عربي
Monday 20th of May 2024
0
نفر 0

سُبل ظهور الجهد الثوري

سُبل ظهور الجهد الثوري:

من النتائج المهمة الاُخرى لهذه النظرة المتباينة في الأمن والعدالة هي أن الحركات الإسلامية في نطاق أهل السنّة اتسمت على مرّ التاريخ بالبعد الديني والثقافي، وقلّما نجد حركة سياسية في هذا النطاق، بينما كثرت الحركات السياسية الشيعية حتى في فترة حكم السلاطين الشيعة. إنّ إمكان ظهور هذه الحركات السياسية في الإطار الشيعي لتوفره على اُسس نظرية لازمة للقيام ضد السلطة الحاكمة أكثر بكثير من إمكانية ظهورها في دائرة لا تتوفر على هذه الاُسس، بل تعتبر مثل هذا الإجراء أمراً لا مشروعاً لأنه يخل بالنظم والاستقرار.

ولا يعود السبب في اتسام الحركات الإسلامية السنية بالبعد الثقافي والديني إلى افتقارها للاُسس النظرية السياسية والاجتماعية وحسب، ففي غياب منفذ اجتماعي سياسي مشروع يستقطب الجهد الثوري التغييري عند الاُمّة ويوجهه، يتجه هذا الميل إلى التغيير والتحول والإصلاح  نحو المنافذ الدينية والثقافية، بينما لم يُعانِ الشيعة من مشكلة كهذه، فقد كان بمقدور هذا الجهد أن يسير في قنواته المشروعة الاجتماعية والسياسية وحتى العسكرية، وبالتالي يستطيع الجهد الثوري أن يسلك قناته الطبيعية بسهولة، الأمر الذي لم يحصل عند السنّة، فقد اُغلقت منافذ التمرد والعصيان والاستياء، ولم يعد بالإمكان مواجهة الحاكم وجوره وبِدَعه، فكانت هذه الميول تتجلى في قالب مواجهة البدع والانحراف الفكري والديني في القضايا التي لا تتعلق بالحاكم ولا تدنو منه، فتظهر يوماً بصورة مواجهة المعتزلة، وتارة بصورة مواجهة الشيعة والمتصوفة والفلاسفة، ومرة اُخرى بصورة مواجهة المذاهب السنّية الاُخرى ومدارسهم الفقهية والكلامية، وتارة بصورة مواجهة الناس ومعتقداتهم واتهامهم بالشرك وهدر دمائهم وأموالهم بحجة القيام بأعمال لا يرتضيها المتعصبون والمتحجّرون([1]).

يُعتبر هذا الموضوع تاريخياً أحد الأسباب المهمة في النـزاع الدائم بين المسلمين، فعلى الرغم من المشتركات الأساسية الكثيرة التي تجمع بين الفرق الإسلامية المختلفة والتي تعود إلى المبادئ الواضحة والصريحة للإسلام واستيعابه اللامحدود للجميع، نلاحظ أن التاريخ الإسلامي مليء بالصراعات الطائفية الدامية، ولا ريب في أن العوامل الاجتماعية والسياسية والقومية والعنصرية لعبت دوراً عظيماً في نشوبها. لكننا في نفس الوقت لا نستطيع أن نتجاهل العامل الأخير الذي ذكرناه، أي أن غياب المنفذ المشروع الذي يمكنه أن يستوعب الجهد الثوري للجمهور في طريق الإصلاح السياسي والاجتماعي يؤدي إلى انحراف هذه الطاقة الكامنة الطبيعية، فحينما يُحظر على هذه القوى الالتجاء إلى الوسيلة المناسبة والمشروعة لنيل أهدافها، فإنها ستتمسك بوسائلها المشروعة برأيها وتهاجم بذرائع مختلفة إخوانها عوضاً عن استهلاك هذه الطاقات في تقويم النظام الحاكم([2]).

لهذا الكلام أهمية بالنسبة للإسلام أكثر من غيره من الأديان؛ ذلك أن الإسلام قادر أكثر من أي دين آخر على تعبئة الطاقات الكامنة في الإنسان من أجل التقدم بأهدافه، أمّا الأديان الاُخرى فإنها تستهلك جزءاً من طاقة الإنسان في طريق الفلاح والصلاح الذاتي، ولا شك في أن رسالة أي دين هي تحقيق السعادة للإنسان، الأمر الذي يريده الإسلام أيضاً للبشرية، لكنه يختلف عن الأديان الاُخرى في أنه يعتبر أنّ الفلاح والسعادة الفردية تتحقق في ظل العمل الاجتماعي الذي يتقدم بأهداف هذا الدين وغاياته.

والهدف النهائي هو أن يحقق هذا الدين أهدافه الاجتماعية، ولا ينال الإنسان السعادة المرجوّة إلا حينما يوقف نفسه في سبيل تحقيق هذا الهدف، وبالتالي فإن الإسلام يستطيع بكفاءة أكبر من الأديان الاُخرى أن يحرك الاستعدادات الكامنة في الإنسان ويستثمرها لصالح تقدمه الاجتماعي والسياسي؛ لهذا يرغب المسلم في استخدام كل قواه والتضحية بالممكن من أجل إعلاء كلمة دينه، لأن هذه الرغبة تحقق له غاية الفلاح والسعادة، بينما يتحقق هذا الفلاح في الأديان الاُخرى من خلال الرياضة النفسية أو الأعمال الفردية والجماعية أحياناً، ولكن ليست بسعة الأعمال الجماعية في الإسلام. المهم أن الدين الإسلامي قادر على تحريك القوى الباطنية للمسلم وتنميتها وبث روح التضحية فيه واستثمار هذه القوى([3])، الأمر الذي يحتاج إلى المزيد من التوضيح.

روح التضحية في الإنسان:

من السمات المهمة في الإنسان أنه يرغب في أن ينضوي تحت لواءٍ ما وينجذب لشيء كحاجة ثابتة لا تتغير من حاجاته، وإذا لم تُستشعر هذه الحاجة بشكل محسوس عند الجميع فبسبب تشتت القوى الداخلية، والوقوع تحت تأثير عوامل كثيرة ومتنوعة تُفكك القوى وتقضي على التمركز اللازم لظهور هذه السمة والاستعداد الذاتي.

ومن أهم العناصر التي تستطيع أن تجتذب الإنسان وأقواها هي الدين؛ لانسجامه مع فطرة الإنسان من جهة، وإلى طبيعة الدين نفسه من جهة اُخرى، ولهذا يستطيع الدين أن ينفذ إلى أعماق الضمير الإنساني ويسخّر جميع قواه الظاهرة والباطنة، لا فرق في ذلك بين الإسلام وغيره من الأديان، فالمسيحية كانت تسخّر أتباعها في القرون الوسطى بهذه الطريقة، خُذ على ذلك مثالاً المبلّغ أو المقاتل المسيحي الذي يجدّ ويسعى ويضحي بنفس ما يجدّ المبلّغ المجاهد المسلم، لكن المسيحية في عصرها الجديد والأديان الاُخرى أيضاً سوى الإسلام أعادت النظر في مبادئها وتخلت عن الكثير منها وعن عناصرها الرئيسية ودعواتها الاُولى، وأصبح الفرق بين الدين الإسلامي والدين المسيحي شاسعاً وواضحاً.

على عكس مسيحية القرون الوسطى، أصبحت المسيحية الموجودة ديناً محدوداً لا يستطيع أن يعبّئ قدرات أتباعه كالسابق ويسخّرها لخدمته. فلا تجد مسيحياً معاصراً يتصف بالصلابة والاقتدار كما في الماضي، وهذا ليس بسبب الضعف الذاتي للمسيحيين المعاصرين، وإنما بسبب ضعف المسيحية التي يؤمنون بها، لأنها تفتقد إلى الحزم والصراحة والحسم بالشكل الذي كانت عليه سابقاً. فالدين الذي يتراجع خطوة فخطوة أمام المدنية الجديدة وضروراتها وضغوطها وحتى أمام معاييرها وقيمها المادية البحتة بذريعة حماية نفسه، وتتضاءل أصالته ولا يفكر إلا بالانسجام مع الوضع الموجود مهما كان الثمن، هذا الدين يفقد الحد الأدنى من عناصر الجذب التي يمكن بواسطتها أن يجعل من أتباعه والهين به يضحون من أجله، الأمر الذي يفتقد إليه المسيحيون في العصر الحاضر لا بسبب ضعف إيمانهم وإنما لضعف المسيحية نفسها والتي تبلِّغ لها الكنيسة الحالية([4]). وهذا هو السبب الذي يعود إليه الاختلاف بين الإسلام والأديان الاُخرى وعلى رأسها المسيحية في الوقت الحاضر.

