يميل معظم الباحثين في تاريخ تدوين السنّة النبوية الشريفة الى القول بأنها لم تدوّن حتى نهاية القرن الأوّل الهجري، باستثناء بعض الصحف التي كان بعض الصحابة يدوّنون فيها شيئاً من أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) ; كصحيفة جابر بن عبدالله وصحيفة عبدالله بن عمرو بن العاص التي سميت (الصادقة) وغيرهما.
ويبدو أن المحاولة الاُولى لتدوين الحديث قد بدأت في مطلع القرن الثاني الهجري، بإيعاز من الخليفة الاُموي عمر بن عبدالعزيز 101 هـ، "فقد كتب هذا الخليفة الى قاضيه في المدينة المنورة أبي بكر بن عمرو بن حزم: أن انظر ما كان من حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو سنّة فاكتبه، فاني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، إلاّ أن عمر بن عبدالعزيز توفي قبل أن ينفذ أمره"(1).
ويعدّ الزهري أوّل من دوّن الحديث، ويبدو أنه قد فعل ذلك بأمر من الخليفة الاُموي هشام بن عبدالملك، أو عبدالملك نفسه، وفي ذلك يقول الزهري: كنّا نكره الكتاب حتى أكرهنا عليه الاُمراء، فرأيت أن لا أمنعه مسلماً(2).
وروى الوليد بن مسلم، قال: خرج الزهري من الخضراء، من عند عبدالملك، فجلس عند ذلك العمود فقال: يا أيها الناس، إنا كنا قد منعناكم شيئاً
____________
1- أكرم ضياء العمري. بحوث في تاريخ السنّة المشرّفة: 7.
2- سير أعلام النبلاء 5: 334 ترجمة الزهري.
|
|
|
قد بذلناه لهؤلاء، فتعالوا حتى اُحدّثكم. قال: فسمعهم يقولون: قال رسول الله، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: يا أهل الشام، مالي أرى أحاديثكم ليست لها أزمّة ولا خُطم! قال الوليد: فتمسك أصحابنا بالأسانيد من يومئذ. وروى نحوها من وجه آخر: أنه كان يمنعهم أن يكتبوا عنه، فلما ألزمه هشام بن عبدالملك أن يملي على بنيه، أذن للناس أن يكتبوا(1).
وقد بدأت منذ ذلك الحين حملة تدوين الحديث، وأقبل الناس على الحديث النبوي، وكثر المشتغلون به، ولكن بما أن الحديث كان غير مدوّن طيلة أكثر من قرن من الزمان، بل وكان هناك تشديد على منع روايته، الى أن فتح معاوية بن أبي سفيان الباب للحديث، ولكن للحديث المكذوب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، من أجل ترويج سياسته، فانتشر الحديث الموضوع رواية، وكانت الفجوة الزمنية بين الرواية الشفهية والتدوين خير فرصة للوضّاعين، "فكانت هذه ثغرة نفذ منها أهل الأهواء الى تحقيق أغراضهم"(2)، مما جعل البعض يرفضون الركون الى الحديث بسبب ذلك، وبخاصة أصحاب مدرسة الرأي، وعلى رأسها محمد بن النعمان أبو حنيفة الذي أعرض عن معظم الأحاديث المتناقلة بين الناس، لأنه "فحص الأحاديث الموجودة في عصره، وكانت عشرات الآلاف، فلم يصح في نظره منها إلاّ نحو سبعة عشر"(3)، وتبعه على ذلك معظم الذين تمسكوا بالقياس، لذا فقد تعرض إمام الأحناف الى حملة تشهير شديدة من قبل أصحاب الحديث الذين كانوا يذمّون القياس وردّ الأحاديث. قال ابن عبدالبرّ: كثير من أهل الحديث استجازوا الطعن على
____________
1- سير أعلام النبلاء 5: 334، ترجمة الزهري.
2- بحوث في تاريخ السنّة المشرفة: 24.
3- أئمة الفقه التسعة: 68.
|
|
|
أبي حنيفة لردّه كثيراً من أخبار العدول، لأنه كان يذهب في ذلك الى عرضها على ما أجمع عليه من الأحاديث ومعاني القرآن، فما شذّ عن ذلك ردّه وسمّاه شاذاً، وكان مع ذلك يقول: (الطاعات من الصلاة وغيرها لا تسمى إيماناً)، وكل من قال من أهل السنّة: الإيمان قول وعمل، ينكرون قوله ويبدّعونه بذلك، وكان مع ذلك محسوداً!(1).
وقال أيضاً: فممن طعن عليه وجرحه: أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، فقال في كتابه (الضعفاء والمتروكين): أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، قال نعيم بن حماد: حدثنا يحيى بن سعيد ومعاذ بن معاذ، سمعنا سفيان الثوري يقول: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرّتين! وقال نعيم عن الفزاري: كنت عند سفيان بن عينية، فجاء نعي أبي حنيفة، فقال: لعنه الله، كان يهدم الإسلام عروة عروة، وما ولد في الإسلام مولود أشرّ منه. هذا ما ذكره البخاري.
وقال ابن عدي: سمعت ابن أبي داود يقول: الوقيعة في أبي حنيفة إجماع من العلماء، لأن إمام البصرة أيوب السختياني، وقد تكلم فيه، وإمام الكوفة الثوري، وقد تكلم فيه، وإمام الحجاز مالك، وقد تكلم فيه، وإمام مصر الليث بن سعد، وقد تكلم فيه، وإمام الشام الأوزاعي، وقد تكلم فيه، وإمام خراسان عبدالعزيز بن مبارك، وقد تكلم فيه، فالوقيعة فيه إجماع من العلماء في جميع الآفاق(2).
وقال الذهبي: قال ابن عدي: عامة ما يرويه غلط وتصحيف وزيادات، وله أحاديث صالحة. وقال النسائي: ليس بالقوي في الحديث، كثير الغلط على
____________
1- الإنتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء: 149، جامع بيان العلم 1: 148.
2- الكامل في ضعفاء الرجال 7: 5.
|
|
|
قلة روايته. وقال ابن معين: لا يكتب حديثه(1).
وقال أبو نعيم الإصفهاني: قال بخلق القرآن، واستتيب من كلامه الرديء غير مرّة، كثير الخطأ والأوهام(2). الى غير ذلك من الأقوال في ذمّه.
ولم يكن أبو حنيفة وأتباعه من أصحاب مدرسة الرأي هم وحدهم في ذلك الموقف من الحديث المتداول بين الناس، إذ أن أتباع المدرسة العقلية كالمعتزلة قد أخذوا جانب الحذر منه أيضاً، وذكروا لذلك أسباباً، كوجود التضاد والتناقض بين الأحاديث مما لا يمكن صدوره عن النبي (صلى الله عليه وآله)، سواء في الاُصول - حيث تروي كل فرقة ما يؤيد وجهة نظرها- أو في الفروع أيضاً- كاختلاف روايات العراقيين والحجازيين- وكذلك رواياتهم للأحاديث التي تنافي تنزيه الله سبحانه وتعالى، حيث تصوّره وفق العقائد التي تدعو الى التجسيم والتشبيه والحلول، وكذلك تناقضهم في الجرح والتعديل..(3)
وقال ابن قتيبة أيضاً: ولقد أطلق المعتزلة ألسنتهم في أهل الحديث بتجريحهم واتهامهم بالجمود والغفلة وعدم الفطنة، ولقَّبوهم بالحشوبة والنابتة والمجبّرة، وربما قالوا: الجبرية، وسموهم: الغثاء والغثر(4).
وردّ المحدّثون على خصومهم فسمّوهم: أهل الباطل والكفر والفرقة، ورموهم بالبدعة والهوى والضلالة والغرور(5).
____________
1- ديوان الضعفاء والمتروكين 2: 404، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي 3: 163، الضعفاء والمتروكين للنسائي: 233.
2- كتاب الضعفاء: 154.
3- انظر تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: 2.
4- المصدر السابق: 96.
5- مقدمة كتاب شرف اصحاب الحديث للخطيب البغدادي.
|
|
|
استمرت حركة تدوين الحديث في أواخر العصر الاُموي، ولم تظهر المدوّنات المبوّبة للأحاديث في تلك الفترة، بل في أوائل عصر الدولة العباسية: حيث نهض بهذه المهمة عدد من العلماء، كابن جريج 150 هـ، ومعمّر بن راشد 154 هـ، وسفيان الثوري 161 هـ، وسفيان بن عينية 198 هـ وغيرهم.
إلاّ أن أهم المدونات التي حظيت بالقبول وذاع صيتها هو موطأ مالك بن أنس، الذي كتبه بإيعاز من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، الذي قال لمالك -كما يروي هو-: لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك ونبثّها في الأمصار، ونعهد إليهم أن لا يخالفوها ولا يقضوا بسواها.
فقلت له: أصلح الله الأمير، إن أهل العراق لا يرضون علمنا، ولا يرون في عملهم رأينا. فقال أبو جعفر; يُحملون عليه، ونضرب عليه هاماتهم بالسيف، ونقطع طيّ ظهورهم بالسياط..(1)
انتعشت سوق الحديث، وراجت بضاعة المحدّثين، حتى إذا ما تولى المأمون العباسي - الذي تأثر بآراء المدرسة العقلية- الخلافة، مال الى رأي المعتزلة ونصرهم، وأساء المعتزلة استخدام جاههم عند الخلفاء، فراحوا يفرضون آراءهم بالقوة. ونكّلوا بالمحدّثين الذين رفضواالقول بخلق القرآن، وامتحنوهم، فيما عرف بفتنة خلق القرآن في عهد المعتصم والى أواخر عهد الواثق، حتى إذا ما تولى الخلافة المتوكل، قلب للمعتزلة ظهر المجن، وقرّب أصحاب الحديث، وأمرهم بنشره والتحديث به. "قال نفطويه في تاريخه:
____________
1- الإمامة والسياسة 2: 202.
|
|
|
وفي سنة أربع وثلاثين (بعد المائتين) أشخص المتوكل الفقهاء والمحدّثين، فكان بينهم مصعب الزبيري، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وإبراهيم بن عبدالله الهروي، وأبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة -وكان من الحفاظ- فقسّمت بينهم الجوائز، وأمرهم المتوكل أن يحدّثوا بالأحاديث التي فيها الردّ على المعتزلة والجهمية; فجلس عثمان في مدينة المنصور، واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً، وجلس أبو بكر في مسجد الرصافة، وكان أشدّ تقدماً من أخيه، واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً"(1).
