في مرحلة الطفولة قد يتمنّى ابن الطبيب أن يكون طبيباً، وابن المهندس أن يصبح مهندساً وابنة المعلّمة مثل أمّها، لكنّ أمنيات الطفولة ليست بالضرورة مشاريع للمستقبل، فقد تتبخر مع تقّدم العمر، فما أن يصل الفتى أو الفتاة إلى سنّ البلوغ حتّى يستشعر بشخصيّته المستقلّة التي تبحث عمّا يجعل منها كائناً إجتماعياً ذا وجود نافع بذاته.
إنّ الشاب أو الشابّة ينتقلان في هذه المرحلة من "الشخص" إلى "الشخصيّة" باحثين عن السّبل التي تمنح شخصهما إمتيازات جديدة كأن يكونا شخصية أدبية أو علمية أو ثقافية أو إجتماعية أو قيادية أو فنّية وما إلى ذلك، ففي هذه المرحلة لا يكتفي الشبّان والشابّات بالموقع الإجتماعي العادي الذي ربّما تكون الظروف العائلية أو المحلّية أو المعيشية قد صنعته ضمن قالبها الخاص..
إنّ الشاب (فتى كان أم فتاة) ينزع إلى أن يكون في الموقع الأنسب الذي يختاره بنفسه ويصنعه بيديه، وهذا طموح مشروع يحقّ لكل شاب أو شابّة أن يتطلّعا إليه، وأن يعملا من أجل الوصول إليه.
فمن الخطأ إعتبار موقعنا الإجتماعي قدراً مقدوراً، بمعنى أنّه يتعذّر علينا تغييره، وكأنّه بناء أثري يصعب هدمه، أو شجرة معمّرة لا يمكن إقتلاعها، ذلك أنّ مستقبلنا بأيدينا، ولعلّ الكثيرين ممّن بقوا يراوحون في مواقعهم لم يبذلوا الجهود المطلوبة للخلاص من هذا الواقع أو ذاك الموقع، وإلاّ فلو نظرنا حولنا لرأينا كيف أصبح ابن العامل طبيباً وابن الموظّف البسيط محامياً، وابن البقّال مهندساً شهيراً، وربّما ابن الأمّيّ كاتباً معروفاً وهكذا.
في سنّي الدراسة، يقلق الشاب والشابّة فيعيشان هموم المستقبل، ورغم أنّ كلّاً منهما قد اختطّ طريقة بإختيار الفرع الدراسيّ العلمي أو الإنساني الذي يرغب فيه، أو الذي ألجأته إليه علاماته التي حاز عليها في إمتحان الإعدادية، لكنّه يبقى يعيش هذا القلق.
والشاب الجاد المثابر لا يعتبر دراسته الجامعية هي آخر محطّة في طريق حياته، فكم من الحاصلين على الشهادات الجامعية واصلوا طريق العلم فحازوا على شهادات أعلى، وكم من الذين تخرّجوا في إختصاص معيّن برعوا في إختصاصاتهم- جرّاء مواصلة البحث- حتّى فاقوا الذين سبقوهم في هذا المضمار أو ذاك.
وبما أنّه ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه، فقد لا يوفّق البعض منّا لإكمال دراسته إمّا بسبب ظروف عائلية خاصّة، أو مالية خانقة، أو سياسية ضاغطة، لكننّا رأينا منْ شقّ طريقه في الحياة وتفوق في مواهبة على كثير من أقرانه.
"الدراسة" إذاً هي همّ من هموم المستقبل، وحريّ بها أن تكون كذلك، فهي الأساس والعماد الذي ينطلق منه الشاب أو الشابّه ليمارس إختصاصه. ولقد ولّى أو كاد الزمن الذي يعتبر فيه الطالب شهادته الجامعية هي أعلى مراتب بذله وجهوده فيركن إليها ما بقي من حياته. فنحن اليوم أمام حياة متطوّرة لا تقبل بالمستوى الذي كان مقبولاً بالنسبة لآبائنا، فالشهادة الجامعية اليوم قد تكون كشهادة الإعدادية بالأمس، والماجستير مرحلة إعداد للدكتوراه، بل حتّى الحائزون على الدكتوراه يواصلون دراساتهم وأبحاثهم، وهناك من نال أكثر من شهادة دكتوراه.
