نتصور في كثير من الأحيان، إن أزمة الحرية ومعوقاتها، هي قضية تخص الفرد أو الجماعة، النشطاء والمبدعين، في مواجهة السلطة السياسية أو الدينية. فالمقابل للحرية، هو سلطة تمنع هذه الحرية أو تسمح بها. ولكن قضية الحرية في واقعها، تخص معاني أكبر من هذا، لأن في أي مجتمع أو أمة، هناك سلطة اجتماعية، يغلب عليها صفة العرفية والشفاهية. فالمجتمع بوصفه وحدة واحدة، يجوز قدراً كبيراً من السلطة تجاه الجماعات والأفراد المنتمين إليه. والمجتمع يمارس سلطته من خلال الضبط الاجتماعي، وهو آلية مهمة في أية جماعة، نتصور أنه لم توجد جماعة أو شعب بدونها، في السابق ولا في الحاضر، كذلك في المستقبل.
والضبط الاجتماعي، هو ممارسة شعبية وجماهيرية، يقوم بها الأفراد بشكل فطري تلقائي، في ترجمة واضحة لما هو متفق عليه بين الجميع. وبالتالي، فإن هذه الآلية الاجتماعية، تعتمد في المقام الأول على ما هو محل اتفاق، وبالتالي، على وجود هذا المشترك. والمتفق عليه، في كثير من الأحيان، يتحول إلى قانون ونظم رسمية، عندما تكون الأخيرة مستمدة من الأولى.
ولكن جانباً، مما هو متفق عليه، يظل محلاً للنقل الشفاهي، مشكلاً وعياً جمعياً. لذلك، ففي أي مجتمع، هناك مجال للقانون، ومجال آخر للعرف. والأخير بهذا المعنى، هو قانون اجتماعي. تتفق عليه الأمة، وتفرضه دون ممارسة سلطة منظمة، ودون اللجوء لسلطة ما. وتقوم الأمة بفرض ما اتفقت عليه من أعراف، خلال الضبط الاجتماعي. وهذه العملية، تتم بشكل تلقائي، ولها قانونها الخاص من حيث الثواب والعقاب، وكلاهما يتم في حدود ضيقة ولكن مؤثرة. فالثواب الاجتماعي، هو القبول، والمدح، والتدعيم المعنوي. إما العقاب، فهو النبذ، والذم والعزل الاجتماعي.
بهذا المعنى، فإن الفرد أو الجماعة، عندما يسلكان من خلال العرف السائد، فإن المجتمع يدعم ذلك من خلال قبوله للسلوك واعترافه به، وتدعيمه، وربما تمجيده عندما يتميز، ويعلى شأنه. وفي المقابل، فإن السلوك الخارج عن الأعراف، يقابل بالرفض والذم، والضغط الاجتماعي، المهدد للفاعل بالعزل والتجنب والنبذ.
وربما تبدو أدوات الضبط الاجتماعي، غير فاعلة، إذا ما قورنت بالعقاب القانوني، واستخدام السلطة السياسية، وكذلك إذا قورنت بأدوات البطش على تنوعها. والواقع أن المقارنة ليست في محلها. فالقانون وضع لمعالجة السلوك الذي يهدد سلامة المجتمع، والسلطة السياسية يفترض فيها أن تعالج ما يهدر نظام المجتمع. وبالتالي، فالشكل الرسمي من العقاب، وضع كي يعالج السلوك الذي (يهدم) المجتمع وبناءه، ويعرض الأمة للخطر. فهو إذن، سلوك يتجاوز كونه غير مقبول، ليصبح فاعلاً في التأثير السلبي على الآخرين، أفراداً أو جماعات. وأمام ذلك السلوك، يصبح القانون فاعلاً،ومدعوماً بقوة الدولة، التي تفرض النظام العام، وتمنع انهياره.
ولكن الضبط الاجتماعي، معني بالسلوك الخارج عن الأعراف، دون أن يكون ذلك خروجاً على النظام العام، يفضي إلى تحطيم أسس هذا النظام. بهذا المعنى، هناك مستويات للسلوك الشاذ، مستوى يواجه بالقانون ومستوى آخر يواجه بالضبط الاجتماعي، والفرق الرئيسي بينهم، في نتائج السلوك، ومدى تجاوزها للآخرين، وإلحاق الضرر بهم.
بهذا فإن ممارسة الحرية، تواجه بالحدود التي يفرضها القانون، وتتعرض لعقابه،وكذلك تتعرض للحدود التي يرسمها العرف، وتتعرض لمواجهته. ولكن حجم ما يمارس من حرية، ويواجه بالقانون، مقارناً بحجم ما يمارس من حرية، ويواجه بالضبط الاجتماعي، أمر له دلالته المهمة، وكذلك له تأثيره على الأمة، وقدرتها على ممارسة التطور والإبداع. فإذا كانت كل ممارسة للحرية، تقع تحت طائلة القانون، فإن المتاح للتجديد والإبداع يتضاءل حتى يصل إلى أقل درجة، وربما ينعدم. أما إذا كان الجزء الأكبر من ممارسة الحرية يخضع للضبط الاجتماعي، فإن ممارسة الحرية توضع على محك اختبار للمصداقية والمسؤولية والقبول، وبالتالي يتم ترشيد الحرية، حتى تكون بحق تجديداً وإبداعاً.
