توجد في مصطلحات الشريعة الإسلامية، فيما يتصل بالأراضي والمعادن كلمة، (الإقطاع). فنحن نجد في كلام كثير من الفقهاء القول، بأن للإمام إقطاع هذه الأرض، أو هذا المعدن. على خلاف بينهم في الحدود المسموح لها من الإقطاع للإمام.
وكلمة: (الإقطاع) أشرطت في تاريخ القرون الوسطى ـ وبخاصة في تاريخ أوروبا ـ بمفاهيم ونظم معينة، حتى أصبحت نتيجة لذلك تثير في الذهن لدى استماعها كل تلك المفاهيم والنظم، التي كانت تحدد علاقات المزارع بصاحب الأرض وتنظيم حقوقهما، في العصور التي ساد فيها نظام الإقطاع في أوروبا، ومناطق مختلفة من العالم.
وفي الواقع: أن هذه الإثارة والاشراط باعتبارهما نتاجاً لغوياً لحضارات ومذاهب اجتماعية لم يعشها الإسلام ولم يعرفها ـ سواء عرفها المسلمون في بعض أجزاء الوطن الإسلامي، حينما فقدوا أصالتهم وقاعدتهم، واندمجوا في تيارات العالم الكافر أولاً ـ فمن غير المعقول أن نحمّل الكلمة الإسلامية، هذا النتاج اللغوي الغريب عنها.
ونحن لا نريد ولا يهمنا الحديث عن رواسب الكلمة التاريخية، والتركة التي تحملتها نتيجة لعصور معينة من التاريخ الإسلامي، لأننا لسنا بصدد المقارنة بين مدلولين للكلمة، بل لا نجد مبرراً لهذه المقارنة إطلاقاً، بين مفهوم الإقطاع في الإسلام، ومفهومه الي تعكسه النظم الإقطاعية على اللفظ، لانقطاع الصلة بين المفهومين نظرياً كانفصال أحدهما عن الآخر تاريخياً.
فالإقطاع كما يحدده الشيخ الطوسي في المبسوط وابن قدامة في المغني، والماوردي في أحكامه والعلامة الحلي، هو في الحقيقة: منح الإمام لشخص من الأشخاص، حق العمل في مصدر من مصادر الثروة الطبيعية، التي يعتبر العمل فيها سبباً لتملكها أو اكتساب حق خاص فيها.
ولكي نستوعب هذا التعريف، يجب أن نعرف: أن جميع مصادر الثروة الطبيعية الخام في الإسلام لا يجوز للفرد العمل فيها وإحياؤها ما لم يسمح الإمام أو الدولة بذلك، سماحاً خاصاً أو عاماً، فمن الطبيعي للإمام على أساس هذا المبدأ، أن يقوم باستثمار تلك المصادر، بممارسة ذلك مباشرة، أو بإيجاد مشاريع جماعية، أو بمنح فرص استثمارها للأفراد، تبعاً للشروط الموضوعية والإمكانات الإنتاجية، التي تتوفر في المجتمع من ناحية، ومتطلبات العدالة الاجتماعية من وجهة نظر الإسلام من ناحية أخرى.
فبالنسبة إلى معدن خام ـ مثلاً ـ كالذهب قد يرى من الأفضل أن تمارس الدولة استخراجه، وإعداد الكميات المستخرجة في خدمة الناس. وقد يجد الإمام ذلك غير ممكن عملياً، لعدم توفر إمكانات الإنتاج المادية، لاستخراج الكميات الضخمة من قبل الدولة ابتداءً، فيرجح إنتاج الأسلوب الآخر، بالسماح للأفراد أو الجماعات، بإحياء منجم الذهب واستخراجه، لتفاهة الكميات التي يمكن استخراجها. وهكذا يقرر الإمام أسلوب استثمار الخام من المصادر الطبيعية، وسياسة الإنتاج العامة، في ضوء الواقع الموضوعي، والمثل المتبنى للعدالة.
وفي هذا الضوء، نستطيع أن نفهم دور الإقطاع ومصطلحه الفقهي، فهو أسلوب من أساليب استثمار المواد الخام، يتخذه الإمام حين يرى أن السماح للأفراد باستثمار تلك الثروات، أفضل الأساليب للاستفادة منها في ظرف معين. فإقطاع الإمام منجم الذهب لشخص، معناه السماح له بإحياء ذلك المنجم، واستخراج المادة منه. ولذلك لا يجوز للإمام إقطاع الفرد ما يزيد على طاقته، ويعجز عن استثماره، كما نص على ذلك العلامة الحلي في (التحرير) و(التذكرة) وفقهاء شافعيون وحنابلة لأن الإقطاع الإسلامي هو السماح للفرد باستثمار الثروة المقطعة، والعمل عليها، فإذا لم يكن الفرد قادراً على العمل لم يكن الإقطاع مشروعاً. فهذا التحديد من الإقطاع، يعكس بوضوح طبيعة الإقطاع، بوصفه أسلوباً من أساليب تقسيم العمل واستثمار الطبيعة.
ولم يعتبر الإسلام الإقطاع سبباً لتملك الفرد المقطع المصدر الطبيعي، الذي أقطعه الإمام إياه لأن هذا مما يحرفه عن وصفه أسلوباً من أساليب الاستثمار، وتقسيم الطاقات العملية. وإنما جعل للفرد المقطع حقاً في استثمار المصدر الطبيعي، وهذا الحق يعني أن له العمل في ذلك المصدر، ولا يجوز لغيره انتزاعه منه والعمل فيه بدلاً عنه، كما صرح بذلك العلامة الحلي في (القواعد)، قائلاً: بأن الإقطاع يفيد الاختصاص، وكذلك الشيخ الطوسي في (المبسوط) إذ كتب يقول: "إذا أقطع السلطان رجلاً من الرعية، قطعة من الموات، صار أحق بها من غيره، بإقطاع السلطان، بلا خلاف".