وقال خليفة بن خياط: استخلف المتوكل، فأظهر السنّة، وتكلم بها في مجالسه، وكتب الى الآفاق برفع المحنة، وبسط السنّة، ونصر أهلها(2).
وقال الصولي: نهى المتوكل عن الكلام في القرآن، وأشخص الفقهاء والمحدّثين الى سامراء، منهم إبن أبي الشوارب، وأمرهم أن يحدّثوا، وأجزل لهم الصلات.
وذكر الخطيب بأن المتوكل العباسي أمر المحدّثين أن يجلسوا للناس ويحدّثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية، وأن يحدّثوا بالأحاديث في الرؤية(3).
ولذلك قال إبراهيم بن محمد التيمي، قاضي البصرة: الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصدّيق يوم الردة، وعمر بن عبدالعزيز في ردّ مظالم بني اُمية، والمتوكل في محو البدع وإظهار السنّة!(4).
____________
1- تاريخ الاسلام للذهبي، وفيات 230 - 240: ص 230.
2- سير أعلام النبلاء 12: 31.
3- تاريخ بغداد 10: 66.
4- تاريخ الإسلام للذهبي وفيات 241 - 250 ص 196.
|
|
|
إن انتشار الحديث بمرحلتيه: الرواية الشفهية والتدوين، كانت في الحقيقة من المراحل المعادية لعلي بن أبي طالب بشكل سافر، فرواية الحديث الموضوع قد بدأت على نطاق واسع في عهد معاوية ومن جاء بعده - وقد مرّ فيما سبق نماذج منه- وكان أهم رواة الحديث في هذا العهد من مؤيدي السلطة الاُموية ومن المنحرفين عن علي بن أبي طالب، إما طلباً للدنيا ونيل عطاء معاوية وبني اُمية، وإما تهدئة لنائرة الحقد وإطفاء للثأر في صدور الذين قُتل آباؤهم وأقرباؤهم في حربي الجمل وصفّين!
قال أبو جعفر الاسكافي المعتزلي: إن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي (عليه السلام) تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جعلا يُرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه، منهم أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين: عروة بن الزبير، روى الزهري أن عروة بن الزبير حدّثه قال: حدثتني عائشة قالت: كنت عند رسول الله، إذ أقبل العباس وعلي، فقال: "ياعائشة، إن هذين يموتان على غير ملّتي" أو قال: "ديني"!.
وروى عبدالرزاق عن معمر، قال: كان عند الزهري حديثان عن عروة عن عائشة في علي (عليه السلام)، فسألته عنهما يوماً، فقال: ما تصنع بهما وبحديثهما، الله أعلم بهما، إني لأتهمهما في بني هاشم!
قال: فأما الحديث الأوّل، فقد ذكرناه، وأما الحديث الثاني، فهو أن عروة زعم أن عائشة حدثته قالت: كنت عند النبي (صلى الله عليه وآله) إذ أقبل العباس وعلي، فقال:
|
|
|
"يا عائشة، إن سرّك أن تنظري الى رجلين من أهل النار، فانظري الى هذين قد طلعا". فنظرت، فاذا العباس وعلي بن أبي طالب!(1).
وقال الاسكافي: وقد تظاهرت الرواية عن عروة بن الزبير، أنه كان يأخذه الزمع (الرعدة) عند ذكر علي (عليه السلام)، فيسبّه، ويضرب باحدى يديه على الاُخرى ويقول: وما يغني أنه لم يخالف الى ما نُهي عنه، وقد أراق من دماء المسلمين ما أراق!(2).
وقال أيضاً: وعن يحيى بن عروة قال: كان أبي إذا ذكر علياً نال منه، وقال لي مرة: يا بني، والله ما أحجم الناس عنه إلاّ طلباً للدنيا، لقد بعث إليه اُسامة بن زيد: أن ابعث إلي بعطائي، فوالله إنك لتعلم أنك لو كنت في فم أسد لدخلت معك. فكتب إليه: إن هذا المال لمن جاهد عليه، ولكن لي مالا بالمدينة فأصب منه ما شئت!
قال يحيى: فكنت أعجب عن وصفه إياه بما وصفه به، ومن عيبه له وانحرافه عنه(3).
فعروة بن الزبير من كبار التابعين، وهو من الأعلام المعروفين، ورواياته تملأكتب الحديث، ولا خلاف بين المحدثين في وثاقته، إلاّ أن الكثير منهم لم يأخذ بنظر الاعتبار العوامل النفسية القاهرة التي قد تدفع بالفرد الى الاختلاق والافتراء على من وترهم، والأحاديث التي ذكرها الزهري، واتهامه لعروة في بني هاشم، واعتراف يحيى بن عروة بانحراف أبيه عن علي، تكفي شهادة على عروة، رغم كل ما يقال في فضله، وستأتي أمثلة اُخرى عن مواقف الرواة
____________
1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 63 - 64.
2- المصدر السابق 4: 69.
3- شرح نهج البلاغة 4: 102.
|
|
|
من علي، ومواقف العلماء من اُولئك الرواة بما يزيل بعض الغموض عن القضية.
وقد جرت عادة المحدّثين على عدم التعرض للصحابة والتابعين بجرح بعد أن عدّلهم الله ورسوله - على حد قولهم- وإنما يشمل التعديل والجرح ما دونهم، إلاّ أنه قد مرّت أخبار عمرو بن العاص، وسمرة بن جندب، والمغيرة بن شعبة، الذي كان يلعن علياً على المنبر بأمر معاوية، وبقي أن نذكر صحابياً آخر كان من المنحرفين عن علي، إذ قال الاسكافي: وروى الأعمش، قال: لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة، جاء الى مسجد الكوفة، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس، جثا على ركبتيه، ثم ضرب صلعته مراراً، وقال: يا أهل العراق، أتزعمون أني أكذب على الله ورسوله وأحرق نفسي بالنار! والله لقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "إن لكل نبي حرماً، وإن حرمي بالمدينة ما بين عير الى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً، عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". وأشهد بالله أن علياً أحدث فيها!.
فلما بلغ معاوية قوله، أجازه وأكرمه وولاّه إمارة المدينة(1).
وقال الاسكافي أيضاً: وقد صحّ أن بني اُمية منعوا من إظهار فضائل علي (عليه السلام)، وعاقبوا على ذلك الراوي له، حتى أن الرجل إذا روى عنه حديثاً لا يتعلق بفضله، بل بشرائع الدين، لا يتجاسر على ذكر اسمه، فيقول: عن أبي زينب(2).
هكذا كان الموقف من علي بن أبي طالب في فترة انتشار رواية الحديث على عهد معاوية ومن جاء بعده، الى أن جاءت الفترة التي بدأ فيها تدوين
____________
1- شرح نهج البلاغة 4: 63.
2- السابق 4: 73.
|
|
|
الحديث رسمياً بزعامة الزهري في العصر الاُموي، ومالك بن أنس في العصر العباسي، وكلاهما منحرف عن علي بن أبي طالب. قال ابن حبان: ولست أحفظ لمالك ولا للزهري فيما رويا من الحديث شيئاً من مناقب علي أصلا(1).
وكان مالك يرى مساواة علي بن أبي طالب لسائر الناس!(2).
ولم يخرج مالك شيئاً عن علي بن أبي طالب في موطئه، ولما سأله هارون الرشيد عن السبب، اعتذر بأنه (لم يكن في بلدي، ولم ألق رجاله)!(3).
أما المرحلة التي أوعز المتوكل بنشر الحديث فيها - والتي تعدّ الفترة الذهبية لتدوين الحديث - فكانت من أشد الفترات عداءً لعلي بن أبي طالب!
قال ابن الأثير: وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب ولأهل بيته، وكان يقصد من يبلغه عنه أنه يتولى علياً وأهل بيته بأخذ المال والدم، وكان من جملة ندمائه: عبادة المخنث، وكان أصلع، فيشدّ تحت ثيابه مخدّة، ويكشف رأسه ويرقص، والمغنّون يغنّون: قد أقبل الأصلع البطين، خليفة المسلمين، يحكي بذلك علي بن أبي طالب، والمتوكل يشرب ويضحك...! وقيل: إن المتوكل كان يبغض من تقدمه من الخلفاء: المأمون والمعتصم والواثق في محبة علي وأهل بيته، وإنما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعلي، منهم: علي بن الجهم، الشاعر الشامي، وأبو السمط، من ولد مروان بن أبي حفصة من موالي بني اُمية، وعبدالله بن داود
____________
1- كتاب المجروحين 1: 258.
2- ترتيب المدارك: ترجمة مالك.
3- تنوير الحوالك للسيوطي 1: 7، شرح الموطأ للزرقاني 1: 11.
|
|
|
الهاشمي المعروف بابن اُترجة(1).
وعلي بن الجهم هو الشاعر المشهور، قال عنه ابن حجر: كان مشهور النصب، كثير الحط على علي وأهل بيته، وقيل إنه كان يلعن أباه لم سمّاه علياً!(2).
ولقد جازف بعض المنصفين من الرواة والمحدّثين بأرواحهم حينما رووا في مناقب علي وأهل بيته بحضرة المتوكل ما أثار حفيظته، ففي ترجمة نصر بن علي الجهضمي، أنه لما حدّث بحديث، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخذ بيد حسن وحسين، فقال: "من أحبني وأحب هذين وأباهما واُمهما، كان في درجتي يوم القيامة"، أمر المتوكل بضربه ألف سوط، فكلمه فيه جعفر بن عبدالواحد، وجعل يقول له: هذا من أهل السنّة، فلم يزل به حتى تركه!(3).
