الحقيقة الوجودية لأهل البيت ^
انطلاقاً مما ورد وبالاستناد إلى آية المباهلة([1]) ندرك تماماً أن الإمام علي× هو نفس النبي’ ووجوده سلام الله عليه (الإمام) هو الجذر والأساس في وجود الأئمة من ولده وهم أحد عشر إماماً.
فنوره× هو من نور محمد’ ولا يوجد ثمة تفاوت بينها إلا في الجسم والمادة.
جاء في رواية هامة للإمام الصادق×:
>إن الله كان إذ لا كان، فخلق الكان والمكان، وخلق نور الأنوار الذي نوّرت منه الأنوار، وأجرى فيه نوره الذي نوّرت منه الأنوار وهو النور الذي خلق منه محمداً وعلياً<([2]).
وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس قال:
>سمعت رسول الله’ يخاطب علي×: يا علي أن الله تبارك وتعالى كان ولا شيء معه فخلقني وخلقك روحين من نور جلاله فكنّا أمام عرش رب العالمين نسبح الله ونقدسه ونحمده ونهلله وذلك قبل أن يخلق السماوات والأرضين([3]).
وعن جابرt قال: قال رسول الله’: أول ما خلق الله نور ففتق منه نور علي ثم خلق العرش واللوح والشمس ونور النهار ونور الأبصار والعقل والمعرفة.
ومن هنا فأنه لا توجد روح ولا يوجد نور اكثر أنساً واندماجا بنور النبي وروحه من روح علي حتى أن الله سبحانه لما أسرى بالنبي’ وخرج به إلى السماء وكلم رسوله محمد’ كلمه بصوت علي المبارك ولهذا كان محمد أخاً لعلي فقد انصهرت روحهما وأضحتا روحاً واحدة وتوحدا في عالم الطبيعية، ولهذا قال النبي’ يخاطب أخاه ونفسه.
>وأنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى<([4]).
وعندما نستقصي دلالات الروايات فإننا ندرك نتيجة واحدة وهي أن علياً× هو سرّ وباطن محمد وأن محمداً’ هو الفيض الإلهي، وأنها إرادة الله ومشيئته سبحانه أن تكون الولاية هي باطن وجوهر وسرّ الرسالة، فإينما كان لمحمد’ من الظهور فإنه يحمل معه الباطن والسرّ وإذن غياب الولاية لأمير المؤمنين× يعني أن الرسالة ناقصة.
>وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته<([5]).
إن الوجود المقدس لأسد الله الغالب عليه بن أبي طالب× في مرتبة ولايته متصرف في ملكوت ومالك لباطن الوجودات بأذن الحق وهو التجلي لجميع مدارج الغيب والشهود، ولا يتبلور أدنى تصرف في الوجود من دون نور علي×، وإذنه فإنه من دون حب علي× وقبول ولايته لا يمكن بلوغ حب النبي’ وحب الله عز وجل ذلك أن ولي الله هو باب الله وأن نور محمد ونور علي× وقبول ولايته لا يمكن بلوغ حب النبي’ وحب الله عز وجل:
ذلك أن ولي الله هو باب الله وان نور محمد ونور علي× هما بدء ونهاية الوجود:
>بكم فتح الله وبكم يختم وإياب الخلق إليكم<([6]).
ولأن علياً أندك في الناموس الأكبر وذاب في عبوديته لله عز وجل حتى أصبح لا يرى شيئاً إلا ورأى الله قبله وبعده وفيه من أجل ملأ حبه قلوب المؤمنين وأضحى الدليل على الله عز وجل والطريق إليه سبحانه وتعالى.
كلما حدقت في الآفاق |
|
وسبرت الوجود والأعماق |
أرى في حناياه علياً |
|
أنه يملأ الأبصار والأحداق |
ليس كفراً هذا الذي قلت |
|
فعلي دليل الإيمان في الآفاق |
وتفيد الروايات المعتبرة في مصادر الإسلام الأصيلة في تطابق أوصاف الأئمة الأثني جميعاً في كل الأوصاف والخصال ذلك أنهم مخلوقون من نور النبي محمد’.
فهم بالنسبة للنبي’ كالضوء والشعاع من الشمس فهم والنبي من معدن واحد لا يختلفون عنه بشيء إلا بمقام النبوة الذي اختص به الله سبحانه وتعالى رسوله الأكرم محمد’.
