لقد تمكن الشعراء الذين نظموا قصائدهم حول القرآن الكريم معجزة الإسلام العظيمة، من ان يستعرضوا بالبحث والتحليل والشكل والمضمون والإتجاهات الإنسانية التي خاضها القرآن بالتعريف والتقييم وبخصائص أسلوبية تمثل مقدرة الشاعر الأدبية وتصوره الذي ينبض من اعتقاده السلوكي بهذا الكتاب الذي حرر العقل البشري من كل قيد والذي أرسى قواعد المدنية وبعث الثقافة الحية في كل مكان. والشاعر الأستاذ محمود جبر المولود والمترعرع في أرض مصر الكنانة فتح أمام مستمعيه إبداعه الفني ودخل بوسيلته الخلاقة أجواء الروح المتلهفة والمتعطشة لمناهج هذا الكتاب بقصيدة عصماء طيبة عنوانها (معجزة الخلود) قصيدة تموج لقوة كلماتها ورهافة فحواها فهي لا تخرج عن الطوق الشاعري العذب ولا عن الرحاب الإيماني المتقد:
سل كل من نظم البيان جمانا * سل (قس) ساعدة وسل سحبانا
وسل الوليد معاندا ومكابرا *ماذا دهاه فلم يحر تبيانا
ما كان هذا من حديث يفترى * كلا ولا شعرا سما أوزانا
هو مغدق هو مثمر هو معجز * سبحان من قد انزل الفرقانا
حسبي بأقيال البلاغة كلهم * خفضوا رؤوسهم له اذعانا
فهذه الأبيات -(عزيزي القارئ)- تعتمد على شعور ملتهب تتفجر في ذاتها الجرأة والتحدي بوجه من أدار ظهره امام هذا المعجز الخالد ومعانيه الشريفة عنادا واستكبارا. فالشاعر بانطلاقته الأولى يحاجج ويناظر فطاحل الأدب والكلام والنثر العربي أمثال قس بن ساعدة بالدليل والتجربة على رجحان رسالة واعجاز هذا الكتاب على غيره ويدعوهم ليرجعوا في جدلهم إلى الإلهام النفسي والهدي المنير والحس المتألق الذي سجله القرآن العظيم في صفحاته الناصعة وان يتعمقوا بجد في المجالات والجوانب الأدبية والنواحي الروحية الضخمة المتسم بها هذا الكتاب. ولا يفوت الشاعر تهكم الحاكم الأموي الذي ران على قلبه الصدأ وأعماه الله بصيرة وبصرا حينما خرج عن الإنسانية والدين ورمى القرآن بسهم الحقد الدفين بعد ان قرأ آية الوعيد والإنذار والتخويف (وخاب كل جبار عنيد) حيث تهجم الوليد بكل صلافة ووقاحة لا متناهية وقال بسخرية:
اتوعدني بجبار عنيد * فها أنا جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر * فقل يا رب مزقني الوليد
فهذا الانكار والاستهتار صوره الشاعر محمود جبر هكذا:
وسل الوليد معاندا ومكابرا* ماذا دهاه فلم يحر تبيانا
ثم يصف الشاعر القرآن الكريم بوصف الجميل، حيث يستعمل فيه استعارات مبدعة وخلاقة تأخذ بمجامع القلوب، وجرس موسيقي يروي ظمأ النفوس، واستعارات تجلت فيها الإتجاهات الوجدانية.. فلنستمع ما يقول:
هو كوثر الفردوس سال بأرضنا * فأحالها بعد القفار جنانا
هو نسمة الفجر الرقيق لذاكر * تخذ التلاوة اكؤسا ودنانا
هو نغمة قدسية يشدو بها * هيمان.. حرك شجوة هيمانا
هو طب اسقام الوجود جميعها * قد طهر الأرواح والأبدانا
لا بل وطب مشاعر وخواطر * السابق السباق ليس يدانى
فالقصيدة بمجموعها تبرز جملة مفاهيم قرآنية، التي جعلت الجماعة المسلمة المترابطة عضويا كالبنيان المرصوص تسير لغاية واحدة لا تتفكك ولا تتجزء ولا تهن ولا تضعف طالما التزمت بآيات كتاب الله المجيد الذي أسهم في توحيد كلمة الأمة وصعد بها إلى سماوات الحق والخير والفضيلة..