ولكن إذا تصورنا أن ممارسة الحرية، هي فعل متجاوز للضوابط والمعايير والقوانين، أو أنه فعل مسموح به قانوناً، وغير خاضع للأعراف، فإن ذلك التصور مفض بلا شك للفوضى والعبث. لأن ممارسة الحرية، لا تعني أن السلوك حر في فضاء غير محدد المعالم، فأي سلوك مرهون بالبيئة والمواقف المحيطة به، بل إن السلوك يكتسب دلالته مما يحيط به. وعندما نتكلم عن حرية الفرد، فإننا ندرك بالتالي، أن فعله الحر يسير خلال سياق محيط، وكلما جعلنا حرية الفرد مطلقة، سحبنا من حرية السياق المحيط به. وتلك هي القاعدة الأولى في الحرية. لأن المساحة المتاحة للفرد، أن يتحرك فيها بحرية، هي المساحة التي لا تؤثر على حريات الآخرين.
والمشكلة لدينا، أننا تصورنا التقدم الغربي، بوصفه نتاج فعل الحرية المطلقة، وادعى البعض منا ذلك، وخصوصاً وكلاء الغرب الثقافيين. وهذا الأمر غير صحيح، حتى في الغرب نفسه، لأن تنظيم الحريات، شرط لممارسة الحرية. والتنظيم فاعل بأدوات عدة، من خلالها يفرض الاتفاق العام للمجتمع، على المجتمع. فمثلاً، نجد في الغرب الآن، موجة من الكراهية المنظمة ضد العرب والمسلمين، وضد الاسلام. هذه الموجة وصلت ـ للأسف ـ لحد الاتفاق العام، من خلال سيطرة وسائل الإعلام، ومداعبة العنصرية الغربية. ولذلك، فإن أية رسائل تصدر عن غربيين، وتظهر اقتناعها بتسامح الاسلام، وتؤكد تعاطفها مع العرب والمسلمين، مثل هذه الرسائل تواجه بضغوط شديدة، تجعلها لا تجد طريقها للعقل الغربي، وربما تجد طريقها للعقل العربي والاسلامي فقط.
وهذا المثال، برغم ما فيه من جراح من وجدان أمتنا، إلا أنه نافع في هذا المقام. فتلك الرؤية الموضوعية للعالم العربي الاسلامي، ورغم اتفاقها مع زعم الموضوعية الذي تنشره مؤسسات العلم الغربي، إلا أنها تواجه بالضبط الاجتماعي، المانع لها. ونتصور أن ذلك ليس نتاج كراهية وعنصرية فقط، ولكنه نتاج اتفاق ضمني مهم، له مكانته في الذهنية الغربية، ألا وهو اعتقاد الغربيين أن أي منافسة حضارية، واعتراف بحضارة أخرى، وإعطاء دلالات إيجابية لها، لا يعني سوى الاعتراف بأننا نعيش في عالم متعدد الحضارات، وكل حضارة لها استقلالها وسيادتها، وهو أمر مناف تماماً لفكرة هيمنة حضارة إنسانية واحدة، ونظام عالمي واحد، وقوة سياسية واحدة، والمعني به فرض السيطرة الغربية.
لذلك، فالغرب يمارس الضبط الاجتماعي، من خلال الأفراد والمؤسسات، ودون اللجوء للقانون. وبالتالي فإن كتابات مثل كتابات فرنسوا بورجا، قد تلقى تعنتاً ورفضاً، وضغوطاً، ولكنها لا تمنع، ولا تصادر حريته، رغم أن ممارسته للحرية قد تلحق بحياته ضرراً مادياً ومعنوياً. وهذا الضبط يؤدي في النهاية للحد من انتشار آرائه حول ظاهرة الاسلام السياسي، وهي من أكثر الرؤى الموضوعية، التي لا تتحيز للاسلام السياسي، قدر تحيزها للرؤية الموضوعية.
في هذا المثل، دليل على أن الغرب لا يريد ممارسة (الموضوعية) تجاهنا، لأننا بالنسبة له موضوع لفرض النموذج الغربي، وأي فكر يحول دون ذلك يواجه بالضبط الاجتماعي وأدواته، وهي فاعلة بلا شك، ولا يواجه بالقانون. وبالتالي، فالحرية في كل الحالات ناقصة، بمعنى أنها مقيدة بالأعراف، والتوجهات العامة. وتقيد الحرية بهذا المعنى، ليس انتقاصاً من قيمتها، ولكنه إعلاء (لحرية) المجتمع والدولة والأمة، في مواجهة حرية الفرد. فإذا كان اختيار الفرد، مخالفاً لاختيار الأمة، فإن حريته تسقط لصالح حرية الأمة.
