أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الر جس وطهرهم تطهيراً.
اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.
قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾(1)
الحديث حول المفاهيم القرآنية وانعكاساتها على الشعائر الحسينية، كما طلب الإخوة الأعزاء.
معنى الشَّعيرة:
قبل الشروع في الحديث حول المفاهيم القرآنية والتي ينبغي أن تنعكس على شعائر الحسين (ع)، أو الشعائر الحسينية، لا بأس من الإشارة إلى ما هو المراد من الشَّعيرة:
الشعيرة كما تعلمون أيها الإخوة الأعزاء تعني المَعْلَم، فشعائر الله: هي معالم الله التي يُعرف بها طريق الله. فعندما يُوضع مَعْلَماً لغرضٍ ما فإنّ هذا المَعْلَم يكون الغرض من وضعه هو التعريف بالطريق الموصل للمقصود، فيكون هذا المَعْلَم هو وسيلة التعريف بالمراد والمقصود للواضع.
فشعائر الدين هي معالم الدين التي يُتعرَّفَ بها على الدين، ومن خلالها وبواسطتها يُمكن الوصول إلى الدين، وأحكامه، وشرائعه، وأصوله، ومقاصده. هذا المعلم يكون وسيلة الوصول، ويكون هو المؤشِّر والمعرِّف لكلِّ ما يشتمل عليه الدِّين من مفاهيم، وقيم، ومقاصد، و مبادئ، و أصول، وأحكام، وشرائع، ومعتقدات.
الحسين شعيرة من شعائر الدِّين:
الحسين الشهيد عليه أفضل الصلاة والسلام واحدٌ من شعائر الله، أي هو مَعْلَمٌ من معالم الله. ومعنى أنه مَعْلَم هو أنه الطريق إلى معرفة الله، والطريق الذي إذا سُلِك كان مُوصلاً إلى الله، ومُوصلاً إلى دين الله، وإلى أحكام الله، وإلى شريعته، وإلى مقاصد الشريعة الإلهية.. هذا هو معنى أنَّ الحسين (ع) شعيرة من شعائر الدين. وهكذا فإنَّ كلَّ نبيٍّ فهو مَعْلَم من معالم دين الله، والقرآن معلم من معالم دين الله؛ لأنه المعرِّف بدين الله، والمعرِّف بأحكام الله، وبأصول العقيدة، وبما شرَّعه الله عز وجل لعباده.. وهكذا فإنّ محمداً الرسول (ص) شعيرة من شعائر الله؛ لأنه المعرَّف بدين الله، وعليٌّ أمير المؤمنين، والحسن، وسائر أئمة أهل البيت هم من شعائر الله؛ لأنهم الطرق الموصلة والمعرِّفة بدين الله. فكلُّ هؤلاء الذين ذكرناهم هم الطُّرق الموصلة إلى دين الله -عزَّ اسمه وتقدَّس-.
فالقرآن إذن يؤصِّل لأصلٍ عامٍّ بقوله: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلوُبِ﴾.
وظيفة المؤمنين تجاه الشعائر:
ومعنى الآية المباركة أنَّ ثمة معالم لله، ومعالم لدين الله.. وإنَّ الوظيفة المُناطة بالمؤمنين، وبعموم عباد الله هي تعظيم شعائر الله وتعظيم معالمه، وإنَّ الإلتزام بهذا التكليف الإلهيّ هو من تقوى القلوب.
التعظيم لشعائر الله مظهر من مظاهر تقوى القلوب، وفي مقابل التعظيم التوهين لشعائر الله، والتوهين لمعالم الدين.
ثمة حالتان لا ثالث لهما:
إما تعظيم، وإن لم يكن فهو توهين؛ وذلك لأن وظيفتك التعظيم، وتكليفك الإلهي هو التعظيم، فإذا لم تعظِّم شعائر الله جلَّ وعلا فأنت في زمرة من يُوهِّن دين الله وشعائر الله ومعالم دين الله عز اسمه وتقدس، فالمطلوب من المكلَّف هو التعظيم، فإذا لم يعظِّم معالم دين الله فهو في زمرة الموَهِّنين.
المراد من تعظيم الشعائر:
ثم إنَّ التعظيم ليس بمعنى التقدير والتقديس وحسب، فذلك مظهر من مظاهر التعظيم، وليس هو حقيقة التعظيم، فحينما يكون تعظيم الحسين (ع) تكليفاً إلهياً ملقىً على كاهل كلِّ هذه الأمة فليس معنى ذلك هو أنَّ على الأمة أن تُقدِّر الحسين (ع)، وأن تحترم الحسين، وأن تحبَّ الحسين حباً عاطفياً، وأن تُبَّجله وتقَّدسه، وتقف عند ذلك الحد فتكون قد عظَّمت الحسين وعظَّمت شعائر الله، فإنما تلك مرتبة من مراتب التعظيم، وذلك مظهر من مظاهر التعظيم، لكنه ليس هو كلّ التعظيم. بل لو أنَّ هذا المستوى من التعظيم لم يُشفع بالمستوى الآخر الذي سنشير إليه فإنَّ هذا التعظيم سيكون مساوقاً للتوهين، ومجانباً للإلتزام بهذا التكليف الإلهي.