وما عدا ذلك فكل ما في شخصه الطاهر موجود فيه’.
أجل كل ما في النبي من خصال وصفات موجود قبس منه في نفوس الأئمة الأطهار من آله، وقد جاء في الأثر عنهم^: >نحن والله أسماؤه الحسنى<([7]).
ولهذا فإن العالم مدين لتلك الأرواح الطاهرة ولهم^ حقوق على العالمين، وقد جاء في كتاب الكافي الشريف عن المعصوم× قوله: >الدنيا وما فيها لله تبارك وتعالى ولرسوله ولنا، فمن غلب على شيء منها فليتق الله وليؤدّ حق الله تبارك وتعالى وليبرّ أخوانه، فإن لم يفعل ذلك فالله ورسوله ونحن براء منه<([8]).
وعلى أية حال فإن الجذور الوجودية لأهل البيت× إنما هي الحقيقة النورية المحمدية وقد تجلّت على علي وفاطمة÷ وعندما تم اقتران هذين البحرين الزخارين بالعرفان الإلهي انبثق عن زواجهما المبارك ظهور الأئمة الأحد عشر^، فتعاقبوا منذ ذلك والى يومنا هذا على هداية الناس وأسماؤهم معلومةً لدى صحابة النبي’ من الذين سمعوا حديثه ووعوه ولم تخدعهم الدنيا بزيفها وزخرفها عن نور الحق.
فهذا جابر بن عبدالله الأنصاري ممن وعا آيات القرآن الكريم وسمع حديث النبي’ وآمن بالحق لا يتراجع عنه قيد أنملة وظل على عهده ووفائه إلى أن توفاه الله ... نعم هذا جابر الصحابي الجليل يقول: لما نزل قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ...}([9])
سألت النبي’: من هم؟
فقال’: هم خلفائي يا جابر وأئمة المسلمين من بعدي أولهم علي بن أبي طالب ثم الحسن والحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر ستدركه يا جابر ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى ثم محمد بن علي ثم علي بن محمد ثم الحسن بن علي ثم سميي ـ محمد ـ وكنيتي حجة الله في أرضه وبقيته في عباده ابن الحسن بن علي ذاك الذي يفتح الله على يديه مشارق الأرض ومغاربها ذاك الذي يغيب عن شعيته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان([10]).
إنّ ما يلفت النظر في حقيقة أهل البيت^ الوجودية ومن خلال الروايات الواردة عنهم^ هو تشبيههم بالشجرة الطيبة، يعني أن أهل البيت^ إنما هو الشجرة الطيبة.
فقد ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق‘ حول تفسير الشجرة الطيبة في سورة إبراهيم([11])، وقد جاء ذلك في معرض جوابه عن سؤال عمرو بن حريث يقول×: >رسول الله أصلها، وأمير المؤمنين فرعها والأئمة من ذريتهما أغصانها، وعلم الأئمة ثمرتها، وشيعتهم المؤمنون ورقها قال: إن المؤمن ليولد، فتورق ورقة فيها وإن المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها<([12]).
الهداية النورية لأهل البيت^
الحقيقة النبوية
بما أن نبي الإسلام محمد بن عبدالله’ سواء من ظاهر الأمر أو باطنه هو الجذر والأصل الوجودي لأهل البيت^ فهم من النبي’ كالفرع من الأصل، والشعاع من الشمس فإن معرفة آل النبي’ لا تتم إلا بمعرفته’، وقد جاء في الروايات والآثار وكتب الأخبار إشارات حول أربع حقائق على أساس أنها أول الخلائق:
1ـ أول ما خلق الله النور([13]).
2 ـ أول ما خلق الله القلم([14]).
3ـ أول ما خلق الله العقل([15]).
4 ـ أول ما خلق الله نوري([16]).
5 ـ أول ما خلق الله روحي([17]).
إن الوجود المبارك لرسول الله’ هو المصداق للنور التام وللقلم والعقل؛ وعلى ذلك دلّت كراماته والى ذلك إشارات معجزاته وكشفت عن عظميته عظمة آثارة وقد شعّت حقيقته على العالمين، ولذا فإننا نجد روايتين أخريين تشيران إلى أن أول ما خلق الله عز وجل نوره وروحه وما هذه الروايات الأربع إلا لتدلّ على عنوان واحد أحد وهو الرسول محمد’.