فإذا كان زميلي أو جاري أو قريبي أو صديقي قادراً على الوصول إلى ما وصل إليه من مركز علمّي مرموق، فبإمكاني- ضمن شروط وظروف مماثلة- أن أصل إلى ما وصل إليه، فالمستقبل لا يحابي أحداً ولا ينحاز إلى أحد.. أبوابه مفتوحة للجميع، فأمّا الذين دخلوا من أبوابه الواسعة فهم الذين تحوّل عندهم "همّ" المستقبل إلى "همّة"، وقديماً قيل "من جدّ وجد ومن زرع حصد".
الهمّ الآخر الذي يدور في أذهان الشبّان وربّما كان يؤرقهم هو "العمل". فقد يتخّرج الشاب من الجامعة لكنّه لا يجد العمل المناسب الذي يحمل إختصاصاً فيه، وقد تضطره ظروف الحياة إلى إستبدال إختصاصه، أو العمل بغير هذا الإختصاص، فإمّا أن يقاتل من أجل أن يوظّف طاقته في المجال الذي يحب ويرغب، وإمّا أن يتعذّر عليه ذلك فيصطدم بواقع لا يمكنّه من تحقيق إرادته.
فإذا نلتّ ما تتمنّى كان حقّاً عليك أن لا تعيش الرتابة في عملك، بل عليك أن تسعى لأن تكون المميّز بين زملائك، المبدع في حقل عملك، النازع إلى تطوير خبرتك واثراء تجربتك، وأن لا تعتبر ما أنت فيه خاتمة المطاف.
وأمّا إذا حالت الظروف الصعبةُ بينك وبين الوصول إلى الموقع العملي الذي تطمح إليه، فإنّ عليك أن تتذكّر أنّك ربّما خسرت موقعاً ولكن بقيت أمامك مواقع قد تجد فيها ذاتك، فما آتاك الله من المواهب والإمكانات والطاقات لا تحّد بمجال معيّن، فكم رأينا شباباً طموحين أبدعوا حتّى في غير مجال إختصاصهم لسبب بسيط وهو أنّهم رفضوا الإستسلام للهزية أو للظروف غير المواتية.
الهمّ الثالث هو "المال"؛ فمتطلّبات الحياة اليوم كثيرة، والدخل الذي يحقِّقه الشاب قد لا يتناسب مع حجم تلك المتطلّبات، وإزاء هذا المشكل لا بّد أن نرسم موازنة بين ما نجنيه من مال وبين حاجاتنا الأساسية والضرورية، لأنّ قائمة الإحتياجات لو تركت مفتوحة فإنّها سوف لن تنتهي، لذلك ليكن شعارنا "المال بخدمتنا ولسنا بخدمة المال".
لكن تنمية الدخل وتحسينه أمر لا عيب فيه، بل هو من طموحات الإنسان الذي يرفض المراوحة، ذلك أنّ القبول بالقليل في حين أنّ الحصول على الأكثر متاح يعّد عجزاً وتقاعساً، والله تعالى يقول:
(فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَ كُلُوا مِن رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ). [المُلْك/ 15]
ورغم أنّ المشكلة المالية تتعب الكثير من الشبّان وتؤرقهم، ممّا تضطر بعضهم إلى العمل في أكثر من مجال، وتضطر آخرين إلى الهجرة لبلدان تتاح فيها فرص أوسع للعمل، إلاّ أنّ ما نحب أن نلفت الإنتباه إليه هنا هو أنّ تطوير القابليّات والمهارات وتنمية المواهب واللجوء إلى مزيد من التخصّص والإتكال على الله، سبيل من السّبل الكفيلة للخروج من هذا المأزق.
على أيّة حال، المال مهم لكنّه يجب أن لا يكون أكبر همنّا، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.
