عربي
Sunday 25th of August 2024
0
نفر 0

منع رواية وكتابة سنة الرسول في عهد عمر بن الخطاب

الفصل الخامس
منع رواية وكتابة سنة الرسول في عهد عمر بن الخطاب

لقد كان لعمر بن الخطاب مفهومه الخاص به عن سنة الرسول بأنواعه الثلاثة القولية والفعلية والتقريرية، وبقي عمر وفيا لهذا المفهوم، في صحة النبي وفي مرضه، وقبل أن يتولى عمر الخلافة، وبعد أن تولاها، والظاهر من أقوال عمر ومن تصرفاته، أنه كان لا يعتقد بأن كل ما يقوله الرسول أو يفعله صحيحا أو من عند الله!!! لقد أقنع نفسه بأن له الحق بإبداء مطالعاته على ما يقوله الرسول أو يفعله!! خاصة في الفترة التي سبقت وفاة الرسول!!، وقد وسع الرسول الأعظم الرجل بحلمه العظيم، لكونه من أصحابه، ولكونه من أصهاره، لأنه يعرف مفاتيح شخصيته، وطبيعة النفس الإنسانية، وقدر الرسول أن عمر بوقت يطول أو يقصر سيعود لوضعه الطبيعي، وسيستقر نفسيا!! ثم إن الرسول الأعظم ليس مخولا بأن يعاقب الناس على نواياهم، ما لم تخرج هذه النوايا إلى حيز الوجود الخارجي، وتأخذ شكل فعل كامل التكوين ومحظور، والرسول الأعظم كان لا يرى أن له الحق بمصادرة حريات الناس، خاصة حرية القول، بل كان هدف الرسول منصبا بالدرجة الأولى والأخيرة على توجيه هذه الحريات توجيها شرعيا، بحيث يتكون لدى الإنسان الإحساس الذاتي، بمسؤوليته

عن أقواله وأفعاله ووزنها بميزان الشرعية الإلهية، ثم إن الرسول الأعظم كان يتعامل قانونيا مع الظواهر، تاركا أمر البواطن لله تعالى، لقد عرفه الله تعالى بالمنافقين ولكن لا أعلم أن رسول الله قد قال خلال حياته لأحد من المنافقين بالذات أنت منافق يا فلان!!! كان المنافقون يتلفظون الشهادتين، ويصلون ويصومون ويعتمرون ويحجون ويزكون، ويخرجون للجهاد مع رسول الله، وإذا تخلفوا عنه يعتذرون ويظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر والفسوق ولا عصيان، كان الرسول يعلم ذلك علم اليقين، ولكنه كان لا يرى لنفسه سلطانا لمعاقبة هذا المنافق أو ذاك، ما لم يجهر بكفره وفسوقه وعصيانه، ويأخذ هذا الجهر الصورة الكاملة لفعل محظور شرعا، فإن فعل ذلك عاقبه الرسول بحدود الفعل، كمسلم حسب الظاهر، وبالعقوبة المحدودة شرعا ولكن الرسول لا ينبش ماضيه، ولا ينقب عن حقيقة إيمانه، ثم إن الرسول يمثل قمة الكمال الإنساني، وصفوة الوجود البشري، وهو بطبيعته رحمة للعالمين، قود وسع بحلمه المسلمين جميعا، وعلا بخلقه فوق الناس أجمعين لذلك وصف الله تعالى خلقه وصفا دقيقا بقوله: (وإنك لعلى خلق عظيم) فعبد الله بن أبي كان كهف المنافقين والنفاق، وقد أبدي رغبته بأداء العمرة مع رسول الله، ولم يكسر النبي بخاطره واصطحبه كأي واحد من المسلمين، ولما نزل رسول الله في الحديبية، وتعثرت المفاوضات مع زعامة الشرك، وأمر الله رسوله بأن يأخذ البيعة على القتال من المسلمين بايعه ابن أبي كواحد من المسلمين، ولما عرضت زعامة الشرك على ابن أبي أن يؤدي العمرة وأن يطوف بالبيت قال كيف أفعل ذلك دون رسول الله!! ومن المؤكد أن ذلك قد أثلج خاطر الرسول وفي لحظة من اللحظات، اقترح بعضهم على رسول الله أن يقتل ابن أبي، فأجاب الرسول ذلك البعض بقوله: " كيف يقال بأن محمدا يقتل أصحابه، والله لنحسنن صحبته ما دام بين أظهرنا " وفي غزوة تبوك وأثناء عودته وعندما تآمر عليه ذلك النفر من المنافقين ليقتله، كشف الخبر لأصحابه، ولكنه لم

