاشكّ في أنّ دعوات المطالبة بالحكم الذاتي لبعض المجموعات القومية والعرقية المنضوية تحت مظلّة تلك الكتلة والتي تصل أحياناً إلى حد المطالبة بالانفصال والاستقلال تؤجّج نيران البحث عن الأصالة والذات لدى شعوب العالم الثالث([7]).
لنرَ الآن ما هي القضية؟ وكيف بدأت؟
مثلما هو حال التحولات الموجودة في العالم الثالث والناتجة بشكل رئيسي عن ظهور مرحلة تاريخية جديدة في حياة بلدانه فإنّ التحولات السريعة والعميقة في الكتلة الشرقية خلال الأعوام الأخيرة كانت مظهراً من مظاهر تاريخ جديد أطلّ منذ مدة وسيستمر.
ويكمن الفارق الرئيس بين هاتين المرحلتين: في أنّ المرحلة التاريخية الاُولى ترتبط بالعالم الثالث وتاريخه، وستبقى محدودة في هذا الإطار لأسباب مختلفة يعود معظمها إلى التخلّف الصناعي والسياسي والعسكري. أمّا المرحلة التاريخية الأخيرة فرغم انحصارها حالياً في حدود الكتلة الشرقية إلا أنّ نتائجها ستتجاوز حدودها كثيراً وتؤدّي إلى تحوّل عظيم وعميق في كل التاريخ المعاصر؛ ذلك لأنّ بعض علل ظهورها له أسباب عالمية ترتبط بالتحولات السريعة في الصناعة وما بعد الصنـاعة – سواء في مجال التقانة العسكرية أو غير العسكرية – لعقدَي السبعينات والثمانينات في البلدان المتطورة([8])، ولأن هذه الكتلة كانت تمثِّل أحد الشريكين الكبيرين للسياسية الدولية.
المهم هنا هو معرفة خصائص هذه المرحلة وكيفية ظهورها وأسباب ذلك، فقد أشرنا إلى وجود عوامل عديدة في ظهور هذه المرحلة، ونهدف هنا إلى دراستها في حدود علاقتها بالحقائق الثقافية بمفهومها العام.
يستلزم معرفة هذه الخصائص وأسباب ظهورها اتضاح بداية التاريخ الجديد، وكيفية نفوذه ورسوخه في البلدان التي لم تمارس دوراً في تكوينه – المقصود بها تلك البلدان التي ألّفت بمجموعها فيما بعد الكتلة الشرقية – وكيفية اجتذابه ونشاطه والتغيرات التي نتجت عنه، وكيفية تعامله مع الثقافات والحضارات التقليدية والتراث القومي واللغوي والديني، وبشكل عامٍّ كل عوامل بناء الهوية التاريخية والوطنية والقومية لسكان تلك المنطقة، والأهمّ من كل ذلك هو موقف السلطة الحاكمة على المجتمع منه، وأدائها في التنمية والإعمار الصناعي والاقتصادي والاجتماعي، وأخيراً علاقتها مع الثقافة المحلّية وهل أنها تجاهلتها تماماً ولم تفكر بسوى الثقافة الجديدة وإلزاماتها، أو أنها فسحت المجال لنموّ الثقافة المحلية ولم تنظر إليها نظرة العدوّ المنافس؟([9]).
إنّ دراسة هذه القضايا تلقي ضوءاً على جذور الكثير من تحولات اليوم والغد، ورغم أنّ الكتلة الشرقية بدأت تحولاتها لأسباب أكثر وضوحاً ومعظمها سياسية واقتصادية وصناعية إلا أنّ هذه التحولات أو الطاقة الكامنة في الدعوات التغييرية باعتبارها عاملاً لهذه التحولات كان عليها أن تسير في مجاريها الطبيعية، وكان من أفضل هذه المجاري مجرى الرغبة بالأصالة، فتَحْت غطاء هذه الدعوة تبرز هذه التحولات في الاُمور التي ترتبط بالناس، وربما احتفظ هذا الغطاء الذي يلعب دوراً مؤثراً في التحولات الاجتماعية والسياسية الحالية بأهميته في المستقبل.
