علاقة الحركة الإسلامية بالسلطة السياسة في بلداننا وسمت بالشائكة أو المأزومة أو الملتبسة ، والمحصلة تبقى أحد العقد المستعصية على الحل مع كثير من العقد التي تثقل بلادنا الإسلامية مما يؤخر من تقدمها وانطلاقتها في ركب الحضارة ..
إن كثير من أزماتنا المستعصية -ومنها موضوع البحث- هي أزمات عندما تسكن في بلادنا ، وأما عندما ترتحل إلى بلاد متحضرة تذوب ولن تعد أزمة ، وهذا بسبب حالة التخلف والاستبداد المستحكم عندنا ..
وكثير مما يُعاب على التشيع في عالم التخلف والانحطاط ، لو وزنته في عالم التحضر لكان من مفاخر التشيع ومجلب لافتخار الشيعة ، وواحدة منها النظام الإداري أو ما يسمى بالمرجعية -موضوع البحث- ..
ويستحضرني هنا رد فعل تلقائي خطر لي وأنا أستمع لتشكيك الريّس بولاء الشيعة لبلدانهم أو لمقولة "الهلال الشيعي" أو لاحتجاج الشيخ القرضاوي على الشيعة بالعمل في بلاد الأكثرية السنية ، فخطر لي أن لو تم ترجمة هذه الأقوال وتم توزيعها على مؤسسات المجتمع المدني في الدول المتحضرة لكان رد الفعل آلاف علامات التعجب والاستنكار لأنها تخالف أوليات أوليات الحقوق المدنية للإنسان ، لأنهم بالتأكيد يتحدثون عن التعاطف الفكري دون السياسي ، ولو عنوا بالولاء السياسي فيرجع السؤال عليهم : ولِمَ تبحث فئة عريضة من المجتمع عن الولاء الخارجي إليس بسبب خلئ النظام السياسي الداخلي وظلمه وبالتالي هو أحق باللوم والعتب والتشنيع ..
الفكر الشيعي -إجمالا- أكثر تقنينا وأكثر التباسا ، في آن ، مقارنة بالفكر السني ، فالفكر السني باعتباره مذهب إسلامي نشأ في قصر الخلافة ، وبالتحصيل كانت السلطة -واستمرت- هي "ولي الأمر" المفروض الطاعة وله الأسبقية في التنفيذ في حال التعارض انطلاقا من اقتران طاعته بطاعة الله والرسول اشتراعا من قول الباري عز وجل (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، أما الفكر الشيعي المحكوم بالإمامة ذو المواصفات الكاملة فقد بدأت أزمته مع السلطة في الساعة الأولى لمواراة الرسول (صلى الله عليه وآله) التراب ، لأنه أصبح في صف المعارضة حينما طالب بالحكم للمعصوم ، وانطلقت من هناك تسمية "الروافض" وغيرها عليهم .
نعود إلى توصيف العلاقة مع السلطة السياسة في الفكر الشيعي ، فهي لو وضعت في ميزان العقل والحضارة فهي أكثر تقنينا وأسهل حركة ، حيث لا تجد مشكلة في كل أدبيات البلاد المتقدمة في موضوعة الولاء الفكري أو الديني أو العاطفي لجهة خارج الأوطان ، وخير دليل على ذلك ظاهرة قوة الجاليات في الغرب ومساحة حرية الحركة والولاء لأوطانهم الأصلية التي جاءوا منها وحتى العمل من أجل الدفاع عن أوطانهم السابقة والتظاهر انتصارا لقضايا تمسها ..
والفكر السني يصطدم في الغرب بسؤال : من هو "ولي الأمر" هناك ؟ ، وبالتأكيد السكوت مشكل والجواب أشكل ! .
إذن هناك الأمر طبيعي وجزء من تكوينة المجتمعات ، ولكن إذا جاءت إلى بلادنا أصبحت أزمة ، وبالتالي فدع عنك النعيق والضجيج والغبار المثار حول التشيع بين فترة وأخرى من هنا وهناك ، والأمر لا يعدو عن نقل العصا من يد إلى أخرى في سباق من أجل أن يبقى هذا الصوت الصافي متواريا عن الأنظار .