 

 


يعاقب المتآمرين، لأن الخبر قد جاءه بالوحي قبل أن يشرع المتآمرون بتنفيذ الجريمة، ولما قال له بعض أصحابه: لم لا تقتلهم يا رسول الله، أجاب أليسوا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله!! قالوا: بلى ولكن لا شهادة لهم، فقال النبي: إني لم أؤمر بذلك، سيقول العرب إنه بعد أن وضعت الحرب أوزارها بدأ محمد يقتل أصحابه!! كان مجتمع المدينة وما حولها غاص بالمنافقين وأصحاب النفوس الفاسدة، بل إن هنالك فئة داخل المدينة وخارجها قد مردت تماما على النفاق كما ذكر الله تعالى، فهم ليسوا منافقين فحسب بل هم من كبار مردة النفاق كان الرسول يعلم ذلك، لكنه مقيد بالحكم الإلهي، ومقيد بالخلق العظيم، ومقيد بكونه ذروة الوجود والكمال الإنساني، كان يتصرف مع الجميع تصرف الأكبر، تصرف الوالد الرحيم مع أبنائه، فلم يقطع الرجاء بصلاح من انحرف، أو حاد عن الطريق المستقيم، كان يأمل أن يخرج الله من صلب ذلك المنحرف إنسانا مستقيما!! روحي فداك يا رسول الله كم أنت كبير وعظيم وحليم ورحيم!!!

لقد كان عمر بن الخطاب أحد أصحابه الذين هاجروا تبعا لهجرته، لقد عرض عمر ابنته حفصة على رسول الله فتزوجها، فنال شرف المصاهرة، وصار يتردد على رسول الله بحكم الصحبة وبحكم المصاهرة، كان عمر في الجاهلية رجلا مغمورا ليس من علية القوم، ولا من زعامتها، أنظر إلى قول المقداد لعمر في السقيفة: " لأعيدنك إلى قوم كنت فيهم ذليلا غير عزيز... " كما يروي ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ج 1 ص 4 وما فوق، وبعد الهجرة وجد نفسه صاحبا لأعظم شخصية في العالم، وحما لرجل الساعة، وواحدا من أتباعه المقربين بحكم الصحبة والمصاهرة والغربة عن مسقط الرأس، فتاه الرجل فخرا وعزا، فاستخفته هذه المرتبة العالية، فتفتح طموحه، واتسع نطاق وسائله ليستوعب هذا الطموح العجيب، ويتقن من حلم النبي العظيم، ومن إحساس النبي الصادق بأن لعمر عليه حق الإسلام، وحق الصحبة، وحق المصاهرة، والحلم النبوي

 

 


الفذ وهذه الحقوق التي يراها الرسول لعمر تجعل عمر في أمان خلال هذه الحياة الدنيا على الأقل، فانطلق الرجل، وخلال انطلاقته كشف بوضوح عن مفهومه الخاص لسنة رسول الله بأنواعها الثلاثة القولية والفعلية والتقريرية، بل لقد كشف عن طبيعة إيمانه ونظرته الشخصية للرسول، ولما آلت إليه الخلافة تألق نجمه كصاحب لرسول الله وكخليفة، بيده مفاتيح خزائن دولة عظمى، يؤلف بأموالها ونفوذها القلوب من حوله فاستقطب بسيرته قبل الخلافة وبعدها الذين عادوا رسول الله، وأسند لهم مناصب الدولة العليا، واستقطب من أيد سياسته من القلة المؤمنة، ثم عزل أهل بيت النبوة عزلا اجتماعيا تاما، وأذلهم، حتى ينتزع من نفوسهم وإلى الأبد فكرة المطالبة بالرئاسة العامة للمسلمين، ومن الادعاء بأن الرئاسة حق خالص لأهل بيت النبوة من دون الناس!!

