لايخفى ان العديد من العلماء والمفكرين والادباء الاجانب الذين اطلعوا على التراث الاسلامي وقرأوا الكثير عنه، خصوصا اولئك الذين تعمقوا اكثر فاكثر في عقيدة وادبيات الاسلام، وفي مقدمتها القرآن الكريم،قد شغفوا بتلك المبادىء السمحة التي هزت وجدانهم وضمائرهم، واثارت عقولهم وقلوبهم، فكان ان انصفوا هذه الشريعة الالهية مما احاط بها في العالم الغربي من تخرصات واقاويل باطلة، وقد اسهم بعضهم،اسهاما ملحوظا في إثراءالمكتبةالثقافيه العالميةببعض ما عرفوه عن الشخصيات البارزةلما لها من مواقف ممتميزة تستحق التبجيل والتقدير.
غوتهوالتامل في كتاب الله
بدأ اهتمام غوتهالحقيقي بالاسلام على أثر التقائه بالمفكر «هردر»، حينما كان غوتة قد تجاوز العشرين من العمر، وقد عكف على قراءةالقرآن الكريم، حيث ترجم ايات من القرآن الكريم، هي الايات من74 الى79 من سورةالانعام.
وبحث غوتهعن الانسان المثالي، النموذج، في التأريخ فوجد مثله الاعلى لهذا الانسان في شخصية النبي محمد (ص)، وقد درس سيرته دراسة عميقةودافع ضد من كان يروج عن النبي محمد (ص) في ذلك من اكاذيب وتخرصات.
وعلى العموم، تأمل غوته القرآن وكان تأمله طويلا وادخل منه في ديوانه الشيء الكثير، حيث يقول في إحدى قصائده:
لقد جعل الله لكم النجوم
وزينة تتمتعون بها
عندما تنظرون فوقكم الى السماء
ومن الواضح ان وراء هذه الابيات، المغزى الذي تحمله الاية الكريمة «وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، وقد فصلنا الايات لقوم يعلمون» الانعام 97.
وفي قصيدة اخرى تحت عنوان (طلاسم) يقول غوته :
لله المشرق
ولله المغرب
هو الواحد الاحد العادل
يأمر بالعدل
فتهجدوا بهذا الاسم من أسمائه الحسنى
وارفعوه مكانا عاليا آمين
يريد الغبي أن يضلني
ولكنك ياربي تهديني
فاسئلك لي سواء السبيل
فأحمد الله في العسر
وأحمد الله عندما
يجعل بعد العسر اليسر.
يحاول غوتهفي هذه الابيات ان يستشف الالفاظ القرآنيةالتي لم يطلع عليها في لغتها الاصليةولكنها تجول في خاطرة من خلال الترجمات، ويتضح أيضامن خلال هذه الابيات أنها متأثرةبالاية الكريمة:
«قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء الى صراط مستقيم».
ومن اللافت للنظر ان معرفة غوتهبالقرآن وصلت الى الحد الذي جعله يدخل فيما يشبه الحوار مع المسلمين حول القرآن ونزوله، فصاغ ذلك في قصائد، فهو يقول في قصيدةآخرى.
كان الناس عندما يتلون القرآن
يذكرون السورةوالاية
وكان كل مسلم يحس
بما ينبغي له ان يحس به
من السكينةوالمهابة في ضميره
ومن الواضح ان غوتهكان مطلعا على القرآن الكريم والثقافة الاسلامية ومتأثرا بها لذلك قال عبارته في الديوان المسمى بالشرقي الغربي:
«اذا كان الاسلام يعني الاستسلام لله فاننا جميعا نعيش ونموت على الاسلام».
بوشكين والاقتباس
من الايات القرآنية
يعد الكسندر بوشكين من أكبر شعراء روسيا ومن اكثر ادبائها حبا للشرق الاسلامي وتأثرا به حضاريا وروحيا، و درس القرآن الكريم في ترجمته الروسيةالصادرة سنة1790م، وصدرت بعد ذلك قصيدته الطويلة«قبسات من القرآن» المكونةمن 174 شطرا في عام 1824م.
