إن الامامة عند أهل السنة تقتضي أزيد من الشرائط المتوفرة في رؤساء الدول غير أنّ الإمامة عند الشيعة تختلف في حقيقتها عمّا لدى إخوانهم، فهي إمرة إلهية، واستمرار لوظائف النبوة كلّها سوى تحمّل الوحي الإلهي. ومقتضى هذا، إتصاف الإمام بالشروط المُشْتَرَطة في النبي، سوى كونه طرفاً للوحي.
توضيح ذلك: إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، كان يملأ فراغاً كبيراً وعظيماً في حياة الأُمّة الإسلامية، ولم تكن مسؤولياته وأعماله مقتصرة على تلقّي الوحي الإلهي، وتبليغه إلى الناس فحسب، بل كان يقوم بالأُمور التالية:
1- يُفَسِّر الكتاب العزيز، ويشرح مقاصده وأَهدافه، ويكشف رموزه وأسراره.
2- يُبَينِّ أحكام الموضوعات الّتي كانت تَحْدُثُ في زمن دعوته.
3- يَرُدَ على الحملات التشكيكية، والتساؤلات العويصة المريبة الّتي كان يثيرها أعداء الإسلام من يهود ونصارى.
4- يصون الدين من التحريف والدسّ، ويراقب ما أخذه عنه المسلمون من أُصول وفروع، حتى لا تَزِلّ فيه أقدامهم.
وهذه الأُمور الأربعة كان النبي يمارسها ويملأ بشخصيته الرسالية ثغراتها. ولأجل جلاء الموقف نوضح كل واحد من هذه الأُمور.
أمّا الأمر الأوّل: فيكفي فيه قوله سبحانه: ﴿وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الّذِكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾(النحل:44). فقد وُصف النبي في هذه الآية بأنّه مبيّن لما في الكتاب، لا مجرّد تال له فقط.
وقوله سبحانه: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَـهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾(القيامة:16-19) فكان النبي يتولى بيان مُجْمَلِهِ ومُطْلَقِهِ ومُقَيَّدِهِ، بقدر ما تتطلبه ظروفه .
والقرآن الكريم ليس كتاباً عادياً، على نسق واحد، حتى يستغني عن بيان النبي، بل فيه المُحْكَم والمتشابِه، والعام والخاص، والمُطْلَق والمُقَيَّد، والمنسوخ والناسِخ، يقول الإمام علي عليه السَّلام: "وخلّف (النبي صلى الله عليه وآله وسلم) فيكم ما خلّفت الأنبياءُ في أُمَمِها: كتاب ربّكم فيكم، مبيِّنا حلالَه وحرامَه، وفرائضَه وفضائلَه، وناسخَه ومنسوخَه، ورُخَصَه وعزائمه، وخاصّه وعامّه، وعِبَره وأمثاله، ومُرسَله ومحدوده، ومُحكَمه ومتشابهه، مفسراً مُجمله، ومبيِّناً غوامضه"1.
وأمّا الأمر الثاني: فهو بغنىً عن التوضيح، فإنّ الأحكام الشرعية وصلت إلى الأمّة عن طريق النبي، سواء أكانت من جانب الكتاب أو من طريق السنّة .
وأمّا الأمر الثالث: فبيانه أنّ الإسلام قد تعرض، منذ ظهوره، لأعنف الحملات التشكيكية، وكانت تتناول توحيده ورسالته وإمكان المعاد، وحشر الإنسان، وغير ذلك. وهذا هو النبي الأكرم، عندما قدم عليه جماعة من كبار النصارى لمناظرته، استدلّوا لاعتقادهم بنبوة المسيح، بتولده من غير أب، فأجاب النبي بوحي من الله سبحانه، بأنّ أمر المسيح ليس أغرب من أمر آدم
حيث ولد من غير أب ولا أمّ قال سبحانه: ﴿إِنَّ مَثَلِ عِيَسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾(آل عمران:59)2.
وأنت إذا سبرت تفاسير القرآن الكريم، تقف على أنّ قسماً من الآيات نزلت في الإجابة عن التشكيكات المتوجهة إلى الإسلام من جانب أعدائه من مشركين ويهود ونصارى وسيوافيك في مباحث المعاد جملة كثيرة من الشبهات التي كانوا يعترضون بها على عقيدة المعاد، وجواب القرآن عليها.
وأمّا الأمر الرابع: فواضح لمن لاحظ سيرة النبي الأكرم، فقد كان هو القول الفصل وفصل الخطاب، إليه يفيء الغالي، ويلحق التالي، فلم يُرَ أبّان حياته مذهب في الأُصول والعقائد، ولا في التفسير والأحكام. وكان "بقيادته الحكيمة" يرفع الخصومات والإختلافات، سواء فيما يرجع إلى السياسة أو غيرها (يكفي في ذلك ملاحظة غزوة الحديبية، وكيف تغلّب بقيادته الحكيمة على الإختلاف الناجم، من عقد الصلح مع المشركين وما نجم في غزوة بني المصطلق من تمزيق وحدة الكلمة، أو ما ورد في حجة الوداع، حيث أمر من لم يَسُقْ هدياً. بالإحلال، ونجم الخلاف من بعض اصحابه، فحسمه بفصله القاطع).