أما على مستوى الشخصي فعاش حياة الكفاف!! فانقادت فئات الأمة له، قلة من المؤمنين، وكامل بطون قريش وكافة أعداء الله ورسوله السابقين، والمنافقين والمرتزقة من الأعراب، وصارت كل فئة تعتقد أنه رجلها، وحتى أهل بيت النبوة لم يجهروا بمعارضتهم له، فذاع صيت الرجل، وعمت شهرته، ووضعت له الفضائل التي لا تحصى، وتصور الناس أن الرجل يخالف الله ورسوله لحكمة خافية عليهم، وأن الله لو لم يختر محمدا للنبوة لاختار عمر، وما من قصة كان فيها رسول الله وعمر إلا وأعطوا فيها دور البطولة لعمر، وصارت هذه المعتقدات جزءا من عقيدة العامة والخاصة ثم آلت الخلافة إلى أعداء الله السابقين والحاقدين على أهل بيت النبوة فبالغوا بمدح أبي بكر وعمر لا حبا بهما ولكن إرغاما لأنوف أهل بيت النبوة، وشب الصغير على ذلك وهرم الكبير فيه، واستقر ذلك في النفوس عمليا!! فأي بحث موضوعي سيصطدم بهذه القناعة المسبقة التي تكونت عند الغالبية من المسلمين والتي ترفض ما يتعارض معها!! بهذا المناخ سنبحث منع رواية وكتابة سنة الرسول في عهد عمر بن الخطاب،

 

 


وكما قلنا في بداية هذا الفصل بأنه كان لعمر بن الخطاب مفهومه الخاص عن سنة الرسول بأنواعها الثلاثة القولية والفعلية والتقريرية.

نماذج من موقف عمر بن الخطاب من سنة الرسول حال حياة الرسول

1 - قال عبد الله بن عمرو بن العاص: " كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله أريد حفظه فنهتني قريش... " (1) فعمر بن الخطاب كما سيتضح جليا في ما بعد كان على رأس قريش التي نهت عبد الله بن عمرو عن كتابة كل شئ يسمعه من رسول الله بدعوى أن الرسول يتكلم في الغضب والرضا كما يتضح في نهاية الخبر، وحسب هذا الخبر الصحيح فإن عمر كان يعتقد بأنه ليس كل ما يقوله الرسول صحيحا وجديرا بالكتابة.

2 - صلح الحديبية من أعظم الإنجازات الإسلامية على الإطلاق بل هو الثمرة المباركة لكافة المعارك التي خاضها رسول الله، وقد وصف تعالى في كتاب العزيز هذا الصلح " بالفتح المبين والنصر العزيز " لأن هذا الصلح قد حسم الموقف نهائيا لصالح الإسلام دون إراقة قطرة دم واحدة، ولو تغاضينا عن هذه النتائج الباهرة، فإن كل ما فعله الرسول كان بأمر ربه، لقد أعلن الرسول أن روح القدس قد نزل عليه وأمره بالبيعة (2) وقد فهم الجميع أن الصلح قد تم بتوجيه إلهي، فقد قال الرسول للجميع: " إني رسول الله ولست أعصيه " (3).

____________

(1) سنن أبي داود ج 2 ص 126، وسنن الدارمي ج 1 ص 125، ومسند أحمد ج 2 ص 162 و 207 و 216، ومستدرك الحاكم ج 1 ص 105 و 106، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ج 1 ص 85، وكتابنا المواجهة ص 254.

(2) راجع ما كتبناه في الفصول السابقة عن هذا الموضوع تحت عنوان " أساليب مستقاة من مبادئهم " وراجع المغازي للواقدي ج 2 ص 604، وصحيح البخاري آخر كتاب الشروط، والسيرة الحلبية ج 2 ص 706، والسيرة النبوية لابن كثير ج 5 ص 320، وصحيح البخاري ج 6 ص 122، والمغازي للواقدي ص 600 و 607 و 609.

(3) المصدر السابق.

 

 


وقال أبو بكر مخاطبا عمر: " أيها الرجل إنه لرسول الهل وليس يعصي ربه وهو ناصره " (1) وبالرغم من كل ذلك فإن عمر بن الخطاب اعتبر الصلح الذي رضي به الله ورسوله " دنية في الدين " وأن ما فعله الرسول كان خاطئا وغير صحيح!!