قام بوشكين بنقل بعض المواضيع الانسانيةالعظميةالتي يزخر بها القرآن، ليطرحها شعرا على الروس بلغتهم وبأسلوب! ادبي يسهل حيث كانت اللغة الروسية القديمةصعبة وشائكة الى حد كبير.
فهو يعتبر واضع اسس اللغة الادبية الروسية الحديثة، ولعل هذه النقطة هي احدى الدوافع التي حدت به الى طرح مواضيع القرآن الكريم التي اخذها عن الترجمةالقديمةفيقدمها شعرا الى عامةالناس ليتسنى لهم فهمها والاستفادةمنها.
يطرح بوشكين في هذه السلسلة الشعرية، وبشكل واقعي خصائص الحضارةالاسلامية، ويحاول أن يقدم تصورا موضوعيا عن القرآن الكريم وعن النبي محمد(ص)، كذلك حاول بوشكين من خلال نتاجه الشعري ان يبين مدى أثر لغةالقرآن الكريم واهميتها بالنسبةللمجتمع الاسلامي آنذاك.
تقول الباحثةكاشناليفار: إن اهتمام بوشكين بالقرآن كان مرده أسبابا شخصية، كان من الضروري أن يشعر تجاه القرآن باهتمام شخصي خاص، ويقول الناقد سلومينسيكي: إن هناك توازنا بين التوثيقات المستلهمةمن القرآن وملامح الظروف التأريخية الروسية.
أما الناقد الروسي براجينسكي، فيؤكد: إن تأمل بوشكين في القرآن كان (فلسفيا)، فقد لجأ اليه من أجل الوعي بدروس التأريخ ولخدمةالواقع، يستهل بوشكين القصيدة الاولى باقتباس القسم القرآني المميز للعديد من الايات القرآنية الكريمة (والشفع، والنجم) ثم يلي هذا القسم، مقطع يستلهم من سورةالضحى وصف معاناة الرسول (ص) حين فتر الوحي وأحزنه ذلك، كما في الايات «والضحى(1) والليل اذا سجى(2) ما ودعك ربك وما قلى(3). «لا أقسم بالشفع والوتر
وأقسم بالسيف وبمعركة الحق
وأقسم بالنجم والصباح واقسم بصلاةالعشاء لا، لم أودعك»
ثم يصور بوشكين في المقطع الثاني، قصه خروج الرسول (ص) مهاجرا الى المدينة، وقد وردت القصة في الاية(40) من سورة التوبة: «إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذهما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فانزل الله سكينةعليه وايده بجنود لم تروهاوجعل كلمةالذين كفروا السفلى وكلمةالله هي العليا والله عزيز حكيم». إن بوشكين ينظم من معاني الاية(40) من سورةالتوبة، المقطع الثاني من القصيدةالاولى، ثم يعود لاستلهام سورة الضحى في ختام القصيدة:
«فاما اليتيم فلا تقهر»
أحب اليتامى، وقرآني
وبشر المخلوقات المهتزة.
وتعكس القصيدة الثانية تأثر بوشكين بالايات القرآنية التي تدعو الى آداب الحجاب ونبذ التبرج، والتي تعلي من عفةزوجات الرسول (ص) ونزولهن عن الرغبةفي التزيين والحياةالدنيا مقابل البقاء مع الرسول.. وبخاصة الايات الكريمة(32-33) من سورةالاحزاب: يانساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا (32) وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهليةالاولى» وكذلك الاية (53) من سورةالاحزاب: «ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا آن يؤذن لكم الى طعام غير ناظرين إناه ولكن اذا دعيتم فادخلوا فاذا اطعمتم فانتشروا ولا مستئنسين لحديث إن ذلك كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق».
