إن ايديولوجية التنمية تكرّس تناقضاً واضحاً نوعاً ما مع نمط التأريخية المقرر من جانب الأديان، وعلى العموم، من قبل الثقافات التقليدية.
إن الفكر لم يعد يكتفي "بتفسير العالم"، بل قرر تحويله: إن النظرة الواقعية والعلاقة المعاشة مع الواقع هما اللذان يتغيران.
قد يجد المسلمون الداعون إلى الحداثة أننا نبالغ في اعطاء الأهمية للخط المتشدد الذي يمثله المناضلون المنادون بالعودة إلى الجذور. ونكرر القول بأن هدفنا لم يكن درس فكر المنادين بالتكامل كفكر، بل هو استخلاص الثوابت التي تقوم عليها الشخصية الإسلامية الركيزية، من خلال الخطاب الاسلامي الأكثر فاعلية اجتماعية والأقل مدعاة للاعتراض عقائدياً.
ولتوضيح حالة مبهمة، مشوشة نذكّر بأهم التعابير أو الحدود المطروحة حالياً في مشكلة التنمية، ونحاول فيما بعد وصف العلاقات الحقوقية والعلاقات الواقعية بين الاسلام والتنمية.
1_ الاشكالية التنموية
إن التجربة التي عاشتها المجتمعات الأكثر تطوراً تثبت أنه انطلاقاً من حدٍ بنيوي جديد، تبدو كل النماذج التنموية، غير كافية وحتى خطرة، وقد ساعدت أزمة الطاقة أكثر من كل النظريات "العلمية" على اغناء المشاكل الانمائية. في الغرب الليبرالي، ارتبطت النماذج والممارسات التنموية، حتى الستينات، بمفاهيم القرن التاسع عشر أكثر من ارتباطها "بالنظام العالمي الجديد" الذي بُدءَ بالكلام حوله. والنماذج الاشتراكية لا تقل عجزاً _رغم فعّاليتها الكبيرة _ خصوصاً عندما يُنظَر إليها من ناحية كلفتها البشرية.
في مواجهة النموذجين الأكبرين المتزاحمين، تحاول المجتمعات الاسلامية أن تفرض "الخصوصية النوعية" وعلو المكانة "الاسلامية" التي تدمج بين المشروع الحر واحترام الملكية الخاصة، وعدالة توزيع الثروات بين الجميع (بفعل منع الفائدة) والغائية الروحانية الكامنة في كل عمل بشري (إذ كل شيء ملك لله والانسان يحمل مسؤولية الافادة من ريع الأموال التي تقع بين يديه من أجل خدمة الجماعة. هذه الرؤية النظرية، غالباً ما تعرض في أدب غزير حول موضوع: "الاسلام والاشتراكية"، "الاسلام والرأسمالية"، "العدالة في الاسلام". الخ. وتذكر نفس الآيات ونفس الأحاديث إلاّ أنه قلّما تجري المقارنة بين المبادىء المغرية حقاً، والواقع الاقتصادي المعاش في كل بلد، ولا يجري أيضاً التوغل في درس الظروف المحددة _في عالم كعالمنا الحاضر _ لامكانية وجود نظام تقوم وتستمر فيه علاقة عادلة بين حدود ثلاثة: الضغط السكاني، الموارد المتاحة، أو الممكنة، والتوزيع.
1_ الاسلام والتنمية
لقد احتكرت الأديان حتى الآن امتياز مراقبة سرد أحداث التاريخ. لقد حددت نظاماً للعالم وذلك بأن حددت للانسان مكانة ومسؤولياته. وقد تترجم هذا التحديد وهذا الاحتكار بمعانٍ مستقرة أسست وبنيت على جذور "اونطولوجية" أي على احساس بالطمأنينة إلى استمرارية وصلاح العمل الانساني المتمشي مع "التعاليم الإلهية".
والاسلام الذي يُقدَّمُ "كدين ودنيا" _أي بمثابة نظرية وتطبيق تاريخي _ مستهدف بصورة خاصة بالانشقاقات التي تتعمّق وتتكاثر. إن القيمين على التراث الحي يتكلمون (ولكن هل يتصرفون دوماً؟) كما لو أن الكيان المعرفي للدين المنزل الموحى به) يحتفظ، قانوناً، بمزاياه التجاوزية وبفوقيته التاريخية. وبالتالي فالقيمون يرفضون بشدة تسميتهم "دعاة الماضي" التي يطلقها بعض علماء الاجتماع عليهم، في مقابل "منظمي المستقبل". ومن أجل توضيح وضع دقيق ومغبش، من المهم إذاً تفحص علاقات الاسلام والتنمية في القانون وفي الواقع.