وحاول عمر أن يقنع الحاضرين بأن الصلح الذي ارتضاه الله ورسوله دنية في الدين، ليفرضوا عن الرسول إلغاء الصلح والرجوع عنه!! ولما يئس من إقناعهم قال: " لو وجدت أعوانا ما أعطيت الدنية في ديني... " والمثير أنهم رغم ذلك سجلوه شاهدا على صك صلح الحديبية (2) وكما تعلم فإن سنة الرسول تعني قول الرسول وفعله وتقريره، وهكذا تعامل عمر بن الخطاب مع سنة الرسول في صلح الحديبية.

3 - وعمر بن الخطاب هو الذي أوجد مبدأ " عدم جواز جمع الهاشميين للنبوة مع الملك، بل يجب أن تكون النبوة للهاشميين، وأن تكون الخلافة لبطون قريش تتداولها في ما بينها " (3)!! لأنه من غير الجائز أن يكون النبي من بني هاشم وأن يكون الخلفاء من بني هاشم أيضا كما أعلن النبي في سنته، وكان لهذا المبدأ الأثر الفعال في تجاهل سنة الرسول المتعلقة بنظام الحكم وبمن يخلف النبي، وليفتح عمر أشواق مطامع الجميع على الخلافة أجاز في ما بعد أن تكون الخلافة للأنصار، فقال: لو كان معاذ بن جبل حيا لوليته واستخلفته، ومعاذ من الأنصار، وكان من غير الجائز حسب رأي عمر سابقا أن يتولى الأنصار الخلافة، والأبعد من ذلك أن عمر بن الخطاب قد أجاز للموالي أن يتولوا الخلافة فقال: " لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لوليته واستخلفته وهذا من الموالي ولا يعرف له

____________

(1) المصدر السابق.

(2) شرح النهج ج 3 ص 790.

(3) الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 3 ص 24 آخر سيرة عمر من حوادث سنة 23، وشرح النهج لعلامة المعتزلة ج 3 ص 107 و 97 كما نقلها عن تاريخ بغداد.

 

 


نسب في العرب!!! وكان عمر يتصرف بمثل هذه التصرفات وهو على علم تام بسنة الرسول المتعلقة بمن يخلف الرسول، وكيف ينسى ذلك وقد بايع الخليفة الشرعي أمام الرسول وقدم له التهاني في غدير خم كما وثقنا بأكثر من عشرين مرجعا في البحوث السابقة، ولكن عمر كان يعتقد أن تنصيب الرسول للإمام علي هو من عند نفسه لا من عند الله، وكان يعتقد أن تنصيب الرسول للإمام علي ليس مناسبا!! لحداثة سنه والدماء التي عليه كما وثقنا سابقا!!! (1) وعلى ضوء هذا الاعتقاد كله يتصرف متجاهلا بالكامل سنة الرسول المتعلقة بنظام الحكم وبمن يخلفه من بعده!!!

4 - ويتجلى موقف عمر من سنة الرسول بأوضح صورة في جيش أسامة، فقد عبا الرسول هذا الجيش بنفسه، وعبأ به أبا بكر وعمر وبقية ذلك النفر من أصحاب الخطر، وأمر أسامة على هذا الجيش، وأعطاه الراية بنفسه، وطلب من الجيش الخروج سريعا، وكرر ذلك مرات متعددة، لكن عمر خاصة وذلك النفر عامة لم يرق لهم تأمير الرسول لأسامة وهو حديث السن على شيوخ الأنصار والمهاجرين، فطعنوا علنا بتأمير الرسول لأسامة، وأخذوا يثبطون الناس عن الخروج في جيش أسامة!! ومع ن الرسول كان مريضا وعلى فراش الموت فقد اضطروه للنهوض معصوب الرأس ومحموما فصعد المنبر ودافع عن قراره بتأميره لأسامة قائلا: " أيها الناس ما مقالة بلغتني في تأميري أسامة، ولئن طعنتم في تأميري أسامة فقد طعنتم في تأميري أباه من قبل وأيم الله إنه كان لخليق بالإمارة " (2) وحثهم على الخروج

____________

(1) راجع شرح النهج ج 3 ص 114 سطر 27 الطبعة الأولى بيروت وج 2 ص 79 سطر 3 تحقيق أبو الفضل مكتبة الحياة وج 3 ص 67 ط دار الفكر وج 2 ص 18، والطبقات الكبرى لابن سعد ج 3 ص 130، وكتابنا المواجهة ص 473.