وقال المتوكل يوماً ليعقوب بن السكيت: أيّما أحب إليك، أنا وولداي المؤيد والمعتز، أم علي والحسن والحسين؟ فقال: والله إن شعرة من قنبر خادم علي، خير منك ومن ولديك!
فأمر المتوكل الاتراك فداسوا بطنه، فحمل الى بيته ومات!(4).
وقال الذهبي: وفي سنة ست وثلاثين ومائتين، هدم المتوكل قبر الحسين، فقال البسامي أبياتاً منها:
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا |
في قتله فتتبعوه رميماً |
وكان المتوكل فيه نصب وانحراف، فهدم هذا المكان وما حوله من الدور،
____________
1- الكامل في التاريخ 4: 318.
2- لسان الميزان 4: 210.
3- تهذيب التهذيب 10: 383.
4- النجوم الزاهرة لابن تغري 2: 203، سير أعلام النبلاء 12: 18، تاريخ أبي الفداء 2: 40، وفيات الأعيان 6: 397.
|
|
|
وأمر أن يُزرع، ومنع الناس من إتيانه(1).
أما اُولئك المحدّثين والفقهاء الذين استدعاهم المتوكل، فكان في مقدمتهم مصعب الزبيري الذي قال عنه ابن الأثير: وكان عالماً فقيهاً، إلاّ أنه كان منحرفاً عن علي (عليه السلام)!(2).
إن من يتعقب مواقف أهل الحديث من الرواة، يستطيع أن يلاحظ بكل وضوح، أن المقاييس التي كانوا يتبعونها تكاد تكون متممة لخطة العمل التي بدأها معاوية بن أبي سفيان وبنو اُمية عامة، ومن ثم سار على نهجهم بنو العباس في عصر المتوكل وبعده، واستمر هذا النهج الى يومنا هذا!.
لقد بدأ معاوية عهده باستبعاد العراق - وبخاصة الكوفة - من لعب أي دور في ترويج الحديث النبوي، وأمر بتعقب شيعة علي بن أبي طالب واضطهادهم وردّ شهاداتهم، فكان عدم قبول حديث العراقيين إحدى سمات وثمرات هذا الأمر.
وقد درج الباحثون المعاصرون على ترديد كلمات الأقدمين، والتمسك بموازينهم دون محاولة للتنقيب عن الحقيقة، مما يوقع بعض اُولئك الباحثين في التناقض أحياناً.
يقول أكرم ضياء العمري: لقد أدّت كثرة الوضع للحديث في الكوفة الى إعطاء فكرة سيئة عن العراق، كمركز مهم من مراكز العلم والرواية في العالم الإسلامي آنذاك، فتدهورت سمعة العراقيين العلمية في الأمصار المختلفة، منذ
____________
1- سير أعلام النبلاء 12: 35، والمنتظم لابن الجوزي 2: 237.
2- الكامل في التاريخ 4: 320.
|
|
|
فترة مبكرة، فقالت عائشة(رض): (يا أهل العراق، أهل الشام خير منكم، خرج إليهم نفر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كثير فحدّثونا بما نعرف، وخرج اليكم نفر قليل من أصحابه، فحدثتمونا بما نعرف وبما لا نعرف).
وقدم جماعة من أهل العراق الى عبدالله بن عمرو بن العاص بمكة طالبين إليه أن يحدّثهم، فقال لهم: (إن من أهل العراق قوماً يكذبون ويكذبون ويسخرون).
وقال الزهري: (إذا سمعت بالحديث العراقي فاردد به ثم اردد به).
وقد كان من نتيجة ذلك أن ضربت السلطة في دمشق العزلة العلمية عليهم، فلم تستفتهم فيما يستجد من أقضية وأحداث، بل اعتمدت على علماء الشام والمدينة فقط. يقول الأوزاعي: كانت الخلفاء بالشام، فاذا كانت الحادثة سألوا عنها علماء أهل الشام وأهل المدينة، وكانت أحاديث العراق لا تتجاوز جدر بيوتهم، فمتى كان علماء أهل الشام يحملون عن خوارج أهل العراق.
وهذا مالك بن أنس، فقيه المدينة العظيم، لم يرو عن أحد من الكوفيين سوى عبدالله بن إدريس الذي كان على مذهبه، وكان يقول في ذلك: كما لم يرو أولونا عن أوليهم، كذلك لا يروي آخرونا عن آخريهم، وكلام مالك صريح في أن عدم رواية العلماء عن الكوفيين ليست ظاهرة برزت في جيله، بل ان جيله كان يتبع الأقدمين في عدم الأخذ عنهم.!(1)
لو أننا حلّلنا مقولة العمري لوجدناها تكشف عن نقاط الإلتقاء بينها وبين سياسة الدولة الاُموية بشكل واضح، إضافة الى أن الأشخاص المذكورين بذم العراق وأهل الكوفة ورفض احاديثهم، هم في الحقيقة الذين كانوا إما في
____________
1- بحوث في تاريخ السنّة المشرفة: 19 - 23 عن إبن عساكر 1: 69، الطبقات 4: 267.
|
|
|
الخندق المقابل لأهل الكوفة في حرب الجمل كعائشة وأهل البصرة، وفي حرب صفين كعبد الله بن عمرو بن العاص، أو ممن يضطغن على علي بن أبي طالب وشيعته عامة، كالزهري ومالك، وقول مالك: لم يرو أولونا عن أوليهم يثبت هذه الحقيقة التي بدأت في عصر مبكر، وبالتحديد منذ إستلام معاوية مقاليد السلطة، أما ان الخلفاء كانت بالشام وكانت تستفتي علماء المدينة والشام، فهذا أمر طبيعي جداً، فهل نتوقع من معاوية أن يستفتي الصحابة من أهل الكوفة الذين كان وقع رماحهم في جيشه في حرب صفين لا يزال ماثلا أمام ناظريه، أم أن خلفاءه كان يمكن أن يستفتوا أهل الكوفة الشاهرين سيوفهم عليهم في كل حين! فمن الطبيعي إذاً أن يستفتوا أهل الشام الذين كانوا صنائعهم، وعلماء أهل المدينة، وفيهم الصحابة الذين تخلفوا عن علي بن أبي طالب ولم ينصروه وأبناؤهم!
ومن المفارقات العجيبة أن يناقض الباحث نفسه بنفسه، فالعمري الذي ينقل عن عائشة إدعاءها بأنه لم يخرج الى الكوفة إلاّ نفر قليل من الصحابة، يعود فيقول: لقد كان نصيب الكوفة من الصحابة كثيراً، إذ هبط فيها ثلاثمائة من أصحاب الشجرة، وسبعون من أهل بدر، وكان منهم عبدالله بن مسعود احد كبار فقهاء الصحابة ومحدثيهم، وكان الحسن البصري إذا سئل عن أهل البصرة وأهل الكوفة، يبدأ بأهل الكوفة!(1).
ويقيناً لو أننا راجعنا طبقات ابن سعد وغيره من الكتب، لوجدنا أن الصحابة الذين نزلوا الكوفة كانوا في معظمهم من السابقين والخيار، وعددهم أكبر من عدد الصحابة الذين نزلوا الشام، ولم يتمكن خيارهم الاستقرار في
____________
1- بحوث في تاريخ السنه المشرفه: 24 عن الطبقات 6: 9، الكامل لابن عدي 1: 45 أ.
|
|
|
الشام من جرّاء تصرفات معاوية المخالفة لشريعة الإسلام وسنّة النبي (صلى الله عليه وآله) - وقد مرّت بنا مواقف بعضهم- ولم يستقر بها إلاّ صنائع معاوية كالنعمان بن بشير الذي كان عثمانياً وغيره.
لقد جرت عادة أهل الحديث الى تقسيم الرواة إلى قسمين هما: أهل السنّة، وأهل البدعة، ولفظة أهل السنّة بمفهومها المعروف اليوم والذي يعني عامة الجمهور، لم يكن هذا هو المقصود منه، بل كان القصد منه تخصيص أصحاب الحديث بهذا اللقب باعتبارهم حفّاظ السنّة النبوية والقيّمون عليها، وعلى هذا الأساس، فقد كان أهل السنّة من أصحاب الحديث، هم بالدرجة الاُولى السائرون في ركب السلطتين الاُموية والعباسية، ومن ثم كل السلطات التي تشكّلت على أنقاض الدولة العباسية فيما بعد، قال إبن سيرين: ـ 110 هــ: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سمّوا لنا رجالكم، فينظر الى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر الى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم(1).
إلاّ أن هذه القاعدة لم تطبق بهذا الشكل، فان المحدثين أخذوا من حديث أهل البدع، وصححوا منه ما يوافق عقيدتهم، وردّوا ما عدا ذلك، ويتضح ذلك من مقولة الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب الكوفي، قال: شيعي جلد، لكنه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته... فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع، وحدّ الثقة العدالة والاتقان؟ فكيف يكون عدلا من هو صاحب بدعة؟
____________
1- صحيح مسلم 1: 15، الكامل لابن عدي 1: 239، المجروحين لابن حبان 2: 27، المحدّث الفاصل للرامهرمزي 1: 12، الكفاية للخطيب.
|
|
|
وجوابه: أن البدعة على ضربين، فبدعة صغرى، كغلو التشيّع، أو كالتشيّع بلا غلو ولا تحرّف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو رُدّ حديث هؤلاء، لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بيّنة، ثم بدعة كبرى، كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والدعاء الى ذلك، فهذا النوع لا يحتج به ولا كرامة.
وأيضاً فما استحضر الآن في هذا الضرب رجلا صادقاً ولا مأموناً، بل الكذب شعارهم، والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يُقبل نقل من هذا حاله؟! حاشا وكلا.
فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم، هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب علياً(رضي الله عنه)، وتعرّض لسبّهم. والغالي في زماننا وعُرفنا، هو الذي يكفّر هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين أيضاً، فهذا ضال معثّر، ولم يكن ابان بن تغلب يعرض للشيخين أصلا، بل قد يعتقد علياً أفضل منهما...(1)
إلاّ أن هذا المقياس الذي ادعاه الذهبي لم يكن دقيقاً أيضاً، لأن المحدّثين تركوا الكثير من رواة الشيعة لمقولات اُخرى غير تلك التي ذكرها الذهبي - كما سوف يتبيّن من ترجمة جابر الجعفي- كما أن بعض المحدّثين تركوا حديث بعض الشيعة رغم توثيقهم، ففي ترجمة علي بن هاشم البريد، قال الذهبي:
وثقه يحيى بن معين.
وقال أبو داود: ثبت يتشيّع.
____________
1- ميزان الاعتدال 1: 5.
|
|
|
وقال أبو زرعة: صدوق.
وقال النسائي: ليس به بأس.
قلت (الذهبي): ولغلوه ترك البخاري إخراج حديثه، فانه يتجنب الرافضة كثيراً، كأنه يخاف من تدينهم بالتقية، ولا نراه يتجنب القدرية والخوارج ولا الجهمية، فانهم على بدعهم يلزمون الصدق(1).
وهنا تبرز مسألة مهمة، فأهل البدع ليسوا سواء حتى ولو تساووا في الوثاقة، ويتضح ذلك من خلال ما يبديه الحافظ إبن حجر العسقلاني من ملاحظات حول توثيق العلماء لمن يسموهم بأهل البدع فيما ينقل إلينا من ملاحظات في ترجمة لمازة بن زبّار، أبو الوليد الجهضمي، الذي يقول فيه الذهبي:
بصري، حضر موقعة الجمل، وكان ناصبياً ينال من علي(رضي الله عنه)ويمدح يزيد(2).
وروى ابن حجر، عن مطر بن جمران: كنا عند أبي لبيد، فقيل له: أتحب علياً؟
فقال: أحب علياً وقد قتل من قومي في غداة واحدة ستة آلاف!
وذكره ابن حبان في الثقات.
وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين: حدثنا وهب بن جرير عن أبي لبيد، وكان شتاماً. زاد العقيلي، قال وهب: قلت لأبي: من كان يشتم؟ قايشتم علي بن أبي طالب!
قال ابن حجر معلقاً: وقد كنت أستشكل توثيقهم الناصبي غالباً، وتوهينهم الشيعة مطلقاً، ولا سيما أن علياً ورد في حقه "لا يحبه إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ منافق"...!
وبعد أن يورد تبريراته لذلك، يعود الى القول:
وأيضاً فأكثر من يوصف بالنصب يكون مشهوراً بصدق اللهجة والتمسك باُمور الديانة، بخلاف من يوصف بالرفض، فان غالبهم كاذب ولا يتورع في الاخبار، والأصل فيه أن الناصبة اعتقدوا أن علياً(رضي الله عنه) قتل عثمان أو كان أعان عليه، فكان بغضهم له ديانة بزعمهم، ثم انضاف ذلك أن منهم من قُتلت أقاربه في حروب علي!(1)
وقال الذهبي: بلى، غالب الشاميين فيهم توقف عن أمير المؤمنين علي(رضي الله عنه)من يوم صفّين(2).
في الحقيقة أن عبارة (توقّف) هي أخف العبارات التي استخدمها الذهبي في بيان مواقف الشاميين وغيرهم من النواصب في حق علي بن أبي طالب، كما أن البغض الذي قال به ابن حجر، هو الآخر من الوصف الحقيقي لمشاعرهم تجاه علي، ولكن مضافاً إليه السبّ واللعن، وافتراء الأخبار الكاذبة في انتقاص علي بن أبي طالب، ولا نعني رؤوس الحكم الاُموي الذين سنّوا سبّ علي على المنابر، ولا المتعاونين معهم من الصحابة كعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وغيرهما، بل نقصد المحدّثين والرواة النواصب ومواقفهم الحقيقية المباينة لما يدعيه ابن حجر من وثاقتهم، من
____________
1- تهذيب التهذيب 8: 410.
2- ميزان الاعتدال 3: 551 ترجمة محمد بن زياد الالهاني.
|
|
|
خلال استعراض ترجمة أحدهم.
قال الإسكافي:وقد كان من المحدّثين من يبغضه عليه السلام، ويروي فيه الأحاديث المنكرة، منهم حريز بن عثمان، كان يبغضه عليه السلام، ويروي فيه أخباراً مكذوبة!(1).
وأود أن اُفصّل قليلا في أحوال هذا المحدّث الشامي، وأنقل أقوال العلماء فيه، مع إظهار مواقفه الحقيقية، وكما يعترف بها العلماء أنفسهم.
قال الذهبي في ترجمة حريز: كان متقناً ثبتاً، لكنه مبتدع(2).
وقال معاذ بن معاذ: حدثنا حريز بن عثمان، ولا أعلم اني رأيت بالشام أحداً اُفضله عليه.
وقال الآجري عن أبي داود: شيوخ حريز كلهم ثقات، قال: وسألت أحمد بن حنبل عنه فقال: ثقة ثقة. وقال أيضاً: ليس بالشام أثبت من حريز، إلاّ أن يكون بحير، وقال أيضاً عن أحمد -وذكر له حريز وأبو بكر بن أبي مريم وصفوان- فقال: ليس فيهم مثل حريز، ليس أثبت منه، ولم يكن يرى القدر.
وقال إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: حريز، وعبدالرحمان بن يزيد بن جابر، وابن أبي مريم، هؤلاء ثقات.
وقال ابن المديني: لم يزل من أدركناه من أصحابنا يوثقونه.
وقال دحيم: حمصي جيد الإسناد صحيح الحديث. وقال أيضاً: ثقة.
وقال المفضل بن غسان: ثبت.
وقال البخاري: قال أبو اليمان: كان حريز يتناول رجلا ثم ترك!
وقال أحمد بن أبي يحيى عن احمد: حريز صحيح الحديث، إلاّ أنه يحمل
____________
1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 69.
2- ميزان الاعتدال 1: 475.
|
|
|
على علي!
وقال المفضل بن غسان: يقال في حريز مع تثبته انه كان سفيانياً.
وقال العجلي: شامي ثقة، وكان يحمل على علي.
وقال عمرو بن علي: كان ينتقص علياً وينال منه، وكان حافظاً لحديثه، وقال في موضع آخر: ثبت، شديد التحامل على علي.
وقال الحسن بن خلال: سمعت عمران بن إياس، سمعت حريز بن عثمان يقول: لا اُحبه، قتل آبائي ـ يعني علياًـ.
وعن إسماعيل بن عياش قال: عادلت حريز بن عثمان من مصر الى مكة، فجعل يسب علياً ويلعنه!
وقال غنجار: قيل ليحيى بن صالح: لِمَ لَمْ تكتب عن حريز؟ قال: كيف أكتب عن رجل صلّيت معه الفجر سبع سنين، فكان لا يخرج من المسجد حتى يلعن علياً سبعين مرة!
وقال ابن حبان: كان يلعن علياً بالغداة سبعين مرة، وبالعشي سبعين مرة!
فقيل له في ذلك، فقال: هو القاطع رؤوس آبائي وأجدادي.
وقال ابن عمار: يتهمونه أنه كان ينتقص علياً ويروون عنه ويحتجون به ولا يتركونه!(1).
هذه مقاطع من ترجمة حريز بن عثمان الحمصي، وأقوال الأئمة المحدّثين فيه وتوثيقهم إياه. قال ابن حجر: وإنما أخرج له البخاري لقول أبي اليمان: أنه رجع عن النصب.
فالبخاري اعتمد على قول قائل واحد لا شاهد له عليه، فبادر الى إخراج
____________
1- ميزان الإعتدال 1: 475.
|
|
|
حديث حريز متابعة لمعظم المحدثين الذين سبقوه، وتبعه من لحقه منهم.
ولو أننا تغاضينا عن سب حريز لعلي بن أبي طالب ولعنه وبغضه له، ووافقنا المحدثين على عدم توهينه لذلك السبب -كما هي عادتهم- وإنما آخذناه بروايته للحديث فقط، فاننا سوف نعجب من اُولئك المحدثين المعدّلين له، فانهم رووا عنه اُموراً تكفي إحداها لاسقاطه من الاعتبار وطرح رواياته لإتضاح الكذب فيها لكل ذي عينين.
قال اسماعيل بن عياش: سمعت حريز بن عثمان يقول: هذا الذي يرويه الناس عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" حق، ولكن أخطأ السامع. قلت: فما هو؟ فقال: إنما هو "أنت مني بمنزلة قارون من موسى"!! قلت: عمن ترويه؟ قال: سمعت الوليد بن عبدالملك يقوله وهو على المنبر!
وقال ابن حجر: وحكى الأزدي في الضعفاء، أن حريز بن عثمان روى: أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما أراد أن يركب بغلته، جاء علي بن أبي طالب فحلّ حزام البغلة ليقع النبي (صلى الله عليه وآله)!
قال الأزدي: من كانت هذه حاله لا يُروى عنه.
قال ابن حجر (مدافعاً): لعله سمع هذه القصة من الوليد!
وقال ابن عدي: قال يحيى بن صالح الوحاظي: أملى عليّ حريز بن عثمان، عن عبدالرحمن بن ميسرة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) حديثاً في تنقيص عليّ بن أبي طالب لا يصلح ذكره، حديث منكر جداً لا يروي مثله من يتقي الله. قال الوحاظي: فلما حدثني بذلك، قمت عنه وتركته(1).
أما الحديث المنكر الذي لم يذكره ابن حجر في ترجمة حريز، فقد
____________
1- تهذيب التهذيب 2: 207.
|
|
|
أوضحه ابن أبي الحديد نقلا عن الإسكافي، قال: قال محفوظ: قلت ليحيى بن صالح الوحاظي: قد رويت عن مشايخ من نظراء حريز، فما بالك لم تحمل عن حريز؟ قال: إني أتيته فناولني كتاباً، فاذا فيه: حدثني فلان عن فلان، أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما حضرته الوفاة، أوصى أن تُقطع يد علي بن أبي طالب! فرددت الكتاب، ولم استحل أن أكتب عنه شيئاً(1).