وهذه مسألة في غاية الأهمية نبحثها من دون تعصب ولا إدعاء، وإنما في ضوء العقل وبالاستناد إلى دلالة الآيات الكريمة والروايات.
النور
يقول الحكماء في تعريف النور، إنه حقيقة جليّة بذاتها مظهرة لغيرها.
والمراد من العقل في الرواية هو الحقيقة التي تربط بين الإنسان وجميع معارف وحقائق الخلق، وقد عبر القرآن الكريم عن الرسول الأكرم محمد’ بـ (السراج المنير) أي المصباح الساطع قال سبحانه وتعالى! {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً}([18]).
فهو نور وحقيقة ساطعة بذاتها مضيئة لغيرها وهو بالنسبة لجميع حقائق الوجود في ارتباط ظاهري وباطني وعلى أعلى درجات الوعي للوجود متحمس في نقل هذا الوعي إلى غيره فيكونوا على وعي وعلاقة مع ظاهر وباطن الوجود وهنا تكمن هوية النور ومعانيه وقد قال الحكماء في تعريف النور:
>النور: كيفية ظاهرة بنفسها مظهرة لغيرها<([19]).
إن الله عز وجل الرحمن الرحيم الحنان المنان شاء أن يخلق شمس محمد([20]) ونوره أول ما خلق الله سبحانه، بهذا تفيد الروايات الكثيرة من شعاع تلك الشمس ومن أنوارها فانكشفت الظلمات ببركة ذلك النور عن الأشياء وانزاحت الأستار والحجب فظهرت أوجه جميع الكائنات فهو السبب المتصل بين جميع الأشياء وبارئها.
ومن هنا قال في بعض ما ورد من أحاديث موثوقة: >أنا الشمس([21])، وما أعجب هذا التشبيه: >أنا الشمس إليها تستمد منها النور والدفء ومقومات الوجود.
إن نور النبي’ خلقه الله عز وجل قبل كل شيء وشاء الله أن يكون مصدر الوجود لكل الكائنات الأخرى، فنور النبي’ نبع لجميع الأشياء وما هذه الكائنات إلا من نور النبي محمد’.
فكما أن الكواكب السيارة تشكل تجلياً للمنظومة الشمسية ومؤلفة لها فهي أجزاء شمسية لكنها تتجلى بثوب آخر وحلّة أخرى وعلى حدّ تعبير الفلاسفة، أنها كائنات تعيّن نزولها في إطار آخر وفي حلّة أخرى.
فإنّ الكائنات الملكية والملكوتية والغيبية والشهود ية هي كذلك وبإرادة الحق تعالى هي تعينات تنزلية من شمس محمد.
فنشأت من حقيقته المباركة الأقمار والنجوم، وقد جاء في الأثر عن النبي:
>أنا الشمس وعلي القمر، وفاطمة الزهرة، والحسن والحسين الفرقدان<([22]).
وهذا الحديث عن النبي’ الذي عصمه الله من الخطأ فلا ينطق عن الهوى، وعلى هذا فهو ينطوي على دلالات عميقة، وقد اختار النبي في حديثه مفردات يفهمها الكل ويدركها الجميع.
إن الحقيقة المحمدية متصلة بالحق اتصال الشعاع بالشمس، بل أن اتصال النبي بالحق أقوى وأوثق من اتصال شعاع الشمس بالشمس، وقد شاء الله عز وجل أن يكرم رسوله محمد’ بأنواع المكارم فجعله سبباً في تحقق جميع الكائنات في هذا الوجود الفسيح فكل الكائنات والمخلوقات مدينة له وهو من أكثرها قرباً واتصالاً بالحق تبارك وتعالى.
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}([23]).
{وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}([24]).
أجل أن ملكية جميع النعم هي بيد النبي’ بإذن الله تبارك وتعالى والجميع يأكل من مائدته بأذنه فعليهم أن يدركوا أن عليهم حقوقاً يجب أن يؤدوها بكل شوق ورغبة وليعلموا أن ما يؤدونه يعود إليهم بلطف رسول الله الكريم الأكرم:
>قل ما سألتكم من أجر فهو لكم<([25]).
القلم
وهو تجلّ آخر لشأن الرسالة الإلهية والنبوّة المحمدية لرسول الله الذي هو السبب في سعادة من يستحق السعادة والرحمة الربانية للعالمين وهدى ورحمة للناس أجمعين:
{وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ}([26]).