فلم يطْوِ الإسلام المسار الذي سارت عليه الأديان الاُخرى في القرون المتأخرة لأسباب مختلفة تعود بأجمعها إلى طبيعة الإسلام نفسه، رغم رغبة المسلمين أصحاب الفكر العصري بذلك دون أن ينتبهوا إلى طبيعة هذا الدين، ولهذا السبب بالضبط لم تتضاءل الأصالة الاعتقادية الإسلامية للاُمة في هذا العصر عن الأصالة الاعتقادية لآبائهم في القرون الماضية، وهذا يعني أن الإسلام استطاع أن يحافظ على أصالته وصراحته وحزمه وصفائه رغم تبدّلات الزمن، ويحتفظ بنفس النفوذ والقدرة وقوة الجذب التي كان عليها في الماضي، بالشكل الذي يستطيع فيه أن يلبي حاجات الجيل الجديد ويسخّره لخدمته مثلما لبّى حاجات أسلافهم وسخّرهم لخدمته من قبل([5]).

على أية حال، فقد أكّدنا بأن الإسلام قادر على تفجير طاقات معتنقيه واستخدام هذه الطاقات لصالح التقدم بأهدافه، أمّا لو تفجّرت هذه الطاقات والقدرات ولم تجد لها متّسعاً اجتماعياً وسياسياً فإنها ستتجه نحو الانحراف والتعصّب وتستهلك في مواجهة كل ما يُعتقد أنه من البدع، فحينما تفيض العواطف والأحاسيس فإنها لا تستسلم للعقل والمنطق، وعندئذ يحاول المرء أن يؤدي دَيْنه إلى دِينه من خلال مواجهة البدع سالكاً أكثر السبل إيثاراً وتضحية، ولا يهمه في ذلك أن يكون الشخص الذي يصطدم به أخاه في الدين وفي المذهب، ليعبّر بهذه المواجهة عن إخلاصه الديني ونصرة الدين والحقّ والقرآن والرسول 9، لا بسبب انحراف الطرف المقابل حقّاً، وإنما لحاجته إلى مصاديق الانحراف حتى وإن كان هذا الانحراف وهمياً؛ لكي تخبو في داخله نار الإيثار والتضحية([6]).

ولا تنحصر مشاهد الصدامات الطائفية الدامية في تاريخ الإسلام بين الشيعة والسنّة وحسب، فمن العجيب حقاً أن تكون الاشتباكات الطائفية والمذهبية بين أتباع المذهب الحنفي والمذهب الشافعي([7]) أو بين أهل الحديث وغيرهم أكثر عنفاً ودموية وشدة([8])، أما بالنسبة للحالة الاُولى فإن الحركات السنية المناوئة للشيعة كانت أكثر وأوسع من الحركات الشيعية المعادية للسنّة؛ لأسباب عديدة منها: أن الشيعة كانت تمثل سابقاً أقلية في المجتمع الإسلامي، وأن المذهب الشيعي لم يكن محاطاً بقيود فقهية وكلامية تحدد الحركات الشيعية من التحرك السياسي والاجتماعي وتضطرها لتوجيه الجهد الثوري والتغييري في مسار آخر، فضلاً عن ذلك فإن الاُسس الفقهية والكلامية للشيعة ومنهج تفكيرهم المذهبي وتجاربهم التاريخية كلّ هذه لم تجعل السنّة خارج الإطار الديني([9]). أما السنّة فلم تكن أمامهم وسيلة مشروعة لإبراز إخلاصهم الديني سوى مواجهة البدع التي لا ترتبط بنظام الحكم، وكأن اُسلوب مواجهة البدع استهلك كل عصارة شجرة التضحية والإيثار الديني بسبب اقتطاع الغصون الاُخرى منها، ببيان آخر: أنهم قد نذروا أنفسهم في سبيل أهداف الدين السامية من خلال دفع البدعة وحسب، الأمر الذي لا يزال سائداً ومع الأسف إلى يومنا الحاضر([10]).

أيديولوجية النظام الحاكم:

ما قلناه حتى الآن يعود إلى تطور الفكر السياسي للشيعة والسنّة خلال قرن أو قرنين من زمن الصدر الأول، والأرضية التي نما عليها فقه أهل السنّة وكلامهم، وتأثيرها عليه. أما كيفية تفسيره وتحوله فيما بعد فهو موضوع مستقل لا يمكن فهم الوضع الحالي بشكله الصحيح دونه، خاصة وأن التكوين الاجتماعي والنفسي والمذهبي لأهل السنّة قد تبلور عملياً في هذه المرحلة. وقد ترك المنهج الديني والسياسي لبني العباس تأثيراً مصيرياً على اُسس الفكر السياسي لأهل السنّة، رغم أن هذه الاُسس قد اُرسيت في فترة الخلفاء الراشدين وبني اُمية ولا سيما فترة حكم معاوية، غير أن العباسيين وضعوا النقاط على الحروف ودوّنوا تلك الاُسس بصورتها النهائية؛ لأنهم كانوا بحاجة إلى التظاهر بالدين، فاستغلّوه غاية الاستغلال للاستمرار بالخلافة([11]).

في هذه المرحلة اتسعت العلوم الإسلامية من الفقه والحديث والتفسير إلى الكلام والرجال والتاريخ وجرى تدوينها، وكان من الطبيعي أن تخضع هذه الحالة لتأثير مصالحهم، وبالفعل فقد ارتبط النظام الفقهي والكلامي لأهل السنّة ارتباطاً وثيقاً بالنظام الحاكم، وأصبح في النهاية الأيديولوجية التي يؤمن بها النظام والمبرر لوجوده وشرعيته([12]). واستمرت هذه العلاقة حتى بعد سقوط الخلافة العباسية لتخدم فيما بعد القادة المحلّيين.

وللمزيد من التوضيح نقول: إن العباسيين كانوا بحاجة إلى الدين أكثر من أسلافهم الاُمويين من أجل تعزيز سلطانهم وتكريس خلافتهم؛ ذلك أن المجتمع الإسلامي على العهد الاُموي كان أكثر انسجاماً وتوحّداً من العصر العباسي، فالمسلمون الجدد في الفترة الاُموية وقعوا تحت صدمة الظرف الجديد والقوة الجديدة التي أنزلت سلاطينهم من على عروشهم، فكانوا يمثّلون دور المراقب للأحداث، أو يدخلون تحت ألوية المتنافسين من العرب على السلطة. وكان لابد أن تمر سنوات طويلة حتى يدركوا بأنهم قادرون على المشاركة الفعالة في بلورة التيارات السياسية والاجتماعية وحتى الدينية والثقافية. وقد انتهت مرحلة الانطواء والمراقبة عن بُعد للأحداث في أواخر العهد الاُموي، بمعنى أن المسلمين من غير العرب دخلوا الميدان الأمر الذي مَهّد لسقوط الخلافة الاُموية، مما عزز مواقعهم من جميع النواحي. أما القضية الاُخرى فهي حضور قوى جديدة ليست سياسية وحسب، وإنما انطوى هذا الحضور على أبعاد ثقافية ودينية أيضاً، مما ضاعف في التشتّت السياسي والاجتماعي رغم نتائجه الإيجابية الكثيرة([13]).

أدت هذه الظروف إلى هبوط قدرة العباسيين مقارنة بالاُمويين([14])، ليس بسبب قلة كفاءة الخلفاء العباسيين أو عدم تشددهم واستبدادهم أحياناً قياساً بالاُمويين، وإنما بسبب تبدل الأوضاع والظروف، فظروف الفترة العباسية لم تكن تسمح باتباع السياسة الاُموية حتى لو كان الاُمويون أنفسهم يحكمون في هذه الفترة.

