ينطلق الإسلام من اعتقاد راق في نظرته إلى الإنسان، حيث جعل الله عزوجل الإنسان خليفة في الأرض، لعمارتها، وإقامة أحكام شريعته فيها، قال عزوجل: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) الأنعام/ 165. وقال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) البقرة/ 30. ويرى الإسلام لذلك أن الإنسان موضع التكريم من الله عزوجل الذي حباه بذلك التكريم، ومنحه إياه فضلاً منه تعالى. ويتساوى بهذا التكريم جميع البشر بصفتهم الإنسانية، مهما اختلفت ألوانهم ومواطنهم وأنسابهم، كما يتساوى في ذلك الرجال والنساء، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً) الإسراء/ 70.
ويؤكد التصور الإسلامي، أن ميزان التكريم يعتمد على الارتباط العقائدي للإنسان، حيث إن منزلة التكريم تحددها تقوى الإنسان، وقبوله هداية الرسل، ومنهج الوحي، وفي ذلك يقول الله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) التين/ 4 ـ 6. كما يقول الرسول (ص): ((إن الله تعالى قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وفخرها بالآباء. إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب))، ويقول تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن كرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات/ 13.
والارتباط العقائدي، يختاره الإنسان بإرادته وغربته، وليس أمراً طبيعياً مفروضاَ لازماً للإنسان، لا يستطيع عنه فكاكاً. قال الله عزوجل: (قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدىً فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومَن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً) طه/ 123 ـ 124.
ومن هذا الاعتقاد، تنطلق حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية، والتي يبرز الفرق واضحاً بينها وبين الفكر الغربي المنظر لحقوق الإنسان. فالإسلام يرى أن الإنسان مكرم لتكريم الله تعالى له، ومنحه إياه ذلك، ويرتبط التكريم بعبودية الإنسان لربه، بينما يرى الفكر الغربي ذلك حقاً طبيعياً، ينبع من السيادة المطلقة للإنسان، التي لا تعلوها سيادة. والتكريم في الإسلام حين ينطلق من كونه منحة ترتبط بالعبودية، يعني أن هناك أحوالاً يرتكس فيها الإنسان، ويتجرد فيها من ذلك التكريم، بكفره وبعده عن المنهج الشرعي الحق، الذي تزدان به إنسانيته، بينما لا يقر الفكر الغربي ذلك، حيث يرى أن الإنسان ذو حقوق طبيعية ثابتة، ينالها مهما كان مرتكباً للسوء، طافحاً بالإثم والرذيلة. كما أن النظام الغربي يربط بين حقوق الإنسان، وسيادة وحرية الإنسان الفردية دوماً، وينجم عن ذلك قيام النظام الديموقراطي المستند إلى فكرة العقد الاجتماعي، المؤكدة على أسبقية الحقوق الفردية للوجد السياسي. وينجم عنه أيضاً مبدأ الحرية الاقتصادية، والذي يقوم عليه التنظيم الاقتصادي للمجتمع، بغض النظر عن الجوانب الأخلاقية، أو البدنية المتعلقة بذلك.
ولا يقتصر الاختلاف بين الشريعة الإسلامية، والفكر الغربي فيما يتعلق بحقوق الإنسان على التصور والتنظير لدى كل منهما، بل إن هناك تضاداً واختلافاً أيضاً في جوانب عديدة شاملة تتركز في:
أولاً: الآثار الناجمة عن تصور حقوق الإنسان في المنهج الشرعي مقارنة بتلك في الفكر الغربي.
ثانياً: شمولية التشريعات والأنظمة المنبثقة عن التنظير للحقوق الإنسانية.
ثالثاً: التكييف القانوني لمصدر الحقوق، وتفصيلاتها، ووسائل تحقيقها.
