وفيه مطالب أربعة:
المطلب الأول ـ القائلون بهذا الرأي:
قال بهذا الرأي الشيخ عبدالرحمن السعدي، والشيخ حسن أيوب، والمفتي التركي المتقاعد الشيخ خليل كوننخ، وغيرهم.
مضمون قولهم:
الأوراق النقدية المتعارف عليها، ليس لها صفة الثمنية، إذ هذه الصفة قاصرة على الذهب والفضة، وإنما هي بمنزلة السلع والعروض.
يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي: ((فحيث تقرر وعلم لكل أحد أن الأنواط ليست بنفسها ذهباً ولا فضة، وأنه لا يمكن أن يتحقق فيها ما شرطه الشارع في الذهب والفضة من جهة الوزن، تعين القول بأنها بمنزلة العروض، وبمنزلة الفلوس المعدنية، وأنه لا يضر فيها وفي المعاملة بها الزيادة والنقص والقبض في المجلس أو عدمه، ومع ما في هذا القول من التوسعة على الخلق، والمشي على أصول الشريعة المبنية على اليسر والسهولة، ونفي الحرج، وتوسيع ما يحتاج غليه الخلق في عاداتهم ومعاملاتهم)).
ويقول الشيخ حسن أيوب: ((إن الأوراق المالية لا تأخذ حكم الذهب والفضة في التعامل بها، ويجوز أن تعامل معاملة عروض التجارة، بلا فرق عندي لأني لا أقول بالعلة في موضوع الصرف، فيجوز على هذا أن تبيع ورقة مالية بأخرى سواء زاد سعر الأخرى أم نقص، وسواء حصل التقابض بين الطرفين في المجلس أم تأخر أحدهما فلم يقبض حقه إلا بعد مدة طويلة أو قصيرة)).
ويقول الشيخ خليل كوننج في كتابه الفتاوى لمسائل أيامنا: ((أيها (أي الأوراق النقدية) أمتعة يجوز بيع بعضها ببعض متفاضلة حالاً ونسيئة، وإن كان جنساً بجنس)).
المطلب الثاني ـ الأدلة:
1 ـ العقد واقع على ذلك الورق نفسه، وهو المقصود لفظاً ومعنىً، والورق سلعة من السلع، إذ هو مال متقوم مرغوب فيه.
2 ـ القياس: فأنواع الجواهر واللآلئ ونحوها لو وافقت الذهب والفضة في غلائها، أو زادت عليه، لا يحكم عليها بأحكام الذهب والفضة، فكذلك هذه الأوراق.
3 ـ إن هذه الأوراق إذا سقطت حكوماتها، وانهارت دولتها بقيت لا قيمة لها لا قليلاً ولا كثيراً، فعلم بالحس والمعنى أنها ليست بنقود.
4 ـ العلة الربوية في الذهب والفضة هي الوزن عند الحنفية ورواية عن أحمد، وهذه الأوراق ليست موزونة حتى تقاس على الذهب والفضة. وعند المالكية والشافعية العلة الثمنية، ولكن العلة عندهم قاصرة على الذهب والفضة، فلا تدخل هذه الأوراق في علة الربا.
المطلب الثالث ـ الأحكام الفقهية المترتبة على هذا الرأي:
يترتب على الأخذ بهذا الرأي أحكام عدة منها:
1 ـ في الربا:
لا يجري الربا في الأوراق النقدية، لأنها ليست من الأموال الربوية، فيجوز بيع ألف ليرة بألفين، كما يجوز بيع بعضها ببعض، أو بثمن من الأثمان الأخرى كالذهب والفضة وغيرهما من المعادن النقدية نسيئة.
2 ـ في الزكاة:
لا تجب الزكاة في هذه الأوراق ما لم تعد للتجارة، لأن من شروط وجوب الزكاة في عروض التجارة، نية التجارة.
3 ـ في المضاربة:
لا يجوز جعل هذه الأوراق رأس مال شركة المضاربة، غذ يشترط فيه أن يكون من الأثمان، والأوراق عروض، فلا تكون راس مال في هذه الشركة.