(2) المغازي للواقدي ج 3 ص 119، والطبقات الكبرى لابن سعد ج 2 ص 190، وشرح النهج ج 1 ص 57، والسيرة الحلبية ج 3 ص 207 و 234، والسيرة الدحلانية ج 3 ص 339، وكنز العمال ج 10 ص 573 - 574.

 

 


ثم قال: " لعن الله من تخلف عن بعث أسامة " (1) ومع هذا لم يخرجوا وضغطوا على أسامة فراجع الرسول فقال له الرسول: " أخرج وسر على بركة الله فراجعه أسامة ثانية، فقال له الرسول: " سر على النصر والعافية "، وراجع أسامة ثالثة فقال له الرسول: " انفذ لما أمرتك به " ومع هذا لم يخرجوا ومات الرسول وهم متثاقلون وبعد موت الرسول، أصر عمر بأن تأمير الرسول لأسامة غير مناسب وطالب الخليفة الأول بنزع أسامة من إمارة الجيش!! فأخذ أبو بكر بلحية عمر وقال له: ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب استعمله رسول الله وتأمرني أن أنزعه " (2) لو تمكن عمر لنزع أسامة من إمارة الجيش التي ولاها رسول الله له، لأن عمر كان ما زال يعتقد أن تأمير الرسول لأسامة على ذلك الجيش ليس مناسبا ولا صحيحا وأنه كان الأجدر بالرسول أن يولي قيادة ذلك الجيش لأبي بكر، أو لعمر، أو لواحد يرضون عنه!! هذه طبيعة نظرة عمر لقول الرسول ولعمل الرسول أو بتعبير أدق هذه طبيعة نظرته لسنة رسول الله!!! (3).

5 - وحال عمر بين الرسول وبين كتابة وصيته وتوجيهاته النهائية للأمة!! وتفصيل ذلك أن رسول الله وهو على فراش الموت قد أراد أن يكتب وصيته وتوجيهاته النهائية للأمة، فحدد موعدا لذلك، دعا إليه صفوة من أصحابه ليشهدوا كتابة الوصية والتوجيهات النهائية، ويبدو أن عمر بن الخطاب قد سمع بالخبر، وعرف ساعة الموعد الذي حدده رسول الله، وفي الوقت المحدد دخل الذين دعاهم رسول الله ليشهدوا كتابة وصيته وتوجيهاته النهائية، فجلسوا. كان عمر بن الخطاب قد أخبر أركان حزبه وصفوة أوليائه واتفق وإياهم على أن يذهبوا إلى منزل الرسول، وأن يحولوا

____________

(1) الملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 23 وج 1 ص 1 ص 20 بهامش الفصل لابن حزم ج 1 ص 24.

(2) تاريخ الطبري ج 3 ص 226، والكامل لابن الأثير ج 2 ص 335، والسيرة الحلبية ج 3 ص 209 و 236، والسيرة الدحلانية ج 2 ص 340.

(3) راجع الفصول السابقة تحت عنوان " موقفهم من سنة الرسول والرسول على فراش الموت ".

 

 


بأي ثمن بين الرسول وبين كتابة وصيته وتوجيهاته النهائية كما اتفقوا على تفاصيل الخطة.

وبعد جلوس الذين دعاهم النبي، دخل عمر وأركان حزبه وصفوه أوليائه إلى منزل الرسول دون استئذان أو علم مسبق، وجلسوا وكأنهم زوار لا علم لهم بترتيب الرسول!! فقال الرسول للذين دعاهم " إئتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا " (1) وعندما أتم الرسول هذه الجملة، تجاهل عمر وجود الرسول وقال موجها كلامه للحاضرين: إن الوجع قد اشتد برسول الله، أو إن الرسول يهجر، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله!! وعندما أتم عمر جملته، قال الذين أحضرهم معه، " القول ما قاله عمر!! إن النبي يهجر!! ما له استفهموه إنه يجهر!!!، قال الذين استدعاهم رسول الله: ألا تسمعوا رسول الله يقول قربوا يكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا!! ومرة ثانية تجاهل عمر وجود النبي وقال ما قاله في المرة الأولى، وعلى الفور ردد الفريق الذي أحضره اللازمة المتفق عليها سالفا: " القول ما قاله عمر إن النبي يهجر.... الخ " (2).