وتلك هي القضية المحلية في تصورنا، لأن الفرد لا يملك حقوق تتجاوز الأمة، والجماعة أيضاً لا تملك حقوقاً تتجاوز الأمة. وبالتالي، فإن المسموح للفرد، هو تلك المسافة التي لا تتجاوز اختيار الأمة. ولكن القضية الأساسية في تصورنا هي كيفية إظهار الأمة لاختياراتها، وإفعال ذلك، لأن الشخص الذي يمارس (حريته) فيقتل آخر، يتعرض للقانون وعقابه، ولكن الشخص الذي يمارس حرية في الفكر والممارسة، تخرج عن ثوابت الأمة لا يجب أن يتعرض للقانون إلا إذا دعا دعوة صريحة لهدم النظام العام وتحطيم ثوابت الأمة، وهو أمر يندر أن يحدث أصلاً.
نعني بذلك أن ممارسة حرية الفكر هي موضوع لممارسة الضبط الاجتماعي، والخروج عن ثوابت الأمة فكراً، هو فعل يواجه من الأمة نفسها أفراداً وجماعات ومؤسسات، ولا يجب أن يواجه بالقانون. لهذا، فإن إخفاق الضبط الاجتماعي، يؤدي إلى استخدام القانون في غير محله. كذلك فإن محاولة ضرب آليات الضبط الاجتماعي، والتقليل من فاعليتها، يؤدي إلى محاولة فرض الأعراف، والثوابت، بالقانون.
وما نبحث عنه، هو التوازن، الذي يعطي الأمة حقها، في إعلان ثوابتها، وحقها في ممارسة الضبط الاجتماعي، وقصر القانون على مجاله، أي حدود الفعل المادي الهادم للآخرين وحريتهم وممتلكاتهم، والهادم للنظام العام. وتنظيم تلك المجالات، يسمح بقدر أكبر من الحرية، وخاصة في مجال الفكر والإبداع؛ لأن آليات الضبط الاجتماعي التي تمارسها الأمة، هي آليات عزل، دون تدمير. وآليات نبذ، دون منع. وتلك حقيقة هامة. فدعاة الغرب، حسب ظني، يهاجمون أية محاولة للأمة لتمارس دورها في الضبط الاجتماعي، لأن الدعوة للحضارة الغربية، ليست فقط تخرج عن العرف والثوابت، بل تخرج عن هوية الأمة تماماً. لذلك، فإن رسالة وكلاء الغرب، تنحصر في تحييد القانون والضبط الاجتماعي معاً، وهو أمر لن يتحقق، وفي نفس الوقت فإنه لا يعني سوى استحلال كيان الأمة، ومحاولة العبث فيه، وإخراجه من ذاته.
وهذا الموقف في ظني، يؤدي إلى محاولة أخرى لا تقل خطورة، وهي تلك الداعية إلى مواجهة كل خروج عن العرف بالقانون، وكل تجاوز للثوابت بالقانون. وهذه الدعوة تحول مجال الضبط الاجتماعي، إلى مجال القانون، وهنا نتعرض لقضية هامة، وهي تحويل ثوابت الأمة إلى مقولات، تتبناها سلطة، أو فئة، وهو أمر مناف لدور الأمة، وآليات إجماعها واتفاقها، التي تتميز دائماً بالرحابة، لأنها اتفاق ضمني وليس نصياً.
وما بين محاولة للخروج عن الثوابت، والإفلات من كل وسائل الضبط، ومحاولة لجعل ثوابت الأمة ودورها يحال إلى القانون، يفقد المجتمع توازنه، ويفقد بالتالي قدرته على تحمل الحرية. فالحرية المتجاوزة للأمة تهديد لها، والحرية المعاقبة بالقانون تهديد للمبدع والمفكر، وكلاهما لا يؤدي إلى التطور ولا التجديد. والأصح هو إفعال آليات الضبط الاجتماعي، فيما يخص حرية الفكر والإبداع، لأنها آليات تحاور الفكر بدرجة أو أخرى، وتحاوره على حسب مضمونه. فالضبط الاجتماعي لا يعرف العقاب الرادع، ولا يعرف البنود المحددة، بل يعرف التعامل مع الفضاء الواسع من الدرجات والحالات، ويعرف أيضاً التعامل مع الحالات البينية. لذلك فإن في الضبط الاجتماعي، مساحة دائماً لتجاوز غير المسموح، ولكن بدرجات محددة. فالمجتمع يقبل الفكر المغاير نسبياً، ويرفض الفكر المتجاوز للمقدس والثوابت. وفي كل الحالات، فإن مواجهة الفكر بالفكر، ومواجهته بالعزل والنبذ، تعني أن الفكر المرفوض، ما زال يملك حق الوجود، واستمراره سيكون نتاجاً لمدى قدرة هذا الفكر على إثبات ملاءمته للأمة. وبهذا تمارس حرية الفكر، دون أن تهدم مقدسات الأمة، لأن الأمة تدافع عن نفسها. وأيضاً تمارس حرية الفكر دون أن تكون قيداً على آليات الأمة للدفاع عن نفسها، ودون أن تتحول مواجهة الفكر إلى ساحات القضاء. بهذا تصبح الأمة هي صاحبة الحق في الاعتراف بفكر ما، ورفض آخر.
source : البلاغ