هذه هي الأُمور الّتي مارسها النبي الأكرم أيام حياته. ومن المعلوم أنّ رحلته وغيابه صلوات الله عليه، يخلّف فراغاً هائلاً وفي هذه المجالات الأربعة، فيكون التشريع الإسلامي حينئذ أمام محتملات ثلاثة:
الأول: أن لا يبدي الشارع إهتماماً بِسَدِّ هذه الفراغات الهائلة الّتي ستحدث بعد الرسول، ورأى تَرْكَ الأمور لتجري عى عَواهِنِها.
الثاني: أن تكون الأُمّة، قد بلغت بفضل جهود صاحب الدعوة في إعدادها، حداً تقدر معه بنفسها على سدّ ذلك الفراغ.
الثالث: أن يستودع صاحب الدعوة، كلّ ما تلقاه من المعارف والأحكام بالوحي، وكلّ ما ستحتاج إليه الأُمّة بعده، يستودعه شخصية مثالية، لها كفاءة تَقَبُّلِ هذه المعارف والأحكام وَتَحَمُّلِها، فتقوم هي بسد هذا الفراغ بعد رحلته صلوات الله عليه .
أمّا الإحتمال الأول: فساقط جداً، لا يحتاج إلى البحث، فإنّه لا ينسجم مع غرض البعثة، فإنّ في ترك سدّ هذه الفراغات ضياعاً للدين والشريعة، وبالتالي قطع الطريق أمام رُقيّ الأُمّة وتكاملها.
فبقي الإحتمالان الأخيران، فلا بد "لتعيين واحد منهما" من دراستهما في ضوء العقل والتاريخ.
هل كانت الأُمّة مؤهلة لسدّ تلك الفراغات؟
هذه هي النقطة الحساسة في تاريخ التشريع الإسلامي ومهمّتِه، فلَعَلَّ هناك من يزعم أنّ الأُمّة كانت قادرة على ملئ هذه الفراغات. غير أنّ التاريخ والمحاسبات الإجتماعية يبطلان هذه النظرة، ويضادّانِها، ويثبتان أنّه لم يُقَدَّر للأُمّة بلوغ تلك الذروة، لتقوم بسدّ هذه الثغرات الّتي خلّفها غياب النبي الأكرم، لافي جانب التفسير، ولا في جانب التشريع، ولا في جانب ردّ التشكيكات الهدّامة، ولا في جانب صيانة الدين عن الإنحراف، وإليك فيما يلي بيان فشل الأُمّة في سدّ هذه الثغرات، من دون أن نثبت للأُمّة تقصيراً، بل المقصود إستكشاف الحقيقة.
أمّا في جانب التفسير، فيكفي وجود الإختلاف الفاحش في تفسير آيات الذكر الحكيم، وقبل كل شيء نضع أمامك كتب التفسير، فلاترى آية "إلاّ ما شذّ" اتّفق في تفسيرها قول الأُمّة، حتى أنّ الآيات الّتي يرجع مفادها إلى عمل المسلمين يوماً وليلاً لم تُصَن عن الإختلاف، وإليك النماذج التالية .
أ- قال سبحانه: ﴿فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾(المائدة:6).
فقد تضاربت الآراء في فهم الآية، فمن قائل بعطف الأرجل على الرؤوس، ومن قائل بعطفها على الأيدي، فتمسح على الأوّل، وتُغْسَلُ على الثاني. فأيُّ الرأيين هو الصحيح؟ وأيُّ التفسيرين هو مراده سبحانه؟
ب- قال سبحانه: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا﴾(المائدة:38). فاختلفت الأُمّة في موضع القطع، فمن قائل بأنّ القطع من أُصول الأصابع، وعليه الإمامية، ومن قائل بأنّ القطع من المفصل، بين الكفّ والذراع، وعليه الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي. ومن قائل بأنّ القطع من المنكب، كما عليه الخوارج3.
ج- قال سبحانه: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلـلَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِد مِّنْهُمَا السُّدُسُ﴾(النساء:12). وفي آية أُخرى يحكم سبحانه بإعطاء الكلالة، النصف أو الثُلُثَيْن، كما قال: ﴿إِنِ امْرِؤٌاْ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهَا الثُّلثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾(النساء:176).
فما هو الحل، وكيف الجمع بين هاتين الآيتين؟
وأمّا الآيات المحتاجة إلى التفسير في مجال المعارف، فحدّث عنها ولا حرج، ويكفيك ملاحظة اختلاف الأُمّة في الصفات الخبرية، والعَدْل، والجَبْر والإختيار، والهداية والضلالة... وكم، وكم من آيات في القرآن الكريم تضاربت الأفكار في تفسيرها، من غير فرق بين آيات الأحكام وغيرها.
وأمّا في مجال الإجابة على الموضوعات المستجدة، فيكفي في ذلك الوقوف على أنّ التشريع الإسلامي كان يشق طريقه نحو التكامل بصورة تدريجية، لأنّ حدوث الوقائع والحاجات الإجتماعية، في عهد الرسول الأكرم، كان يثير أسئلة ويتطلب حلولاً، ومن المعلوم أنّ هذا النمط من الحاجة كان مستمراً بعد الرسول. غير أنّ ما ورثته المسلمون من النبي الأكرم لم يكن كافياً للإجابة عن جميع تلك الأسئلة.