دهشت النسوة مما سمعن، وطللن من وراء الستر وقلن: ألا تسمعوا رسول الله يقول قربوا يكتب لكم... صاح بهن عمر " إنكن صويحبات يوسف... " (3) وارتفعت الأصوات، وكثر اللغو واللغط، وبدأ التنازع بين

____________

(1) المصدر السابق.

(2) راجع صحيح البخاري كتاب المرض باب قول المريض قوموا عني ج 7 ص 9، وصحيح مسلم آخر كتاب الوصية ج 5 ص 75، وصحيح مسلم بشرح النووي ج 11 ص 95، ومسند أحمد ج 4 ص 256 ج 2992، وشرح النهج ج 6 ص 51، وصحيح البخاري ج 4 ص 31، ومسند أحمد ج 1 و 2 وج 3 ص 286، وصحيح مسلم ج 2 ص 16 وج 11 ص 94 - 95، ومسند أحمد ج 1 ص 355، وتاريخ الطبري ج 2 ص 193، والكامل لابن الأثير ج 2 ص 320، وصحيح البخاري ج 1 ص 37 وج 5 ص 137 وج 2 ص 132 وج 4 ص 65 - 66، تذكرة الخواص لابن الجوزي ص 62، وسر العالمين وكشف ما في الدارين لأبي حامد الغزالي ص 21، وكتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 287، وما فوق.

(3) الطبقات الكبرى لابن سعد ج 2 ص 243 - 244، وراجع الفصل السابق " موقفهم من سنة الرسول =

 

 


القلة التي دعاها الرسول وبين الكثرة التي أحضرها عمر، فصرف الرسول النظر عن كتابة وصيته وتوجيهاته النهائية، لأنه لو أصر على الكتابة، لأصر عمر ومن معه على الهجر مع ما يفتحه ذلك على الدين من أبواب خطيرة، لذلك أجابهم الرسول بجواب يليق بجلال النبوة ويعكس واقع الحال، فقال لعمر الذي صاح بالنسوة قائلا: " إنكن صويحبات يوسف... " قال الرسول: " إنهن خير منكم " (1)، " ما أنا فيه خير مما تدعوني إليه قوموا عني، لا ينبغي عندي تنازع " (2) وهكذا نجح عمر وحزبه بالحيلولة بين الرسول وبين ما أراد كتابته، لأن عمر كان يخشى أن يكتب الرسول أمرا غير مناسب!!! كما أفصح عن ذلك بعد وفاة النبي!! إذا كان عمر يتعامل مع سنة الرسول مثل هذا التعامل في ذلك الوقت العصيب!! ويرفض أن يأذن للرسول بكتابة كتاب وصفه الرسول بأنه تأمين ضد الضلالة!!! فما عساه أن يقبل من سنة الرسول بعد موته!!

6 - إن عمر لم يكن بعيدا عن المرسوم الذي أصدره الخليفة الأول والذي أمر فيه المسلمين بأن لا يحدثوا شيئا عن رسول الله!! لأنه كان شريكه في أمره، وولي عهده، كذلك فإن عمر لم يكن بعيدا عن قيام الخليفة بإحراق ما سمعه بنفسه من رسول الله وما كتب بيده من سنة رسول الله!!.

____________

= أثنا مرض الرسول ".

(1) المصدر السابق.

(2) راجع صحيح البخاري كتاب المرض باب قول المريض قوموا عني ج 7 ص 9، وصحيح مسلم آخر كتاب الوصية ج 5 ص 75، وصحيح مسلم بشرح النووي ج 11 ص 95، ومسند أحمد ج 4 ص 256 ح 2992، وشرح النهج ج 6 ص 51، وصحيح البخاري ج 4 ص 31، ومسند أحمد ج 1 و 2 وج 3 ص 286، وصحيح مسلم ج 2 ص 16 وج 11 ص 94 - 95، ومسند أحمد ج 1 ص 355، وتاريخ الطبري ج 2 ص 193، والكامل لابن الأثير ج 2 ص 320، وصحيح البخاري ج 1 ص 37 وج 5 ص 137 وج 2 ص 132 وج 4 ص 65 - 66، وتذكرة الخواص لابن الجوزي ص 62، وسر العالمين وكشف ما في الدارين لأبي حامد الغزالي ص 21، وكتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 286 وما فوق.