المطلب الرابع ـ مناقشة القائلين بأن الأوراق النقدية عرض من عروض التجارة:
قبل أن أناقش أدلة هذا الفريق أذكر ما وقعوا فيه من تناقض، فهم يوجبون الزكاة في هذه الأوراق ولو لم تعد للتجارة، مع أنه باتفاق الفقهاء لا تجب الزكاة في العروض إلا بنية التجارة، فكأنهم في الزكاة لا يعدونهم عروض تجارة وإنما لها حكم النقدين الذهب والفضة.
يقول السعدي: ((نعم لا ننكر موافقتها للنقدين في وجوب الزكاة والنصاب، وحصول المقاصد)) والحقيقة أنه لا يجيز قياس الأوراق على الذهب والفضة لعدم الموافقة في العلة، مع أن بين المسألتين تلازم.
أما في مناقشة أدلتهم فأقول:
1 ـ قولهم بأن العقد واقع على ذلك الورق نفسه، وهو المقصود لفظاً ومعنىً، فغير مسلم، فالعقد لم يقع على الورقة نفسها باعتبارها مادة أبداً، وإنما على قوتها الشرائية.
أما ذات الورقة فتافهة، وحتى إنها لا تعتبر مالاً، نعم أصل الورق مال، لكن هذه القصاصة من الورق ليست بمال في ذاتها بل بتغطيتها واعتماد السلطات لها، فهي في مادتها بمثابة حبة الحنطة التي ذكر الفقهاء أنها ليست بمال لتفاهتها، ودليل ذلك أن السلطات لو أبطلت قيمتها الاسمية لألقاها الناس على الأرض كأي شيء تافه غير منتفع به.
2 ـ وأما استدلالهم بقياس الأوراق النقدية على اللآلئ غالية الثمن، ومع ذلك لا تأخذ حكم الذهب بل تبقى سلعة فكذلك هذه الأوراق.
فأقول: العجيب أنهم لا يأخذون بالقياس في مسألتنا، ويستدلون به لآرائهم.
إن من عرف الشريعة الاسلامية وأحكامها أدرك أن اللآلئ لا تعطى حكم الذهب لأنها لم تستخدم كأثمان، وإنما بقيت سلعاً، ولو اتخذها الناس وسيطاً في المبادلات، ووحدة للحساب لجرت عليها أحكام الذهب والفضة.
3 ـ وأما قولهم بأن الأوراق النقدية إذا سقطت حكوماتها وانهارت دولتها بقيت لا قيمة لها فهذا دليل يثبت على أنها ليست سلعة، لأن الغرض من السلع الانتفاع بذاتها، والأوراق النقدية غير منتفع بها كبقية السلع، إذ لا غرض فيها، وإنما هي وسيلة للحصول على السلع والخدمات، أي أنها أثمان للسلع والخدمات، ولو كانت سلعة من السلع لبقيت قيمتها حتى عند إبطال الحكومات لها، لأن الحكومات لا تستطيع أن تلغي منفعة السلع
4 ـ الغرض من السلع الانتفاع، ومن النقود المعاملة، والأوراق النقدية الغرض منها المعاملة لا الانتفاع فهي من فئة النقود لا من فئة السلع والعروض.
يقول ابن رشد: ((التبر والفضة.. المقصود منهما أولاً المعاملة لا الانتفاع والعروض المقصود منها.. الانتفاع بها لا المعاملة، وأعني بالمعاملة كونها ثمناً)).
وهكذا فالأوراق النقدية في مقصودها وغرضها تؤدي دور النقدين الذهب والفضة في الثمنية، لا دور السلع المنتفع بها.
القول بأن النقود الورقية عرض من عروض التجارة يستلزم إهمالاً تاماً للوظائف الأساسية للنقود التي استطاعت هذه الأوراق النقدية القيام بها.
وهكذا يظهر ضعف هذا الرأي، وعدم صلاحيته، فالأدلة سطحية واهية، والأحكام المترتبة على رأيهم تأتي على الشريعة بالنقض، وتحكم عليها بالجمود، ومعاذ الله أن توصف الشريعة بذلك.
source : البلاغ