والمراد بالأثر هو: الأثر الصحيح الوارد عن النبي وآله، أو الصحابة والتابعين مرفوعاً إليه "فإن أعياك ذلك (أي فهم القرآن بالقرآن) فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن ادريس الشافعي: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو مما فهمه من القرآن".
ومدرك هذا التفسير السنَّة الشريفة، والرواية الثابتة الصحيحة عن الأهل أو المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصحابة أو من في حكمهم من أوائل التابعين.
أ ـ السنة الشريفة: لاشك أن السنة شارحة للقرآن، ومبينة لمجمله، وموضحة لغامضه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله:
"ألا أني أوتيت القرآن ومثله معه" يعني السنة.
ولا شك أن السنة القطعية الصدور عن النبي وأهل البيت هي عدل القرآن، في شرح كلياته وتفصيل مجملاته، إلا أنه يجب الحيطة في دراسة مصدرها وسندها، والتثبت من صحتها وصدورها، لأن الكذابة كثرت على الرسول وأهل بيته، فالتحرز في ذلك طريق الاطمئنان، والاحتياط سبيل النجاة.
وزيادة على ما تقدم ينبغي رصد الإسرائيليات من الروايات التي نشرها أهل الكتاب مما لم ينطق به النبي، ولم ينبس به معصوم ببنت شفة، ورصد ذلك يعني طرحه، وعدم الأخذ به، كما رد العلماء كثيراً من ذلك وشككوا في نسبته إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بل واعتبار كل ذلك موضوعاً عليه، ولا من دليل نصّي أو ديني أو تاريخي على صحته.
أما الوارد عنه قطعياً فهو ليس من هذا الباب، وحجته ثابتة على الناس، ولا يجوز التعدي منه إلى غيره.
وقد تقدم في مصادر التفسير ما يدل على ذلك.
ب ـ الرواية الثابتة عن الصحابة أولاً، وعن التابعين ثانياً. وليس المراد هنا أقوالهم المجردة على أصح الاراء، فإنه لا يجوز التفسير بمظنون الرأي، ومجرد الاعتقاد، وإنما أخذا بقول الحاكم في المستدرك "إن تفسير الصحابي الذي شاهد التنزيل له حكم المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. لأن الصحابي شاهد قرائن الأحوال ومقتضيات المقام ومناسبة الحال، نظراً لقرب عهد الصحابة من الرسول... ودراية الثقات منهم بأسباب النزول مضافاً إلى الفهم العربي المحض الذي تميزوا به، هذا إذا كان الصحابي ثقة ثبتاً ذا فهم عربي أصيل، إذ لم يكن كل الصحابة من الثقات، ولم يكن كلهم على فهم عربي واحد للنصوص، بل وكان قسم منهم يعتمد النظر إلى ما يقوله أهل الكتاب من اليهود والنصارى، لا سيما في قصص الأنبياء، وأخبار بني إسرائيل، وسرد أسماء لأعلام وأماكن وبقاع لم ينص عليها أثر من كتاب أو سنّة. واختلاف الصحابة في جملة من التفاسير ينبئ عن ذلك، ويرد إلى تفاوت الفهم عندهم.
ويبدو أ ابن عباس وابن مسعود (رض) يحتلان المنزلة الكبرى من بين مفسري الصحابة، فقد كان ابن عباس يلقب بحبر الأمة، وترجمان القرآن، وقد دعا له رسول الله بالتفقه بالدين ومعرفة وتعلم التأويل كما في بعض الآثار، وهو ذو حس عربي أصيل، واجتهاد بمعاني كتاب الله وهو يعتمد على التفسير القرآني للقرآن والسنة، والاجتهاد المستند إلى اللغة وشواهد الأبيات، وكتب التفسير حافلة بآرائه، وله تفسير مجموع من كتب التفاسير. وكذلك الحال بالنسبة لابن مسعود فقد قال: والذي لا إله إلا هو ما نزلت آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته".
وتأتي حجية هؤلاء في التفسير بعد النبي وآله، فما كان موافقاً لكتاب الله وسنة نبيه أخذ به من قوليهما، وأقوال أخيارهم، وما كان مجانباً لهما ضرب به عرض الحائط وهذا لا يقدح بمنزلتهما، وإنما يرد إلى سند الرواية عنهما، أو للالتباس الذهني الذي يقع فيه غير المعصوم، و"إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر فإنه آية في التفسير".
وهؤلاء التابعون منهم من صحت طريقته، وحمدت منهجيته، ومنهم من فسد رأيه، وتلاشت موضوعيته فيجب إخضاع كل واحد منهم إلى مقاييس الجرح والتعديل فيما تعارف عليه أهل الرجال، وهذا يعني أننا نجد الموثق منهم كالحسن وقتادة ومجاهد. والمجرح كأبي صالح والسدى ومقاتل وغيرهم.
ويبدو أن الطبري (ت: 310ه) في أغلب أجزاء تفسيره المرسوم ب (جامع البيان في تفسير القرآن) يعتمد اعتماداً كلياً على التفسير بالمأثور، فلا نكاد نجد رأياً إلا وقد اسند برواية إلى النبي أو السلف من صحابة أو تابعين، فالآية أو جزؤها كالعبارة القرآنية التي تحمل رأياً واحداً يثبته لها ثم يسند منشأ ذلك الرأي في رواية متسلسلة السند، وإن كان في ذلك عدة آراء فهو يجزئها رأياً رأياً ويصوغها تفسيراً تفسيراً ثم يعقب على كل رأي بالروايات القائلة به، ولنضرب لذلك مثلاً في قوله تعالى: (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)
يورد اختلاف أهل التأويل على الشكل التالي:
1ـ قال بعضهم عني بالسوء كل معصية، ثم يسرد جملة من الروايات تنتهي بإسنادها إلى كل من: زياد بن الربيع وأبي بن كعب وعائشة ومجاهد. وكلهم قالوا بهذا المعنى المذكور.
2ـ وقال آخرون معنى ذلك من يعمل سوءاً من أهل الكفر يجز به، ثم يعقب هذا الرأي بذكر من قال ذلك عن طريق من حدثه به حتى ينتهي إسناد لك إلى الحسن وابن زيد والضحاك.
3ـ وقال آخرون معنى السوء في هذا الموضع الشرك، ثم يعقب هذا الرأي بذكر من قال ذلك عن طريق من حدثه به حتى ينتهي بسنده إلى ابن عباس وسعيد بن جبير.
ثم يختار الطبري رأياً في الموضوع فيقول: "أن كل من عمل سوءاً صغيراً أو كبيراً من مؤمن أو كافر جوزي به، وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية لعموم الآية على كل عامل سوء من غير أن يخص أو يستثنى منهم أحد، فهي على عمومها...".
source : البلاغ