المهم هنا أن هذه الظروف تركت أثرها على البناء الفقهي والكلامي لأهل السنّة، بمعنى أن ضعف القدرة العسكرية للخليفة أدت به إلى التشبث بالدين لتعزيز مكانته، ليسد الدين الثلمة في القدرة التي لم يعد بالإمكان سدّها بالسيف.

وهذا لا يعني بأن جميع العلماء الذين ساروا في هذا الاتجاه كانوا من علماء البلاط أو أنهم طمعوا في كسب بعض المصالح، فلا ريب في أن بعضهم شخّص هذا العلاج كطريق وحيد لحماية الدين وتحقيق الأمن بعد أن رأى أن المهم في تلك الظروف العسيرة المعقدة هو وجود مركزية قوية تحمي الدين وتحفظ أموال الناس وأنفسهم، وطالما لا يستطيع الحاكم لوحده إيجاد هذه المركزية فعليه أن يلتجأ إلى الدين لتحقيق هذا الهدف.

بهذه الصورة أصبح الدين عقيدة النظام الحاكم، وهذا لا يعني أن النظام أخذ يستنجد به عقائدياً في كيفية إدارة المجتمع والحكم، وإنما كان الدين يمثل القوة التي تسدّ الثغرات وتعوّض عن الضعف والنقص في الحكم، الأمر الذي كان يتطلب أن يتظاهر النظام الحاكم بمراعاة الشرع، إذ لم يكن ممكناً أن يُطلب من الاُمّة أن تخضع للنظام الحاكم وتدافع عنه لأسباب عقائدية ثم لا يعتني النظام نفسه بظواهر الدين والعقيدة([15]).

اعتراضات معاصرة:

بلحاظ ما ذكرناه لابدّ أن نقول: لو لم يواجه الخلفاء العباسيون بعد هارون مشكلة ضعف القوة العسكرية لتبلور التكوين الفقهي والكلامي لأهل السنّة وعلى الأقل فيما يتعلق بالمسائل السياسية والحكومية بصورة اُخرى، ولم يُثِر هذا الموضوع اعتراض أهل السنّة قبل عصرنا الحاضر، بيد أن أصوات الاعتراض ارتفعت في الفترة الأخيرة ولا سيما خلال العقدين الأخيرين، بحيث يمكن ملاحظة مظاهرها في كتابات المجموعات السياسية والثورية وحتى الإصلاحية الموجودة في مصر وشمال أفريقيا وبعض الدول الإسلامية والعربية، سواء كانت هذه المجموعات إسلامية أم غير إسلامية([16]).

أما الأيديولوجية الشيعية فإنها ومنذ البدء لم تطوِ هذا الطريق، فمبادئها لا تسمح لها أن تتبدل إلى أيديولوجية النظام الحاكم حتى وإن كان الحكم بيد السلاطين الشيعة. فحينما تُعرّف شرعية النظام الحاكم بانطباقه مع المبادئ والشروط التي ينبغي أن تكون حاكمة عليه فإن مثل هذه الأيديولوجية لا تستطيع أن تتبدّل إلى أيديولوجية النظام الحاكم وتصبح في خدمة تبرير وجوده. أما المبادئ النظرية لأهل السنّة فقد كانت تعمل على إضفاء الشرعية على الوضع الموجود وتبريره وذلك لأن مبادئهم النظرية والاعتقادية تكونت ونمت تحت تأثير الواقع السياسي والتاريخي وخاصة ذلك الذي يعود إلى صدر الإسلام.

بعبارة ثانية: فإن الأيديولوجية كانت فرعاً من الواقع ونابعة عنه، وكنّا قد ذكرنا آنفاً أن أهل السنّة يختلفون عن الشيعة في نظرتهم للإمامة والقيادة من حيث تقديم الشأن على الشخص وبالعكس، إذ يعتقد أهل السنّة أن ما حصل في الصدر الأول يتّسم بالشرعية والحق، ومن الطبيعي أن يستلّوا المفاهيم والتعاريف من هذه المصاديق المعترف بها وبشرعيتها، هذا أولاً.

وثانياً: لأن حفظ الدين وحمايته لا يتحقق برأي المذهب السني إلا في ظلّ وجود نظام الحكم([17])، ولهذا كان يعمل على تسويغ الوضع الموجود وإضفاء الشرعية عليه، فتبلور الذهن السنّي على هذه الشاكلة، لا سيما وأن المذهب يرى أن إجماع الصحابة والتابعين وعلماء الفترات اللاحقة والنصوص القرآنية والسيرة النبوية كلها تعزز هذا الرأي([18]).

وليس الأمر مجرد اعتقاد بهذا المبدأ الذي بلور هذه الطريقة من التفكير، إنما الأهم أنه أصبح جزءاً لا ينفصم من التعاليم الدينية، أي أن المذهب السني بات يفهم الدين بهذه الصورة وعلى ضوء هذا الفهم أخذ يفسّره. ولا شك في أن الكثير اضطلع بمهمة ترويج هذه الفكرة: إمّا عن سوء نية، أو لمطامع دنيوية والتقرب من السلطان، لكن لا يُنكر وجود آخرين اعتقدوا بهذه الفكرة للدلائل التي أتينا عليها([19]).

مهما يكن من أمر فإن هذه المبادئ عند الشيعة تبلورت بصورة اُخرى، ولم يكن المذهب الشيعي يفكر ويخضع إلا وفق ضوابط قيمه ومعاييرها، أي أنه لا يرى أن السبيل الوحيد لحماية الدين وحفظه هو تسويغ الوضع الموجود وعدم المسّ بالسلطة الحاكمة أو العمل على تكريسها كما يعتقد بذلك بعض أهل السنّة، بل اعتقد المذهب الشيعي وعلى الأقل في مقاطع من التاريخ وعمل بعكس هذه الفكرة، ولهذا لم يكن يعترف بالوضع الموجود إلا بعد انطباقه مع هذه الضوابط. أو أنه كان لا يعترف رسمياً بالنظام الحاكم ولا يقف بوجهه حينما تتطلب الظروف ذلك ويتوقف حفظ الدين وحمايته على عدم معارضة السلطة([20]).

قد يتصور البعض بأن هذا التباين لا ينطوي على قدر كبير من الأهمية، بيد أن تحولات العصر الجديد أكّدت هذه الأهمية؛ ذلك أن وجود المشكلات النظرية للحركة الإسلامية السنية المعاصرة وغيابها عن الحركة الإسلامية الشيعية ناجم عن هذا الاختلاف الذي يُعدّ بدوره سبباً للصمت الذي تلتزمه الأوساط الدينية لأهل السنّة حيال انتقادات الجيل الجديد حول حماية الإسلام المطروح من قبلهم للحاكم الجائر والفاسق في الماضي والحاضر([21]). ورغم أن بعض المفكرين الشيعة في إيران وخارجها طرحوا انتقادات مماثلة للعلماء الشيعة لكنّها كانت ممكنة الحلّ؛ لأنها طرحت لأسباب اُخرى غير التي ذكرنا. وأيضاً فقد ساير بعض علماء الشيعة في الماضي بعض حكام الشيعة لأسباب ثانوية خاصة، كتعزيز السلطة المركزية الشيعية الوحيدة، وليس من قبيل إضفاء الشرعية على الحاكم ووجوب طاعته، إذ نبع هذا الموقف المؤقت عن ضرورة الدفاع عن المذهب والمصلحة العليا. ولعدم وجود مثل هذا الإلزام في العصر الحاضر وقف الشيعة بوجه السلطة الحاكمة رغم كونها شيعية من أجل الدفاع عن الدين وحمايته.