والقلم كما تفيد الروايات حقيقة تحدد مصير كل الأمور الباطن فيها والظاهرفي هذا العالم والقلم هو الذي يعين السعادة والهداية والكرامة، حيث القلم تعبير وتجل عن إرادة الحق تبارك وتعالى للرحمة الإلهية، والقلم في أحد معانيه هو الحقيقة المحمدية وقد أقسم به الحق تبارك وتعالى:
العقل: العقل بمعناه الأولي والأصلي وبلا أي ترديد ليس سوى الحقيقة المحمدية والتجلي في عالم الوجود؛ فأول ما صدر عن الحق تبارك وتعالى هو العقل، ولذا فهو أحب الخلق إلى خالق الخلق.
>وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليَّ منك<([28]).
ثم أليس أن أحب الخلق إلى الله عز وجل هو محمد’ حبيب الله وهو من أقرب الخلق إلى الله شأناً ومنزلةً.
أجل أنه هو عقل الكل وكل العقل وهو مجموع آثار العقل والأكثر إيجابية ونفعاً في عرصة هذا الوجود؛ تجلى على أتم صورة وأكمل وجود فالرسول محمد’ هو التعبير الأكثر جلاء والاكثر كمالاً للعقل.
الروح
الروح واستناداً لآيات القرآن المجيد هي من مقام عالم الأمر وقد ظهرت بكلمة الله عز وجل (كن) وليس من مقام الخلق ظهرت و من عناصر مادية:
{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَْمْرُ}([29]).
فالروح حقيقتها ليست معلومة لأحد قد صدرت من مقام الأمر الإلهي وبكلمة منه سبحانه ظهرت للوجود.
{وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}([30]).
قال عز وجل: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}([31]).
وقال عز وجل: {ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ}([32]).
وقد جاء في الروايات أن الله عز وجل أول ما خلق روح محمد’، وقد ورد عن النبي’ قوله: >أول ما خلق الله روحي<([33]).
ويجد المرء تدرجاً وتنوعاً في التعبير عن هذه الحقيقة مراعاةً للأفهام المختلفة والإدراكات المتنوعة كل ذلك من أجل إيصال هذه الحقيقة كل حسب طاقته ومستواه وإدراكه ولهذا نلاحظ في الروايات: >أول ما خلق الله النور<.
ونرى أحياناً قو ل الرسول’: >أول ما خلق الله القلم<([34]).
وقوله: >أول ما خلق الله العقل< وقوله: >أول ما خلق نوري<.
أو قوله: >أول ما خلق الله روحي<.
ومما أوضحنا آنفاً يمكن أن نخلص إلى نتيجة واحدة هي أن النور والقلم والروح والعقل كلمات ترتبط فيما بينها بمعنى واحد فهي تجليات لحقيقة واحدة وهي الحقيقة المحمدية: >عباراتنا شتى وحسنك واحد<
قصّة العشق خارجة عن البيان واختلاف الألفاظ يشير إلى جهة
واحدة وعلى أية حال فإن وجوده المقدس هو أصل وأساس جميع الأشياء وهو الجوهر الوجودي لكل الكائنات.
وما النور والقلم والعقل والروح إلا درجات لحقيقة واحدة أي بمعنى أن النور حقيقة القلم والروح والروح والقلم حقيقة العقل، وإذن فإن الله عز وجل خلق الحقيقة المحمدية ولها درجة النور والقلم والعقل والروح من نوره مباشرة ثم خلق جميع الكائنات بعد ذلك من نوره المقدس، وجاء في الأثر عن الإمام جعفر بن محمد الصادق‘: >خلق الله المشيئة بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشيئة<([35]).
يعني أن الله عز وجل خلق المشيئة وهي الاسم الآخر لمظهر ونور محمد’ بالتجلي الذاتي من دون واسطة شيء آخر ثم خلق الكائنات الأخرى من النور المحمدي، ذلك أن الحقائق المتعينة والمحدودة العقلية والغير عقلية لا يمكنها الارتباط مباشرة بالذات المقدسة الإلهية التي هي منزهة من كل التعينات والقيود.
وإذن فإن النور المحمدي الإطلاقي هو بمثابة البرزخ الواسطة بين الثابت والمتغير وبين المطلق والمقيد وبين الساكن والمتحرك.
