إنّ جهود علم النفس الوضعي قد تمكنت إلى حد ما من رفع قدرات الأفراد في ضبط بعض الشهوات، والسيطرة على أنماط السلوك وبواعثه التي تسهم في تشكيل حالة «أزمة الشابة» في المجتمعات الصناعية المعاصرة، إلاّ إن بعض دراسات هذا العلم نفسه، تأبى أن تقضي على مظاهر هذه الأزمة وجذورها، وذلك من خلال إضعاف قدرات الضبط، والسيطرة عند الأفراد في مجالات متعددة من الإشباع، وبخاصة شهوة الجنس، التي تعتبر عاملاً حاسماً مؤثراً في تشكيل هذه الأزمة، وكأن المرء يحس بإصرار مسبق متعمد على تصوير مرحلة الشباب كمرحلة زوابع لا يمكن تجنبها.
وبالرغم من أن بعض أنماط السلوك الشاذ الذي يصدر في كثير من الأحيان عن مجموعات الشباب، في بيئات مختلفة من العالم، وأن هذه الأنماط مظاهر حقيقية للأزمة، فإن النظريات البيولوجية والنفسية التي أشارت إلى حتمية التلازم بين مرحلة الشباب والاضطرابات العصابية، قد يبدو للوهلة الأولى أنها تسوغ للشباب انحرافاتهم، وما يصدر عنهم من سلوك شاذ، وكأن هذه الأزمة أمر طبيعي لا مفر منه، وينبغي أن يتقبل الجميع مشاكل الشباب، بل وانحرافاتهم الخطيرة كجزء طبيعي وضروري من عملية النمو النفسي للفرد؟!!.
وإذا فهم الشابون مثلاً أن العناد والتمرد، والعدوانية، والشقاوة، وإهدار وقت الفراغ، ومعاكسة الفتيات، والأنانية والتمركز حول الذات مظاهر تقتضيها طبيعة المرحلة، وأن استجاباتهم الخاطئة أمر لا مناص منه، فإن مثل هذا الاعتقاد سوف يجعل كثيراً من الشابين يستمر أون الذنوب، وبالتالي يقل شعورهم بالحماس، ويتوانى عن تحمل مسئولياتهم في تعديل سلوكهم، وإعادة صياغة أنفسهم بتكوين اتجاهات جديدة في شخصياتهم.
وقد يؤدي ذلك أن ينسج الشاب عن ذاته نظرة خاطئة، ويُقدِّر قدراتها تقديراً خاطئاً، وعندما نروج للمراهقين مثل هذه الأفكار في ندواتنا، ومدارسنا، وأجهزتنا الإعلامية نعوق قابلية التغيير عندهم، ونصنع ألف حاجز في أنفسهم، كيلا نسمح لهم بتجاوز سلبيات فترة الشباب بهدوء تام.
ونلاحظ أن تسويغ الانحراف فكرة لها امتداد في دراسات بعض العلماء، وتشكل مع فكرة أخرى مرتبطة بها اتجاهاً عاماً عند بعض علماء النفس التحليلي، فقد تجد في بعض الكتابات السيكولوجية ـ وبخاصة عند الفرويديين ـ تأكيداً ضمنياً، وعلنياً أحياناً لأن الانحراف جزء طبيعي من عملية النمو النفسي، ولابد للفرد ـ طفلاً كان أو مراهقاً ـ في كل بيئة أن يمر به خلال نموه، فالسرقة والكذب والاعتداء، والعناد وغيرها من أنماط السلوك غير السوي لابد أن يصدر عن الطفل، وأن مسببات هذه الأنماط العصابية ليست ناشئة فقط عن انحرافات موجودة بالبيئة، والثقافة السائدة فحسب، بل هي أيضاً ناتجة عن تطور عملية النمو الداخلي نفسها، فخصوبة الخيال عند الطفل تجعله مثلاً ميالاً إلى الكذب، وتضخيم الأمور، وتصورها على غير واقعها، وأن نزعة التملك، والرغبة في الاستئثار لديه على الأشياء تحمله ـ أي الطفل ـ على الاعتداء على ممتلكات الآخرين، وسرقتها، بالرغم من محاولات التهذيب المستمرة.
وهكذا فإن الكذب عند الأطفال نتاج للخيال الخصب لديهم، وأن إشباع رغباتهم في التملك، وهي ـ فطرية ـ تقتضي بالضرورة أن يسرق الطفل وأن يعتدي، وهي انحرافات لم يتعلمها الطفل من بيئته فقط، وإنما بتأثير تطور العوامل الداخلية من عملية النمو، فطبيعة التغيرات النهائية الداخلية التي ترافق شخصية الطفل تفرض عليه دون قصد، وبراءته الوقوع في انحرافات السلوك.