الموقف الشيعي:

إذن: كان سبب وقوف العلماء إلى جانب السلاطين طوال التاريخ يختلف عند الشيعة عنه عند السنّة. فالشيعي لا يستطيع أن يعترف أبداً بشرعية الحاكم الذي يمسك بالسلطة من خلال طرق غير مشروعة ويمارس سلطته وفق اُسلوب مغاير للضوابط الشرعية، ولهذا لا يستطيع أن يدعمه ويقف إلى جانبه، وإذا اضطر إلى ذلك فلأسباب ثانوية وليست مبدئية([22]). أما السنّي فلم يواجه مثل هذا المحظور، فالحاكم برأيه ينال الشرعية ويستوجب الطاعة لكونه حاكماً يمسك بالسلطة، والوقوف بوجهه يصل إلى حدّ الحرمة على الأقل. ولعلّ بعض الفقهاء المتقدمين شكّكوا في لزوم طاعة الحاكم لكونه حاكماً، لكن هناك إجماع في الرأي على عدم جواز الوقوف بوجهه([23]).

وبالطبع فإن عامل الأخلاق والتقوى كان يمنع اقتراب العلماء والفقهاء المتّقين السنّة من السلاطين، لأن السلطة تقترن في معظم الحالات بالدنيا والظلم والتعدّي والهوى والتحلّل والغفلة عن الآخرة والقيامة، فالنأي عن السلطان يمثِّل مصداقاً للاحتراز من الدنيا وأهوائها الأمر الذي يشجّع عليه علماء السنّة المتّقين ويؤكدون على الأحاديث التي وردت في هذا الباب، أي باب الابتعاد عن السلطان([24]).

وهنا نعيد طرح موضوع أشرنا إليه قبل قليل بصيغة سؤال: لماذا وقف بعض العلماء الشيعة ومنهم من كان أعلم عصره والعصور التي تلته إلى جانب السلاطين، ولا سيما أثناء العهد الصفوي؟

يعود السبب الرئيسي إلى الظروف السياسية آنذاك والنـزاع المستمر بين الصفويين والعثمانيين، فقد كان الصفويون الشيعة يحتلّون موقع المنافس للعثمانيين الذين كان يهمّهم تبعاً لذلك أن يصوروا الشيعة على أنهم طائفة خارجة عن الدين بعيدة عن الإسلام؛ ليستعطفوا رأي الاُمّة ويثيروا هممها، لجرِّها بالتالي إلى الأغراض التي يطمحون إليها تحت عنوان الدفاع عن الدين وكسب الثواب الأخروي([25]).المهم في هذه العملية أن الإثارة لم تكن ضد السلطة الصفوية وحسب، وإنما شملت كلّ الشيعة حتى الساكنين داخل حدود الدولة العثمانية نفسها، ولهذا تعرّضوا للضغوط والقتل والنهب والأذى، ووصل الأمر إلى ارتكاب مجازر بشعة ضد الشيعة وإنهاء وجودهم من بعض المناطق، وكمثال على ذلك ما فعله السلطان سليم الأول بعد أن خلع أبيه السلطان يزيد الثاني وقتل أشقّاءه واستقرّ له الأمر، حيث أمر على الفور بقتل أربعين ألف شيعي([26]).

حقيقة الأمر أنّ التنافس السياسي بين الطرفين أدّى إلى نشوب النـزاع الديني، وقد لعب العثمانيون دوراً أكبر من الصفويين في إثارة هذا النـزاع؛ لأن الشيعة لم تصف السنّة بالمروق عن الدين، ولم تهبَّ لمواجهتهم بهذا الدافع يوماً ما([27])، بينما نرى أن العكس هو الصحيح، إذ يحدثنا التاريخ عن حالات كثيرة أقدم فيها عوامّ أهل السنّة وبتحريك من عالِم متهتّك عميل أو أمير سفّاك على تصفية الشيعة لأسباب لا مجال لذكرها الآن. وكان من السهل على سلاطين بني عثمان استغلال هذه الذهنية والخلفية التاريخية لتحريض الناس ضد إيران أو ضد الشيعة الساكنين ضمن حدود الدولة العثمانية، وبطبيعة الحال فإن الآثار السلبية التي ترتبت على ذلك كانت أعمق بكثير مما استهدفه السلاطين وسائر المحرِّضين([28]).

الصفويون وعلماء الشيعة:

في مثل هذه الظروف كان من الطبيعي أن يهبّ العلماء ويقفوا إلى جانب السلطان([29]) للدفاع عن الكيان القوي الوحيد للشيعة لحمايته من التهديدات المختلفة والضغوط المتنوعة الصادرة عن الطرف المنافس، والحيلولة دون القيام بمذابح جماعية بشعة ضد الشيعة في الدولة العثمانية، ذلك أن شوكة السلطة الصفوية وقدرتها كان من شأنها أن تردع عن انتهاك حرمة الشيعة في المناطق الخاضعة لنفوذ العثمانيين وقتلهم ونهبهم. فمصير الشيعة داخل إيران وخارجها كان في تلك الأيام العصيبة مرهوناً بقوة الصفويين واقتدارهم، ولم يكن هناك من سبيل سوى العمل على تعزيز سلطانهم وتقوية شوكتهم. والمثال التاريخي التالي يكشف عن أوضاع تلك الفترة:

«طمع السلطان مراد الرابع العثماني (10321049هـ) في العراق وكان تحت سلطة الدولة الصفوية فعزم على حرب إيران وهو يعلم أنه لا قِبَل له بالحكم الصفوي، فلجأ إلى إثارة الطائفية من جديد، واستنجد بعلماء السوء علماء البلاط، ليفتوه بجواز إثارة الحرب الداخلية، فلم يجرأ أحد منهم على ذلك إلا شاب يدعى نوح أفندي، من أذناب المنافقين، ومن دعاة التفرقة، حريص على الدنيا، فأفتى حسب ما يهواه السلطان وباع دينه بدنيا غيره، فأصدر فتوى بتكفير الشيعة تحت عنوان: من قتل رافضياً واحداً وجبت له الجنة!!.. جاء فيها: اعلم أسعدك الله أن هؤلاء الكفرة والبغاة الفجرة جمعوا بين أصناف الكفر والبغي والعناد، وأنواع الفسق والزندقة والإلحاد، ومن توقف في كفرهم وإلحادهم ووجوب قتالهم وجواز قتلهم فهو كافر مثلهم.

وأضاف: وسبب وجوب قتالهم وجواز قتلهم البغي والكفر معاً، أمّا البغي فإنهم خرجوا عن طاعة الإمام خلّد الله تعالى ملكه إلى يوم القيامة، وقد قال الله تعالى )فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ(، والأمر للوجوب، فينبغي للمسلمين إذا دعاهم الإمام إلى قتال هؤلاء الباغين الملعونين على لسان سيد المرسلين أن لا يتأخروا عنه، بل يجب عليهم أن يعينوه ويقاتلوهم معه.. إلى أن قال: فيجب قتل هؤلاء الأشرار الكفار، تابوا أو لم يتوبوا.. ولا يجوز تركهم عليه بإعطاء الجزية، ولا بأمان مؤقت ولا بأمان مؤبد.. ويجوز استرقاق نسائهم؛ لأن استرقاق المرتدة بعد ما لحقت بدار الحرب جائز، وكل موضع خرج عن ولاية الإمام الحق فهو بمنـزلة دار الحرب، ويجوز استرقاق ذراريهم تبعاً لأمهاتهم»([30]).

و«سببت هذه الفتوى قتل عشرات الآلاف، فدارت رحى الحرب الداخلية تطحن المسلمين من الجانبين طيلة سبعة أشهر، ابتداءً من (17رجب سنة 104823 محرم سنة 1049) حيث عقدت معاهدة الصلح في مدينة قصر شيرين وأدّت إلى انتهاء الحرب.

ولكن ما أن خمدت نيران الحرب إلا وأشعلوا نيران الفتن لإبادة الشيعة داخل الرقعة العثمانية استناداً إلى هذه الفتوى، فأخذ السيف منهم كل مأخذ، وأفضعها مجزرة حلب القمعية، فكانت حلب أشد البلاد بلاءً وأعظمها عناءً لأنها شيعية منذ عهد الحمدانيين، فجرّدوا فيهم السيف قتلاً ونهباً وسبياً وسلباً، فلم يبقَ منهم إلا من لجأ إلى القرى والضواحي... فقد راح ضحيتها في مجزرة حلب القمعية وحدها أربعون ألفاً من الشيعة، وفيهم الاُلوف من الشرفاء من ذرية رسول الله صلى الله عليه  وآله وسلم.

