(قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضيها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون).
في الآية فوايد:
1 ـ المشهور أن (قد نرى) معناه ربما نرى على أصل التقليل في دخوله على المضارع وإنما قلل الرؤية لتقلل المرئي فإن الفعل كما يقل في نفسه فكذلك يقل لقلة متعلقه ولا يلزم من قله الفعل المتعلق قلة الفعل المطلق لأنه لا يلزم من عدم المقيد عدم المطلق وكذا القول في (قد يعلم الله المعوقين منكم).
2 ـ (تقلب وجهك في السماء) أي تردد وجهك وتصرف نظرك تطلعاً للوحي كذا قيل والتحقيق أنه لا يجوز تعلق (في السماء) بـ (نرى) لتنزه الرائي عن المكان ولا بالتقلب لأن تقلب الوجه ليس في السماء ولا بصفة مقدرة أي وجهك الكائن في السماء لما قلناه بل تقديره تقلب مطارح شعاع عين وجهك في السماء ومطارح شعاع العين في السماء.
بيان غلط: ظهر لك مما قررناه غلط من استدل بهذه الآية على كون الباري تعالى في جهة السماء من حيث توقعه (ص) نزول الحكم من السماء والحكم يجيء من عند الله تعالى فيكون في السماء وأقرّ على ذلك من غير إنكار. جوابه أنه كان ينتظر الوحي من جهتها على لسان جبرئيل (ع) ولا يلزم من ذلك كون الباري فيها وإلا لزم من صعود الملائكة بالأمر من الأرض أن يكون الله فيها وهو باطل.
3 ـ (فلنولينك قبلة ترضاها) حيث أنه أُمر بالتوجه إلى الصخرة تألفاً لليهود وكان 0ص) يحب التوجه إلى الكعبة لأنها قبلة أبيه إبراهيم أو لما تقدم أن اليهود قالوا يخالفنا محمد في ديننا ويصلي إلى قبلتنا فقال (ص) لجبرئيل وددت أن يحولني الله إلى الكعبة فقال جبرئيل (ع): إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربك فاسأل أنت فإنك عند الله بمكان فعرج جبرئيل وجعل رسول الله (ص) يديم النظر إلى السماء رجاء أن ينزل جبرئيل بما يحب من أمر القبلة فنزلت، وقيل كان قد وعد بالتحويل فكان ينتظره ويترقبه لموافقته لمحبته الطبيعية ولا يلزم كونه ساخطاً للقبلة الأولى.
(فلنولينك) من قولهم وليت فلاناً الأمر أي مكنته منه وحكمته فيه (وترضاها) صفة لـ (قبلة) أي مرضية لك.
4 ـ (فولّ وجهك شطر المسجد الحرام) هو الناسخ للتوجه إلى الصخرة وكان ذلك في رجب قبل قتال بدر بشهرين قال ابن عباس هو أول نسخ وقع في القرآن وقيل هو نسخ للسنة بالكتاب فإنه ليس في القرآن أمر بالتوجه إلى الصخرة صريحاً. ثم اعلم أن الأمر هنا على التحتم والجزم لا على التخيير كما قيل لانعقاد الإجماع على بطلان التوجه إلى الصخرة والشطر هو النحو والجهة.
وقرأ أبي (تلقاء المسجد الحرام) وقول الجبائي إن الشطر النصف باطل باتفاق المفسرين وإنما كان حراماً لحرمة القتال فيه أو لمنعه من الظلمة أن يتعرضوه.
تحقيق: المحققون من أصحابنا على أن القبلة هي الكعبة بالحقيقة لمن كان مشاهداً لها أو في حكمه كالأعمى ومَن كان بينه وبينها ما لو أُزيل لشاهدها وأما مَن ليس كذلك فقبلته الجهة وبه قال جملة الفقهاء وهو الحق لوجوه الأول إجماع العلماء على وجوب استقبالها لمن هو مشاهد لها دون شيء من أجزاء المسجد فتكون هي القبلة. الثاني رواية أُسامة بن زيد أن النبي (ص) صلى قبل الكعبة وقال هذه القبلة. الثالث رواية الأصحاب عن أحدهما (ع) أن بني عبدالأشهل أُتوا وهم في الصلاة وقد صلوا ركعتين إلى البيت المقدس فقيل إن نبيكم قد صرف إلى الكعبة فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء وجعلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة فصلوا صلاة واحدة إلى القبلتين فلذلك سموا مسجدهم مسجد القبلتين، وغير ذلك من الروايات.
سؤال: على قولكم هذا لم قال (فول وجهك شطر المسجد الحرام) أليس كان ينبغي أن يقول: فول وجهك إلى الكعبة.
جواب: قال الله تعالى ذلك وهو (ص) في المدينة ولا ريب أن البعيد فرضه الجهة لا العين لأنه حرج وأيضاً لو كان الواجب التوجه إلى المسجد أو جهته عملاً بظاهر الآية لوجب ذلك أيضاً للحاضر المشاهد واللازم كالملزوم في البطلان وبيان الملازمة ظاهر إن قلت ذلك مسلّم لولا المخصص قلت الجواب بضعف المخصص غذ رواته بعضها عامي المذهب وبعضها زيدي وبعضها مرسل وأما رواية المفضل بن عمر الجعفي فقد طعن الكشي فيه بفساد العقيدة.
تنبيه: في تعبيره بالشطر بمعنى الجهة إيماء إلى أن أمر القبلة مبني على المساهلة والمقاربة دون التحقيق فإن العراقي والخراساني (علامة) قبلتهم واحدة مع أنه إذا حقق كان توجه العراقي إلى غير موضع الخراساني لاختلاف البلدان في العروض.
5 ـ (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) خصه (ص) بالأمر أولاً تعظيماً لشأنه وإجابة لرغبته ثم عمم بالأمر تصريحاً بعموم الحكم وتأكيداً لأمر القبلة وحضاً للأمة على المتابعة، وحيثما للمكان أي في أي مكان كنتم ويلزم من ذلك أن يكون أهل العالم في صلواتهم على دوائر حول المسجد بعضها صغيرة قريبة وبعضها كبيرة بعيدة.
6 ـ (وإن الذين أُوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم) الضمير عائد إلى التحويل أو التوجه لأنهم يعلمون جملة أن كل شريعة لابد لها من قبلة وتفصيلاً لتضمن كتبهم أنه (ص) يصلي إلى القبلتين لكنهم لا يعترفون بذلك لشدة عنادهم (وما الله بغافل عما يعملون) بالياء ـ وعيد لأهل الكتاب وبالتاء وعد لهذه الأمة.
source : البلاغ