أ_العلاقات القانونية:
في المجتمعات الاسلامية التي استردّت استقلالها السياسي، نشاهد عودة إلى الممارسات وإلى النظم وإلى التجمعات الاسلامية. وأغلب الحكومات خصصت وزارة بعينها للشؤون الدينية. والاتجاه الديني المحافظ يتأكّد في كل مكان ويبرز بوضوح أكثر مما كان يفعل في زمن كان الفكر الليبرالي، العلماني المتعقلن يجد مدافعين عنه، من الدرجة الأولى، أمثال طه حسين وأحمد أمين، وسلامة موسى الخ. وننتقل بهذا، وبسهولة من النهضة الاجتماعية السياسية إلى عودة التأكيد على حقيقة ميتافيزيقية تعود أخيراً إلى حقوقها المغتصبة "بالغزو الفكري الغربي". ولا تُرفضُ المنجزاتُ الايجابية للفكر الليبرالي. ولكن يتم التركيز على النقص فيها، وعلى المثالية، وعلى السذاجة، وخصوصاً على التسويات المشبوهة مع الايديولوجية الاستعمارية التي ينادي بها المغتصبون.
إن تراجعات طه حسين وأمثاله في الخمسينات، وسكوت الكثير من المثقفين أثناء صعود الحركة الناصرية، وانتشار الكتابات "الثورية" التي لا تقل رومانطيقية واستلابية عن كتابات البورجوازيين الليبراليين من أيام "النهضة"، تدل على معطى أساسي هو: أن المجتمعات المسلمة خضعت لعنف بنيوي متزايد بفعل العوامل الداخلية والخارجية مجتمعة. إن شروط التحليل الواقعي، الجدي مع النفس، العاري من أي حسابات ايديولوجية، لهذه العوامل لم تتحقق بعد. إن مهمات التنمية الاقتصادية، كما الصراعات من أجل التحرر السياسي، تجعل الأفضلية لفضح العدو الامبريالي، على التحليل الانتقادي للتناقضات الداخلية المتراكمة منذ ثلاثين سنة.
من هذا نفهم لماذا إن العلاقات الحقوقية بين الاسلام والتنمية يجب أن تشكل بالنسبة إلى الفكر الاسلامي القائم، مجال بحث أفضل.
بالنسبة إلى المؤمن، جوهر الانسان كامن في العلاقات بين المخلوق والخالق، الطاعة والأمر، وغرور الحياة الدنيا وكمال الحياة الآخرة الخالدة هذه العلاقة تنتظم نظرياً بعلم الأصول: الأصول التي هي في أساس كل فكر، وكل قرار، وكل سلوك تاريخي يسلكه المؤمن. هذا العلم يطرح أفضلية وأسبقية علم القواعد، وعلم المنطق السليم، على التاريخ، والوحدة والاستمرارية والدلالية "للكتب"، وتنظيم العالم والتاريخ بفضل منطق التضمين، (داخل نظام المعتقدات)، والاستثناء (نظام الانكار) والتكريس والتقديس، والتسامي بالمبادرات الانسانية الأكثر ضعة.
ب_العلاقات الواقعية:
في كل المجتمعات المسلمة المعاصرة، يعمل عدد من المعطيات القديمة والجديدة على سيادة العلاقات الواقعية فوق العلاقات القانونية، في ما بين الدين والتنمية، وليس بالامكان اعطاء وصف دقيق لهذه المعطيات في كل مجتمع. إنما من الممكن تجميع بعض الملاحظات حول الوضع العام.
ننظر، بادئ ذي بدء، إلى الضغط الديمغرافي، لأنه يجعل دون جدوى، الجهود الأكثر تقدماً، والأكثر "ايغالاً في الاشتراكية" من أجل تحسين النوعية المادية والثقافية لحياة الطبقات الشعبية.