لقد أفرز التصور والتنظير لحقوق الإنسان في الفكر الغربي آثاراً ورؤى خطرة على الحضارة الإنسانية في مجملها. فحين تكون الحقوق نابعة من الطبيعة، فإن الحكم في فصل النزاع عند تضارب الحقوق الطبيعية للأفراد أو الأمم، يكون حينئذ للقوة المادية، التي يختص بها الفرد أو الأمة. وما دامت الطبيعة هي أصل الحقوق الإنسانية، يكون في غاية المشروعية هلاك الأفراد، الذين خلقوا ضعفاء، أو لم يحوزوا على القوة أو القدرة المادية التي تمكنهم من نيل حقوقهم الطبيعية. ولهذا فمن المشروع في المجتمعات الرأسمالية تركز الفقر والبؤس والتخلف لدى الأقليات، وتحكم الرأسماليين في السلطة السياسية، واستغلال الطبقات الضعيفة في المجتمع. كما تضفي تلك النظرة المشروعية كذلك على إفناء شعوب كاملة بالحروب، والأسلحة المبيدة، لأن الشعب ذا السيادة، والقوة المادية، أقدر على نيل تلك الحقوق الطبيعية من أعدائه، مما جعل للمجتمعات الغربية القوية الحق في نهب خيرات الشعوب الأخرى، واستعمارها، بهدف تمكين الشعوب الغربية من الاستمتاع بحقوقها الطبيعية، بأقصى ما يمكنها.
وعلى النقيض من ذلك، فإن الآثار التي تنجم عن التصور الشرعي، باعتبار حقوق الإنسان تكريماً له من خالقه، ومنحة من عنده، تجعل الحقوق منوطة بالتحديد الشرعي لها، وليست خاضعة للقوة المادية، ولا يعتمد تفسيرها على المصالح الآنية، والرغبات الخاصة للأفراد، أو الشعوب. ولهذا يكون حق الشعوب في إزالة الاستبداد، والظلم السياسي، حقاً ثابتاً لاعتماده على عدم جواز العبودية لغير الله، أو الخضوع لغير شرعه، ويكون للضعيف والمسكين حقاً في الحياة الكريمة، بتوفير ما يحتاجه من نفقة للعيش، كحق مشروع له ثابت من مال الأمة، ولا يحول ضعفه وقصور قوته دون نيل ذلك الحق، كما يكون الاحتكام عند تضارب المصالح للمرجع الثابت في ذلك، من أحكام الشريعة الإسلامية والتي لا تتبدل باختلاف الحكام أو العصور والأماكن.
أضف إلى ذلك: يترتب على ما أكده الإسلام من ارتباط الحقوق الشرعية للإنسان، بما يعتنقه من عقائد وأفكار، وما يمارسه من أحكام وتصرفات، أن صار بإمكان الإنسان أن يرتقي في حقوقه بقدر سمو عقيدته وتصرفاته، فمثلاً باعتناق الإسلام يحق للفرد أن يكون رئيساً للدولة، وأن يتولى كافة المناصب والمراكز السياسية في المجتمع الإسلامي، وبالردة عن الإسلام تسقط عن حقوق شرعية عديدة، كما قد يفقد حقه في الحياة، إذا لم يرجع عن ردته، وبالهجرة إلى دار الإسلام، يحق للمسلم ما يحق لسائر مواطني دار الإسلام، دون أدنى فرق. وقبول غير المسلم لعقد الذمة مع المسلمين، يترتب عليه نيله حقوق الحماية ورعاية الشؤون، والدفاع عنه، وغير ذلك من حقوق لا تمنح لمن يرفض الانضواء تحت سلطان دار الإسلام.
ولهذا فإن حقوق الإنسان الشرعية حقوق شمولية للجنس الإنساني كله، ولا ترتبط بجنس الفرد أو عنصره. وحين يختار الإنسان وجهة أيديولوجية معينة بإرادته، ويمارس تصرفاته وفقها، فإنه يحدد لنفسه بذلك حقوقاً واجبات في المجتمع الإسلامي. وبمقارنة ذلك في الفكر الغربي، نجد أن الفكر الغربي، يجعل الحقوق الإنسانية مرتبطة بالحرية الفردية، وبقدرة الأفراد على الحصول عليها واقعياً،ولهذا اضطر منظرو السياسة الديموقراطية الغربية، لحماي هذه الحقوق داخل مجتمعاتهم، إلى الدعوة إلى تقيد سلطة الدولة قدر الإمكان، حتى لا تتحول أجهزتها إلى أداة قمعية، كما ظهرت الدعوة إلى حقوق المواطن، وتميز المواطن عن المهاجر. كما نجم عن ذلك إهمال التشريع الغربي في كثير من الأحوال، حقوق الشعوب غير الغربية، مما يجعل واقع حقوق الإنسان في النظرية الديموقراطية حقوق الإنسان الغربي فقط، وحقوق من تتركز لديه الثروة، والقوة المادية، وليست حقوقاً عالمية شمولية للإنسان، وإن ادعى منظرو الفكر الغربي ذلك، والواقع السياسي المعاصر يحمل من الشواهد، ما يدل على ذلك، مما لا يحتاج إلى بيان.