فأرسل السيد شرف الدين علي بن حجة الله الشولستاني من علماء النجف الأشرف آنذاك هذه الفتوى إلى إيران للسعي في وضع حدٍّ لهذه المجازر»([31]).



(1) للمصادمات المذهبية في الإسلام تاريخ واسع مضمَّخ بالدم، وللحنابلة فيها حصة الأسد بسبب اعتقاداتهم المتحجرة الساذجة الناشئة عن نفسيات متشددة، وحتى الأشاعرة المعروفين بالتعصب والتشدد زهقوا من تحجر الحنابلة وتعصبهم وقسوتهم وفتنهم. على سبيل المثال كتب جماعة من العلماء الأشاعرة رسالة إلى الخواجة نظام الملك في إسناد  ودعم أبي القاسم القشيري رئيس الأشاعرة آنذاك، اشتكوا فيها من تصرفات الحنابلة وطلبوا منه الدعم المؤثر. والطريف أن هذه الرسالة كتبت في زمن كان الأشاعرة والشافعية يمتلكون من القوة والهيمنة مالا يمتلكها غيرهم، ويمكن من مضمون الرسالة معرفة مستوى الضغط الذي كان يمارسه الحنابلة على الفرق الاُخرى، فقد أظهر جمع من الحشوية وعوام الناس والأوباش الذين أطلقوا على أنفسهم بالحنابلة بدعاً قبيحة وأعمالاً شنيعة في بغداد لا يقول بها أي ملحد فضلاً عن الموحد، فنسبوا إلى الله كلّ ما هو منـزه عنه من النقائص والآفات والحدوث والتشبيهات... وبادروا إلى هتك الأئمة الماضين والطعن بأهل الحق والمتدينين ولعنهم في المساجد والمحافل والأسواق.. انظر: الملل والنحل للاُستاذ السبحاني: 279282.

     ويمكن ملاحظة حكايات كثيرة في هذا الباب في كتاب طبقات الحنابلة الذي كتب من قبلهم في تخليد علمائهم وشرح أحوالهم، والحكاية التاريخية التالية توضّح جانباً من دور الحنابلة في إثارة الفتن: ففي زيارة الطبري الثانية لبغداد سأله الحنابلة في المسجد الجامع في إحدى الجمع عن رأيه بابن حنبل وحديث جلوس الله على العرش، فأجاب بأنه لا يعتدّ بمعارضة أحمد بن حنبل. فقالوا: إن العلماء اعتدّوا به. فقال الطبري بأنه لم يره ولم ير بأنه روى عنه ولم يلتقِ بأحد أصحابه الموثوقين، أما حديث الجلوس على العرش فهو أمر محال.

     لمّا سمع الحنابلة وأصحاب الحديث هذا الكلام هاجموه ورشقوه بالدواة، فالتجأ الطبري إلى منـزله، فلحق به الحنابلة وهم عدة ألوف ورشقوا داره بالحجارة حتى تكوّم تل من الحجارة أمام الدار. فتدخّل صاحب شرطة بغداد نازوك ومعه آلاف من رجاله وأنقذ الطبري من شر العامة، ومكث هناك يوماً واحداً، وأمر برفع الحجارة من أمام الدار. راجع: وهابيان (الوهابيون): 27. انظر أيضاً ما تعرض له أحد أكبر علماء القرن السابع العزّ بن عبد السلام من الحنابلة في: الإسلام بين العلماء والحكام: 192.

(1) وهذا يخالف تماماً مواقف أئمة الشيعة التي لا تتجاهل أبداً الدور الأساسي للنظام الحاكم في إفساد الاُمة، لهذا فهم يهتمون بالإصلاح الاجتماعي ولا سيما إصلاح النظام الحاكم مثلما يوجّهون اهتمامهم للتربية الفردية، حتى أنهم لا يحبّذون مواجهة الفرد أو النظام الذي يزيغ عن مسار الحق لأسباب مختلفة سوى تلك النابعة عن خبث ذاتي، فقد أوصى الإمام علي عليه السلام في الخوارج مثلاً وقال: «لا تقتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه». نهج البلاغة: الخطبة61، تصحيح صبحي الصالح.

(1) منذ اليوم الأول لظهور الإسلام وإلى يومنا هذا استطاع هذا الدين أن يوظّف أتباعه والشبان بخاصة لخدمته، وتعود مثل هذه الآلية بالدرجة الاُولى إلى خصائص الدين نفسه وانسجامه مع الأبعاد الإنسانية للإنسان. تأمّل في الفقرة التالية المستلّة من خطبة أبي حمزة الخارجي لأهل الحجاز لانتقادهم له بسبب صغر أتباعه: «يا أهل الحجاز، أتعيِّرونني بأصحابي وتزعمون أنهم شباب؟ وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا شباباً؟.. شباب والله مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أنضاء عبادة أي أن العبادة قد أخذت منهم حتى جعلتهم ضئال الأجسام وأطلاح سهر أي أن طول السهر في العبادة وقيام الليل قد أخذ منهم حتى أهزلهم فنظر الله إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن كلّما مرّ أحدهم بآية من ذكر الجنة بكى شوقاً إليها، وإذا مر بآية من ذكر النار شهق شهقة كأنّ زفير جهنم بين اُذُنيه،... حتى إذا رأوا السهام قد فُوّقت، والرماح قد اُشرعت، والسيوف قد انتُضيت، ورعدت الكتيبة بصواعق الموت وبرقت، استخفّوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله، ومضى الشاب منهم قدماً حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، وتخضبت بالدماء محاسن وجهه، فأسرعت إليه سباع الأرض، وانحطت إليه طير السماء، فكم من عين في منقار طير طالما بكى صاحبها في جوف الليل من خوف الله، وكم من كفٍّ زالت عن معصمها طالما اعتمد عليها صاحبها في جوف الليل بالسجود لله». البيان والتبيين: 2/102و103. هذا الوصف للشباب عن دينهم وتضحياتهم في سبيل الله يصحّ إلى حد ما على شبان مختلف الأزمنة، انظر أعداد مجلة النذير الصادرة عن الإخوان المسلمين في سورية، وكذلك الكتب التي تناولت جماعة "فدائيان إسلام" ومعنوياتهم، و"بيامبر وفرعون".

(1) للمزيد من الاطلاع، راجع: On Being Christian, pp.31-34.                              

(1) يعتقد جب مصيباً بأن هذه الخصيصة منطلقة من ذات الإسلام: «النظام الاعتقادي الإسلامي مجموعة محكمة وإيجابية ومؤكدة، وهذه الخصائص تعود إلى القرآن والحديث والسنّة والشريعة».

(2) خير مثال على ذلك: دراسة الخصائص النفسية والدينية والأخلاقية للإخوان في الحجاز وسلوكياتهم. انظر: وهابيان: 446459. فمثلاً يقول حافظ وهبة وكان مقرباً منهم شاهداً على حروبهم: بأن الإخوان لم يكونوا يخشون الموت، ويقبلون عليه لنيل الشهادة، وحينما كانت الاُمّ تودّع ولدها تقول له: جمعنا الله وإياك في الجنة، وكان شعارهم عند الهجوم: إياك نعبد وإياك نستعين، ويروي وهبة مشاهداته عن بعض حروبهم واستسلامهم للموت واندفاعهم نحو العدو أفواجاً أفواجاً دون أن يفكر أحدهم سوى بهزيمة العدو وقتله، ويقول: إنه لا توجد في قلوب الإخوان ذرة من رحم أو شفقة، ولا يفلت من قبضتهم أحد، وأينما حلّوا حلّ الموت معهم.

     راجع: وهابيان: 452، نقلاً عن كتاب: جزيرة العرب في القرن العشرين:314.

     أما جان فيلبي فيصور هذه العقيدة بالقول: إن الإخوان حرّموا القتل والسلب بين القبائل وقطع الطريق واستعمال الدخانيات والحياة المترفة، وانصبّ جُلّ اهتمامهم بالاستعداد للآخرة، وقد اعتبروا سواهم من الناس والفرق الإسلامية الاُخرى من المشركين. راجع: وهابيان: 449، نقلاً عن تاريخ نجد: 305 308.