هكذا فلتكن الوثاقة والأمانة والحرص على حديث النبي (صلى الله عليه وآله)، والأعجب من كل ذلك أنهم يدعون أن أحاديث حريز صحيحة الإسناد وشيوخه كلهم ثقات!
فهل هذه المرويات التي افتراها هي أيضاً من أحاديثه الصحيحة الأسناد، وهل نقلها عن شيوخ ثقات، وهل ما بين شيوخه الثقات الوليد بن عبدالملك، وهل عُرف الوليد بأنه من المحدثين الأجلاّء الاُمناء على سنّة النبي وسيرته، وهل إن اعتذار إبن حجر لحريز بأنه ربما يكون سمع هذه الأحاديث المفتراة من الوليد في محله، وبماذا يعتذر البخاري والأئمة الأربعة الذين رووا عنه في كتبهم التي سميت بالصحاح؟!
أوليس من حق المقدسي أن يقول: وأما أربعة لقّب بها أهل الحديث:
فالحشوية، والشكّاك، والنواصب، والمجبّرة(2).
ومن الأمثلة الاُخرى التي تثبت أن نهج المحدثين في التوثيق للنواصب إنما كان امتداداً لمواقف الاُمويين والعباسيين، ما نجده في تراجم بعض الرواة، وأقول بعض العلماء فيهم، منهم:
خالد بن سلمة بن العاص المخزومي، المعروف بالفأفاء: روى له
____________
1- شرح نهج البلاغة 4: 70.
2- أحسن التقاسيم: 138.
|
|
|
البخاري ومسلم والأربعة: عن جرير، قال: كان مرجئاً يبغض علياً.
وذكر ابن عائشة أنه كان ينشد بني مروان الأشعار التي هجا بها المصطفى (صلى الله عليه وآله)!
قال أحمد وابن معين وابن المديني: ثقة، وكذا قال ابن عمار ويعقوب ابن شيبة والنسائي.
وقال أبو حاتم: شيخ يكتب حديثه.
وقال ابن عدي: هو في عداد من يجمع حديثه، ولا أرى بروايته بأساً.
قال ابن سعد: اُخذ مع ابن هبيرة، فيقولون: إن أبا جعفر قطع لسانه ثم قتله سنة 132 هـ.
ذكره علي بن المديني يوماً فقال: قُتل مظلوماً!(1).
فعلي بن المديني يبدي أسفه على قتل هذا الزنديق الذي كان يهجو النبي (صلى الله عليه وآله) بحضرة بني مروان، بينما يوثقه الآخرون ويكتبون حديثه.
وفي ترجمة شبابة بن سوّار المدائني، الذي روى له الستّة، قال فيه الذهبي: صدوق مكثر، صاحب حديث، فيه بدعة.
قال ابن حجر: قال أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي الثلج: حدثني أبو علي بن سختي المدائني، حدثني رجل معروف من أهل المدائن. قال: رأيت في المنام رجلا نظيف الثوب حسن الهيئة، فقال لي: من أين أنت؟ قلت: من أهل المدائن. قال: من أهل الجانب الذي فيه شبابة؟ قلت: نعم. قال: فاني أدعو الله فأمّن على دعائي: اللهم إن كان شبابة يبغض أهل بيت نبيّك، فاضربه الساعة بفالج. قال: فانتبهت وجئت المدائن وقت الظهر، وإذا الناس في هرج، فقلت:
____________
1- تهذيب التهذيب 3: 83، ميزان الاعتدال 1: 631.
|
|
|
ما للناس؟ فقالوا: فلج شبابة في السحر ومات الساعة(1).
قال الذهبي: وشبابة يحتج به في كتب الإسلام، ثقة!(2).
وفي ترجمة عبدالله بن سالم الأشعري الحمصي، الذي روى له البخاري وأبو داود والنسائي.
قال يحيى بن حسان: ما رأيت بالشام مثله.
وقال عبدالله بن يوسف: ما رأيت أحداً أنبل في مروته وعقله منه.
وقال النسائي: ليس به بأس.
وذكره ابن حبان في الثقات.
قال ابن حجر: ووثقه الدارقطني.
قال الآجري عن أبي داود: كان يقول: أعان علي على قتل أبي بكر وعمر!(3).
فهذا الناصبي يدعي أن علياً قد أعان على قتل أبي بكر وعمر، ولا يشك أحد في كذب ذلك ومع ذلك فهم يوثقونه ولا يكذبونه!
أما الشاعر علي بن الجهم الذي كان من ندماء المتوكل والذي كان يلعن أباه لأنه سماه علياً، فقد قال ابن كثير في ترجمته: أحد الشعراء المشهورين، وأهل الديانة المعتبرين. وله ديوان شعر فيه أشعار حسنة، وكان فيه تحامل على علي بن أبي طالب(4)(رضي الله عنه).
ومتابعة أخبار الرواة النواصب يستغرق الكثير، إلاّ أننا أردنا فقط أن نذكر
____________
1- تهذيب التهذيب 4: 264.
2- ميزان الاعتدال 2: 260.
3- ميزان الاعتدال 2: 426، تهذيب التهذيب 5: 200.
4- البداية والنهاية 11: 8 حوادث 249.
|
|
|
بعض الشواهد التي تظهر حقيقة مواقف أهل الحديث من الرواة، ومدى عدم دقة مقاييسهم، ويتضح ذلك أيضاً من مواقفهم من الرواة الشيعة.
بعد أن ذكرنا بعض مواقف المحدّثين من النواصب، وأثبتنا عدم صحة ادعاء ابن حجر في وثاقتهم، نعود الى مناقشة الشق الثاني من مقولة ابن حجر، وهو توهين المحدثين للشيعة مطلقاً واتهامهم بالكذب، لمعرفة الأسباب التي تدفع المحدثين الى اتهام الشيعة بالكذب، وذلك من خلال تراجم بعض الرواة المنسوبين الى التشيع، ومنهم:
1 ـ الحارث بن عبد الله الهمداني، الأعور:
قال الذهبي: من كبار علماء التابعين، على ضعف فيه.
قال أبو بكر بن أبي داود: كان الحارث الأعور أفقه الناس، وأفرض الناس، وأحسب الناس، تعلّم الفرائض من علي.
وقال مُرّة بن خالد: أنبأنا محمد بن سيرين، قال: كان من أصحاب ابن مسعود خمسة يؤخذ عنهم، أدركت منهم أربعة، وفاتني الحارث فلم أره، وكان يفضّل عليهم، وكان أحسنهم...
وقال الذهبي: وحديث الحارث في السنن الأربعة، والنسائي مع تعنّته في الرجال فقد احتج به وقوّى أمره، والجمهور على توهين أمره مع روايتهم لحديثه في الأبواب، فهذا الشعبي يكذبه ثم يروي عنه، والظاهر أنه كان يكذب في لهجته وحكاياته، وأما في الحديث النبوي فلا، وكان من أوعية العلم!
|
|
|
قال ابن المديني: كذاب.
وقال جرير بن عبدالحميد: كان زيفاً.
وقال الدارقطني: ضعيف.
وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ.
وقال عثمان الدارمي: سألت يحيى بن معين عن الحارث الأعور، فقال: ثقة!
قال عثمان: ليس يتابع يحيى على هذا!(1).
قال ابن حجر: وقال ابن عبد البر في كتاب العلم له - لما حكى عن إبراهيم أنه كذّب الحارث-: أظن أن الشعبي عوقب لقوله في الحارث كذاب، ولم يبن من الحارث كذبه، وإنما نُقم عليه إفراطه في حب علي!!(2).
فهذه المقولات في ذمه وتوهينه سببها محبته لعلي بن أبي طالب ولا شيء غيرها.
2 - ناصح بن عبد الله:
قال الذهبي: ضعفه النسائي وغيره.
وقال البخاري: منكر الحديث.
وقال الفلاّس: متروك.
وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال مرّة: ليس بثقة.
قلت (الذهبي): وكان من العابدين، ذكره الحسن بن صالح فقال: رجل صالح، نعم الرجل!
(روى) عن جابر، قالوا: يا رسول الله، من يحمل رايتك يوم القيامة؟
____________
1- ميزان الاعتدال 1: 435.
2- تهذيب التهذيب 2: 126.
|
|
|
قال: "من عسى أن يحملها إلاّ من حملها في الدنيا". يعني علياً.
وعن سلمان، قال: قلت: يا رسول الله، لكل نبي وصي، فمن وصيّك؟ فسكت عني، فلما كان بعد قال: "يا سلمان، إن وصيّي، وموضع سرّي، وخير من أترك بعدي، ينجز موعدي، ويقضي ديني: علي بن أبي طالب".
قال الذهبي: هذا خبر منكر!
وروى له ابن عدي أحاديث عن سماك، عن جابر بن سمرة، منها قال: قالوا: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، من يحمل رايتك... الخ و "علي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنه لا نبي بعدي".
وقال (صلى الله عليه وآله): "تقتل عماراً الفئة الباغية ".
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي: "إنك مستخلف، وإنك مقتول، وإن هذه مخضوبة من هذا" يعني لحيته من رأسه(1).
ثم قال: وهو في جملة متشيعي الكوفة، وهو ممن يكتب حديثه(2).
3 - سالم بن أبي حفصة العجلي الكوفي:
قال الفلاّس: ضعيف، مفرط في التشيّع.
وأما ابن معين فوثقه.
وقال النسائي: ليس بثقة.
وقال ابن عدي: عيب عليه الغلو، وأرجو أنه لا بأس به.
وقال محمد بن بشر العبدي: رأيت سالم بن أبي حفصة ذا لحية طويلة أحمِقْ بها من لحية، وهو يقول: وددت أني كنت شريك علي (عليه السلام) في كل ما كان فيه.