في مثل هذا الاطار، يؤمن الدين التقليدي وظيفة فريدة من حيث التوازن السيكولوجي الاجتماعي. ولكن بمقدار ما توظّف السلطة السياسية هذا الدين لغايات سياسية يقع الالتباس بين القصدية الروحية والغائية الايديولوجية. وينتج عندئذ تمزق فعلي في الوجدان الديني المرتبط بلغة تقليدية وببعض الطقوس التقليدية، إلاّ أنه يصرف كل حماسة في أعمال تاريخية آنية، محتملة وبالتالي منفصلة عن "تاريخ الخلاص" الذي بدونه، كما في القرآن، لا يوجد سلوك روحاني قويم.
ومن الجدير بالتوضيح الدور المتصاعد للبنية التقنية من وجهة النظر التي تهمنا. والمخططون سواء كانوا خبراء أجانب أم مسؤولين وطنيين، وكذلك المهندسون من كل اختصاص يتميزون، بتكوين تقني مثاله الأعلى ماثل في معهد ماساشوست التكنولوجي. هؤلاء "المتمسكون بالعلم" يقررون بطمأنينة تتعارض مع التواضع، ومع الشكوكية اللذين يعتريا الباحثين في مجالات العلوم الانسانية. إنهم لا يتصرفون فقط في الحاضر. إنهم يفكرون المستقبل وكأنه مجموعة اجراءات تقنية ومنتجة، حابسين الأجيال القادمة ضمن مسارات ضاغطة. والمؤرخ للاسلام، وعالم الاجتماع، والفيلسوف، واللاهوتي ليس لهم أيّ نصيب في هذه البرمجة لمصير الانسان. بل إنهم عرضة للهزء لأن أعمالهم تعتبر "غير ذات فائدة". هذا الوضع يدل عليه نجاح أيّ كتاب ينشره "رجل علم" حول المسائل الدينية: اثبات أنّ الاسلامَ يتفقُ مع العلم يُصَدقُ أكثر عندما يقوم به مهندس أو طبيب. الواقع أن "رجل العلم" المزوّد باحساس ديني، يتكلم عن الدين بحماس عفوي مثله مثل كل الذين هم بعيدون عن المعرفة التاريخية والفلسفية واللاهوتية.
إن التفوق الاجتماعي والسياسي لجماعة التكنوقراط، على أهل الفكر يتأكّد كل يوم أكثر بفعل الانشقاقات التي تتكاثر عند كل المستويات في العالم الرموزي semiotique المرتبط بالاسلام. وقلّما تدعو الضرورة للكلام عن تحول اللغات الاسلامية إلى لغات تقنية مقتبسة عن اللغات التكنولوجية الكبرى، دون أن تمرّ بالمسارات الفكرية التي تؤدي إلى اكتشاف المفهوم، وإلى لغة في الحياة اليومية تحيل إلى نواحي جزئية من واقع شامل محطم. وفي المرحلة الراهنة، إن الانشقاق الأكثر خطورة بالنسبة إلى الفكر الاسلامي هو الانشقاق الذي يتفاقم بين المقولة الدينية التقليدية المسيطرة بشكل واسع ومقولة العلوم الانسانية التي يتأخر استخدامها بفعل الحاجة إلى اعادة النظر في اللغات القومية.
لا يوجد حتى الآن في العالم الاسلامي المعاصر، فكر، يجاري الفكر الكلاسيكي، في مواجهة مشاكل العصر، وفقاً لتناسق داخلي، مع اهتمام دائم بالعمق، ومتابعة خالصة من شوائب الفائدة، ورغبة مصممة على اختراق "حقيقة الأشياء" مع احترام حق المعرفة ومصالح الجماعة بآنٍ واحد. المسلمون _كما جميع أعضاء المجتمعات المتخلفة _ يعيشون عملياً كل أنواع التيارات الوافدة، ولكنهم عاجزون، حتى الآن، عن التعبير عن تجربتهم التاريخية، بغير اللغات المتجزئة والمسهبة الزائدة: سواء كانت اللغات الكلاسيكية الاسلامية، بأشكالها المبتورة نوعاً ما، أو اللغات الايديولوجية، المقولبة في الخارج والتي قد تتناسب وتتلاءم مع أوضاع وحالات خاصة. ولا تنعدم الجهود والمحاولات من أجل تجاوز القصور الذي يحس به الجميع. ولكن المصاعب البنيوية التي وصفناها، تحد كثيراً من الجرأة، وتفشل الكثير من الانجازات.
source : البلاغ