وعليه، فإن الحقوق الشرعية في الإسلام، بخلاف حقوق الإنسان في الغرب، ليست حقوقاً ترتبط بالطبيعة، وبذلك تنتهي في غايتها آخر الأمر إلى أن تصبح حقوقاً قومية عنصرية. كما لا تبنى الحقوق الشرعية في الإسلام على الارتباط الوطني، كما تقرر في الفقه الوضعي، من تميز المواطن عن غير المواطن. ولهذا تعد الحقوق الإسلامية حقوقاً شمولية للإنسان، وليست ذات مفهوم متحيز كما هي الحال في الحقوق الإنسانية الطبيعية في الحضارة الغربية.
كذلك يظهر الفرق، بين الحقوق الشرعية، وحقوق الإنسان في الغرب، في التكييف القانوني لهذه الحقوق، من حيث مصدرها، وتفصيلاتها، ومقصد المشرع من وضعها. فمن حيث المصدر نجد أن مصدر الحقوق الشرعية هو الأوامر والنواهي، التي جاء بها الوحي من الله تعالى، والثابتة في الأدلة الشرعية، من كتاب وسنة. وإقامة تلك الحقوق في واقع الحياة، وفي الممارسات، يتم عن طريق التزام الفرد المسلم بها، بدافع الإيمان بالله، والذي يفرض على المسلم الانصياع لأوامر ربه تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام. حتى لو خالفت مصلحته الفردية ورغباته، كما تقام تلك الحقوق عن طريق السلطان الإسلامي الذي يتمثل في الدولة الشرعية، التي ناط بها الإسلام إقامة العدل بين الناس، ومنع التظالم، وإيصال الحقوق إلى أهلها، ورعاية شؤون الرعية.
ولهذا فإن المصدر الذي تنبثق عنه الحقوق لاشرعية، وطرق تنفيذها في المجتمع الإسلامي، لا يحيط بها لبس أو غموض، ولا يرتبط تفسيرها بالمصالح الذاتية، ولا يعتمد على القدرة في نيل الحقوق بالقوة والسيادة البشرية.
ومن ذلك يظهر، أن الإسلام يقدم منظوراً واقعياً لحقوق الإنسان في تشريعاته، منسجماً مع الفطرة الإنسانية، وثابتاً في التصور، حيث حدد الحقوق بأوامره ونواهيه الشرعية، وحدد الكيفية، والضمانات التي يتم بها تأكيد تلك الحقوق وإبرازها، وبيَّن الأداة التي يناط بها إقامتها. وهذا كله بخلاف ما تقرر في الفكر الغربي الرأسمالي، الذي ربط مصدر الحقوق وتشريعاتها بمبدأ الحرية، وترك الأمر لكل قادر لنيل حقوقه بناء على ما يراه من مصلحة، ثم قيدها بالقيود الخيالية، عند الاضطرار لذلك، كالتأكيد على أن الحقوق والحرية الفردية تنتهي حين تبدأ حقوق الغير، أو التأكيد على عدم تدخل الدولة إلا عند انتهاك الحريات، وجعل مسؤوليتها الرئيسة: حماية الحريات دون رعاية الشؤون، مما يجعل الحقوق في الغالب أمراً نظرياً، لا أثر له في الواقع، نظراً لعدم إمكانية الاتفاق حول المصلحة، ولوجود الأثرة والنزعة الأنانية لدى الكثير، مما يؤدي في النهاية إلى سيطرة القوي على الضعيف، وسطوة القادرين، ووضع التشريعات من قبل الرأسماليين لخدمة مصالح طبقتهم وحدها، دون مراعاة حقوق سائر أفراد المجتمع، كما يظهر نتيجة لذلك التناقض البيِّن، في التشريعات الغربية الخاصة بالحقوق، حيث يرى بعضها حماية القاتل من عقوبة القصاص بالإعدام، وحماية السارق من عقوبة القطع، دفاعاً عن حقوقه الإنسانية، دون النظر في ما ينجم عن ذلك من ضياع حقوق سائر أفراد المجتمع، الذين يعيشون في رعب وخوف من هذه الجرائم. كما ظهرت التشريعات التي تتيح للفرد مزاولة كل ما يحقق رغباته، وحقوقه الطبيعية، دون أي قيد من دين أو خلق. ولهذا يصبح الربا والاحتكار أمرين مشروعين، وتكون الإباحية الجنسية والإلحاد. حقين للفرد، بغض النظر عما يترتب عن ذلك من نتائج مدمرة في حياة الأمة.
