عربي
Sunday 28th of April 2024
0
نفر 0

ملكية الوحدة الاجتماعية في النمط الاسلامي العربي

لم تقم الملكية في التاريخ العربي الاسلامي حتى بدايات التغلغل الاستعماري في القرن التاسع عشر، على أساس نمط الملكية الجرمانية الفردية التي تحدث عنه ماركس باعتباره نموذج الملكية في النمط الحضاري التاريخي الأوروبي. ولم تعتبر الملكية الفردية ملكية مقدسة أو مطلقة يحق للمالك التصرف بها بيعاً وتوريثاً وحتى تدميراً كما تنص أصول القانون الروماني. إن ألوان الملكية التي عرفتها هذه البلاد قامت على أساس التصرف والاستخلاف غالباً وفقاً للشرع الاسلامي. وامتازت، بوجود عدة أنماط من الملكية تراوحت من ملكية الوحدات الاجتماعية، إلى ملكية الأرض المشاع والمرافق العامة إلى ملكية الدولة، إلى الملكية الفردية، إلى ملكية الوقف الذري والخيري. ولكنها جميعها تنبثق من النظرية الاسلامية القرآنية وهي خلافة الانسان للأرض ومسؤوليته في إعمارها واعتبارها جسر العبور إلى الآخرة.
إن نمط الملكية الاجتماعية التي تصرفت بها الوحدات الاجتماعية، مثلاً ملكية الأراضي التابعة لقبيلة أو عشيرة أو عائلة، أو قرية أو ناحية أو منطقة أو نمط ملكية المشاع أو ملكية الوقف العام لعموم المسلمين أو لفئات محددة منهم، يشكل النمط الأقرب إلى دراسة حالة تسيير ذاتي وعلاقة إنتاجية واجتماعية وسياسية مشتركة. كانت الجماعة الاسلامية المعنية تقوم من خلال أهل الحل والعقد بإدارة العملية الإنتاجية وإعادة توزيع حق التصرف المحدد لفترة معينة في الأرض المشاع أو الوقفية العامة، فضلاً عن إنجاز القرارات الأساسية المتعلقة بها. وأهل الحل والعقد هؤلاء من العلماء ورؤوس العائلات والعشائر ومن عرفوا بالحكمة والتجربة والنفوذ الشعبي. ولم يكن دورهم في حياة القرية يحمل طابع لجنة مشرفة على تعاونية وإنما كانوا يجمعون تحت قيادتهم مختلف الجوانب كما أن رابطتهم مع القاعدة الشعبية أو المنتجين تتعدى العلاقة الاقتصادية والإدارية لتشمل العقيدة والفكر والسياسة ومعالجة مختلف المشاكل. وقد بقي هذا النمط سائداً في الريف الاسلامي إلى أن بدأ الاستعمار يضغط على الدولة العثمانية لفرض قوانين تسمح بتحطيم الملكية الاجتماعية والعامة والوقفية ولم يأخذ بالزوال إلا بعد تمزيق الدولة العثمانية وقيام الحكومة الاستعمارية بإعادة توزيع الأرض وتسجيل ملكيتها على أساس فردي، في الأغلب، لا على أساس ملكيات كبيرة. إن التحضر في هذه المناطق لم ينتقل كما حدث في مجتمع روما القديمة أو أثينا إلى نظام الملكية الفردية الذي اتخذ شكل النظام العبودي والإقطاعي أو الرأسمالي وإنما بقيت القبيلة ومتفرعاتها متماسكة، وتشكل أساس الوحدة الاجتماعية التي تسكن المدن وتشتغل في التجارة أو الحرف أو تمارس السلطة السياسية والعسكرية. أو تلك التي تسكن القرى وتمارس الزراعة وتربية الحيوانات والصناعات الناتجة عن المجتمع الزراعي.
لهذا لم يكن مسار التطور باتجاه تحول الملكية إلى ملكية فردية يملكها السيد بينما يحرم غالبية المجتمع من الملكية. وإنما كان التوجه أن تبقى الملكية للوحدة الاجتماعية التي حافظت في داخلها على روابط الدم والقرابة. أما زعيم القبيلة فليس السيد المالك وأعضاء القبيلة ليسوا العبيد، وإنما هو رأس الوحدة الاجتماعية بمعنى راعيها وحكيمها وزعيمها والممثل لقيمها. ومن ثم تقوم علاقة بها على أساس مختلف تماماً عن علاقة السيد بالعبيد، إنها أقرب ما تكون علاقة أفراد العائلة الواحدة، دون أن يعني ذلك (المساواتية) أو عدم تمتعه بامتيازات نابعة من مكانته على رأس الوحدة الاجتماعية. ولهذا يقوم هذا النمط على أساس من التعاون والتكافل والتسيير الذاتي، إذا صح التعبير، والعمل المشترك.