 

 


هذه ملامح من موقف عمر بن الخطاب من سنة الرسول قبل أن يتولى الخلافة، ونلقي الآن الضوء على موقفه من سنة الرسول بعد أن تولى الخلافة.

 

 


موقف الخليفة عمر من سنة الرسول

رأينا في المبحث السابق موقف عمر بن الخطاب من سنة الرسول أثنا حياة الرسول، وموقفه من سنة الرسول عندما كان وليا لعهد أبي بكر، وإكمالا للحلقة سندرس موقف عمر بن الخطاب من سنة الرسول وهو خليفة للمسلمين.

إيهام المسلمين بأنه يريد أن يجمع سنة الرسول وينقحها

عندما تولى عمر الخلافة كانت أول مشاريعه القانونية، إعلانه على المسلمين بأنه يريد أن يجمع سنة الرسول، وينقح الكتب الموجودة بين أيدي المسلمين وليضفي على هذا الإعلان الطابع الإسلامي والجدي، فإنه قد استشار أصحاب رسول الله في كتابة سنة الرسول، فأشار عليه أصحاب الرسول بكتابتها ولم يعارضه أحد منهم، ولاح للمسلمين بأن الخليفة قد استكمل دراسة مشروع كتابة سنة الرسول بعد أن أشار عليه أصحاب رسول الله بذلك، وأيدوا بالإجماع اقتراحه.

لذلك ناشد المسلمين أن يأتوه بكل ما هو مكتوب منها عندهم " فأتوه بها " (1).

____________

(1) الطبقات الكبرى لابن سعد ج 5 ص 140.

 

 


واكتشف عمر أن بين أيدي الناس كتبا كثيرة، فاستنكرها وكرهها وقال: " أيها الناس إنه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب، فأحبها إلى الله أعدلها وأقومها... فلا يبقين أحد عنده كتابا إلا أتاني به فأرى فيه رأيي " قال القاسم بن محمد بن أبي بكر، فظن الناس أنه يريد أن ينظر في هذه الكتب، ويقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف فأتوه بها...!!

نجاح الخليفة بالحصول على أكبر كمية مكتوبة من سنة الرسول

لقد نجح الخليفة بإيهام المسلمين بأنه يريد أن يكتب سنة الرسول، لذلك أتته الأكثرية من المسلمين بما هو مكتوب عندها من سنة الرسول، ووضعوا هذه السنة المكتوبة بين يديه، ليتمكن الخليفة من تدوينها كما وعد!!!

كذلك، فإن أكثرية المسلمين الذين عندهم كتب، قد استجابوا لنداء الخليفة لأنهم ظنوا أنه يريد أن ينظر فيها وأن يقومها كما وعد!! والأقلية من المسلمين التي تعرف الخليفة وتعرف موقف من سنة الرسول ونواياه نحوها هي التي احتفظت بسنة الرسول المكتوبة عندها، وهي التي لم تسلم الكتب الموجودة لديها، وكان الإمام علي وأهل بيت النبوة ومن والاهم هم القلة التي احتفظت بسنة الرسول المكتوبة عندها، وبالكتب المحفوظة لديها.

الخليفة يحرف سنة الرسول المكتوبة والكتب التي أتاه المسلمون بها!!!

لما اعتقد الخليفة أن المسلمين قد أتوه بكامل سنة الرسول المكتوبة عندهم وبكل الكتب المحفوظة لديهم، قام الخليفة بإحراقها بالنهار وحرقها فعلا (1) وهكذا تمكن الخليفة من القضاء التام على سنة الرسول المكتوبة

____________

(1) الطبقات الكبرى لابن سعد ج 5 ص 140

 

 


وحتى الكتب المحفوظة لدي الأكثرية الساحقة من أهل المدينة المنورة!!!

الخليفة يعمم على كافة الأمصار الخاضعة لحكمه لمحو سنة الرسول

لما نجح الخليفة عمر بن الخطاب بجمع ما لدى أكثرية المسلمين من سكان المدينة المنورة من سنة الرسول المكتوبة، والكتب المحفوظة لديهم وإحراقها بالنار، أصدر مرسوما عممه على كافة البلاد الخاضعة لحكمه هذا نصه: " أن من كان عنده شئ من سنة الرسول المكتوبة فليمحه " (1).