أمّا الآيات القرآنية في مجال الأحكام، فهي لا تتجاوز ثلاثمائة آية. وأمّا الأحاديث "في هذا المجال" فالذي ورثه الأُمّة لا يتجاوز الخمسمائة حديث. وهذا القَدَر من الأدلة غير واف بالإجابة على جميع الموضوعات المستجدة إجابة توافق حكم الله الواقعي، ولأجل إيقاف الباحث على نماذج من هذه القصورات، نذكر بعضها:
أ- رفع رجل إلى أبي بكر وَقَدْ شرب الخمر، فأراد أن يقيم عليه الحدّ، فادّعى أنّه نشأ بين قوم يستحلّونها، ولم يعلم بتحريمها إلى الآن، فتحيّر أبو بكر في حكمه4.
ب- مسألة العول شغلت بال الصحابة فترة من الزمن، وكانت من المسائل المستجدة الّتي واجهت جهاز الحكم بعد الرسول، وقد طرحت هذه المسألة أيام خلافة عمر بن الخطاب، فتحيّر، فأدخل النقص على الجميع استحساناً، وقال: "والله ما أدري أَيُّكم قدّم الله ولا أَيُّكم أَخَّر، ما أَجد شيئاً أوسع لي من أنْ أُقسّم المال عليكم بالحصص، وأُدخل على ذي حقّ ما أُدخل عليه من عول الفريضة"5.
ج- سئل عمر بن الخطاب عن رجل طلّق امرأته في الجاهلية، تطليقتين، وفي الإسلام تطليقة، فهل تضم التطليقتان إلى الثالثة، أو لا؟ فقال للسائل "لا آمرك ولا أَنهاك"6.
هذا، ولا نعني من ذلك أنّ الشريعة الإسلامية، ناقصة في إيفاء أغراضها التشريعية، وشمول المواضيع المستجدة، اوالمعاصرة لعهد الرسول، بل التشريع الإسلامي كان وافياً بالجميع ببيان سوف نشير إليه (حاصله أنّ النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" كان يراعي في إبلاغ الحكم حاجة الناس، ومقتضيات الظروف الزمنية، فلا بد "في إفياء غرض التشريع" أن يستودع أحكام الشريعة من يخلفه، ويقوم مقامه، لإيفاء أغراضه الّتي لم يقدّر له تحقيقها في حياته الكريمة).
والّذي يكشف عمّا ذكرنا، أنّه اضطّر صحابة النبي منذ الأيام الأُولى من وفاته صلوات الله عليه وآله، إلى إعمال الرأي والإجتهاد في المسائل المستحدثة، وليس اللجوء إلى الإجتهاد بهذا الشكل، إلاّ تعبيراً واضحاً عن عدم استيعاب الكتاب والسنّة النبوية للوقائع المستحدثة، بالحكم والتشريع، ولا مجال للإجتهاد وإعمال الرأي فيما يشمله نصٌّ من الكتاب أو السنّة بحكم، ولذلك أحدثوا مقاييس للرأي، واصطنعوا معايير جديدة للإستنباط، وألواناً من الإجتهاد، منه الصحيح المتّفق عليه، يصيب الواقع حيناً، ويخطئه أحياناً، ومنه المُريب المختلف فيه. وكان القياس أوّل هذه المقاييس وأكثرها نصيباً من الخلاف، والمراد منه إلحاق أمر بآخر، في الحكم الثابت للمقيس عليه، لاشتراكهما في مناط الحكم المستنبط. وكان القياس بهذا المعنى (دون منصوص العلة) مثاراً للخلاف بين الصحابة، والعلماء فقد تبنّته جماعة من الصحابة والتابعين، وأنكرته جماعة أُخرى، وعارضوا الأخذ به، منهم الإمام علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وأئمة أهل البيت، ثم اصطنعوا بعد ذلك معايير أخرى، منها المصالح المرسلة، وهي المصالح الّتي لم يُشَرّع الشارع حكماً بتحقيقها، ولم يدلّ دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها.
وهناك مقاييس أخرى، كسدّ الذرائع، والإستحسان، وقاعدة شَرْع من قبلنا، وما إلى ذلك من القوانين والأُصول الفقهية، الّتي اضطرّ الفقهاء إلى اصطناعها عندما طرأت على المجتمع الإسلامي ألوان جديدة من الحياة لم يألفوها، ولم تكن النصوص الشرعية من الكتاب والسنّة لتشمل تلك المظاهر الإجتماعية المستحدثة بحكم، ولم يجد الفقهاء بدّاً من الإلتجاء إلى إعمال الرأي والإجتهاد في مثل هذه المسائل ممّا لا نصّ فيه من كتاب أو سنّة، وتشعبت بذلك مدارس الفقه الإسلامي، وبَعُدَت الشُّقة بينها، وتبلورت تلك المعاني إثر التضارب الفكري الّذي حصل بين هذه المدارس، وصيغت الأفكار في صيغ علمية محددة، بعدما كان يغلب عليها طابع التذبذب والإرتباك.
وذلك كلّه يدلّ على عدم وفاء نصوص الكتاب والسنّة، بما استجدّ للمسلمين بعد عصر الرسالة، من مسائل، أو ما جدّ لهم من حاجة.