ومن دون النور المطلق المحمدي الذي هو الفيض المنبسط فإنه يستحيل وجود ارتباط ذاتي بين الخالق والمخلوق.
وإذن فإن التجلي الذاتي للحق تبارك وتعالى والنور الظهوري والجمال المطلق هو نفسه الفيض المحمدي المطلق والمشيئة الإشراقية الأحمدية والأنوار النبوية وقد جاء في الأثر: >إن الله خلق العقل ـ وهو أول خلق من الروحانيين ـ من يمين العرش من نوره<([36]).
وفرق أحمد عن أحد حرف ميم |
|
وفيه انطوت كل العوالم |
أهل البيت النور المطلق
انطلاقاً من الحديث الهام والموثوق عن النبي’ وصور له:
>أول ما خلق الله نوري<([37]).
وما أثبتناه فيما مضى في أن أهل البيت^ هم المظهر التام والكامل لهذا النور فإنه يمكن القول وبلا تردد في أن أهل البيت^ هم من حيث الهوية والماهية والخلقة ليسوا إلا النور الإلهي الذي يزخر القرآن الكريم في الإشارة إليه، وأن حقيقة وجودهم هي من حقيقة وجود الله الجامعة لجميع الصفات الكمالية.
هذه الحقيقة الخالدة المتصلة بالحق تعالى إلى الأبد. الحقيقة المتوهجة المتألقة المضيئة أبداً والتي لا تعرف الانتهاء ولا الانطفاء مهما كاد الكائدون وكره الكافرون وتميز غيظاً الحاقدون.
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ}([38]).
وهذه الآية الكريمة التي تصرح بشكل جليّ بإضافة النور إلى الله ومن ناحية أدبية نعرف أن المضاف يكتسب هويته وتعيّنه وأوصافه من المضاف إليه وهو الله عز وجل بعبارة أخرى أن هذا النور ـ الذي أوضحنا بأنه يعني أهل البيت والأئمة المعصومين ـ لا ينفصل عن الله عز وجل أبداً، وهو يتلقى الفيض الإلهي بشكل دائم ومستمر يقول الإمام الصادق×:
>أشدّ اتصالاً بروح الله من اتصال شعاع الشمس بها<([39]).
أجل أن أهل البيت لأشد اتصالاً بالحق من شعاع الشمس بالشمس، وهذه الزيارة الجامعة الكبيرة وهي موثوقة السند متصلة بالإمام الهادي×، ونحن نزور أئمة أهل البيت جميعاً بهاو نقرأ فيها:
>خلقكم الله أنواراً<([40]).
ونجد فيها هذا النص أيضاً: >وأن أرواحكم ونوركم وطينتكم واحدة طابت وطهرت<([41]).
ونقرأ في زيارة وارث:
>أشهد أنك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة<([42]).
كما نقرأ في كتب المقاتل أن الإمام السجاد× لما وضع جسد أبيه الذبيح في القبر ووضع رقبته عن التراب قال:
>أبتاه أما الدنيا فبعدك مظلمة، وأما الآخرة فبنور وجهك مشرقة<([43]).
أهل البيت وإتباعهم
يروي أبو خالد الكابلي أنه سأل الإمام الباقر× حول قوله تعالى:
{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا}([44]).
فأجاب الإمام الباقر× قائلاً: يا أبا خالد النور والله الأئمة من آل محمد إلى يوم القيامة، هم والله النور الذي أنزل وهم والله نور الله في السماوات والأرض والله يا أبا خالد لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار وهم والله ينوّرون قلوب المؤمنين ويحجب الله نورهم عمّن يشاء فتظلم قلوبهم. والله يا أبا خالد لا يحبنا عبد ويتولاّنا حتى يطهر الله قلبه، ولا يطهر الله قلب عبد حتى يسلم لنا ويكون سلماّ لنا فإذا كان سلماً سلّمه الله من شديد الحساب وآمنه من فزع يوم القيامة الأكبر([45])
أجل أن الإنسان عندما يجتنب الآثام والذنوب والمعاصي فإن قلبه ينفتح على نور أهل البيت فيتلقى إشراق النور، وحينئذ ينجذب إلى ذواتهم المقدسة فيملأ قلبه بحب أهل البيت^ ومودتهم ويتشرّب ثقافتهم ويسلك طريقهم وصراطهم الذي هو صراط الله المستقيم وطريق الحق القويم.