لماذا فعل الخليفة ذلك وكيف برر هذه الأفعال

لقد استثار الخليفة أصحاب رسول الله بجمع سنة الرسول المكتوبة، فأشاروا عليه بذلك، وظن المسلمون أن الخليفة يريد أن يجمع سنة الرسول بالفعل لذلك أرسلوا له ما هو مكتوب منها عندهم لغايات شروع الخليفة بجمع السنة كذلك فن المسلمين قد أرسلوا للخليفة الكتب المحفوظة لديهم وهم يظنون أن الخليفة يريد أن ينظر بها فيقومها كما وعد.

لكن، لما أمر الخليفة بإحراق ما تجمع لديه من سنة الرسول المكتوبة ومن الكتب وتم حرقها بالفعل، ذهل الناس، أو على الأقل تساءلوا لماذا يحرق الخليفة سنة الرسول المكتوبة!!!، فكان لا بد للخليفة من أن يبرر أفعاله، فقال بعد أن تمت عملية التحريق: " إني كنت أردت أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوما كانا قبلكم، كتبوا، فأكبوا عليها فتركوا كتاب الله - وإني والله لا ألبس كتاب الله بشئ أبدا " (2) ويروى أنه قد قال بعد أن أحرقها: " أمنية كأمنية أهل

____________

(1) كنز العمال ج 10 ص 291.

(2) تقييد العلم ص 49، ورواه في دفاع عن السنة ص 21 عن البيهقي في المدخل، وتدوين السنة ص 272.

 

 


الكتاب " (1)، أي حتى لا ينشغل الناس بالسنة عن القرآن.

النصوص التي استقينا منها تلك المعلومات الواردة بالفقرات السابقة

أ - قال عروة بن الزبير: " إن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن، فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله (ص)، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله شهرا، ثم أصبح يوما، وقد عزم الله له، فقال: إني كنت أردت أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا، فأكبوا عليها فتركوا كتاب الله - وإني والله - لا ألبس كتاب الله بشئ أبدا " (2).

ب - عن الزهري قال: " أراد عمر بن الخطاب أن يكتب السنن فاستخار الله شهرا، ثم أصبح وقد عزم الله له فقال ذكرت قوما كتبوا كتبا فأقبلوا عليها وتركوا كتاب الله " (3).

ج - قال القاسم بن محمد بن أبي بكر: " إن عمر بن الخطاب بلغه أنه قد ظهر في أيدي الناس كتب، فاستنكرها وكرهها وقال: أيها الناس إنه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب، فأحبها إلى الله أعدلها وأقومها، فلا يبقين أحد عنده كتابا إلا أتاني به، فأرى فيه رأيي، فظنوا أنه يريد أن ينظر فيها ويقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار ثم قال أمنية كأمنية أهل الكتاب " (4) وفي بعض القول مثناة كمثناة أهل الكتاب (5).

____________

(1) تقييد العلم ص 53.

(2) راجع كنز العمال ج 10 ص 291، وتدوين القرآن ص 371، وراجع المراجع المذكورة بالرقم 1 - (3) كنز العمال ج 10 ص 291.

(4) تقييد العلم ص 52.

(5) الطبقات الكبرى لابن سعد ج 1 ص 140 طبعة ليدن.

 

 


د - قال يحيى بن جعدة: " إن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنة، ثم بدا له أن لا يكتبها ثم تكب في الأمصار من كان عنده منها شئ فليمحه " (1).

ه‍ - " إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها، فلما أتوه بها أمر بتحريقها " (2).

____________

(1) تقييد العلم ص 53.

(2) الطبقات الكبرى لابن سعد، ترجمة القاسم بن محمد بن أبي بكر ج 5 ص 140.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الزهراء تجسيد الرسالة الإلهية
البكاء على أهل البيت‏
أقوال المعصومين في القرآن
الثمرات الأخلاقية للايمان بالقدر
أفضلية فاطمة الزهراء (ع) في کتب أهل السنة(القسم ...
ذکری وفات صاحب الغدیر :قصص و کرامات العلامة ...
بحث حول غدير خم
الصحة النفسية في القرآن الكريم
في حال المؤمن عند موته
صفات و أعمال الذين في قلوبهم مرض

 
user comment