وهناك نكتة تاريخية توقفنا على سرّ عدم إيفاء الكتاب والسنّة بمهمة التشريع، وهي أنّ مدّة دعوته صلى الله عليه وآله وسلم لا تتجاوز ثلاثاً وعشرين عاماً، قضى منها ثلاث عشرة سنة في مكة يدعو المشركين فيها. ولكن عنادهم جعل نتائج الدعوة قليلة. فلأجل ذلك لم يتوفق لبيان حكم شرعي فرعي إلاّ ما ندر. ومن هنا نجد أنّ الآيات الّتي نزلت في مكة تدور في الأغلب حول قضايا التوحيد والمعاد، وإبطال الشرك ومقارعة الوثنية، وغيرها من القضايا الإعتقادية، حتى صار أكثر المفسّرين يميّزون الآيات المكيّة عن المدنية بهذا المعيار.
ولما انتهت دعوته إلى محاولة اغتياله، هاجر إلى يثرب، وأقام فيها العشرة المتبقية من دعوته تمكّن فيها من بيان قسم من الأحكام الشرعية لا كلّها، وذلك لوجوه:
1- إنّ تلك الفترة كانت مليئة بالحوادث والحروب، لتآمر المشركين والكفّار، المتواصل على الإسلام وصاحب رسالته والمؤمنين به. فقد اشترك النبي في سبع عشرة غزوة كان بعضها يستغرق قرابة شهر، وبعث خمساً وخمسين سرية لقمع المؤامرات وإبطالها، وصدّ التحركات العُدْوانية.
2- كانت إلى جانب هذه المشاكل، مشكلة داخلية يثيرها المنافقون الذين كانوا بمنزلة الطابور الخامس، وكان لهم دور كبير في إثارة البلبلة في صفوف المسلمين، وخلق المتاعب للقيادة من الداخل. وكانوا بذلك يفوّتون الكثير من وقت النبي الذي كان يمكن أن يصرف في تربية المسلمين وإعدادهم وتعليمهم على حلّ ما قد يطرأ على حياتهم، أو يستجد في مستقبل الأيام.
3- إنّ مشكلة أهل الكتاب، خصوصاً اليهود، كانت مشكلة داخلية ثانية، بعد مشكلة المنافقين، فقد فوّتوا من وقته الكثير، بالمجادلات والمناظرات، وقد تعرّض الذكر الحكيم لناحية منها، وذُكر قسمٌ آخر منها في السيرة النبوية7.
4- إنّ من الوظائف المهمة للنبي عقد الإتّفاقيات السياسية والمواثيق العسكرية الهامة التي يزخر بها تاريخ الدعوة الإسلامية8.
إنّ هذه الأمور ونظائرها، عاقت النبي عن استيفاء مهمة التشريع.
على أنّه لو فرضنا تمكن النبي من بيان أحكام الموضوعات المستجدة، غير أنّ التحدّث عن الموضوعات التي لم يعرفها المسلمون شيئاً فشيئاً، أمر صعب للغاية، ولم يكن في وسع المسلمين أن يدركوا معناه.
فحاصل هذه الوجوه توقفنا على أمر محقق، وهو أنّه لم يقدر للنبي استيفاء مهمة التشريع، ولم يتسنّ للمسلمين أن يتعرّفوا على كل الأحكام الشرعية المتعلقة بالحوادث والموضوعات المستجدة.
وأمّا في مجال ردّ الشبهات والتشكيكات وإجابة التساؤلات، فقد حصل فراغ هائل بعد رحلة النبي من هذه الناحية، فجاءت اليهود والنصارى تترى، يطرحون الأسئلة، ويشوِّشون بها أفكار الأمّة، ليخربوا عقائدها ومبادئها، ونذكر من ذلك: وفود أسقف نجران على عمر، وطرح بعض الأسئلة عليه9. وفود جماعة من اليهود على عمر، وطرح بعض الشبهات10. وفود جماعة من اليهود على عمر، وطرح بعض الأسئلة عليه11.
سؤال عويص ورد من الروم على معاوية يلتمس الجواب عنه12. أسئلة وردت من جانب البلاط الروماني إلى معاوية13. وغير ذلك من الوفود والأسئلة التي لم يكن هدفها إلاّ التشكيك في الدين وإيجاد التزلزل في عقيدة المسلمين.
وأمّا في جانب صيانة المسلمين عن التفرقة والإختلاف، والدين عن الإنحراف، فقد كانت الأُمة الإسلامية في أشدّ الحاجة بعد النبي إلى من يصون دينها عن التحريف، وأبناءها عن الإختلاف، فإنّ التاريخ يشهد دخول جماعات عديدة من أحبار اليهود ورهبان النصارى ومؤبدي المجوس، ككعب الأحبار، وتميم الدّاري، ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، وبعدهم الزنادقة، والملاحدة، والشعوبيون، فراحوا يدسّون الأحاديث الإسرائيلية، والأساطير النصرانية، والخرافات المجوسية بينهم، وقد ظلّت هذه الأحاديث المدسوسة ، تُخيّم على أفكار المسلمين ردحاً طويلاً من الزمن، وتؤثّر في حياتهم العلمية، حتى نشأت فرق وطوائف في ظلّ هذه الأحاديث.