وقد ورد في مقتل سيد الشهداء× أن عمر بن سعد أرسل من قبله مبعوثاً إلى الإمام الحسين وكان برفقة رسول ابن سعد أربعة رجال وذلك في ساعات يوم عاشوراء الأولى فقرأ على الإمام× رسالة عمر بن سعد، وقد أجاب الإمام× لكن المبعوث ظل واقفاً فقال له الإمام ألا ترجع إليه بالجواب فقال الرجل: ما جئت إليك لكي أرجع أنا باق معك، أقف إلى جانبك([46]).
أجل أن القلم عندما ينفتح أمام شمس الإمام فإن ينغمر بالنور فنشد إلى الإمام ويدور في فلكه وحينئذ يسعد في دنياه وآخرته.
فالإمام وكما تفيد الروايات هو نور الله وشأنه المعنوي شأن الله وكل من أطاعه الله ومن أحبه فقد أحب الله ومن بايعه فقد بايع الله.
يروي ابن عباس أنه كان يطوف حول الكعبة فسمع هاتفاً يقول: أيها الناس من أراد أن يبايع الله فليبايع حسيناً، «سمعت قائلاً لم أرَ شخصه»([47]).
أن أهل البيت هم نور الله عز وجل الذي هو نور السماوات والأرض، وهم في السنام الأعلى وفي الذروة العليا من الطهر والنقاء والعصمة من الأنام والذنوب، وهم في أقصى درجات النفور من المعاصي والذنوب، وهم يحبون لشيعتهم أن يكونوا كذلك وأن يبذلوا غاية الجهد في اجتناب المعاصي وارتكاب الذنوب.
إنّ أهل البيت^ يرون الرجس الباطني ظلمات ولذا يصرّون على شيعتهم أن يقتدوا بهم للخلاص من ظلمة الباطن وظلامه.
إن أهل البيت وهم ذروة الطهر والنقاء لا يحبذون من تلوّث ثوبه بدنس ظاهر أو باطن، ولذا^ لا يستقبلون من كان جنباً أو بثوبه لوث.
وقد جاء في الأخبار أن أحدهم دخل المدينة وكان جنباً وأراد زيارة الإمام الصادق ثم الذهاب إلى الحمام للتطهّر فلما طرق الباب على الإمام إذا بصوته× يأتيه: >أن تطهّر ثم ائتنا<([48]).
اغتسل بدمعك هكذا يقول أهل الطريقة |
|
تطهر أولاً ثم انطلق للقاء ذلك الطاهر
|
إن حياة الحب والولاء لأهل البيت^ والاقتداء بهم في كل شؤون الحياة المادية و الروحية أن هكذا حياة هي في الحقيقة حياة الأنبياء.
يروي الإمام الباقر× عن جدّه رسول الله’ قوله:
>من أحب أن يحيا حياة تشبه حياة الأنبياء، ويموت ميتة تشبه ميتة الشهداء، ويسكن الجنان التي غرسها الرحمن، فليتولّ علياً وليوالِ وليّه وليقتد بالأئمة من بعده، فأنهم عترتي، خلقوا من طينتي؛ اللهم أرزقهم فهمي وعلمي، وويل للمخالفين لهم من أمتي، اللهم لا تنلهم شفاعتي<([49]).
الدرجات الوجودية لأهل البيت^
سير نزول وصعود الإنسان
إن للإنسان مراحل ودرجات طواها ومرّ بها حتى وصل إلى الدنيا ثم تعقب مرحلة الدنيا مراحل أخرى، لابد أن يمرّ بها الإنسان إلى أن يصل إلى نفس المرحلة التي بدأ منها رحلته الطويلة، ولكن مع اختلاف في الكيفية.
قال تعالى: {كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}([50]).
مع التأكيد أن هذه المسيرة والحركة >من الله وإلى الله< لا تختص بالإنسان وحده، بل أن جميع الكائنات تسير في قوسي النزول والصعود وبهذا تكتمل الدائرة، إلا أن السير والحركة في الإنسان وهو أشرف المخلوقات هو سير وتحرك تكاملي، بحيث أن جميع الدرجات والمراحل الوجودية يطويها في دائرة النزول والصعود، فالإنسان يتحرك من عند الحق في مرحلة >أحسن تقويم< إلى أن يصل >أسفل سافلين< المادة، ومن ثم يعود إلى الحق في حركة صعودية وسير وحركة جوهرية تكاملية مع تحولات وتغيرات في أبعاده المعرفية والوجودية.