____________
1- الكامل 8: 302.
2- ميزان الاعتدال 4: 240، تهذيب التهذيب 10: 358.
|
|
|
قال ابن عينية: قال عمر بن ذر لسالم بن أبي حفصة: أنت قتلت عثمان؟! فخرج لذلك وقال: أنا؟! قال: نعم، أنت ترضى بقتله.
وقال حسين بن علي الجعفي: رأيت سالم بن أبي حفصة، طويل اللحية أحمق، وهو يقول: لبّيك قاتل نعثل، لبّيك مُهلك بني اُمية.
قال الذهبي: وكان من رؤوس من ينتقص أبا بكر وعمر...(1)
لقد مرّ بنا فيما سبق أن الذهبي جعل انتقاص أبي بكر وعمر من علامات الرفض، وأن ذلك من أسباب ردّ حديث الراوي، ولكن الوقيعة في علي بن أبي طالب يبدو غير كاف لردّ رواية الراوي واتهامه بالنصب، بل لعل ذلك شيء مرغوب فيه، كما تبين من تراجم النواصب.
4 - ثعلبة بن يزيد الحماني:
صاحب شرطة علي، شيعي غال.
قال البخاري: في حديثه نظر.
روى قال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي: "إن الاُمة ستغدر بك".
وقال النسائي: ثقة.
وقال ابن عدي: لم أر له حديثاً منكراً!(2).
فهذا الرجل لمجرد أنه روى ما ليس مستحباً عند الجمهور صار شيعياً غالياً، وردّ البخاري حديثه.
5 - جابر بن يزيد الجعفي، أبو عبد الله:
قال أبو نعيم عن الثوري: إذا قال جابر: حدثنا وأخبرنا، فذاك.
وقال ابن مهدي عن سفيان: ما رأيت أورع في الحديث منه.
____________
1- ميزان الاعتدال 2: 110 تهذيب التهذيب 3: 374.
2- ميزان الاعتدال 1: 371 تهذيب التهذيب 2: 23.
|
|
|
وقال ابن علية عن شعبة: جابر صدوق في الحديث.
وقال يحيى بن أبي بكير عن شعبة: كان جابر إذا قال: حدثنا، وسمعت، أو سألت، فهو من أصدق الناس.
وقال وكيع: مهما شككتم في شيء، فلا تشكوا في أن جابراً ثقة.
وقال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: قال سفيان الثوري لشعبة: لئن تكلمت في جابر الجعفي لأتكلمنّ فيك.
وقال معلى بن منصور: قال لي أبو عوانة: كان سفيان وشعبة ينهياني عن جابر الجعفي، وكنت أدخل عليه فأقول: من كان عندك؟ فيقول: شعبة وسفيان!
وقال وكيع: قيل لشعبة: لِمَ طرحت فلاناً وفلاناً، ورويت عن جابر؟
قال: لأنه جاء بأحاديث لم نصبر عليها.
قال الدوري عن ابن معين: لم يدع جابراً ممن رآه إلاّ زائدة، وكان جابر كذاباً!
وقال جرير بن عبد الحميد، عن ثعلبة: أردت جابراً الجعفي، فقال لي ليث بن أبي سليم: لا تأته فهو كذاب. قال جرير: لا أستحل أن أروي عنه، كان يؤمن بالرجعة!
قال سفيان: كان يؤمن بالرجعة.
قال الحاكم: وعامة ما قذفوه به أنه كان يؤمن بالرجعة!
وقال ابن حبان: كان سبئياً من أصحاب عبدالله بن سبأ، كان يقول: إن علياً يرجع إلى الدنيا!
وقال الجوزجاني: كذاب.
|
|
|
وقال الحميدي: سمعت رجلا يسأل سفيان: أرأيت يا أبا محمد الذين عابوا على جابر الجعفي، قوله: حدثني وصيّ الأوصياء! فقال سفيان: هذا أهونه.
وذكر شهاب أنه سمع ابن عينية يقول: تركت جابراً الجعفي وما سمعت منه، قال: دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً فعلّمه مما تعلّم، ثم دعا علي الحسن فعلّمه مما تعلم، ثم دعا الحسن الحسين فعلّمه مما تعلّم، ثم دعا ولده... حتى بلغ جعفر ابن محمد.
قال سفيان: فتركته لذلك(1).
وعن محمد بن عمرو الرازي، قال: سمعت جريراً يقول: لقيت جابر بن يزيد الجعفي فلم أكتب عنه، كان يؤمن بالرجعة.
وقال سفيان: كان الناس يحملون عن جابر قبل أن يظهر ما أظهر، فلما أظهر ما أظهر، اتهمه الناس في حديثه، وتركه الناس. فقيل له: وما أظهر؟ قال: الإيمان بالرجعة(2).
فبعد أن أثبت المحدّثون لجابر الجعفي صدقه وأمانته في الحديث، عادوا فكالوا له التهم بالكذب، بعد أن أظهر القول بالرجعة، ونُسب الى السبئية، أتباع ابن سبأ الذي أظهر القول بالرجعة، كما تدّعي روايات سيف بن عمر في الطبري، ولكن مهلا فليس جابراً وحده الذي كان يقول بالرجعة، بل إن هناك صحابياً أيضاً كان يقول بها، وهو أبو الطفيل، عامر بن واثلة(3).
6 - عمارة بن جوين، أبو هارون العبدي البصري:
____________
1- تهذيب التهذيب 2: 41، ميزان الاعتدال 1: 379.
2- مقدمة صحيح مسلم 1: 20.
3- المعارف لابن قتيبة: 132.
ل: كان
____________
قال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أنه ضعيف الحديث، وقد تحامل بعضهم فنسبه الى الكذب، روى ذلك عن حماد بن زيد، وكان فيه تشيع، وأهل البصرة يفرطون فيمن يتشيع بين أظهرهم لأنهم عثمانيون.
قال ابن حجر (معلقاً): كيف لا ينسبونه الى الكذب وقد روى ابن عدي في الكامل عن الحسن بن سفيان عن عبد العزيز بن سلاّم، عن علي بن مهران، عن بهز بن أسد، قال: أتيت الى أبي هارون العبدي فقلت: أخرج إلي ما سمعت من أبي سعيد، فأخرج لي كتاباً فاذا فيه: حدثنا أبو سعيد أن عثمان اُدخل حفرته وأنه لكافر بالله. قال: قلت تقرّ بهذا؟ قال: هو كما ترى. قال: فدفعت الكتاب في يده وقمت، فهذا كذب ظاهر على أبي سعيد.
قال ابن معين: كانت عند أبي هارون صحيفة، يقول: هذه صحيفة الوصي(1).
فالتهمة الموجّهة الى أبي هارون أنه يروي الكذب عن أبي سعيد بسبب مقالته في عثمان، ولكننا عندما نستعرض مواقف الصحابة من عثمان، لا نستبعد أن يصدر مثل هذا القول عن أحدهم، فقد قال الزبير بن عوام: إن عثمان لجيفة على الصراط غداً - كما مر بنا سابقاً -.
وقد روي من طرق مختلفة وبأسانيد كثيرة، أن عماراً كان يقول: ثلاثة يشهدون على عثمان بالكفر، وأنا الرابع، وأنا شرّ الأربعة. (منْ لَمْ يحكُم بِما أَنزَلَ اللهُ فأُولئكَ هُمْ الكافِرونَ)(2)، وأنا أشهد أنه قد حكم بغير ما أنزل الله.
وروي عن زيد بن أرقم من طرق مختلفة أنه قيل له: بأي شيء كفرتم عثمان؟
____________
1- تهذيب التهذيب 7: 361، ميزان الاعتدال 3: 173.
2- سورة المائدة: 44.
|
|
|
فقال: بثلاث: جعل المال دولة بين الأغنياء، وجعل المهاجرين من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمنزلة من حارب الله ورسوله، وعمل بغير كتاب الله.
وروي عن حذيفة، أنه كان يقول: ما في عثمان بحمد الله شك، لكني أشك في قاتله، لا أدري أكافر قتل كافراً، أم مؤمن خاض إليه الفتنة حتى قتله، وهو أفضل المؤمنين إيماناً!(1).
ويبدو أن ابن معين كان يستنكر قوله هذه صحيفة الوصي، ولعل السبب في توهينه واتهامه بالكذب هي هذه الاُمور، وليس لكونه كذاباً في ذاته، فما يخالف عقيدة الجمهور يعد عندهم كذباً. ويتبدّى لنا الموقف بجلاء في ترجمة الحافظ أحمد بن الأزهر النيسابوري:
قال الذهبي: اتهمه يحيى بن معين في رواية ذاك الحديث عن عبدالرزاق، ثم إنه عذره.
قال ابن عدي: هو بصورة الصدق، قلت (الذهبي): بل هو كما قال أبو حاتم: صدوق.
وقال النسائي وغيره: لا بأس به.
قال الذهبي: ولم يتكلموا فيه إلاّ لرواية عن عبدالرزاق عن معمر حديثاً في فضائل علي، يشهد القلب أنه باطل! وكان عبدالرزاق يعرف الاُمور، فما جسر يحدّث بهذا إلاّ سراً لأحمد بن الأزهر ولغيره...!(2).
وقال ابن حجر: وقال أحمد بن يحيى بن زهير التستري: لمّا حدّث أبو الأزهر بحديث عبدالرزاق في الفضائل، يعني معمر عن الزهري، عن عبيدالله، عن ابن عباس، قال: نظر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى علي(رضي الله عنه) فقال "أنت سيّد في الدنيا، سيّد في
____________
1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي 3: 50 - 51.
2- ميزان الاعتدال 1: 82.
|
|
|
الآخرة" الحديث. أخبر بذلك يحيى بن معين، فبينا هو عنده في جماعة من أهل الحديث، إذ قال يحيى: من هذا الكذّاب النيسابوري الذي يحدّث عن عبدالرزاق بهذا الحديث؟ فقام أبو الأزهر فقال: هو ذا أنا، فتبسّم يحيى فقال: أما أنك لست بكذاب. وتعجب من سلامته وقال: الذنب لغيرك في هذا الحديث(1).