ولكن هذا التقسيم يعاد فينظر فيه كل عام أو أكثر وفقاً لأصول معينة أيضاً، فتوزع الأرض من جديد للتصرف في الملكية العامة على العائلات والأفراد المنضوين ضمن الوحدة الاجتماعية المحددة. كما أن دفع الضريبة للحاكم سواء جمعها باسم الدولة أو اقتطعته الدولة تلك الأراضي فقد كانت تتم بصورة جماعية لا بصورة فردية. فالعلاقة بين السلطة والفرد غير مباشرة لأن العلاقة المباشرة هي بين السلطة أو المقتطعة له الأرض والوحدة الاجتماعية. فالمنتجون لا يتبعون له كما الحال في أنظمة العبودية والقنانة والأجر. فعلاقته بهم أقرب ما تكون لعلاقة جابي الضريبة ولكن حتى هذه كانت تمر عبر أهل الحل والعقد أو من ينوب عنهم. لهذا يجب أن يفرق هنا تفريقاً حاسماً بين الاقطاع الذي ورد في الحياة الاقتصادية للمجتمعات الاسلامية العربية وبين الاقطاع الذي هو ترجمة عربية مشوشة لكلمة (فيودالي) في الغرب لأن الاقطاع أو الاقتطاع هنا هو أقرب ما يكون إلى التزام جمع الضريبة منه إلى ملكية الأرض على الطريقة الجرمانية. لأن رقبة الأرض في أغلب البلاد العربية هي أرض عنوة وفقاً للشرع الاسلامي تدخل ضمن المشاع والوقف لكل المسلمين. ومن ثم لا يحق تمليكها شرعاً لفرد (فيودالي) ولا حتى يحق للدولة أن تدعي ملكيتها والتصرف بها باعتبارها كذلك.
إن هذا النمط من الملكية والعلاقات الإنتاجية والحياة الاجتماعية والسياسية لا يجوز أن ينظر إليه باعتباره نمطاً بدائياً أو مشاعياً. أو باعتباره النمط العبودي أو الاقطاعي الفيودالي الغربي. كما لا يمكن اعتباره من أنماط ما قبل الرأسمالية بمعنى أن مساره الطبيعي يتجه إلى التطور نحو مرحلة أرقى هي الرأسمالية. وذلك لأن السياق الداخلي يقضي بالمحافظة على تماسك الوحدات الاجتماعية والتأقلم مع كل تطور في أدوات الإنتاج والعلوم دون فرط تلك الوحدات وملكيتها العامة.
إن الدراسة المدققة لانقسام المجتمعات الاسلامية في البلاد العربية إلى وحدات اجتماعية ضمن مفهوم كلي لوحدة الأمة تفتح آفاقاً أمام التطور المستقبلي وأشكال العمل الجماعي، بما في ذلك أشكال الملكية، والتسيير الذاتي في مجال الإنتاج والتكافل الاجتماعي. إن دراسة مدققة لتاريخ الاقتصاد الاجتماعي ـ السياسي في هذه البلاد يخلصنا من التصور القائل أن التطور الانساني يتحدد في كل مكان على أساس معايير المرحلة العبودية فالإقطاعية فالرأسمالية المرتبطة بالملكية الفردية من النمط الجرماني.
ومن ثم فإن التطور الذي ينتظر له أحد احتمالين: إما الإيغال في طريق المزيد من التبعية للنمط الرأسمالي أو لنمط ملكية الدولة البيروقراطية أو ملكية التعاونيات الواقعة تحت تحكم الدولة أو الحزب الحاكم لا المنتجين والمجتمع، وإما العودة إلى الإمساك بسياقه السابق، والانتقال إلى حالة تتسم بتحقيق أعلى درجات الاستقلالية. وهذا يقتضي اعتبار نظام الوحدات الاجتماعية المتكافلة المتآلفة المتعاونة نظاماً قائماً بذاتته يدير الملكية المشاع والوقف العام والملكيات الخاصة. الأمر الذي يسمح بعدم الوقوع في براثن النظام الرأسمالي، أو ملكية الدولة وحزبها، أو الأنظمة الهجينة التابعة. وبهذا يكون من مهام الفكر الاسلامي المعاصر الإسهام في صياغة النظرية العملية وصولاً بالمجتمعات الاسلامية إلى النمط الاسلامي المتكامل للوحدات الاجتماعية وتفاوتها ضمن إطار مختلف أشكال الملكيات التي يوازن الشرع بينها. وإن مثل هذه الصياغة تحتاج إلى ركيزتين الأولى ركيزة الشرع والثانية ركيزة التجربة الاسلامية التاريخية من أجل الإفادة منها حتى تكون عملية المستقبل موصولة روحياً بروح الأمة وعملياً بتجربتها التاريخية بعد أن يصار إلى تخطي الظروف التاريخية السابقة وما ولدته من صور وأشكال، لمعايشة ظروف الزمن الراهن، وما يقتضيه من صور وأشكال في بناء المجتمع الاسلامي المعاصر. وبهذا يصبح من الممكن تلبية شروط النهضة الشاملة وما تتطلبه من تنمية على مختلف الصعد من جهة وبما يخلص الأمة من حالة التبعية السائدة من جهة أخرى.

 


source : البلاغ
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الجمالیة فی أدعیة الامام السجاد(ع)[القسم الثاني]/ ...
دعوة إبراهيم و إسماعيل عند رفع القواعد من البيت
المنهج التثقيفي عند الإمام محمد الباقر عليه ...
نقش خاتم الامام الرضا عليه السلام
ما هي ليلة الجهني، و لماذا سُمِّيت بالجهني؟
النبي (صلى الله عليه وآله ) سيد الأحياء عند ربه ...
الثقافات المعاصرة وثقافة القرآن الكريم
استحالة الدور والتسلسل في العلل
الإمامة من خلال حديث الإمام الصادق(عليه السلام)
الماسونية في سوريا

 
user comment