وممّا يوضح عدم تمكّن الأمّة من صيانة الدين الحنيف عن التحريف وأبنائها عن التشتت، وجود الروايات الموضوعة والمجوعولات الهائلة. ويكفي في ذلك أنّ يذكر الإنسان ما كابده البخاري من مشاقّ وأسفار في مختلف أقطار الدولة الإسلامية، وما رواه بعد ذلك. فإنّه ألفى الأحاديث المتداولة بين المحدثين في الأقطار الإسلامية، تربو على ستمائة ألف حديث، لم يصحّ لديه منها أكثر من أربعة آلاف، ومعنى هذا أنّه لم يصحّ لديه لديه من كل مائة وخمسين حديثاً إلاّ حديث واحد، وأمّا أبو داود فلم يصحّ لديه من خمسمائة ألف حديث غير أربعة آلاف وثمانمائة، وكذلك كان شأن سائر الذين جمعوا الحديث، وكثير من هذه الأحاديث التي صحّت عندهم، كانت موضع نقد وتمحيص عند غيرهم14.
قال العلامة المتتبع الأميني: ويُعرب عن كثرة الموضوعات اختيار أئمة الحديث أخبار تآليفهم "الصحاح والمسانيد" من أحاديث كثيرة هائلة، والصفح عن ذلك الهوش الهائش، فقد أتى أبو داود في سننه بأربعة آلاف وثمانمائة حديث، وقال انتخبته من خمسمائة ألف حديث15. ويحتوي صحيح البخاري من الخالص بلا تكرار، ألفي حديث وسبعمائة وواحد وستين حديثاً، إختاره من زهاء ستمائة ألف حديث16. وفي صحيح مسلم أربعة الاف حديث أصول دون المكررات، صنفه من ثلاثمائة ألف17. وذكر أحمد بن حنبل في مسنده ثلاثين آلف حديث، وقد انتخبه من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف حديث، وكان يحفظ ألف ألف حديث18، وكتب أحمد بن فرات، المتوفى عام 258، ألف ألف وخمسمائة ألف حديث، فأخذ من ذلك ثلاثمائة ألف التفسير والأحكام والفوائد وغيرها19.
فهذه الموضوعات على لسان الوحي، تقلع الشريعة من رأس وتقلب الأصول، وتتلاعب بالأحكام، وتشوش التاريخ، أو ليس هذا دليلاً على عدم وفاء الأمّة بصيانة دينها عن التشويش والتحريف؟.
هذا البحث الضافي يثبت حقيقة ناصعة، وهي عدم تمكّن الأُمّة، مع مالها من الفضل، من القيام بسدّ الفراغات الهائلة خلّفتها رحلة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فلا مناص من تعيُن الإحتمال الثالث، وهو سدّ تلك الثغرات بفرد مثالي يمارس وظائف النبي في المجالات السابقة، بعلمه المستودع فيه، ويكون له من المؤهلات ما للنبي الأكرم، وسوى كونه طرفاً للوحي.
إنّ الغرض من إرسال الأنبياء هي الهداية لبني البشر، إلى الكمال في الجانبين المادي والروحي. ومن المعلوم أنّ هذه الغاية لا يحصل عليها الإنسان إلاّ بالدين المكتمل أصولاً وفروعاً، المصون من التحريف والدسّ. ومادام النبي حيّاً، بين ظهرانيّ الأُمّة، تتحقق تلك الغاية بنفسه الشريفة، وأمّا بعده فيلزم أن يخلفه إنسان مثله في الكفاءات والمؤهّلات، ليواصل دفع عجلة المجتمع الديني في طريق الكمال، كالنبي في المؤهلات، عارف بالشريعة و معارف الدين، ضمان لتكامل المجتمع، وخطوة ضرورية في سبيل ارتقائه الروحي والمعنوي. فهل يسوغ على الله سبحانه أن يهمل هذا العامل البنّاء، الهادي للبشرية إلى ذروة الكمال.
إنّ الله سبحانه جهّز الإنسان بأجهزة ضرورية، وأجهزة كمالية. حتى أنّه قد زوّده بالشعر على أشفار عينيه وحاجبيه، وقعر أخمص قدميه، كل ذلك لتكون حياته سهلة لذيذة غير متعبة، فهل ترى أنّ حاجته إلى الأُمور أشدّ من حاجته إلى خَلَف حامل لعلوم النبوة، قائم بوظائف الرسالة.
وما أجمل ما قاله أئمة أهل البيت في فلسفة وجود هذا الخلف، ومدى تأثيره في تكامل الأمّة: قال الإمام أمير المؤمنين عليه السَّلام: "اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، إمّا ظاهراً مشهوراً، وإمّا خائفاً مغموراً، لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناتُه"20. قال الإمام الباقر عليه السَّلام: "إنّ الله لم يدع الأرض بغير عالم، ولولا ذلك لما يعرف الحق من الباطل"21. وقال الإمام الصادق عليه السَّلام: "إنّ الأرض لا تخلو وفيها إمام، كيما زاد المؤمنون شيئاً ردّهم، وإذا نقصوا شيئاً أتمّه لهم"22.
هذه المأثورات من أئمة أهل البيت، تعرب عن أنّ الغرض الداعي إلى بعثة النبي، داع إلى وجود إمام بخلف النبي في عامة سماته، سوى مادلّ القرآن على انحصاره به، ككونه نبيّاً رسولاً وصاحب شريعة.
نعم، إنّ كثيراً ممّن ليست لهم أقدام راسخة في أبواب المعارف، يصعب عليهم تصوّر إنسان مثالي يحمل علوم النبوة، وليس بنبي، ويقوم بوظائفها الرسالية، وليس برسول، يحيط بمعارف الشريعة وأحكامها، وليس طرفاً للوحي; ويصون الشريعة من التحريف والدسّ، ويردّ تشكيكات المبطلين، وليس له صلة بسماء الوحي. ولأجل ذلك يثيرون في وجهه إشكالين، لابدّ من ذكرهما، والإجابة عنهما.