لنقل بوضوح: إنّ المدنية الجديدة تكوّنت بدءاً في الأجزاء الاُوروبية الجنوبية ثم في غرب اُروبّا، وكانت ثمرة طبيعية للتطورات المختلفة التي شملت عامة بلدان اُروبّا الغربية في قرون ما بعد عصر النهضة، وفضلاً عن أنها قد تجاوزت مراحلها التاريخية المختلفة في هذه المناطق فإنّها كانت تتناسب مع الظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية لتلك المناطق، كما أنها كيّفت الظروف الموجودة بحيث تنسجم معها، وهذه المدنية هي ثمرة تلك الشجرة وقد انسجما معاً بصورة كاملة.
التنمية غير المتجانسة وغير المبدعة:
لم يحصل هذا الانسجام والتكيّف واجتياز المراحل المختلفة في المناطق الاُخرى ومنها اُروبّا الشرقية والاتحاد والسوفيتي مثلما كان عليه في اُروبّا الغربية رغم أن بعض بلدان اُروبّا الشرقية كتشيكوسلفاكيا وألمانيا الشرقية، وكذلك هنغاريا وبولندا إلى حدّ ما كانت في القرن الماضي والحاضر وإلى قبل سيطرة الشيوعيين ضمن اُروبّا الغربية، أو أنّ ثقافتها على الأقلّ كانت ضمن دائرة ثقافة اُروبّا الغربية أو متأثرة بها مباشرة وبصورة تدريجية، أمّا بقية بلدان اُروبّا الشرقية فهي لا تشترك مع اُروبّا الغربية لا جغرافياً ولا ثقافياً.
يصحّ هذا القول أيضاً على الاتحاد السوفيتي [سابقاً]، إذ كانت تمثّل هذه الدولة بحدّ ذاتها قارة واسعة تضمّ أجزاءً كبيرة من قارتي اُروبّا وآسيا، وشملت على قوميات وثقافات مختلفة، فسكان الأجزاء الغربية من غير الروس يمتازون بثقافة وخصوصيات شبيهة بسكان اُروبّا الغربية والبلقان، وسكان النواحي الأسيوية فيها يمتازون بصفات مماثلة لصفات سكان آسيا الوسطى وأقصى آسيا وحتى آسيا الغربية([10]).
رغم أنّ دخول المدنية الجديدة إلى هذه البلاد لم يكن بنفس صعوبة دخولها إلى دول العالم الثالث وخاصة في البلدان التي تتمتع بثقافة محلية حية وقوية، إلا أنّ ذلك لم يمرّ عبر طريق معبّد، ولكنّها عقبات ليست على شاكلة عقبات الكثير من بلدان العالم الثالث التي تتركز في تضادّ القيم وطبيعة الثقافة السائدة وتناقضاتها مع ثقافة المدنية الجديدة، وقبل أن يرجع السبب إلى هذا الأمر فإنّه يعود إلى كيفية البناء والإعمار في المجتمع في المجالات الصناعية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة وصولاً إلى المدنية الجديدة.
فقد أخذت الأنظمة الشيوعية الحاكمة على هذه البلدان – وباعتبارها رائدة المدنية الجديدة – على عاتقها مسؤولية التنمية الصناعية وتحديث مجتمعاتها، وشكّل تسلّح هذه الأنظمة بالقيم الجديدة المتبلورة والمتجلّية في الماركسية – حسب رأيها – والقدرة العسكرية والسياسية والاقتصادية المتمركزة فيها حائلاً أمام بروز الثقافات المحلية والقومية والدينية على ما هي عليه. فلم يكن المجال مفسوحاً أمام هذه الثقافات إلا أن تُقدِّم تحليلاً منسجماً مع منطق الديالكتيك الماركسي والاعتراف به كأفضل وأصحّ تحليل وأن تعمل به.
بعبارة اُخرى فإنّ اعتبار الماركسية معياراً لمعرفة الحقيقة وتصويرها على أنها أفضل الحلول وأنجعها وآخرها، والتبليغ لهذه الفكرة بالإرهاب والتهديد قد أدّى بالثقافات الحية الموجودة إلى دخول حالة الكمون قسراً دون أن تستطيع الماركسية أن تقضي عليها تماماً أو تضعفها([11]).
