النبي عيسى عليه السلام والغلو
نجحت مؤامرة اليهود في إبعاد عيسى المسيح عليه السلام عن مسرح الأحداث وإن لم يتمكنوا من قتله بل رفعه الله إليه، واعتقدت اليهود بأنها قد استراحت منه فيما ذهبت النصارى مذهب الغلو فيه فاعتقدت أنه إله أو إبنٌ لله عز وجل، فأخرجوه عن حد البشرية، ويتحدث القرآن الكريم عن مقولتهم هذه في سورٍ متعددة:
﴿وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه﴾1.
﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾2.
﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾3.
وأكبر مصداق للغلو الاعتقاد بكون بشرٍ ما مهما امتلك من الصفات الحسنة والمواهب إلهاً، وقد عبَّر القرآنُ عنْ هذه العقيدة بأنَّها غلو.
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾4.
أسباب الغلو في عيسى بن مريم عليه السلام
أولاً: الولادة من غير أب
لعل من الأسباب التي أدّت إلى ذهاب النصارى مذهب الغلو ودعوى أن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام إله هو ولادته من غير أب وقد رد القرآن الكريم هذه المقولة بأن ولادته من غيرِ أب ليست بغريبة ولا تستدعي هذا الغلو لأن شأنه في ذلك شأن آدم عليه السلام.
﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾5.
ثانياً: معجزة عيسى عليه السلام
لقد كانت معجزة عيسى عليه السلام وهي إحياء الموتى من الأفعال غير العادية والتي لا يقدر عليها البشر عادة، ولكنَّ الله عز وجل أكَّد في الآيات القرآنية أن هذا الفعل إنما كان بإذن من الله وليس من عيسى بنحو الاستقلال.
﴿وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ...﴾6.
مواجهة القرآن لظاهرة الغلو
لقد واجه القرآن الكريم في آيات متعددة مقولةَ النصارى بألوهية عيسى عليه السلام ببراهين متعددة أبطل بها هذه العقيدة
أولاً: رفض القرآن إطلاقاً نسبة هذه المقولة إلى عيسى بن مريم عليه السلام فهو لم يدّع أنه إله ولم يدعُ الناس إلى عبادته، بل كان نبيّاً دعا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فإذا كان من يدّعي النصارى أنه إله لا يقول ذلك فهذا يعني أن هذه المقولة تسربت إلى أتباعه من فرق أخرى.
﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ*مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾7.
﴿لنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيع﴾8.
ثانياً: إن المسيح لو كان إلها كما يعتقد النصارى لكان ممن يملك أمر نفسه فله أن يحفظ نفسه من الهلاك ومن كل شر وله التصرف في الكون بما يشاء لأن هذا هو معنى كونه إلها وليس المسيح كذلك.
﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾9.
ثالثاً: إن الإله لا يمكن أن تكون له صفات البشر وعيسى عليه السلام كانت له صفات البشر فقد كان يأكل الطعام وهذا يعني حاجته إلى الطعام للبقاء والله هو الغني عن كل شيء.
﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمْ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُون﴾10.
رابعاً: إن الإله هو الذي يكون بيده أمر الناس من ضرّ أو نفع، وأما من لا يكون بيده ذلك فلا يكون إلهاً.
﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾11.
خامساً: إن من النصارى من ذهب إلى كون المسيح ابناً لله وليس هو الله وقد رد مقولتهم القرآن الكريم بتنزيه الله عز وجل عن أن يكون له ولد، لأن الولد يأتي من الحاجة، إما الحاجة إلى استمرار النسل لأن الموت يصيبه أو الحاجة إلى إشباع العاطفة أو نحو ذلك وكل هذا يتنزه عنه الله الغني عن العالمين ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾12.
سادساً: من النصارى من ذهب إلى القول بالتثليث وان الآلهة ثلاثة وأجابهم القرآن ببيان ضرورة التوحيد ونفي وجود شريك لله عز وجل.
﴿وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيل﴾13.
فإذا كان كل ما في السموات والأرض لله فلن يكون هناك إلهٌ آخر.
سابعاً: لقد أكّد القرآن في ستة عشر مورداً أن المسيح هو عيسى بن مريم وهذا يعني أن المسيح عليه السلام هو إنسان كسائر الناس، خلق في بطن أمه، ومر بدور الجنين في ذلك الرحم، وفتح عينيه على الدنيا حين ولد من بطن مريم عليه السلام كما يولد أفراد البشر من بطون أمهاتهم ومرّ بفترة الرضاعة وتربّى في حجر أمه، مما يثبت أنه امتلك كل صفات البشر فكيف يمكن أن يكون إلهاً أزلياً أبدياً، وهو في وجوده محكوم بالظواهر والقوانين المادية الطبيعية ويتأثر بالتحولات الجارية في عالم الوجود؟ التوحيد الحقيقي ينافي الغلو إن التوحيد الحقيقي يعني الإيمان بالله الذي لا شريك له لا في ذاته ولا في صفاته وأنه الغني عن العالمين. أما نفي الشريك فلأنَّ القدرة الإلهية غير متناهية فهو القادر على كل شيء والإيمان بوجود شريك لله يعني تحديد القدرة الإلهية واختلال نظام هذا الكون نتيجة وجود إلهين لكل واحدٍ نفوذه الخاص.
﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾14.
إذا سوف يسعى كل إله ليتغلب على الإله الآخر وهذا يعني الصراع بينهم وعدم بقاء الكون على ما هو عليه من وحدة في النظام وارتباط دقيق ﴿أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ*لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُون﴾15.
* أولو العزم،سلسلة الدروس الثقافية, جمعية المعارف الإسلامية، ط1، 2006 م، 1427 هـ، ص 89 - 94
1- التوبة: 30.
2- المائدة: 17.
3- المائدة: 73.
4- النساء: 171.
5- آل عمران: 59.
6- آل عمران: 490.
7- المائدة: 116 - 117.
8- النساء: 172.
9- المائدة: 17.
10 المائدة: 75.
11- المائدة: 76.
12- يونس: 116.
13- النساء: 171.
14- المؤمنون: 91.
15- الأنبياء: 21 - 22.
source : http://almaaref.org