• الإشكال الأول
إنّ الفرد الجامع لهذه الخصائص، لا يفترق عن النبي، فتصبح الإمامة عندئذ، مرادفة للنبوّة، مع أنّ أدلّة الخاتمية قطعت طريق هذا الإحتمال.
الجواب
إنّ الفرق بين النبوّة، واحتضان علوم النبي الأكرم، واضح، لا يحتاج إلى البيان، فإنّ مقوم النبوّة عبارة عن كون النبي طرفاً للوحي، يسمع كلام الله تعالى، ويرى رسوله، ويكون صاحب شريعة مستقلة، أو مروجاً لشريعة من قبله. وأمّا الإمام فهو الخازن لعلوم النبوة في كل ما تحتاج إليه الأُمّة، من دون أن يكون طرفاً للوحي، أو سامعاً كلامه سبحانه، أو رائياً المَلَك الحامل له.
نعم، المهم هو الوقوف على أنّ في وسعه سبحانه أن يربي للأُمّة، في حضن النبي الأكرم، رجلاً مثالياً يأخذ علوم النبي بتعليم غيبي يفي بوظائف الرسالة بعد رحلته، حتى يسدّ الفراغات العلمية الحاصلة برحلته.
وبما أنّ المستشكل، ومن تبعه، بريئون من هذه المعارف، ويخصّون التعليم، بالوسائل العادية، يتعجبون من بلوغ إنسان ذلك الحدّ من الكمال والعلم، من دون أن يدخل مدرسة، أو يخضع أمام شيخ، إلاّ أن يكون نبيّاً.
وإنّ القرآن الكريم يحدّثنا عن أناس مثاليين نالوا الذروة من العلوم بتعليم غيبي، مع أنّهم لم يكونوا أنبياء، كمصاحب موسى عليه السَّلام الذي يقول سبحانه في شأنه: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾(الكهف:65).
ولم يكن المصاحب نبيّاً، بل كان وليّاً من أولياء الله سبحانه، بلغ الذّروة من العلم، حتى قال له موسى وهو نبي مبعوث بشريعة: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾(الكهف:66). وجليس سليمان عليه السَّلام، الّذي يقول سبحانه في شأنه: ﴿قَالَ الذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَاَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي...﴾(النمل:40).
وهذا الجليس لم يكن نبيّاً، ولكن كان صاحب علم من الكتاب، ومن المعلوم أنّ هذا العلم لم يحصل له من الطرق العادية التي يدرج عليها الأولاد و الشبّان في الكتاتيب والمدارس، وإنّما هو علم إلهي احتضنه بلياقته وكفاءته، ولأجل ذلك ينسب علمه إلى فضل ربّه ويقول: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي).
والشاهد على رسالة النبي، إلى جانب شهادته سبحانه، الذي يقول سبحانه في شأنه: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾(الرعد:43).
والسورة مكية على مايدلّ عليه سياق آياتها، ونقل عن الكلبي أنّه قال: "إنّها مكية إلاّ هذه الآية"، ويدفعه أنّها مختتم السورة، قوبل بها ما في مفتتحها، أعني قوله سبحانه: ﴿المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾(الرعد:1)، فيبعد جداً يفرق أن بين المتقابلين بأعوام.
فعندئذ يجب الإمعان في هذا الشاهد الذي عطفه سبحانه على نفسه، وعدّه شاهداً على رسالة النبي كشهادة نفسه سبحانه. أفيصحّ أن يقال إنّ المراد، القوم الذين أسلموا في المدينة، كعبد الله بن سلام، وتميم الداري، وسلمان الفارسي، مع أنّ الآية نزلت في مكّة؟.
على أنّ عطف هؤلاء في الشهادة على الله سبحانه، لا يخلو من غموض وإبهام. فلابدّ أن يكون المراد من الشاهد هنا إنساناً مثالياً، كان موجوداً في مكة، وهو أعلم الناس بالكتاب، حتى يصحّ أن يجعل عدلاً آخر للشهادة، ولا يكون هذا الإنسان إلاّ من تربّى في حجر النبوة وحضنها، وتحمّل علومها، بتعليم غيبي إلهي، لا بتعليم بشري عادي.
هذا وذاك، وغيرهما ممّا لم نذكره، وجاء في الحديث والتاريخ، يعرب عن أنّ التعليم الغيبي لا يختصّ بالأنبياء، وأنّ هناك رجالاً صالحين، يحملون علوم النبوة ويحتضنونها بفضل من الله سبحانه، لغاية قدسية هي إبلاغ الأُمّة إلى غاية من الكمال، وإيصاد الثغرات الهائلة التي تخلفها رحلة النبي.
• الإشكال الثاني
إذا شهد التاريخ، والمحاسبات الإجتماعية، بعدم استيفاء، النبي لمهمة التشريع، فما معنى قوله سبحانه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾(المائدة:3)؟.