وهناك أيضاً همّ "الزواج" كمشروع مستقبلي، فغالباً ما يفكِّر الشاب (فتى أو فتاة) في هذا المشروع الإجتماعي المبارك، بل يشغل حيزاً واسعاً من إهتمامهما، فهما يقبلان على تشكيل نواة لأسرة إسلامية يعيشان في ظلال سعادتها وهنائها بما أنعمه الله تعالى على كلّ منهما بنعمة الآخرة:
(وَمِن آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةَّ وَرَحْمَةَ). [الرّوم/ 21]
إنّ شركة الحياة الزوجية مشروع مستقبلي عظيم الأهميّة يتطلّب حسن الإختيار من كلا الطرفين. ولقد أراد الله سبحانه وتعالى للمؤمن أن يتزوّج بكفئه المؤمنة، كما أراد لها ذلك، لأنّهما يتناسبان فكراً وروحاً وطباعاً وهدفاً، وبالإختيار الموفّق يمكن أن نحكم على أنّ المستقبل الإجتماعي سيحظى بأسرة صالحة تعّد الحلقة الأساس من حلقات المجتمع الصالح المؤمن السعيد.
ولعّل ما جاء في الحديث من قول الرسول (ص): "تخيّروا لنطفكم فإنّ العرق دسّاس" صريحٌ في أنّ الزواج ليس قسمة ونصيباً بمعنى أنّه قضاء مبرم لا مردّ له، طالما أنّ المؤمن والمؤمنة في الخيار، فكما للمؤمن حقّ الإختيار كذلك للمؤمنة الحق نفسه: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه."
وثمة همّ آخر هو همّ الجاه والسمعة والشهرة. وعلينا شبّاناً وشابّات أن لا نستعجله فهو آتٍ إن أحسنّا الأداء في عملنا، والتزمنا الصبر حتّى يحين موعد الحصاد، وعلينا أن نعمل ولله تعالى أن ينشر عطر أعمالنا ويذيع عبير إنجازاتنا إن كانت خالصة لوجهه الكريم.
فالعمل لإثبات الذات والقدرات والمواهب أمرٌ مشروع، لكنّ العمل من أجل الرِّياء وطلب مرضاة الناس، ورضاهم غاية لا تدرك، يشّوه الوجه الجميل لأعمالنا، فإذا أخلصنا النيّة لله تبارك وتعالى، وإستقمنا على الطريقة التي يريد، وقدّمنا خدماتنا للناس على طريقة "خير الناس من نفع الناس" وأدخلنا بذلك السرور على قلوبهم فإننّا نحقّق بذلك مرضاة الله:
(إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَ لَا شُكُوراً). [الإنسان/ 9]
ولسوف يجعل الله لنا جاهاً مرموقاً، ويرزقنا من طيب السمعة ما لا نحتسب، فلنعمل إذاً في خدمة الناس إبتغاء مرضاته سبحانه وتعالى، وسيكون لنا عند الناس مقام محمود.
ورد في في بعض الأدعية "وكم من ثناءٍ جميلٍ لستُ أهلاً له نشرتَه".. قدّم أقصى ما تستطيع من مهارات، والمكافأة تأتي.
عقبات في الطريق:
الطريق إلى المستقبل ليست معبّدة أو مفروشة بالورود، ففيها الكثير من العقبات والصعوبات، ولعّل حلاوة الهدف تنسي في كثير من الأحيان مرارة الصعاب، وإلاّ فمن يريد مستقبلاً سهلاً فإنّه لن يحصل إلاّ على فتات بسيط لا يتناسب وطموحاته وتطلّعاته كشابٍّ يفترض أن يقف المستقبل باسماً بين يديه خاضعاً لإرادته.
وعلى مَن يبحث عن مستقبل مشرق أن يعّد العدّة لتحمّل المشاق والعقبات التي تعترض طريقه، ولا بدّ أن يكون كالماء الذي تأتي الصخورُ طريقه فيجوزهنّ ويذهب، ومن هنا جاء قول الشاعر:
تريدين نيلَ المعالي رخيصةً
ولابدّ دونَ الشهد من إبرِ النحلِ
وقديماً قيل "من طلب العلى سهر اللّيالي"، وقيل أيضاً:
فإذا كانت النفوسُ كباراً
تعبت في مرادِها الأجسامُ
فبعض المشاكل والعقبات يمكن تذليله بالصبر والحكمة والعمل الجادّ المثابر، وبعضها قد يصعب تجاوزه لأنّه ممّا قد لا يقع عامل تذليله
source : البلاغ