ومع أننا لسنا بصدد مناقشة فكرة انحرافات السلوك عند الأطفال واعتبار ذلك جزءاً طبيعياً من عملية النمو، إلاّ إن الإشارة إليها اقتضتها إلحاحات بعض علماء النفس الغربيين على تسويغ انحرافات الشابين وإقناع الجميع بحكاية التلازم الضروري بين التطور البيولوجي للفرد في سن الشبابوبين العواصف المرتبطة بها، فما دامت الرغبة في الجنس عند الأفراد اقتضتها طبيعة التغيرات البيولوجية والفسيولوجية والجسمية للفرد في هذه المرحلة، فإن هناك تلازم بين إشباع هذه الرغبة، وبين حالات القلق والتوتر، ونمو الصراعات في داخل سيكولوجية الشاب.
ولكي نتحلل من مسئولية سوء التربية لأبنائنا ـ الأعزاء ـ وهم في سن الشابة، وتبرئة كذواتنا من نواقصنا في أداء واجباتنا التربوية نلقي بشاعة أخطائنا في توجيه أبنائنا على عاتق التطور البيولوجي لهذه المرحلة، ولكي نرع أنفسنا من عناء المواجهة مع الذات بالغنا في التأكيد على أسطورة الزوابع، وحتمية المشكلات في هذه المرحلة .
فما دامت التغيرات الحيوية للفرد تفرز نشاطاً هرمونياً يؤدي إلى بروز الحاجة إلى إشباع عدد من الدوافع، فلا بد من تقبل أن الشباب أزمة حقيقية ينبغي أن نرتب أنفسنا على التعامل معها، وبالتالي نرفع عن أنفسنا عناء وضغط الشعور بالتقصير الذاتي، ولا نشعر بالحاجة إلى ممارسة الاعتراف بعيوبنا في أعمالنا، وتوجيهاتنا التربوية.
وطالما أن التأثير الثقافي الغربي قد بسط نفسه على ذهنية الكثير من المثقفين في العالم الاسلامي، فلا غرابة أبداً أن يتسرب إلى أذهان بعض المشتغلين منهم بعلم النفس من العرب والمسلمين اعتقاد خاطئ يقوم على أساس الإيمان بأن الشباب وما يصاحبها من تغيرات بيولوجية هي المسئولة عن متاعب الشابين، وعنادهم، وشقاوتهم، واكتئابهم، وقلقهم المستمر، وشعورهم الدائم بإحباط إشباع حاجاتهم في هذا السن، وليس أمام الآباء والمعلمين، والمربين سوى تقبل هذا الواقع، وعزو الأزمة في حياة الشباب إلى طبيعة هذه المرحلة، وما يكتنفها من تغيرات بيولوجية ونفسية ليس بإمكان المجتمع وقيمه التربوية الحيلولة دون ظهورها.
ومما يؤسف له أننا سنبقى عيالاً على غيرنا في كل شيء، طالما بقيت نفوسنا مقلدة لا مبدعة، أو لا تستخدم أسلوب المعرفة النقدية الذي يسمح للعقل المسلم أن يمحص رأياً عن غيره.
ومن المفجع حقاً أن علماء الغرب أنفسهم لا يترددون عن توظيف ملكة النقد في سبيل الحقيبة العلمية، ولا يترددون عن نقد رأي آخر لا يثبت أمام الدليل والبرهان، وكثيراً ما حطمت مثل هذه الانتقادات قوة تأثير الآراء الأخرى التي تحاول أن تفرض في نهاية الأمر الحتميات على الانسان، وتلوي عنق الحقيقة.
بقيت فكرة أن مرحلة الشباب مرحلة عواصف التي نادى بها ستانلي هول، وفرويد وكأنها من المسلّمات التي لا يطالها شك حتى تجرأ علماء الغرب أنفسهم على نقدها أمثال مرجريت ميد التي أشارت خلال دراساتها الأنتروبولوجية إلى عدم وجود أزمة حقيقية في حياة الشباب بالقبائل البدائية في غينيا الجديدة، حيث ميزت ميد بين مجتمعات تعرف في حياتها أزمة الشبابكمجتمعها الأمريكي، وبين مجتمعات أخرى لا تعتبر الشباب مرحلة أزمة كالمجتمعات البدائية التي زارتها، وقد أتاحت هذه النظرة النقدية إلى محاكمة نظرية ستانلي هول، وفرويد.
source : البلاغ