إن بوشكين يقتبس هذا المضمون في صورته الشعريةعلى النحو التالي:
«ايه يازوجات الرسول الطاهرات
إنكن تختلفن عن كل الزوجات
فحتى طيف الرذيلةمفزع لكن
في الظل العذب للسكينة
عشن في عفاف فقد علق بكن
حجاب الشابة العذراء
حافظن على قلوب وفية
من أجل هناء الشرعيين والخجلى،
ونظرةالكفار الماكرة
لا تجعلنها تبصر وجوهكن
أما انتم ياضيوف محمد
وأنتم تتقاطرون على امسياته
احذروا فبهرجة الدنيا
تكدر رسولنا
فهو لا يحب الثرثارين
وانحنوا في أدب
لزوجاته الشابات المحكومات بالعفة».
ويبدو استلهام بوشكين لمعاني هذه الايات من سورةالاحزاب متجاوبا مع نفوره الشخصي من بهجةالنساء في الطبقة الارستقراطية وخروجهن عن الاحتشام، وافتقاد البعض منهن لمعنى الوفاءوالاخلاق للزوج والاسرة، كما تعكس انجذاب بوشكين للنموذج الاسلامي في العفة والوفاء، وتعكس القصيدةالثالثةتأثر بوشكين بمعاني الايات القرانية التي تدعو الى التواضع واحترام كرامةالانسان بصرف النظر عن مكانته الاجتماعية، وكذلك الايات التي تحض الدعوة بالموعظة الحسنة، وأيضا الايات التي تخض على التفكير بدلائل القدرةالالهيةوزوال متع الحياةالدنيا والتذكرةبأهوال القيامة.
وفي القصيدة الخامسة تستوقف بوشكين الاية (30) من سورة النور: «الله نور السموات والارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرةمباركة» فيكتب:
لقد أضاءت الشمس في الكون
وأضاءت أيضا السماء والارض
مثل نبتة كتان تمتليء بالزيت
تضيء مصباح بلوري
صل للخالق فهو القادر
فهو يحكم الريح في يوم قائظ
ويرسل السحب الى السماء
ويهب الارض ظل الاشجار
إنه الرحيم، قد كشف
لمحمد القرآن الساطع
فلننساب نحن أيضا نحو النور
ولتسقط الغشاوةعن الاعين
ولو تصفحنا مجموعةمؤلفات بوشكين الشعريةلوجدنا انه يشير الى الاسلام والمسلمين باحترام في العديد من قصائده، بالاضافة الى احترامه وتبجيله للقرآن الكريم والنبي محمد (ص).
القرآن المعجزةالكبرى
اما المفكرةالمعاصرة (آناماري شيمل) فقد تعلقت بالقرآن ومفاهيمه تعلقا شديدا، فهي تقول: «إن أثر القرآن يظهر في المجتمع الاسلامي ليس من النواحي الدينيةوالاجتماعيةفحسب بل أيضا في العلوم والفنون واللغةالعربيةنفسها، وان من مظاهر قوة اللغةالعربية ان المشتغلين بعلوم الدين من المسلمين من كافة الاجناس من غير العرب انما يتفاهمون فيما بينهم عن علوم الدين باللغةالعربية».
وفي وصفها لصحة البيان عن القرآن الكريم تقول:
ان القرآن الكريم هو المعجزةالكبرى للنبي محمد (ص) والدليل القاطع على نبوته وأنه رسالةالله الى الناس كافةوأن القرآن هو المهيمن على ما سلفه من الكتب المنزلة من الله على الانبياء والرسل وانه يخاطب العقل والضمير والوجدان.
مسلمات العلم والنصوص
القرآنية.
قليل من الناس مطلع على افكار العالم الفرنسي الذي قدم الى الانسانيةقاطبةتجربته الرائعةفي المقارنةبين الكتب السماوية الثلاثة:التوراة والانجيل والقرآن على ضوء العلم، في وقت كان معظم علماء امتنا ودعاتها ومثقفيها منصرفين من واجبهم المقدس في تعريف شعوب العالم بالاسلام الصحيح وتوصيل مبادئه وقيمه والدفاع عنه بسلاح العلم الموضوعي الهادي، تأليفا وحوارا،لكشف زيف الديانات الاخرى وما تقوم به من غسل للادمغة وتحذير مستمر، ابقاء للاجيال على ضلالها المتوارث وحجبها عن الدين الحق وهو الاسلام الدين الخاتم.