كذلك يظهر الاختلاف جلياً في تفصيلات الحقوق الشرعية، عن تلك في الفكر الغربي. حيث إن الحقوق في الإسلام فصلت بغاية الوضوح، ولم تترك لمفاهيم عامة مبهمة، وجاءت النصوص الشرعية في القرآن الكريم والسنة محددة للحقوق، ومنعت تجاوزها وانتهاكها، نحو: تحريم القتل، لحفظ الحياة، الإنسانية، ووجوب الجهاد، لإزالة الاستبداد وعبودية الإنسان للإنسان، وتحريم الزنى والقذف، حماية للأعراض والكرامات، وتحريم الربا والاحتكار، لضمان ممارسة حق الكسب الحلال، والحيلولة دون سيطرة القوي على الضعيف. وأوجبت على الدولة الشرعية رعاية الشؤون لكافة الأفراد، ومنع الظلم بين الرعية، وإقرار قواعد العدالة الشرعية في المجتمع.
ورتبت الشريعة الإسلامية على المخالفات التي ينجم عنها ضياع حقوق الإنسان، عقوبات زاجرة، تحول دون ضياع تلك الحقوق. حيث شرع الإسلام عقوبات صارمة للفرد المخالف، كما رتب نزع الشرعية عن الدولة، وخروجها إلى الكفر البواح، إن هي أظهرت مخالفة الأحكام الشرعية الصريحة، المنظمة لحقوق الإنسان وواجباته، التي جاء بها الوحي في ذلك، مثل: تعطيل حكم القصاص للقاتل، والذي فيه حياة المجتمع الإسلامي، أو تعطيل حد السرقة أو إباحة الربا، لما فيه من ضياع لحقوق الضعفاء، أو تعطيل الجهاد الذي يهدف إلى منع الاضطهاد، والضلال العقائدي، والتشريعات التي تستعبد الشعوب. وبهذا فإن الشريعة الإسلامية أظهرت التفصيلات لحقوق الإنسان من الجانب الإيجابي بالتشريع لضمان هذه الحقوق، ومن الجانب السلبي بمنع التجاوزات، وهذا بخلاف ما تقرر في الفكر والتنظير الغربي لحقوق الإنسان، كما سبق أن أسلفنا، من أن تحديد وتفصيل هذه الحقوق يقتصر في الكثير من الأحيان على مبادئ عامة مجردة، تستند على مفهوم الحرية، نحو: العدالة، والمساواة، والإخاء والكرامة، ومنع التعذيب، دون بيان للتقنينات التفصيلية التي تدد هذه العدالة، وتقرر حقيقة صيانة الكرامة الإنسانية، ولهذا تتباين القوانين. والتشريعات المنظمة للحقوق في المجتمع الغربي، من دولة لأخرى، ومن زمن لآخر. ولعل أقرب مثال بهذا الخصوص الحركات السياسية في الغرب، والتي تنادي بالمساواة بين المرأة والرجل، وتطالب بما يسمى بحقوق المرأة، بسبب غياب التقنينات التفصيلية، التي تظهر تلك الحقوق في النظم الغربية.
كما يجب التأكيد كذلك، على اختلاف غاية ومقاصد التشريع في التصور الإسلامي، عن الفكر الغربي، فيما يتعلق بأحكام حقوق الإنسان. فغاية التشريع لأحكام الحقوق في الفكر الغربي: تقرير القيم الغربية للحياة، عن طريق إثبات أهمية تلك الحقوق، والدعاية لها، وكذلك جعل مصدر التنظيم الاجتماعي، وصياغة الحضارة الإنسانية وفقاً للحضارة الغربية، باعتبارها المنشأ الذي صدرت منه تلك المفاهيم لحقوق الإنسان.