إن معيار الولاء في بلداننا ملتبس والسبب أن السلطة السياسية -وقل الحاكم- هو الأصل وليس الوطن ، ويُختصر الوطن في فرد واحد أو عائلة ، وبالتالي عند الحديث عن الولاء فالمطلوب الولاء للرئيس أو الملك ، ومطالب المواطن بالتعزية إذا رحل الأول وكتابة التبريكات للثاني إذا جلس على الكرسي والأول جاء ورحل وجاء الثاني دون اختيار وانتخاب من الناس ، أو يجب أن تبارك –وليس فقط الموافقة- على قرارات مصيرية –ومثال تحويل إحدى الدول إلى ملكية- ، وإلا فنهيق الشك بالولاء والاتهام بالخيانة جاهزان ..
عندما يتم فصل الوطن عن الحاكم –وهي ضرورة قاطعة- يكون حب الأوطان والعمل من أجلها والتضحية في سبيل الدفاع عنها إيمان ، ومطالب البعض للشيعة في الذوبان في بلدانهم فهي مقبولة إذا كان القصد الوطن وليس النظام السياسي بكل سوءاته ..
إن هذه النظرية تأصلت في الفكر السني ولم تعد طارئة أو محكومة بعنوان "الضرورة" أو "الاضطرار" كما في الفقه الشيعي ، فماذا تفسر هذا السكوت المريع وعدم التحرك أمام هذا الاستبداد حتى تجمدت حركة التنمية في بلداننا وسقطت في وحل التخلف دون حركة وصارت هذه الديكتاتوريات سمة لبلداننا ؟ ، وماذا تسمي استنكار الحركات الإسلامية السنية في طول البلاد العربية على حكم الإعدام بحق الطاغية صدام وإقامة مجلس العزاء على روحه !؟ ، وماذا تسمي حالة الاستلاب والتشرذم والجمود ؟ ، وماذا تسمي ...
إن تركيب نظرية "ولي الأمر" على الحاكم هي أكثر النظريات التي تغلغلت في الفكر الإسلامي تخلفا وخطورة ، لأنها نظير للدكتاتوريات مبسوطة اليد ، وقد شلّت الحياة السياسية في وطننا الإسلامي عقود من الزمن ونقلته من أزمة إلى أخرى في جو من الصراعات والانقلابات ، والحل يكون بنسف النظرية التي تقول أن الحاكم هو "ولي الأمر" وأخطر منها نظرية تسمية الحاكم "أمير المؤمنين" مادام قد تربع على العرش بأي طريق كان دون موازين عقلائية وشروط الكفاءة والدين والتي يختصرها الله في كتابه العزيز بـ "التقوى" في قوله تعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ، كما تأطرت في الفكر الشيعي في نظام "المرجعية" ، ويكون التعامل مع الحاكم تحت عنوان "الحكومة" كما ورد تفصيله في الفقه الإسلامي دون إلزام الولاء والعبودية والبنوّة ..
فالحكومات تأتي لتكون سلطة تنفيذية ليس إلا وليس أي عنوان أكبر من هذا ، ولها مهمة محدودة بزمن فإن نجحت في مهمتها تبقى وإلا فعليها الرحيل لتحل محلها من هي خير منها وأكثر قدرة على خدمة هذا المجتمع ، فما أسهل رحيل الحكومات في الدول المتقدمة ، وما أعقدها من مسألة في دولنا بل قد يقف البلد على أطراف أقدامه في حال رحيل الرئيس والأمة كلها تعيش القلق بانتظار ارتفاع الدخان الأبيض من القصر الرئاسي ليعلن عن الرئيس الجديد دون أن يُسحب الزناد وتنزل الدبابات الشوارع وتسيل الدماء ، وبعض بلادنا من أجل تغيير الحاكم يجب أن تجتمع ثلاثين دولة بكل ما تملك من جيوش لتزيحه عن السلطة ! ، وبعض بلادنا لا يزول السلطان إلا بعد أن يزول الوطن برمته ! ، وبعض بلادنا يركّب الحاكم كل دقائق البلد على مقاسه لثلاثين سنة ليصبح الشعور العام أن لا بديل له ! .
أليس السبب في هذا هو هذه النظرية الأموية المشئومة ؟ ، وإلا فمادام الحاكم هو "ولي الأمر" فهل تلومه لو جاء وهو على سرير الموت ليعيّن ابنه خليفة له ، أليس هو يمارس ولايته على الأمة ! .
والعجب كل العجب أن ذلك حرام على رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي لا ينطق عن الهوى ! ، فمن هناك بدأ الاعوجاج وهُجر الشرع الحنيف يوم رموه بـ "الهجر" ..
source : سيد حسن الحسن