وقد أدّى غياب حصّة فعّالة عامة لبعض بلدان الكتلة الشرقية في تكوين المدنية الجديدة وإنمائها، والتضادّ مع هذه الثقافة أحياناً، وغياب تجربة مفيدة وبنّاءة في هذا المجال، وهيمنة هذه الثقافة في قالب الماركسية – وهي بذاتها من تجلّيات الثقافة الجديدة حسب ما اقتضته أوضاع اُروبّا الغربية في أواسط القرن التاسع عشر([12])– من قِبَل الدكتاتوريات العسكرية والسياسية، كل ذلك أدى بالثقافات الإقليمية والمحلية إلى التزام الصمت أو قسرها عليه دون أن تتوفّر لها فرصة إبراز وجودها وإدراك الوضع السائد والانطباق معه.
كان لضغوط الحكومات المركزية دور في إبداء المرتبطين بهذه الثقافات حساسية تجاه تراثهم، ومن ناحية ثانية فإن التحولات الصناعية والاقتصادية الموجودة كانت ترسّخ أرضية التفكير بالذات وبالهوية الذي تجلّى بهذه الحساسية. وقد سبق أن ذكرنا أن التحولات الصناعية والاقتصادية – وعلى عكس ما يتصور البعض – تزيد في الكثير من الحالات وعلى المدى البعيد ارتباط الناس وخاصة جيل الشباب بتراثه الديني والتاريخي والثقافي.
وقبل أن تستطيع عامة هذه البلدان أن تجرّب التاريخ الجديد في ظلّ المدنية الحديثة، وتتعلم التفكير بالمصالح الوطنية إلى جانب التعايش بعيداً عن ضغوط الأنظمة الديكتاتورية الحاكمة المسلحة بعقيدة كانت تدّعي أنّها ستؤسس الجنة الموعودة على الأرض، اضطرّت إلى إعادة تكوين أنفسها على أساس عقيدة تتّسم بخصائص ماركسية، ولم تقترن التنمية الصناعية والاقتصادية فيها مع تنمية اجتماعية وثقافية تستطيع أن تعزِّز التضامن الوطني مع الحفاظ على التراث القومي([13]).
وبطبيعة الحال لم يكن المجال مفسوحاً لبروز هذه المشكلة طالما كانت القبضة الحديدية مسلطة، ولكن ظهرت الحقيقة للعيان فور أن رُفعت بعض الضغوط. وهذا يوضّح أحد أهم أسباب عدم وجود اضطرابات في بلدان اُروبّا الشرقية الأكثر تطوراً من الناحية الصناعية، فإن تطور هذه البلدان مرهون بمرحلة ما قبل الحكم الماركسي، وهذا يعني أنها جرّبت المدنية الجديدة في محيط أكثر حرية قبل تسلط هذا الحكم، ونالت وحدتها الوطنية والاجتماعية المطلوبة من خلال هذه التجربة.
وبالطبع فإننا لا نهدف تجاهل دور العوامل الاُخرى، وإنما أردنا أن نقول بأن نمو هذه البلدان الصناعي والاقتصادي وبلحاظ تحققه في محيط يتوفر فيه قدر أكبر من الحرية اتّسم بالعمق والجدّية من جهة، واستطاع أن يولِّد وحدة وطنية واجتماعية أكثر تماسكاً من جهة اُخرى.
ويمكن ملاحظة عكس هذا الوضع في الميول الاستقلالية لجمهوريات الاتحاد السوفيتي والمقاطعات اليوغسلافية، وكذلك الاضطرابات القومية في رومانيا وبلغاريا، وينطبق هذا الأمر أيضاً على رغبات الجمهوريات الجنوبية في الاتحاد السوفيتي، رغم أنّ آلية عمل هذه الرغبات في الجمهوريات المذكورة يختلف مع آلية عملها في جمهوريات حوض البلطيق، ويعود هذا الاختلاف إلى أنّ الإسلام الذي يدين به سكان الجمهوريات الجنوبية يحمل قيماً متفاوتة بل ومتضادة مع قيم الثقافة الجديدة وتراث الماركسية من ناحية، وإلى الجوهر الثقافي الذي جاء به هذا الدين من ناحية ثانية([14]).