الجواب
إنّ السؤال مبني على تفسير الدين بالأحكام الشرعية، وحمل الإكمال على بيانها. وذلك غير صحيح لوجوه:
الأوّل: إنّ كثيراً من المفسّرين، فسّروا اليوم، بيوم عرفة، من عام حجة الوداع23. ومن المعلوم أنّ هناك روايات كثيرة لا يستهان بها عدداً تدلّ على نزول أحكام وفرائض بعد ذلك اليوم، منها أحكام الكلالة، المذكورة في آخر سورة النساء(النساء:176)، ومنها آيات الربا24، حتى روي عن عمر أنّه قال في خطبة خطبها: "من آخر القرآن نزولاً آية الربا، وإنّه مات رسول الله ولم يبيّنه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم"25. وروى البخاري في الصحيح، عن ابن عباس، قال: "آخر آية أنزلها الله على رسول، آية الربا"26، وغير ذلك من الروايات.
الثاني: إنّ تفسير الدين بالأحكام، وإكمالها بالبيان وأنّه تحقق في يوم عرفة من عام حجّ الوداع، لا ينسجم مع سائر فقرات الآية، فإنّ الآية تخبر عن يوم تحققت فيه أمور ثلاثة: يأس الكفار من دين المسلمين، وإكمال الدين وإتمام النعمة.
توضيح ذلك إنّه أراد من الكفار، كفار العرب، القاطنين في الجزيرة، فالإسلام كان قد عمّهم يوم ذاك، ولم يكن فيهم من يتظاهر بغير الإسلام، فمن هؤلاء الكفار اليائسون؟ فإنّ سورة البراءة، وتلاوتها يوم عيد الأضحى، في العام التاسع للهجرة، صارت سبباً لنفوذ الإسلام في كل أصقاع الجزيرة، ورفض الشرك ونبذ عبادة الأوثان، رغبةً أو رهبة، ولم يبق مشرك إلاّ وقد كسر صنمه، ولا عابد وثن إلاّ وقد تحوّل إلى عبادة الله تعالى طمعاً أو خوفاً، فلم يبق هناك كافر يئس من دين المسلمين.
وإن أراد سائر الكفار من الأُمم، من العرب وغيرهم، فلم يكونوا يائسين يومئذ من الظهور على المسلمين.
فعلينا أن نتفحص عن يوم تتحقق فيه هذه الأُمور الثلاثة.
الثالث: إنّ ما ذكر لاينسجم مع ما رواه عدّة من المحدثين من نزولها يوم الثامن عشر من ذي الحجة، في السنة العاشرة للهجرة، عندما نصب النبي عليّاً للولاية، وقال: "من كنت مولاه فهذا علي مولاه"27.
ويعرب عن صحة ذلك ما ذكره الرازي، قال: "قال أصحاب الآثار إنّه لمّا نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يعمّر بعد نزولها إلاّ أحداً وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً، ولم يحصل بعدها زيادة ولا نسخ وتبديل البتة. وكان ذلك جارياً مجرى إخبار النبي عن قرب وفاته، وذلك إخبار عن الغيب فيكون معجزاً"28.
وما ذكره يؤيّد كون النزول يوم الغدير، أعني يوم الثامن عشر من ذي الحجة، لأنّه لو فرض كون الشهور الثلاثة (ذي الحجة، ومحرم، وصفر) ناقصة، لكانت وفاته صلى الله عليه وآله وسلم بعد واحد وثمانين يوماً، ولو كان الشهران (محرم وصفر) ناقصان، لانطبق على الإثنين والثمانين يوماً، كل ذلك بملاحظة ما اتّفقت عليه كلمة الجمهور من أنّ النبي توفي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول.
والعجب أنّ الرازي غفل عن هذه الملازمة، وأنّه لم يجتمع مع نزولها يوم عرفة.
فعلى ذلك لا يصحّ تفسير الدين بالأحكام، ولا الإكمال بالبيان. وفي ضوء ذلك يمكن أن يقال إنّ المراد من الدين هو أصوله، والمراد من الإكمال ، تثبيت أركانه، وترسيخ قواعده، وذلك أنّ الكفار، خصوصاً المستسلمين منهم، كانوا يتربصون بالنبي الدوائر، فإنّهم كانوا ينظرون إلى دعوته بأنّها ملك في صورة النبوة، وسلطنة في ثوب الرسالة، فإن مات أو قتل، ينقطع أثره ويموت ذكره، كما هو المشهور عادة، من حال السلاطين، وكان الكفار يعيشون هذه الأحلام والأماني التي تعطيهم الرجاء في إطفاء نور الدين، وعفّ آثاره عبر الأيام.
غير أنّ ظهور الإسلام، تدريجياً، وغلبته على الكفار والمشركين، بدّد أحلامهم بالخيبة، فيئسوا من التغلّب على النبي ودعوته، فلم يبق له إلاّ حلم واحد، وهو أنّه لا عقب له يخلفه في أمره، فيموت دينه بموته. وكان هذا الحلم يتغلغل في أنفسهم، إلاّ أنّ الخيبة عمّتهم لما شاهدوا خروج الدين عن مرحلة القيام بشخص النبي الأكرم إلى مرحلة القيام بشخص آخر مثالي يقوم مقامه، فعند ذلك تحققت الأُمور الثلاثة: يئسوا من زوال الدين، بعد موته، وكمل الدين بتنصيب من يحمل وظائف النبي، وتمّت نعمة الهداية إلى أهداف الرسالة بالوصي القائم مقامه.
فالمراد من إكمال الدين، تحوّله من وصف الحدوث إلى وصف البقاء، وكان ذلك العلم، ردّاً لما يحكيه سبحانه عن الكفار بقوله: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِندِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ﴾(البقرة:109).