وقال الحطاب في مواهب الجليل يتحدث عن إقطاع الإمام للمعدن حيث يكون نظر المعدن للإمام فانه ينظر فيه بالاصلح جباية وإقطاعاً... إنما يقطعه انتفاعاً لا تمليكاً فلا يجوز بيعه من أقطعه...ولا يورث عمن أقطعه لأن ما لا يملك لا يورث وفي ارث نيل أدرك قول.
فالإقطاع إذن ليس عملية تمليك، وإنما هو حق يمنحه الإمام للفرد في مصدر طبيعي خام، فيجعله أولى من غيره باستثمار الجزء الذي حدد له من الأرض أو المعدن، تبعاً لقدرته وإمكاناته.
وهذه الفترة التي تتخلل بين الإقطاع والبدء في العمل، يجب أن لا تطول، لأن الإقطاع لم يكن معناه تمليك الفرد أرضاً أو معدناً، وإنما هو تقسيم للعمل الكلي على المصادر الطبيعية، على أساس الكفاءة. فليس من حق الفرد المقطع أن يؤجل موعد العمل دون مبرر، لأن مسامحته في البدء بالعمل تعيق عن إنجاح الإقطاع، بوصفه استثماراً للمصادر على أساس تقسيم العمل، كما كانت مزاحمة الغير له في العمل ـ بعد أن وظف من قبل الدولة، باستثمار ذلك الجزء الخاص الذي تم اقطاعه له. معيقة أيضاً عن أداء الإقطاع لدوره الإسلامي.
وجاء في الرواية عن الحرث بن بلال بن الحرث أن رسول الله (ص) أقطع بلال بن الحرث العقيق فلما ولي عمر بن الخطاب قال ما أقطعك لتحتجنه باقطعة الناس.
وأما بعد ممارسة الفرد للعمل في الأرض أو المعدن، فإن الإقطاع لا يبقى له أثر من الناحية التشريعية بل يحل العمل محله، فيصبح للفرد من الحق في الأرض أو المعدن، ما تقرره طبيعة العمل.
الإقطاع في الأرض الخراجية:
بقي شيء آخر، قد يطلق عليه اسم: (الإقطاع) في العرف الفقهي، وليس هو إقطاعاً في الحقيقة، وإنما هو تسديد لأجرة على خدمة.
وموضع هذا الإقطاع هو الأرض الخراجية، التي تعتبر ملكاً للأمة، إذ قد يتفق للحاكم أن يمنح فرداً شيئاً من الأرض الخراجية، ويسمح له بالسيطرة على خراجها.
وهذا التصرف من الحاكم، وإن عبر في مدلوله التاريخي أحياناً، وبدون حق، عن عملية تمليك سافرة لرقبة الأرض، ولكنه في مدلوله الفقهي وحدوده المشروعة، لا يعني شيئاً من ذلك وإنما يعتبر أسلوباً في تسديد الأجور والمكافآت، التي تلتزم الدولة بدفعها إلى الأفراد نظير ما يقدمون من أعمال وخدمات عامة.
ولكي نعرف ذلك، يجب أن نستذكر أن الخراج ـ وهو المال الذي تتقاضاه الدولة من المزارعين ـ يعتبر ملكاً للأمة، تبعاً لملكية الأرض نفسها. ولهذا يجب على الدولة أن تصرف أموال الخراج في المصالح العامة للأمة، كما نص على ذلك الفقهاء، ممثلين لتلك المصالح بمؤنة الولاة والقضاة. وبناء المساجد والقناطر، وغير ذلك لأن الولاة والقضاة يقدمون خدمة للأمة، فيجب أن تقوم الأمة بمؤنتهم، كما أنن المساجد والقناطر من المرافق العامة، التي ترتبط بحياة الناس جميعاً، فيجوز إنشاؤها من أموال الأمة وحقوقها في الخراج.
وواضح أن قيام الدولة بمؤنة الوالي والقاضي أو مكافأة أي فرد قدم خدمة عامة لمجموع الأمة، قد يكون بإعطاء الدولة له من بيت المال مباشرة، وقد يكون أيضاً بالسماح له بالحصول مباشرة على ريع بعض أملاك الأمة. والدولة تتبع عادة الأسلوب الثاني، إذا كانت لا تتمتع بإدارة مركزية قوية.
ففي المجتمع الإسلامي قد تسدد أجور ونفقات الأفراد، الذين يقدمون خدمات عامة للأمة، بصورة نقدية، كما قد يتفق ـ تبعاً لظروف الإدارة في الدولة الإسلامية ـ أن تسدد تلك الأجور والنفقات، عن طريق منح الدولة للفرد الحق في السيطرة على خراج أرض محدودة من أراضي الأمة، وأخذه من المزارع مباشرة، باعتباره أجرة للفرد على الخدمة التي يقدمها للأمة، فيطلق على هذا اسم: (الإقطاع). ولكنه ليس إقطاعاً في الحقيقة، وإنما هو تكليف للفرد بأن يتقاضى أجره من خراج مساحة معينة من الأرض، يحصل عليه عن طريق الاتصال بالمزارع.
فالفرد المقطع يملك الخراج، بوصفه أجرة على خدمة عامة قدمها للأمة، ولا يملك الأرض، ولا يوجد له أي حق أصيل في رقبتها ولا في منافعها، ولا تخرج بذلك الأرض عن كونها ملكاً للمسلمين، ولا عن وصفها أرضاً خراجية.
----------------------
source : البلاغ