فقد ترعرعت ثقافة حوض البلطيق في أحضان المسيحية وبشكل رئيسي المذهب الكاثوليكي، ولهذا انسجمت مع الثقافة الجديدة أكثر من انسجام الثقافات السائدة في الجمهوريات الجنوبية. ورغم أنّ طبيعة الميل إلى الاستقلال في الجمهوريات الجنوبية تنطلق في الأصل من البعد القومي والثقافي، لا الديني، لكن كون هذه الثقافة إسلامية وليست مسيحية فإنها تختلف في نواحي عديدة مع دوافع العودة إلى الأصالة والاستقلال لدى دول حوض البلطيق.
ما ذكرناه لا يعني إلغاء دور العوامل السياسية والدولية والاقتصادية والعوامل الاُخرى نظير الرغبة بالتحرّر وبلوغ مستوىً مماثل من الرفاهية مع الغرب، وإنما أردنا التأكيد على أحد أهم وأخطر عوامل التغيير في بلورة المرحلة الحاضرة وأسباب ظهورها، والفرق بينها وبين ظهور الميول المشابهة لها في العالم الثالث.
بهذا بدأت عملية التوجّه نحو الأصالة، أو بكلام أصحّ التسارع نحوها، وسحبت تحت مظلّتها كل المعارضين للسلطة السياسية الحاكمة؛ ذلك أن هذا الفكر كان أكثر الأفكار تقدميةً في هذه المرحلة التاريخية، كما كان من أكثر الأفكار الاجتماعية والسياسية استقطاباً للأنصار، ولهذا السبب بالضبط تجمعت تحت مظلّته قوى مختلفة تعاني من حالات العصيان، وهي حالات يمكن مشاهدتها بكثرة في المجتمعات التي تطورت بسرعة وفقدت القوام الأخلاقي والتربوي والاُسروي. فلابدّ من تنبّؤ وقوع مثل هذه المشكلات حينما يكون حجم التطور الاقتصادي والصناعي والاجتماعي أوسع من قدرة استيعاب المجتمع([15]).
تنطوي الملاحظة أعلاه على أهمية قصوى لفهم الوضع الموجود للحركات السياسية في العالم الثالث والحركات الإسلامية فهماً صحيحاً، فليس كل من انضوى تحت راية هذه الحركات إنما انضمّ إليها اعتقاداً بأهدافها والتزاماً بأفكارها، بل ارتبط بها لأنّه لم يعثر على السبيل الأنسب الذي يلبّي رغباته الباطنية التي يشكِّل الصراع مع الوضع السائد نواتها المركزية.
وثمة أسباب عديدة لهذه الحالة، لكنّها تعود جميعها إلى الإسلام نفسه وخصائصه الاستثنائية، فقد تعرض الإسلام في العصر الراهن للهجوم ليس لكونه ديناً وحسب، وإنما باعتباره خالقاً لحضارة وثقافة وهوية إسلامية، لهذا فإنّ الحركة الإسلامية المعاصرة لا تدعو فقط للعودة إلى الإسلام كنظام اعتقادي وقِيَمي، بل تطالب بالاعتماد على التراث الإسلامي أيضاً.
إنّ البحث عن الأصالة والذات في بلدان العالم الثالث تجلّت بين المسلمين في المرحلة التاريخية الجديدة على هيئة العودة إلى التراث والشخصية والهوية الإسلامية.
فعلى مدى التاريخ الماضي لم توجّه مثل هذه الضغوط على الإسلام وتجعله يتخلّى عن الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية الفعّالة مثلما حصل عملياً في المرحلة الجديدة. ولم تكن هذه الضغوط حديثةً على الإسلام وحسب، وإنما جاءت متناقضة مع خصوصياته الذاتية والداخلية، ولأن الأديان الاُخرى لا تتّسم بشمولية الإسلام وأصالته، فقد كان من الأيسر عليها أن تتفاهم مع ضغوط العصر الجديد وتتكيف لها، بيد أنّ الإسلام لم ولن يستطيع أن يحذو حذو الأديان الاُخرى.
وقد وقع المحلِّلون المسلمون المتغرّبون أو الأجانب المراقبون لأحداث العالم الإسلامي في خطأ كبير حينما تصوروا أنّ مقاومة المسلمين في القرن الماضي لم تكن سوى تعصّب ديني أعمى ستقضي عليه الأيام، غافلين عن جوهر هذا الدين وذاته، ناسين بأنّ هذا الجوهر لا يمكن أن يتكيّف مع الضغوط ولا يتعلق الأمر بما يصفونه بالتعصّب الرجعي لأتباعه([16]).