(1) لمعرفة شدة التنافس بين الحنفيين والشافعيين الذي أدّى إلى صراع مرير بين المذهبين، تأمّل في الحكاية التالية التي ينقلها هندوشاه: «كان الخواجة على مذهب الإمام الأعظم الشافعي، وقد شيد السلطان ملك شاه مدرسة في أصفان، ولما سُئل عن الطائفة التي تعود إليها المدرسة قال: رغم أنني على المذهب الحنفي لكنني لم أقم ما قمت به إلا لله تعالى، فليس من الصحيح أن تُخصص لقوم وتُمنع على آخرين، وأمر بأن يكتب بأن المدرسة لأصحاب كلا المذهبين على السواء. ولما كان السلطان على مذهب الإمام أبي حنيفة أرادوا تقديم اسمه على اسم الشافعي، فرفض الخواجة ذلك وتعطّل الكتاب لمدة، حتى تقرر أن تكتب العبارة التالية: «وقف على أصحاب الإمامين إمامَي الأئمة صدرَي الإسلام». مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة مشهد: العدد 56، ص742، نقلاً عن تجارب السلف:277 278.

(2) «شدة التعصب بين الشافعية والحنفية، وبين الماتريدية والأشعرية، وبين أهل السنّة والمعتزلة والشيعة.. كان عاملاً كبيراً من عوامل ضعف المسلمين. والذي يقرأ المقدسي في رحلته، وياقوت في معجم البلدان يرى صدق هذا القول من تخريب بلاد وقتل نفوس وشدة فتن وهياج...». ظهر الإسلام: 4/102.

     «ويشبّ في مصر في يوم عاشوراء سنة (350 هـ) خلاف بين الجنود السنّة من أتراك وسودانيين من جانب والشيعة من جانب آخر، ويسير الجنود في الشوارع يسألون من يجدونه في الطريق: من خالك؟ فإذا لم يقل: معاوية يلقى من الضرب والأذى ما لا طاقة له به». انظر الفكر السياسي الشيعي: 279381 وإسلام بلا مذاهب: 285288.

(1) «إننا نلاحظ أن أكثر الفرق الإسلامية خسارة أرواحاً وأنفساً هم الشيعة أنفسهم، وذلك لعدة أسباب أهمها: عطف الناس عليهم أول الأمر باعتبارهم أهل البيت الكريم، وشدة تعلقهم بهم، الأمر الذي كان يرتعد منه الخلفاء الاُمويون والعباسيون فرقاً، فكانوا يشددون عليهم النكير ويوقعون بهم الأذى ما كان إلى إيقاع الأذى بهم من سبيل». إسلام بلا مذاهب: 285.

(2) يخضع لتأثير هذا الدافع الكثير ممن يستهلك طاقاته في الوقت الحاضر لمواجهة التشيع، لا سيما في القارة السوداء وشبه القارة الهندية والشرق الأدنى، حيث يبحثون عما يؤدون به دَيْنهم إلى دِينهم، وهم على استعداد للتضحية بالنفس لرفع كلمة الدين وحفظه، ولكن لانعدام الوسيلة الموصلة إلى هذا الهدف، وبسبب البساطة في التفكير يقعون فريسة سهلة المنال للإعلام الكاذب الموجّه من قبل الوهابيين ضد الشيعة، ويهبّون لأداء الواجب حسب اعتقادهم ويرغبون ببذل كل جهد في هذا السبيل لتأدية رسالتهم على حد زعمهم على أفضل وجه. وطالما كان الأمر كذلك فإن التعامل مع هؤلاء ينبغي أن يختلف تماماً عن التعامل مع الوهابيين المغرضين والعارفين بحقيقة الأمر، لكنهم يمعنون في هذا العداء لتحقيق مآربهم، انظر: أفريقا: ميراث كذشته وموقعيت آينده (أفريقيا: تراث الماضي ومكانة المستقبل): 112114.

(1) «في سنة ثلاث وأربعين ومائة شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين الحديث، والفقه، والتفسير، فصنف ابن جريح بمكة، ومالك الموطأ بالمدينة، والأوزاعي بالشام، وابن أبي عروبة وحماد بن سلمة وغيرهما بالبصرة، ومعمر باليمن، وسفيان الثوري بالكوفة، وصنف ابن إسحاق المغاربي، وصنف أبو حنيفة الفقه والرأي... وكثر تدوين العلم وتبويبه، ودونت كتب العربية، واللغة والتاريخ وأيام الناس، وقبل هذا العصر كان الأئمة يتكلمون مِن حفظهم، أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة». تاريخ الخلفاء:261.

     لدراسة العوامل المانعة عن كتابة الأحاديث النبوية في الصدر الأول راجع الملل والنحل: 5171. ولاحظ أيضاً البحث الوافي في كتاب: أضواء على السنّة المحمدية: 261. ويبدو أن العلماء في الفترة اللاحقة لم يكونوا في البدء راغبين في الكتابة اتباعاً للماضين، لكنهم عكفوا عليها بعد أن اُجبر هشام الزهري عليها. نفسه:262.

(1) لاحظ مقدمة وسائل الشيعة: 1/3549، طبع مؤسسة آل البيت. حول السياسة الدينية للعباسيين انظر:

Goldziher, Muslim Studies, pp. 75-77.           

(1) يمكن معرفة مدى تغلغل الأعاجم لا سيما الفرس في البلاط العباسي أوائل عهده من الرواية التالية: «حكي أن المنصور تقدم إلى موسى بن جعفر عليهما السلام إلى الجلوس للتهنئة في يوم النيروز وقبض ما يحمل إليه، فقال: إني فتّشت الأخبار عن جدي رسول الله صلى الله عليه وآله فلم أجد لهذا العيد خبراً، وإنّه سنّة الفرس، ومحاها الإسلام، ومعاذ الله أن يحيي ما محاه الإسلام. فقال المنصور: إنما نفعل هذا سياسة للجند...». جواهر الكلام: 5/42.

(2) في أوائل القرن الرابع الهجري كانت معظم أراضي الدولة العباسية تتبع حكومات محلية مستقلة إلى حدٍّ ما لا ترتبط بالعباسيين إلاّ ارتباطاً ظاهرياً يتمثل في ذكر اسم الخليفة في الخطبة، ولهذا فقد اقتصرت حدود الحكم العباسي عملياً على بغداد وجزء صغير من العراق. انظر نظام الوزارة في الدولة العباسية:19.

(1) حول اتخاذ السلجوقيين للسياسة الدينية وانتفاعهم منها لتعزيز مواقعهم السياسية راجع: نظام الوزارة في الدولة العباسية: 4750، ويقول ابن الأثير عن سياستهم الدينية: بأن السلاجقة أعادوا هيبة الخلافة التي كانت قد آلت إلى الضعف، لا سيما في أيام وزارة نظام الملك.

     لاحظ: المصدر المذكور نقلاً عن التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية: 51، وأيضاً: النقض: 4748، حيث ينقل إجراءاتهم الدينية بنظرة إيجابية.

     وكانت هذه السياسة متبعة من قبل العباسيين أيضاً، يقول البنداري: بأن العباسيين في القرن السادس الهجري رفعوا من هيبة الخلافة حتى أصبحت لبغداد في نظر الأعداء هيبة يستحيل معها التفكير بالسيطرة عليها، ولهذا لم يقدم أي ملك على مثل هذه الخطوة.

     انظر: نظام الوزارة في الدولة العباسية: 64، نقلاً عن آل سلجوق:268. وللمزيد من الاطلاع راجع: المصدر نفسه: 6267.