من العجيب أن يلقى هذا الحديث هذا الاستنكار من قبل المحدّثين، وسنده كلهم ثقات، بل أئمة حفّاظ، ولا أدري ماالذي أنكره الذهبي من متنه حتى شهد قلبه ببطلانه، فأي غرابة في أن يكون علي بن أبي طالب سيداً في الدنيا والآخرة! ولو أن هذا الحديث ورد في أحد الخلفاء الثلاثة قبله، فهل كان سيلقى مثل هذا الإنكار؟!
عندما لم يجد القوم مطعناً على الحديث ينفذون منه، طلعوا برأي عجيب، فقد قال أبو حامد ابن الشرقي: هو حديث باطل، والسبب فيه أن معمراً كان له ابن أخ رافضي، وكان معمّر يمكنه من كتبه، فأدخل عليه هذا الحديث.
وقال ابن عدي: أبو الأزهر بصورة أهل الصدق عند الناس، وأما هذا الحديث، فعبد الرزاق من أهل الصدق، وهو ينسب الى التشيع، فلعله شبّه عليه!(2).
لكن هل من المعقول أن تبلغ الغفلة بإمام حافظ مثل عبدالرزاق درجة حتى أن ابن أخيه الرافضي يستطيع أن يدخل في كتبه أحاديث مكذوبة دون أن يفطن عبدالرزاق! وما معنى قول الذهبي: وكان معمر يعرف الاُمور، فما جسر يحدّث بهذا إلاّ سرّاً. أليس ذلك يعني أن الأحاديث التي تثير سخط
____________
1- تهذيب التهذيب 1: 10.
2- المصدر السابق.
|
|
|
السلطة ما كانت تتناقل إلاّ بهذه الطريقة، وأن موقف المحدثين منها إنما هو إنعكاس لموقف السلطة ليس إلاّ؟ وعبدالرزاق لم يكن شيعياً بالمعنى الخاص للتشيّع، ولكن جرت عادة المحدثين - المؤيدين للسلطة- على اتهام كل من يروي شيئاً من فضائل علي بن أبي طالب وأهل بيته بالتشيع، فاتهموا عدداً كبيراً من أئمة الحديث ممن لا يُشك في انتسابهم الى عقيدة الجمهور، فقد قال الذهبي في ترجمة الحاكم: إمام صدوق، لكنه يصحح في مستدركه أحاديث ساقطة، ويكثر من ذلك، فما أدري هل خفيت عليه؟ فما هو ممن يجهل ذلك، وإن علم فهذه خيانة عظيمة، ثم هو شيعي مشهور بذلك من غير تعرض للشيخين! وقد قال ابن طاهر: سألت أبا سهيل عبدالله الأنصاري عن الحاكم أبي عبدالله، فقال: إمام في الحديث، رافضي خبيث! قلت (الذهبي): الله يحب الانصاف، ما الرجل برافضي، بل شيعي فقط. ومن شقاشقه قوله... إن علياً وصي!(1).
هذه خلاصة مواقف المحدّثين من النواصب والشيعة، ويظهر لكل منصف أنهم لم يكونوا عدولا في مواقفهم منهم، رغم أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد وضع لهم مقياساً لا يخطئ في التعامل مع الرواة على قاعدة الحب والبغض لعلي بن أبي طالب الذي قال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي الاُمي (صلى الله عليه وآله) إلي: أنه لا يحبني إلاّ مؤمن، ولا يبغضني إلاّ منافقً(2).
____________
1- ميزان الاعتدال 3: 608.
2- صحيح مسلم 1: 86 كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق، سنن الترمذي 13: 177 مناقب علي، سنن إبن ماجة باب 11 من المقدمة، سنن النسائي 2: 271 باب علامة المؤمن، الخصائص للنسائي: 38، مسند أحمد 1: 84، 95، 128، تاريخ بغداد 2: 255، 8: 417، 16: 426، حلية الأولياء 4: 185 وقال: حديث صحيح متفق عليه، تاريخ الإسلام للذهبي 2: 198، البداية والنهاية 7: 354، الاستيعاب 2: 461، اُسد الغابة 4: 292، كنز العمال 15: 105، الرياض النضرة 2: 284.
|
|
|
ومعلوم أن قول المنافق لا يؤخذ به لأنه فاسق، ومبغض علي منافق بشهادة النبي (صلى الله عليه وآله)، فعليه كان يجب ردّ روايات النواصب واتهامهم، ولكنهم فعلوا عكس ذلك!
أما الألفاظ المستنكرة التي كانت سبباً في التهم، فسوف نتعرض لها في الفصل القادم إن شاء الله، وأما موقف المحدّثين من بعض أهل البدع من الطوائف الاُخرى كالخوارج، فسوف نذكرها بعد قليل.
إن أهم الدوافع للوضع في الحديث، يلخصها العلماء - الذين تعرضوا لذلك- في الصراعات السياسية والفكرية والمذهبية، ومحاولات الزنادقة لإفساد الشريعة، وبعض أهل الصلاح والزهد الذين ظنوا أنهم بذلك يحسنون صنعاً، والقصاص، وقد تناولنا طرفاً من تلك الأسباب، وبقي أن نتبسط قليلا - بعد هذه المقدمات- في السبب الرئيسي للوضع، ألا وهو الصراعات السياسية وما يلحقها.
تكاد آراء الباحثين من الجمهور - قديماً وحديثاً- تتفق على اتّهام الشيعة بالدرجة الاُولى بالوضع في الحديث، فقد مرّ بنا سابقاً قول ابن أبي الحديد الذي قال: واعلم أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة...الخ.
ومن المعاصرين، قال البكّار: انقسمت الفرق السياسية في الكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان من أشهرهم الشيعة، وقد سئل الإمام مالك عنهم فقال: لا تكلمهم ولا ترو عنهم فانهم يكذبون، وقال حماد بن سلمة: حدثني شيخ من
|
|
|
الشيعة فقال: كنا إذا اجتمعنا فاستحسنا شيئاً جعلناه حديثاً...
وكما وضعواالأحاديث في فضل علي وآل البيت، وضعوا الأحاديث في ذم الصحابة، ولا سيما الشيخان ومعاوية والدولة الاُموية، ومن ذلك قولهم:
"إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه"! وهكذا أسرفت الشيعة في وضع الأحاديث بما يتفق وأهوائها...(1)
أما بقية الفرق الإسلامية كالخوارج والجهمية وغيرهم، فقد مرّ قول الذهبي بأن البخاري كان يروي عنهم لأنهم لا يكذبون، وقال البكار: أما الخوارج، فقد كانوا بعيدين كل البعد عن الكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وذلك لأنهم يكفّرون مرتكب الكبيرة أو مرتكب الذنوب مطلقاً، والكذب كبيرة في حقهم، فكيف الكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ بل هناك أدلة كثيرة على أنهم أصدق من نقل الحديث، فهذا قول ابن تيمية في رده على الرافضة يقول: ونحن نعلم أن الخوارج شرّ منكم. ومع هذا فما نقدر أن نرميهم بالكذب، لأننا جربناهم فوجدناهم يتحرون الصدق لهم وعليهم...(2)
وبعد أن ينقل العمري رواية ابن لهيعة، من أن أحد شيوخ الخوارج قد تاب وأعلن أنهم كانوا إذا هووا أمراً جعلوا منه حديثاً! يقول: فلو صح ما نقل عن ابن لهيعة، فان دور الخوارج في الوضع ضئيل جداً، ولا يعدو أن يكون هوىً لفرد منهم وليس صفة تعمهم(3).
إن المشكلة تتلخص في تحديد أصحاب البدع وتمييزهم، فما هي سماتهم حتى يُعرف أن هؤلاء مبتدعة وأن هؤلاء غير مبتدعة، إذ أن من
____________
1- أسباب رد الحديث: 122.
2- المصدر السابق.
3- بحوث في تاريخ السنّة المشرّفة: 27.
|
|
|
المعلوم يقيناً أن كل فرقة تدعي أنها على الحق، وأنها هي صاحبة السنّة النبوية وغيرها مبتدع، ولا يعقل أن فرداً من أي فرقة يعتقد بضلال فرقته ويستمر في التمسك بآرائها الفكرية، وكما أن المسلمين ينظرون الى اليهود والنصارى على أنهم ضلاّل مبتدعة، فان اُولئك أيضاً ينظرون الى المسلمين بنفس النظرة! وهكذا الحال بالنسبة الى أهل الحديث، فكما أنهم كانوا يعتقدون أنهم هم أهل السنّة وغيرهم مبتدعة، فان أفراد تلك الفرق أيضاً كان يظنون أنفسهم أهل السنّة وغيرهم من الفرق مبتدعة!
والأعجب من كل ذلك أننا نقرأ عن شيخ من الشيعة يتوب ويعترف بوضع فرقته للحديث حسب الهوى، ثم يطالعنا نص آخر يقول إن شيخاً من الخوارج تاب من بدعته واعترف بوضعهم للحديث نصرة لرأيهم، ومرّة نقرأ أن محرز أبو رجاء القدري قد تاب واعترف بوضعهم للحديث نصرة لفكرتهم، إلاّ أننا لا نقرأ أن شيخاً من الجمهور تاب وكشف عن وضعهم للحديث نصرة لمذهبهم، ومع ذلك نقرأ اعتراف المحدّثين بأن بعض أئمتهم كنعيم بن حماد والمصعبي وغيرهما كانوا يضعون الأحاديث في تقوية السنّة!
إن معرفة أسباب وضع الحديث يقتضي معرفة الدوافع إليه أولا، إذ أن لكل جريمة دافعاً يدفع إليها، فما الذي يدفع بالفرق الإسلامية إلى وضع الحديث؟
إن الجواب على ذلك، أن مرحلة الصراع الفكري حول الخلافة هو الدافع الرئيسي الذي يدفع للوضع، لأن منصب الخلافة هو رأس السياسة وسنامها، وكل فرقة تدعي أحقيتها فيها، فاذا أعوزها الدليل لجأت الى الوضع.
