يروي صاحب كتاب "فن الإقناع" "هينز ريبورز" عن إحدى السيدات كيف وضعت حدا للجدال؟ تقول السيدة "روي": فيما مضى غالبا ما ارتكبت الخطأ التالي، أجعل زوجي يفهم أنه على خطأ ويسبب ذلك مشاحنات زوجية لا تنتهي والذي كان يزعجني هو أني رغم الإيضاحات التي أدعم بها أفكاري أفشل في التأثير عليه والوصول إلى نتيجة مرضية، فكرت في أن أبدل طريقتي في التعامل فلا أصارحه أبدا بأنه مخطئ بل على العكس أوافقه بأنني ربما أنا أكون المخطئة، وأسلم معه بأنه قد يكون من وجهة نظر معينة مصيبا في رأية.. مثل هذا التكتيك من قبلي دفع زوجي إلى أن يأخذ حقيقة أفكاري بعين الإعتبار، حتى وبعد مرور أيام على المناقشة يتبنى الرأي الذي أوحيته إليه فيدافع عنه بحملة وكأنة صاحب الفكرة.. بالطبع لا أنتقده على ذلك لأني لو فعلت لخسرت الجولة وعدت إلى نقطة الصفر فالمهم بالنسبة لي أن أجني ثمار ديبلوماسيتي الناجحة"
ما الذي نستنتجه من تجربة هذه السيدة؟ ينبغي تلافي الطريقة الهجومية في التحدث والنقاش، فلا ننبذ وجهة نظر الآخر بل نحترم أسلوبه في التفكير وبذلك تسهل أمامنا مهمة الإقناع، وبانتهاج مثل هذه المراوغة البسيطة- عدم مواجهة محدثنا بأنه على خطأ- من شأنه أن يجعل فرص النجاح أكثر يسرا وتحقيقا. فالناس كالسلاحف لا يمكنك أن تجبرها على السير بقوة، بل يمكنك أن تدفعها بشيء من الرفق.
مسألة التسليم بالأمور نادرا ما يفعلها الناس وحتى لو كانت من "عالم عليم"، أو ربما نسلم بأمر ما عند مجال اختصاص لا نعي حقيقة حواشيه، لكن الأمر الأكثر غرابة حين يتواجه الناس مع مصدر معرفي مهم سرعان ما ينقسمون بين: مسلم بصحة ما يقال وآخر متشكك. ويحدث ذلك لأن الناس تتحمس في الغالب على ما يقولون لا بناء على تقييم موضوعي. ويجهد الفريقان بالسجال انطلاقا من زاوية مقاربته لذلك المصدر بالاتفاق معه أو بالاعتراض عليه.
يظهر الجدال- إذن- أو النقاش الحاد أو الحوار الساخن، عند اختلاف وجهات النظر ويحاول أحد ما أن يقنع الآخر، وتزداد حدة الجدال أو تنخفض بهدف الإقناع وفقا لمسألتين:
- من يتكلم: إذ كثيرا ما نلاحظ أن الناس مأخوذة بحكاية الغريب، أو ننصاع للأكبر سنا احتراما، أو نخجل من مواجهة الأفقه.
- ومقدار المعلومات المقدمة: إذ بقدر ما يدعم المرء آراءه أو مجادلاته بحجج وأدلة وافية بقدر ما ينجح في تسجيل نقاط على الآخر أو إضعاف موقفه.
ويستمر النقاش في موقفين: إما إقرار وتسليم بصحة ما قاله أحدهم، وإما أن لا يسلم جدلا لاعتقاده الراسخ بأنه الأفهم، وعلى الآخرين أن يقتنعوا بغض النظر عن أي اعتبار. ولكن ما يفوت ذوي الموقف الثاني أن "الجدل العقيم" يحدث عندما يعتقد كل منا بأنه الأصدق قولا، والأفضل فكرا و الأحسن منطقا، وعبثا يحاول أي منا التنازل عن رأيه بينما ما ينبغي معرفته أن "كل تعميم خاطئ" فالقول بالأحكام المطلقة، أو التمرس بالأفكار المنمطة، أو بالتعميمات اللفظية الجامدة مرفوض علميا واجتماعيا، لأن الإنسان معرفيا هو واحد من أربعة أصناف:
* رجل يعرف ولا يعرف أنه يعرف... ذلك الناسي ذكروه.
* رجل لا يعرف ويعرف أنه لا يعرف... ذلك الجاهل علموه.
* رجل لا يعرف ولا يعرف أنه لا يعرف.. ذلك الأحمق اجتنبوه.
* رجل يعرف ويعرف أنه يعرف... ذلك الحكيم اتبعوه.
فلا ندعي إذن المعرفة التامة لأنها خاصة الأنبياء، ومن أدبيات الحكمة في التعلم أن نظهر بفكر الرجل النهم للمعرفة وبأننا إذا حفظنا شيئا فمثة أشياء غائبة عنا لذلك علينا أن نقنع أو نقتنع، وللإقتناع بدوره آلية ينبغي الإلمام بها.
source : البلاغ