(1) تعرّض الفكر الكلاسيكي السنّي في القرن الأخير إلى انتقاد شديد وخاصة فيما يتعلق بموقفه من العلاقة بين العلماء والبلاط، من قبل منتقدين ينتمون إلى طوائف متفاوتة وبدوافع متباينة، بينهم علماء دين كالشيخ كشك وخالد محمد خالد وكل علماء الدين المرتبطين بحركة الإخوان المسلمين وعلى رأسهم سيد قطب، وبينهم اليساريون والتقدميون والليبراليون. تتعقب بعض الانتقادات أهدافاً إصلاحية بنّاءة وهي الصادرة عن الطائفة الاُولى، بينما يراد من بعضها الطعن بالدين وإثارة الفتن والتخريب. حول آراء الشيخ كشك انظر: بيامبر وفرعون: 219220. وعن آراء خالد محمد خالد راجع: الشيعة في الميزان:375378، وعن علماء الدين الميّالين إلى الإخوان المسلمين: الأخوان المسلمون والجماعات الإسلامية: 262270. أما عن انتقادات الطائفة الثانية فانظر: الإسلام والخلافة في العصر الحديث: 934، وخاصة الصفحات 1823، ومقدمة محمد عمارة على كتاب الإسلام واُصول الحكم.

(1) أعلام الموقعين: 1/4748. يوضح غرونبام الخصائص الأصلية الهيكلية للدولة الإسلامية ودورها في حفظ المبادئ الدينية والأخلاقية كالتالي: «1ـ الهدف من خلق الإنسان: العبادة. 2ـ العبادة الكاملة تتطلب وجود جماعة المؤمنين. 3ـ هذه الاُمة تحتاج إلى الدولة. 4ـ المسؤولية الرئيسية على عاتق الدولة تأمين الأرضية المناسبة للعبادة».

G.E.Von Grunebaum. Islam 1969, p.127.

(2) عن أهمية الإجماع لا سيما في عصر الصحابة والخلفاء الراشدين الذي يعبر عنه صبحي الصالح بأنه المصدر الثالث من مصادر التشريع الإسلامي، وكيف أصبح مستنداً للكثير من القضايا المرتبطة بالحكومة والخلافة راجع النظم الإسلامية: 281. يعتقد المؤلف بأن الخلافة قامت على الإجماع، ولم تقم على شيء من تلك الأحاديث المروية في الخلافة إلا تعضيداً وتأييداً على سبيل الاستئناس.

(1) تأمل في هذه الفقرة لابن تيمية: «روى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو: أن النبي (ص) قال: لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمّروا عليهم أحدهم. فأوجب (ص) تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيهاً بذلك على سائر أنواع الاجتماع. ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بالقوة والإمارة؛ ولهذا روي: أن السلطان ظل الله في الأرض. ويقال: ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان. والتجربة تبين ذلك.

     ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان». السياسة الشرعية: 138139. انظر أيضاً طبقات الحنابلة: 2/36.

(2) «فدولة الفاطميين والبوهيين والحمدانيين والإيرانيين كلها زمنية في عقيدة الشيعة لا تمتّ إلى الدين بصلة». الشيعة والحاكمون: 7.

     «... ولذلك فإن أية تصرفات من قبل اُولئك الحكام المنتسبين إلى الشيعة لا علاقة بها ولا دخل لها بعقائد الشيعة، وأن الشيعة لا يرون أية علاقة ارتباطية بينهم وبين اُولئك الحكام، وأن أية تصرفات خاصة أو عامة صدرت منهم هي تصرفات شخصية، وإن كانت مطابقة للقرآن والسنّة فهي تصرفات صحيحة، وإلا فإنهم آثمون عليها. ولذلك فإن الشيعة يتنصّلون من أية مسؤولية ترد نتيجة تصرفات اُولئك الحكام. وبالنظر لأن عامل السياسة لا يمكن فصله عن عامل الدين، وأنها تتمثل في الأئمة الاثني عشر المعصومين لذلك فإن الفكر السياسي الشيعي لا يمكن أن يخرج عن نطاق آراء وتصرفات اُولئك الأئمة، ويمكننا أن نطّلع على واقع الفكر السياسي الشيعي من متابعة آراء وتصرفات اُولئك الأئمة في القضايا السياسية، وأنّ أية صور أو مظاهر للآراء والتصرفات التي صدرت من الشيعة إن كانت مطابقة لتعاليم اُولئك الأئمة فهي جزء من الفكر السياسي الشيعي، وإلا فإنها منحرفة كلياً أو جزئياً عن ذلك الفكر». الفكر السياسي الشيعي: 270، وللمزيد من الاطّلاع راجع الصفحات 268271.

(1) كمثال: توقّف قليلاً عند الانتقاد العنيف الذي يوجّهه إلى الأئمة الأربعة في الفقه السني مصطفى شكري مؤسس إحدى الحركات الإسلامية المسلمة في مصر والذي اُعدم بعد اعتقاله، وهو في الحقيقة لا يقصد هؤلاء الأئمة بقدر ما يوجّه اللوم إلى فقهاء الأزمنة التالية لعصور الأئمة الأربعة إلى زمانه ويحاكمهم ويتهمهم بالتواطؤ مع السلاطين، فهو يقول في الردّ على سؤال حول سبب إغلاق باب الاجتهاد بعد الأئمة الأربعة: لكي يمجَّدوا وتُمجَّد مؤلّفاتهم ويصبحوا أصناماً للعبادة كآلهة معابد الشرك. وقد جعلوا من أنفسهم وسطاء بين الله والمؤمنين وخرجوا عن الإسلام. إنهم يتعلقون بالجاهلية والوحشية، ويضيف ما معناه: هل أُغلق حقاً باب الاجتهاد من قبل اُولئك الذين حاولوا إغلاقه؟ كلا ، إنهم أغلقوا باب الاجتهاد لعامة الناس وبقية المسلمين، لكنّهم تركوه مفتوحاً بوجه علماء البلاط على مرّ الأجيال؛ ليصدروا فتاوى تتناسب مع معتقدات السلطة وآرائها مهما كانت تلك المعتقدات، ليقوموا وباسم الإسلام بنشر المعاصي وإباحة المحرَّم. وإذا أردنا أن نقدم أمثلة من الحاضر والماضي لما تمكن أحد من إنكارها؛ لوجود حالات واضحة في تجويز الزنا والربا وإضفاء الشرعية على السلطة على أساس مبادئ لا تستند على القانون الإلهي، وحتى إباحة الفحشاء وشرب الخمر باسم الإسلام. ثم يذكر أمثلة من الفتاوى الصادرة في زمنه. بيامبر وفرعون: 88 89.

(1) كمثال انظر:نخستين روياروئيهاي انديشـه كران إيران: 323366.

(2) ثمة عدد قليل من فقهاء السنّة أجازوا الوقوف بوجه الحاكم الجائر والفاسق حينما يتعذر إصلاحه إلا بالسيف. انظر آراء ابن حزم في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كتاب الفصل: 4/173174، وكذلك آراء إمام الحرمين الجويني في شرح المقاصد: 271275، وهؤلاء كما ذكرنا لا يمثّلون إلا أقلية قليلة.

(3) يذكر ابن الجوزي في كتابه "تلبيس إبليس" أنواع المكائد التي قد يُوقِع بها الشيطان الفقهاء، ومنها القرب من السلاطين، حيث يفصِّل الكلام في هذا الباب ويقول: «.. وفي الجملة فالدخول على السلاطين خطر عظيم؛ لأن النية قد تحسن في أول الدخول ثم تتغير بإكرامهم وإنعامهم أو بالطمع فيهم، ولا يتماسك عن مداهنتهم وترك الإنكار عليهم. وقد كان سفيان الثوري يقول: ما أخاف من إهانتهم لي، إنما أخاف من إكرامهم فيميل قلبي إليهم. وقد كان علماء السلف يبعدون عن الاُمراء لما يظهر من جورهم فتطلبهم الاُمراء لحاجتهم إليهم في الفتاوى والولايات، فينشأ أقوام قويت رغبتهم في الدنيا فتعلّموا العلوم التي تصلح للاُمراء وحملوها إليهم لينالوا من دنياهم». تلبيس إبليس:118119، وكثيرة هي الانتقادات المماثلة في كتب الحديث والأخلاق والتاريخ.