ومن بين البشر جميعاً هناك أناس بارزون وممتازون ولهم صفة الإمامة بالنسبة للآخرين ويمتازون بسعة وجودية خاصّة، هؤلاء الناس تكون حركتهم بصورة أكمل من دون عيب أو نقص يعني أن مسارهم التكاملي يتم بدون ارتكاب أي خطأ.
وفي طليعة هؤلاء البشر يبرز النبي الأكرم’ باعتباره الإنسان الأكثر كمالاً ثم أهل بيته الأطهار^.
([1]) آل عمران: الآية 11. {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ ...}، ورد في تفسير الإمام الحسن العسكري: 656 وبحار الأنوار 37/48، باب 50 حديث 27 في ذيل الحديث الشريف المروي عن النبي الأكرم’ في تفسير الآية الكريمة (المباهلة): >فكان الأبناء الحسن والحسين، جاء بهما رسول الله فأقعدهما بين يديه كشبلي الأسد وأما النساء فكانت فاطمة جاء بها رسول الله’ وأقعدها كلبوة الأسد، وأما الأنفس فكان علي بن أبي طالب×.
وقد أجمع المفسرون الشيعة وبعض مفسري السنة >أجمع المفسرون على المراد بالنفس ها هنا علي× وقد أشار إلى ذلك ابن حجر في الصواعق المحرقة: 238، وورد كذلك في بحار الأنوار: 35/257، باب 7 وهو باب مختص بهذه الآية الشريفة.
([4]) نهج البلاغة: 562، خطبة 234؛ عوالي اللئالي: 4/122، حديث 204؛ بحار الأنوار: 18/223، باب 1، حديث 61.
([12]) الكافي: 1/428، حديث 80 (مع افتراق ضئيل)، تفسير الصافي: 1/886، وهذا الرؤية تلقي الضوء على أن شيعة أهل البيت المؤمنين هم من أجزاء هذه الشجرة الطيبة المباركة، وإضافة إلى ذلك فهناك روايات تشير إلى أن المؤمنين من شيعة أهل البيت^ هم من أنوار أهل البيت الساطعة وقد جاء في الأثر: >شيعتنا خلقوا من فاضل طينتنا، يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا< الأمالي للطوسي: 299 حديث 588، ومقابل الشجرة الطيبة هناك الشجرة الخبيثة للإشارة إلى حقيقة كلمة الشرك وما تنطوي عليه من فساد وانحراف وكفى فهي وبسبب بعدها عن شجرة الطيبة فإن كل الضالين والمجرمين هم أجزاء من الشجرة الخبيثة التي (أجتثت من فوق الأرض مالها من قرار) وقد جاء في الروايات أن الشجرة الطيبة هي محمد وآل محمد’ والشجرة الخبيثة هم بنو أمية (تفسير نور الثقلين: 2 ذيل الآية الشريفة).
([18]) سورة الأحزاب: الآيتان 45 ـ 46، يقول المرحوم المجلسي في بحار الأنوار: 31/308 باب 11 في تفسير الآية الكريمة (وسراجاً منيراً)، يهتدي بك في الدين كما يهتدي بالسراج المنير الذي يصدر من جهته، أما بفعله وإما لأنه سبب له فالقمر منير والسراج منير لهذا المعنى<، وجاء في البحار أيضاً في توضيح خطبة لأمير المؤمنين×: >وسراجاً منيراً< يستضاء به في ظلمات الجهالة ويقتبس من نور أنوار البصائر.
([22]) معاني الأخبار: 114، باب مضر الشمس، حديث2، بحار الأنوار: 24/74، باب 3/حديث 9.
وجاء في لسان العرب: 3/334 الفرقدان: >نجمان في السماء لا يغربان، ولكنهما يطوقان بالجدي و..< ولا يخلو الحديث من لطافة في التشبيه.
([28]) الكافي: 1/10 كتاب العقل والجهل، حديث 1، الأمالي للصدوق: 418؛ المجلسي65، حديث 5؛ بحار الأنوار: 1/96 باب 2 حديث 1.
([45]) الكافي: 1/194، باب أن الأئمة نور الله، حديث 1، تفسير القمي: 2/371، بحار الأنوار: 23/308، باب 18، حديث 5.