فما قام به موريس بوكاي من مقارنةبين الكتب الثلاثةوالتي اثبت بها أن مسلمات العلم وبديهياته ليس فيها ما يصادم النصوص القرآنية، وهو دليل صحتها ونقائها، وان تلك المسلمات والبديهيات تناقضها معظم نصوص الكتابين الاخرين، بسبب ما أصاب العهدين القديم والحديث من عبث ودس وتحريف مقصود أملته اهواءالحاخامات واليهود والقساوسة والرهبان والنصارى، وأذكر ان احد المراكز او احدى الجمعيات الاسلاميةالايرانيةكانت وماتزال توزع كتيبات صغيرة باللغات الحيةللتعريف بالاسلام وتوعيةالنصارى خاصة، بما في العهدين القديم والجديد من أخطاء علميةوتاريخية متنوعة.
ونتذكر اسهاما آخر للداعية المعروف أحمد ديات الذي تمكن من استيعاب نصوص الاسفار المقدسة لدى النصارى الى جانب تمكنه من القرآن الكريم وفهم روح الاسلام الصحيح، واستطاع أن يحاور القساوسة في لقاءات عالميةتابعتها الملايين من البشر، وأن يكشف تهافت النصوص الدينية المسيحية وزيفها وما فيها من تحريف وأباطيل.
الحقيقةالخالدة
ليس هذا فحسب بل اذا ما نظرنا الى عصور تألق الفكر الاسلامي، سيتبين لنا دور علمائنا الافذاذ في محاورة أهل الكتاب حيث ابدعوا فيها بالبراهين والادلة العقلية والنقلية، وابانوا من خلالها الاباطيل والتحريفات التي حفلت بها نصوص العهدين القديم والجديد.ولقد شهدت عقود متأخرةمن القرن المنصرم، ملتقيات كثيرة تحت عنوان الحوار الاسلامي المسيحي، وبغض النظر عن البواعث الحقيقية وراءتلك الملتقيات، فقد كانت فرصا جيدة للتحاور العلمي الهادىء حول موثوقيةالكتب السماوية، يتناول كل الجهود التراثيةوالمعاصرةالتي عالجت هذا الموضوع، ويخرج برؤية علميةواضحة، تصور بلغات عالمية، توعي الشعوب وتوقفهم على الحقائق وعلى التحريفات والاباطيل فيعرفونها ويحددون موقفهم منها.
إن الاف العقليات الاجنبيةالمتميزةمن ساسة ومفكرين وأدباء ومثقفين وأكاديميين وأطباء ومهندسين وخبراءفي مختلف بلدان العالم مستعدون للاقتناع بالحقائق الصحيحة اذا قدمت اليهم التقديم الذكي المقنع، ولو وقف هؤلاء على حقيقةالاوهام والاباطيل التي يغص بها العهدان القديم والجديد، وكيف سيستغلها اليهود والنصارى، لتعدلت المواقف وتعرفت ملايين من الحائرين الباحثين عن الحقيقةالمطلعةعلى دين الفطرةالحق، دين الاسلام الخالد.
المصادر
1- مستشرقون ألمان أنصفوا الاسلام - رجاء الصعبي - السعودية
2- أعمال بوشكين - دار التقدم - موسكو 1994م.
3- الكلاسيكيون الروس والادب العربي - د.محمد يونس - دار آفاق عربية.
4- مؤثرات عربيةواسلامية في الادب الروسي - دكتور مكارم الغمري - عالم المعرفة- الكويت.
5- مدخل الى الادب الروسي- د. حياة شرارة - بيروت.6- أثر القرآن والسيرة في شعر بوشكين - حسين علاوي - مجلة المجتمع - العدد 1443.
source : سعيد كاظم