     يتحدث الغزالي بالتفصيل في المواقف التي ينبغي على العلماء اتخاذها إزاء السلاطين، منها قوله: «فهذه كانت سيرة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلّة مبالاتهم بسطوة السلاطين، ولكنهم اتكلوا على فضل الله تعالى أن يحرسهم، ورضوا بحكم الله تعالى أن يرزقهم الشهادة، فلما أخلصوا لله النية أثّر كلامهم في القلوب القاسية فلينها وأزال قساوتها، وأما الآن فقد قيدت الأطماع ألسن العلماء فسكتوا، وإن تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم فلم ينجحوا، ولو صدقوا وقصدوا حق العلم لأفلحوا، ففساد الرعايا بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء، وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا فلم يقدر على الحسبة على الأراذل فكيف على الملوك والأكابر؟». الإسلام بين العلماء والحكام:60، نقلاً عن إحياء علوم الدين: 7/92.

     والطريف أن الغزالي أجاز الدخول على السلاطين في حالتين فقط تكشفان عن فهمه السياسي الديني لهذه المسألة: «لا يجوز الدخول عليهم إلا بعذرين: أحدهما: أن يكون من جهتهم أمر إلزام لا أمر إكرام، وعلم أنه لو امتنع اُوذي، أو فسد عليهم طاعة الرعية، واضطربت عليهم أمر السياسة. فيجب الإجابة، لا طاعة لهم، بل مراعاة لمصلحة الخلق حتى لا تضطرب الولاية.

     الثاني: أن يدخل عليهم في دفع ظلم عن مسلم سواه، أو عن نفسه...». الإسلام بين العلماء والحكام:118، نقلاً عن إحياء علوم الدين:5, من الباب السادس فيما يحل من مخالطة السلاطين الظلمة. انظر أيضاً الفوائد لابن قيِّم: 149 153. و:

Goldziher, The Zahiris,p.165.

Gibb, Studies on The Civilization of Islam, p.145.

(1) كمثال على هذه السياسة يمكن مراجعة الخطبة التي ألقاها إمام الجمعة في مسجد أياصوفيا الشيخ عبيد الله أوائل شهر رمضان في السنوات الأخيرة من الخلافة العثمانية، حيث اتهم فيها جميع الناس سوى الفقراء والمعاقين والمكفوفين بالارتداد والنفاق لامتناعهم عن الجهاد بالمال والنفس، ووضع شرطين اثنين للعودة إلى الإيمان، هما: المشاركة في جبهات القتال، وتسليم نصف أموالهم إلى دار الخلافة التركية، وإلا فإنهم سيحشرون يوم القيامة مع المرتدين والكفرة ويدخلون جهنم لا محالة...راجع ثورة العرب ضد الأتراك: 224.

(2) معالم الخلافة في الفكر السياسي الإسلامي: 100. انظر التفاصيل في كتاب: البلاد العربية والدولة العثمانية للمنظّر القومي العربي المعروف ساطع  الحصري: 3840. وينقل كتاب "الفكر السياسي الشيعي":300 عنه: «تولّى السلطان سليم زعامة السنّة، واستحصل على فتوى من شيوخ السوء بأن الشيعة خارجون على الدين يجب قتلهم، ولذلك أمر بقتل كلِّ من كان معروفاً بالتشيع داخل بلاده».

     وينقل الحائري عن ساندرس قوله التالي في السلطان سليم ومواقفه: «خلال السنوات الثمانية التي حكم فيها هذا السلطان (918927ق) هاجم إيران وفتح كردستان وآذربايجان بعد عام (920 ق)، وأقدم على قتل أو سجن كل من يُعرف عنه بأنه شيعي في منطقة حكمه. وكان علماء السنّة قد أعلنوا بأن قتل شيعي واحد أفضل من قتل سبعين مسيحياً. وقيل: إنّ أربعين ألف شيعي قتلوا في هذه الأحداث». مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة مشهد: العدد 5758، ص56.

(1) اعتمد السلاجقة سياسة مناوءة الشيعة وعمدوا إلى إثارتها لأسباب مختلفة. "نظام الوزارة في الدولة العباسية:47"، وقد عدّهم الخواجه نظام الملك من الكفار، وكان يقول: اقتلوهم حيث ثقفتموهم...وغيرها من الممارسات القاسية ضد الشيعة.

     لكن أحد كبار المتكلمين الشيعة حينذاك وهو عبد الجليل القزويني كان يثني على دور السلاجقة في ترويج الدين ونشره، ويؤكد بأن أي مظهر من مظاهر الإسلام كالمدارس والمساجد والمنابر والسنن الحسنة ودفع البدع، كل هذه من بركات آل سلجوق. انظر مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة مشهد: العدد56، ص744745، نقلاً عن كتاب النقض وسياستنامه. ويمكن مشاهدة أمثلة كثيرة من هذا القبيل في التاريخ الشيعي، بينما لا نجد الحالة المعاكسة لها إلا ما ندر، فمثلاً رفض السلطان العثماني محاولة لنادر شاه عام (1741) في إقناع السلطان الاعتراف بالمذهب الشيعي كمذهب خامس مقابل الاعتراف به كخليفة للمسلمين.

(2) تعرض الشيعة في الكثير من الحالات إلى الضغط والضرب والقتل من قبل آخرين غير السلاطين، وكان لعلماء السوء الدور الأكبر في ذلك؛ لأنهم كانوا يخدعون عوامّ الناس ويحرضوهم ضد الشيعة أو ضد كل مَن على غير مذهبهم بحجة الدفاع عن الدين: «كانت لأبي محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري رئيس حنابلة بغداد آراء خاصة ويواجه بشدة كل مَن يخالف آراءه وعقائده، ويدفع أنصاره للتعامل مع الناس بقسوة تصل إلى حد سلب البيوت وعرقلة البيع والشراء وإرهاب كلِّ من يرفض أقوالهم.

     ومن جملة أعمال البربهاري: أنه منع النياحة وقراءة المراثي على الإمام الحسين D وزيارة مرقده في كربلاء، كان يأمر بقتل النائحين،  ومنهم نائح معروف بـ "خِلْب" وكان حاذقاً في عمله حسن الصوت يقرأ قصيدة في رثاء الإمام الحسين D تبدأ بالبيت التالي:

                      أيها العينان فيضا           واستهلا لا تغيضا

     وقد سمعناه (التنوخي) يقرأها في بيت أحد الرؤساء، وخوفاً من الحنابلة، لم يكن يتجرّأ آنذاك أي أحد على النياحة على الإمام الحسين D إلا في الخفاء أو الالتجاء تحت قدرة السلطان. ولم تكن النياحة سوى رثاء للإمام الحسين وأهل البيت E، دون أن تتعرض إلى السلف، ورغم ذلك فقد أمر البربهاري البحث عن النائح وقتله». وهابيان: 26. ثمة أمثلة اُخرى على هذا المنحى للبربهاري وأنصاره في المصدر نفسه: 2633. وعن منازعته مع أبي الحسن الأشعري وآرائه وعقائده ومواقفه وعاقبته لاحظ طبقات الحنابلة: 2/1845.

(1) غير العوامل المذكورة، ثمة عامل مذهبي آخر ساعد على التقارب بين العلماء والصفويين، إذ كان الصفويون على ما يبدو من الاتجاه الصوفي، وقد استلموا زمام الاُمور بمساعدة الصوفية التي كانت تكنّ ودّاً للرسول 9 وإلى آله، وقد انتهز الكثير من العلماء الشيعة في تلك الأيام هذا الودّ لكسبهم إلى المذهب الشيعي من خلال التقرب إليهم ، ويبدو أن الشيخ البهائي وأباه كانا من هذه الشريحة العلمائية.

(1) انظر تفاصيل هذه الفتوى وعواقبها في مجلة تراثنا، العدد6/ 3841، وكذلك الفصول المهمة في تأليف الاُمة: 143147. وهناك أمثلة اُخرى في المجلة نفسها: 3261.

(2) تراثنا: 6/ 40.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

أين دفنت السيدة زينب عليها السلام
السرّ الرابع - خواصّ الشيعة زوّار الإمام (عليه ...
شهادة فاطمة الزهراء ( عليها السلام )-2
لم يكن يعقوب يعرفها من قبل
الدعاء عند الحجر الاسود
حديث الغدير في مصادر أهل السنة
أين يقع غدير خُمّ؟
الأنفاس القدسية في أسرار الزيارة الرضوية
ليلة القدر فاطمة الزهراء (عليها السلام)
منزلة فاطمة الزهراء (عليها السلام)

 
user comment