وعلى ذلك، فتنسجم الجمل الثلاث، ويرتبط بعضها ببعض، فالدين الذي أكمله الله اليوم، والنعمة التي أتمّها الله اليوم، أمر واحدٌ بحسب الحقيقة، و هو الذي كان يطمع فيه الكفار، ويخشاهم فيه المؤمنون، فآيسهم الله منه، وأكمله وأتمّه، ونهاهم عن الخشية منهم، وقال: ﴿فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾(المائدة:3).
هذه هي حقيقة الإمامة، والإمام عند الشيعة، وبذلك يعلم اختلاف ما يتبنونه مع ما هو المعروف عند أهل السنّة، ومن المعلوم أنّ كلاًّ من المعنين يستدعي لنفسه شروطاً خاصّة، والشروط عند الشيعة الإمامية أكثر ممّا اتّفقت عليه كلمة أهل السنّة، أهمها إحاطته بأصول الشريعة وفروعها، والمعرفة التامّة بكتاب الله، وسنّة نبيّه، وقدرته على دفع الشبهات، وصيانة الدين، يكون كلامه هو القول الفصل بين الأُمّة، ولا تفترق هذه الشروط عن كونه معصوماً، لا يضلّ في تعليم الأُمّة.
قال الشيخ الرئيس ابن سينا في لزوم نصب الإمام من جانب النبي: "ثم إنّ هذا الشخص الذي هو النبي، ليس ممّا يتكرر وجود مثله في كل وقت، فإنّ المادة التي تقبل كمال مثله تقع في قليل من الأمزجة، فيجب لا محالة أن يكون النبي قد دبّر لبقاء ما يسنّه ويشرّعه في أمور المصالح الإنسانية، تدبيراً عظيماً"29.
* الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج4،ص26-45
1- نهج البلاغة، الخطبة 1.
2- ولاحظ سورة الزخرف: الآيات 57-61.
3- الخلاف، كتاب السرقة، ج 3، المسألة 31، ص 201- 202.
4- الكافي، ج 7، كتاب الحدود، ص 249، الحديث 4. الإرشاد للمفيد، ص 106، مناقب ابن شهر آشوب، ص 489.
5- أحكام القرآن، للجصاص، ج 2، ص 109، ومستدرك الحاكم، ج 4، ص 340. راجع في توضيح حقيقة العول المصدرين المذكورين والكتب الفقهية في الميراث.
6- كنز العمال، ج 5، ص 116.
7- لاحظ السيرة النبوية، لابن هشام، ج 1، ص 530 - 588، ط الحلبي "مصر" 1375.
8- لا حظ كتاب الوثاق السياسية لمحمد حميد الله، و "مكاتيب الرسول".
9- تذكرة الخواص، لابن الجوزي، المتوفى عام 656 هـ ، ص 144.
10- قضاء أمير المؤمنين، ص 64.
11- علي والخلفاء، ص 313.
12- المصدر نفسه.
13- قضاء أمير المؤمنين، ص 78 و 114.
14- لا حظ حياة محمد، لمحمد حسين هيكل، ص 49-50، الطبعة الثالثة عشر.
15- طبقات الحفاظ، للذهبي ج 2، ص 154. تاريخ بغداد، ج 2 ص 57. المنتظم لابن الجوزي، ج 5، ص 97.
16- إرشاد الساري، ج 1، ص 28. صفة الصفوة، ج 4، ص 143.
17- المنتظم، لابن الجوزي ج 5، ص 32.طبقات الحفاظ، للذهبي، ج 2، ص 151. شرح صحيح مسلم للنووي، ج 1، ص 36.
18- ترجمة أحمد، المنقولة من طبقات إبن السبكي، المطبوعة في آخر الجزء الأول من مسنده، طبقات الذهبي، ج 2، ص 17.
19- خلاصة التهذيب، ص 9. نقلناه برمّته متناً وهامشاً من الغدير، ج 5، ص 292-293.
20- نهج البلاغة، قسم الحكم، الرقم 147.
21- الكافي، ج 1، ص 178.
22- الكافي، ج 1 ص 178.
23- لاحظ تفسير الطبري، ج 6، ص 54، تفسير الرازي، ج 3، ص 368.
24- سورة البقرة: الآيات 275 - 278.
25- الدر المنثور، للسيوطي، ج 1، ص 365. ولاحظ تفسير الرازي، ج 2، ص 374، ط مصر في ثمانية أجزاء.
26- الدر المنثور للسيوطي، ج 1، ص 365.
27- لاحظ في الوقوف على مصادر نزول الآية يوم الغدير، كتاب الغدير، ج 1، ص 230 - 238، وقد رواه عن ستة عشر محدثاً، منهم أبو جعفر الطبري، وابن مردويه الأصفهاني، وأبو نعيم الأصفهاني، والخطيب البغدادي، وأبوسعيد السجستاني، وأبو الحسن المغزلي، وأبو القاسم الحسكاني، وابن عساكر الدمشقي، وأخطب الخطباء الخوارزمي، وغيرهم من أعاظم المحدثين.
28- تفسير الرازي، ج 3، ص 369.
29- الشفاء، ج 2، الفن الثالث عشر في الإلهيات، المقالة العاشرة، الفصل الثالث، ص 558.
source : http://almaaref.org