والتطور التاريخي لفكرة حقوق الإنسان في الغرب، يؤكد أن المعنى المقصود في تشريع الحقوق الإنسانية هو تحقيق الأهداف، والقيم الغربية، والتي تختص بها طبقات، أو شعوب معينة. فانطلاق فكرة الحقوق الإنسانية، جاء مع الثورة الفرنسية، وهدف إلى التخلص من الاستبداد السياسي لملوك فرنسا وأباطرتها، وتزامن مع كتابات مفكري حركة الإصلاح الديني البروتستانتي في أوروبا، والتي سعت إلى إزالة سلطان الكنيسة عن طريق التأكيد على كون الإنسان ذا حقوق طبيعية، وبالتالي سيادة لا تعلوها سيادة أخرى من ملوك، أو أباطرة، أو أديان. ولهذا فإن مقصود المقررين لمفاهيم حقوق الإنسان هو تركيز القيم والمبادئ التي انتهى إليها الفكر الأوروبي الرأسمالي، أثناء تطوره التاريخي، وجرى لاحقاً، التأكيد على هذه القيم، في المجتمعات الغربية المعاصرة، أثناء صراعها الحضاري مع المبادئ الاشتراكية والشيوعية. ومن الواضح استغلال ذلك سياسياً في كثير من الأحيان، كما يحصل في العلاقات الدولية المعاصرة، بين دول الكتلة الغربية والكتلة الشرقية، وكما يحصل من دعاية لحقوق أقليات معينة بهدف زعزعة النظم السياسية المخالفة. ولهذا فإن حقوق الإنسان في الغرب، ليست وليدة مبادئ قانونية ثابتة، تعالج الواقع الإنساني، فضلاً عن أنها لا تعمل على تحقيق أهداف إنسانية للبشرية جميعاً.
وبالنظر في ما يقابل ذل في الشريعة الإسلامية نجد أن حقوق الإنسان ترتبط بالغاية الكبرى من مقصود التشريع الإسلامي، وهي تحقيق عبودية الخلق لله عزوجل، وحفظ مقاصد الشريعة في الوجود الإنساني، والتي هي المحافظة على ((ضروريات)) وجود الإنسان، والتي حددها علماء الأصول: بحفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض، فضلاً عن حفظ ((حاجيات)) هذا الوجود وذلك بوضع أحكام العلاقات الإنسانية في سائر المعاملات. وأخيراً حفظ ((تحسينات)) الوجود الإنساني، من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات.
وبهذا البيان لاختلاف التصور، والتنظيم، والممارسة، للحقوق في الشريعة الإسلامية، عن المنهج والفكر الغربي، يظهر خطأ ما يردده العديد من المفكرين والكتاب بأن هناك تشابهاً، بين حقوق الإنسان الطبيعية في الغرب، وحقوق الإنسان الشرعية. من ذل ما يقوله الدكتور أحمد جلال حماد:
إن ما يسميه الغرب بالقانون الطبيعي، لا يختلف عن مضمون الإسلام، قانون الله الدائم لكل البشرية، والذي يعلو على كل ما عداه. ولعل فقهاء القانون الطبيعي قد اقتبسوه من المسلمين في مضمونه أثناء احتكاكهم الثقافي والحضاري بهم في الأندلس.
وكما سبق القول: إن منطلق حقوق الإنسان في الغرب هو الحق الطبيعي، المرتبط بذاتية الإنسان من الناحية الطبيعية، بغض النظر عن الفكر والمنهج، بينما الحق الشرعي للإنسان في الإسلام، يستند على التكريم الإلهي للإنسان، وهو منحة من الله تعالى، ويرتبط بعبودية الإنسان لله تعالى، وانصياعه لشرعه، واتباعه لهدي رسله، وذلك بالإضافة إلى التضاد والاختلاف الكامل بين الحقوق الشرعية في الإسلام، وحقوق الإنسان في الفكر الغربي، من حيث التكييف القانوني، والتفصيلات، والمقاصد والآثار المترتبة عليها.
source : البلاغ