من هذا المفهوم ننطلق لنحدد مدى حاجة كل فرقة للدليل على أحقيتها في
|
|
|
قيادة المجتمع الإسلامي، والذي سوف يدفعها للوضع تقوية لحججها وأدلتها في ذلك.
فلو أننا نظرنا الى الخوارج، لوجدناهم قد خالفوا الاُمة كلها في أفكارها ومعتقداتها، إذ أن معظم الفرق الإسلامية تدعي الخلافة في قريش، وشذّ عنها فرقة الخوارج في ذلك، ثم بالغ الخوارج وتطرفوا في آرائهم حتى كفّروا كل من لا يقول بمقالتهم، أي أنهم كفّروا جميع المسلمين عدا الخوارج، وعندما نستعرض تاريخ الخوارج نجدهم في الغالب كانوا من الأعراب غير المتفقهين في الدين، فكانوا يلجؤون الى تأويل الآيات القرآنية لدعم آرائهم، ولكن تأويل الآيات كان يحتاج الى أحاديث تدعم هذا التأويل، فكانت حاجتهم الى الوضع شديدة، وعندما أورد الحافظ ابن حجر حديث ابن لهيعة عن الخارجي الذي تاب واعترف بوضعهم للحديث، قال: هذه والله قاصمة الظهر للمحتجين بالمرسل، إذ بدعة الخوارج كانت في مبدأ الإسلام والصحابة متوافرون، ثم مضى عصر التابعين فمن بعدهم، وهؤلاء إذا استحسنوا أمراً جعلوه حديثاً وأشاعوه، فربما سمع الرجل الشيء فحدّث به، ولم يذكر من حدّثه به تحسيناً للظن، فيحمله عنه غيره، ويجئ الذي يحتج بالمنقطعات فيحتج به، مع كون أصله ما ذكرت(1).
وزيادة في التوضيح، نقول: ما الذي يمنع أيّاً من وضع الحديث على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في فترة الرواية الشفهية؟ ثم يتناقل هذا الحديث الموضوع حتى يتم تدوينه فيما بعد، وهو ما حدث بالفعل.
ورغم أنّ هذا حقيقة - وقد تبين ذلك فيما سبق- فان الجمهور يعود
____________
1- محمود أبو رية. اضواء على السنّة المحمدية: 137.
|
|
|
فيناقض نفسه، فهذا ابن حجر يقول: أول من زكّى وجرّح عند انقراض عصر الصحابة: الشعبي وابن سيرين ونحوهما، حفظ عنهم توثيق اُناس وتضعيف آخرين، وسبب قلة الضعفاء في ذلك الزمان: قلة متبوعيهم من الضعفاء، إذ أكثر المتبوعين صحابة عدول(1). وأكثرهم من غير الصحابة بل عامتهم ثقات صادقون، يعون ما يروون، وهم كبار التابعين(2). فيوجد فيهم الواحد بعد الواحد فيه مقال، كالحارث الأعور، وعاصم بن ضمرة ونحوهما...(3)
إن ابن حجر يضرب صفحاً عن النواصب ويذكر الحارث الأعور لأنه تشيّع لعلي بن أبي طالب! وسوف يرد سبب ذلك في الفصل القادم.
ونعود الى دوافع وضع الحديث: فنقول:
إن حاجة الجمهور لتدعيم نظريته السياسية لم تكن بأقل من حاجة الخوارج، إن لم تكن أكثر، فالجمهور عندما وجد نفسه أمام نصوص دامغة، يحتج بها الشيعة لتدعيم نظريتهم، وجد نفسه مضطراً في نهاية الأمر الى الاعتراف بضرورة وجود نص يدعم هذه الحجة، فكانت الأحاديث الموضوعة التي استعرضنا قسماً منها فيما سبق، والتي دخلت الصحاح، واستكان لها الجمهور لذلك.
أما الشيعة، فقد كانوا أقل هذه الفرق حاجة للوضع لتدعيم نظريتها السياسية، فهم يعتمدون على نصوص قوية صحيحة، بل ومتواترة، اعترف بها جمهور المحدّثين والحفّاظ، لكنهم تنكّروا لمدلولها، وهذا أمر طبيعي، إذ أن اعترافهم بمدلولها سيؤدي إلى هدم نظرية الجمهور السياسية من الأساس،
____________
1- مرّ فيما سبق: الدليل على وضع بعض الصحابة للحديث إرضاء لبني اُمية وكيداً لعلي وأهل بيته.
2- أوليس عروة بن الزبير وحريز بن عثمان من بين اُولئك؟!
3- لسان الميزان 1: 309.
|
|
|
وهو أمر لا يمكن تصور حدوثه بهذه السهولة!
وقد يسأل سائل، ما المانع في أن تكون الأحاديث التي يحتج بها الشيعة لتدعيم نظريتهم موضوعة هي الاُخرى؟ لكن الحقيقة أن ذلك أمر لا يمكن تصوره أو الاقرار به لسببين:
1 - إن معظم هذه الأحاديث قد جاءت عن طريق الجمهور، وليس عن طريق الشيعة وحدهم، وهو أمر قد اشترطه المحدّثون، أو بالأحرى هو الطوق الذي حاصر به جمهور المحدّثين الشيعة، لمنعهم رواية مثل هذه الأحاديث، فعلى الرغم من تساهل الجمهور في رواية الفضائل، إلاّ أنهم استثنوا من ذلك انفراد الشيعي برواية فضائل علي بن أبي طالب وأهل بيته، فاذا كان لها متابع أو شاهد من طريق الجمهور وإلاّ ردّت.
2 - إن رواية مثل تلك الأحاديث كانت مجازفة كبيرة قد تؤدي الى الموت أحياناً، وقد مرّ بنا موقف المتوكل من الجهضمي الذي روى ما يخالف هوى الخليفة، فكاد يدفع حياته ثمناً لذلك، وقضية الحافظ ابن السقا مثال آخر، فقد قال الذهبي: واتفق أنه أملى حديث الطير، فلم تحتمله نفوسهم فوثبوا به وأقاموه وغسلوا موضعه! فمضى ولزم بيته، فكان لا يحدث أحداً من الواسطيين...(1)
وفي ترجمة عبدالله بن شدّاد:
عدّه خليفة في تابعي أهل الكوفة.
وقال ابن سعد: في الطبقة الاُولى من تابعي أهل المدينة... وكان ثقة قليل الحديث شيعياً.
____________
1- تذكرة الحفاظ 3: 965 ترجمة ابن السقا.
|
|
|
وقال الذهبي: حديث عبد الله مخرّج في الكتب الستة، ولا نزاع في ثقته.
قال عطاء بن السائب: سمعت عبدالله بن شدّاد يقول: وددت أني قمت على المنبر من غدوة الى الظهر، فأذكر فضائل علي بن أبي طالب(رضي الله عنه) ثم أنزل، فيُضرب عنقي!
قال الذهبي: هذا غلوّ وإسراف!(1).
فالشيعي يجد نفسه محاصراً من جهتين إذا ما نوى أن يروي في فضائل علي أو أهل البيت - السلطة من أمامه بالسيف، والمحدّثون من ورائه بالرّدـ إذا لم يتابع على روايته من طريق آخر ليس في إسناده شيعي!
فالروايات التي جاءت في فضائل علي وأهل بيته، إنما جاءت عن طريق المحدّثين من الجمهور، مع محاولة تأويل أي رواية تحمل إيحاءً بالنص على علي. بل إن الاعتراف بشرعية خلافة علي بن أبي طالب لم تأتِ إلاّ في القرن الثالث الهجري، عندما قرّر أحمد بن حنبل - على رغم أهل الحديث - أن علي بن أبي طالب هو الخليفة الراشد الرابع حسب الترتيب، الأمر الذي لاقى استنكاراً من زملائه أهل الحديث، حيث أخرج ابن أبي يعلى عن وديزة الحمصي قال: دخلت على أبي عبدالله أحمد بن حنبل حين أظهر التربيع بعلي(رضي الله عنه)، فقلت له: يا أبا عبدالله، إن هذا لطعن على طلحة والزبير! فقال: بئسما قلت، وما نحن وحرب القوم وذكرها؟ فقلت: أصلحك الله، إنما ذكرناها حين ربَّعت بعلي، وأوجبت له الخلافة، وما يجب للأئمة قبله. فقال لي: وما يمنعني من ذلك؟ قال: قلت: حديث ابن عمر(2).
____________
1- سير أعلام النبلاء 3: 488.
2- يعني الحديث الذي أخرجه بعض المحدثين، وفيه أنهم كانوا يذكرون أبا بكر وعمر وعثمان ثم يسكتون، وقد مرّ هذا الحديث فيما سبق، وقول ابن معين فيه.
|
|
|
فقال لي: عمر خير من ابنه، وقد رضي علياً للخلافة على المسلمين وأدخله في الشورى، وعلي بن أبي طالب(رضي الله عنه) قد سمى نفسه أمير المؤمنين، فأقول أنا: ليس للمؤمنين بأمير؟!(1).
وما حدث في القرن الثالث يذكرنا بما حدث في القرن الأول الهجري، فعن العوام بن حوشب، قال: حدثنا سعيد بن جهمان، قال: سمعت سفينة مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "الخلافة بعدي في اُمتي ثلاثين سنة". قال محمد بن يزيد في حديثه: فحسبوا ذلك فكان تمام ولاية علي. فقالوا لسفينة: إنهم يزعمون أن علياً لم يكن خليفة؟
فقال: من يزعم ذلك؟ أبنو الزرقاء أولى بذلك وأحق(2).
وابن الزرقاء هو مروان بن الحكم، وهذا يدلنا على أن الروح الاُموية نفسها قد بقيت سارية الى القرن الثالث الهجري في النظر الى علي بن أبي طالب بأنه لم يكن من الخلفاء!
____________
1- طبقات الحنابلة 1: 393.
2- كتاب الفتن لأبي نعيم: 57.