والذي جرّ الغرب والمسلمين المتغرّبين إلى هذا التصور الخاطئ هو المسير الإصلاحي الذي طوته المسيحية والأديان الاُخرى، فقد اعتقدوا بأن الإسلام كدين سيحذو حذوها ويسلك مثل هذا المسير، وهو ما لم ولن يحصل أبداً، فالإسلام يختلف بطبيعته عن المسيحية، ولا يكلّف معتنقيه ما لا يتناسب مع هذه الطبيعة، فشرطه الإيمان بالدين كلّه مما لا يمكن تجزئته كما حصل في المسيحية، ولا يمكن للزمن ولا لإجماع المؤمنين به التدخل في تعريف مبادئه ورسم حدوده في كل مقطع زمني كما هو الحال في المسيحية. ولأهمية هذا الموضوع نتناوله فيما يلي بصورة مجملة.
(1) للأسف فإنّ الدراسات الجادة حول ردود فعل المجتمعات الدينية في البلدان الإسلامية حيال دعوات الحداثة ونتائجها النفسية على الشبّان المسلمين قليلة، انظر في هذا المجال: ايديولوجي وانقلاب: 169–178، بيامبر وفرعون: 273–295، وكذلك بحوث الاجتماعي المصري المعروف سعد الدين إبراهيم الذي عمل بصورة رئيسية في المجالات الاجتماعية والحركات الدينية في مصر، انظر خلاصة مقاله وهويته ونشاطاته في المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط، 1981، تحت عنوان:
An Anatomy of Egypt Militant Islamic Groups.
(2) حول تأثير التحولات الاقتصادية والاجتماعية على الميول الاُصولية والانفرادية لشبّان العالم الثالث انظر: هند وباكستان:141–191، وكتاب سعد الدين إبراهيم تحت عنوان:
The New Arab Social Order.
(1) يوضح هاميلتون جب هذه الملاحظة والأعراض الناجمة عنها توضيحاً جيداً في:
Modern Trends in Islam, pp.124- 127.
(1) يلاحظ أنّ هذا الكتاب تم تأليفه قبل تفكّك الكتلة الشرقية وانفصال بعض بلدانها إلى أكثر من دولة، ويسجَّل للكاتب هنا أنّه كان محلّلاً بارعاً عندما تنبّأ باُمور تحققت فيما بعد. (المترجم)
(2) تدعو مبادئ الإيديولوجية الماركسية أنصارها إلى نبذٍ قسريٍّ لكل ما يتعارض معها، وتاريخها مليء بالعنف والضغوط ضد كل من لا يجاريها في فكرها، كمثال انظر: در زير زميني خدا (تحت أرض الله)، وكذلك قضية تركستان الشرقية، وهي قصة تتحدث عن عمليات القتل التي ارتكبها الشيوعيون الروس والصينيون ضد المسلمين في منطقة تركستان، والأفضل من ذلك راجع: قيام باسماجيان (انتفاضة الباسماجيان)، وخاصة الصفحات: 51–131.
(1) ما كان يحفظ ثبات هذه الدولة ووحدتها القبضة الحديدية للحكم المركزي وحضارة الحديد والكونكريت والعهد الستاليني وجيل فترة ثورة اُكتوبر، وجيل مرحلة الحرب العالمية الثانية، وتلاحم العوامل الرافضة للظلم في الثقافات القومية الحية مع العوامل المماثلة لها في الفكر الماركسي، وعدم تحقق التحولات الصناعية والاقتصادية العظيمة، وتبعاً لها التحولات السياسية والفكرية التي وقعت أواخر السبعينات والثمانينات وأسفرت عن هذا الوضع الجديد. كمثال انظر: كُفتكو با استالين (حوار مع ستالين): 243- 287.
(1) عن محاولات التوفيق بين الإسلام والماركسية من قبل المبلّغين المسلمين في الاتحاد السوفيتي ونتائجه القريبة والبعيدة المدى راجع: امبراطوري فروباشيده:261– 278.