كيف نعظِّم الحسين كشعيرة؟
الحسين الشهيد (ع) معْلَمٌ من معالم الدين، وطريق جعله الله عز وجل إلى دينه، ودليل على شريعته، وهو المعرِّف بأحكام الله وبأصول العقيدة وبمقاصد القرآن ومعانيه، هذا معنى أنَّ الحسين شعيرة من شعائر الله، وهذا معنى أنَّ الحسين معلم من معالم الدين، فإذا كان كذلك فإذن يلزم تعظيمه، ومن تعظيمه -كما قلنا- هذا المظهر من التقدير والتبجيل والإكبار والإجلال، فهذا مظهر من مظاهر التعظيم، أن تُكبِر الحسين، أن تُجِل الحسين، أن تقدس الحسين، فذلك مظهر من مظاهر التعظيم إلَّا إن تعظيمه الحقيقي هو العمل بهدي الحسين (ع)، وتعظيم الحسين لكونه مَعْلَماً من معالم دين الله عز وجل معناه العمل بهدي الحسين، معناه اعتماد قيم الحسين، ومبادئه التي كان يدعو إليها، معنى تعظيم الحسين (ع) هو اعتباره النموذج الذي ينبغي أن يُحتَذا بمواقفه، بخطاباته، بما كان يقول، بما كان يفعل، وأن يُعْتَمَد كوسيلة للوصول إلى الله عز وجل، وللوصول إلى دين الله -عزَّ اسمه وتقدَّس-. وهذا هو معنى أن الحسين -كما ورد عن الرسول(ص) "مصباح هدى، وسفينة نجاة"(2)، فهو مصباح هدىً يُستَضاء بهَدْيِه يُسْتضاء بما كان عليه من سجايا وخصال، وهو سفينةُ نجاة، فمن ركبها كان في الناجين، ومن تخلَّف عنها كان في الغارقين. هذه مقدمة أردنا أن نبدأ بها الحديث.
بعد ذلك يقع الحديث حول انعكاس مفاهيم القرآن على الشعائر الحسينية.
الحسين عِدْلٌ للقرآن وتجسيدٌ للقرآن:
طبعاً لأنَّ الحسين الشهيد-عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- هو عِدْل القرآن، كما هو مقتضى حديث الثقلين: "إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلو: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي"(3). والتمسك بكل من القرآن و العترة أمان من الضلال "وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض"(4).
فالحسين بمقتضى حديث الثقلين، وبمقتضى النصوص القرآنية والروايات المتواترة هو عِدْل القرآن، فإذا كان كذلك فهو المجسِّد للقرآن على الأرض، فموقفه قرآن ناطق، وخطاباته قرآن، وهديه قرآن، ونهضته المباركة هي في الواقع انعكاس لمفاهيم القرآن، فليس ثمة من موقفٍ -حقُر أو خطُر- لأبي عبد الله الحسين (ع) في تمام الشؤونات إلا وهو انعكاس لمفاهيم القرآن؛ ذلك لأن الحسين (ع) إمام معصوم، وذلك لأنَّ الحسين عِدْل القرآن -كما أفاد الرسول الكريم (ص)-.
فإذاً إذا أردنا أن نتعرَّف على مقاصد القرآن، فلنستقرأ سيرة الحسين، ولنقف على فصول حياة أبي عبد الله الحسين- عليه أفضل الصلاة والسلام-، وعلى مواقفه، وسنجد أنها تجسيد لمفاهيم القرآن الكريم.
سلوك الحسين، نهضته، مواقفه، خطاباته، كلُّ ذلك انعكاس لمفاهيم القرآن الكريم.
ضابطة الشعائر الحسينية:
إذاً فنحن حينما نريد أن نُقيم شعائر أبي عبد الله الحسين –وهي بالمآل شعائر الله، فشعائر الحسين تقع في صراط شعائر الله - وحتى تكون هذه الشعائر مُعبِّرة عن الحسين، لابد أن تكون مطابقة لما أراده الحسين، ومطابقة لهدي الحسين، ولسلوك الحسين، ولمواقف الحسين، وللمبادئ التي دعا لها الحسين، وللقيم التي ضحى من أجلها الحسين.. لابد من أن تكون هذه الشعائر معبِّرة عن ذلك كله.
فلو شطَّت وانحرفت، لما كانت شعيرةً حسينية. وحاشا الحسين أن يُنْسَب إليه ما يُنافي القرآن، وما يُنافي هَدْي القرآن.
الحسين كما قلنا هو المجسِّد لمفاهيم القرآن، فما يُرَاد له أن يكون طريقاً للتعريف بنهضة الحسين،و للتعريف بثورته المباركة، لا بد وأن يكون مطابقاً للمفاهيم القرآنية، لأننا قلنا إنَّ الشعائر الحسينية تقع في سياق شعائر الله، وشعائر الله لا يمكن أن تكون منافية لهدي القرآن؛ لأنها من عند الله عز اسمه وتقدس.
وبتعبير آخر أيها الإخوة الأعزاء.. نحن عرفنا أنَّ الحسين طريق الله، وطريق إلى دينه، ومَعْلَم من معالم شريعته، وهو الحق، وهو الطريق والمسلك الموصل إلى دين الله عز اسمه وتقدس.
والشعائر الحسينية هي المعالم والعلامات المعرِّفة بالحسين، والمعرّفة بنهضة الحسينِ. هذا يقتضي أن تكون بالمآل معرِّفة بدين الله جلَّ وعلا إذ لا يصح أن يكون الحسين (ع) شعيرة من شعائر الله ثم تكون شعائره موصله لغير دين الله جلَّ وعلا.
ما هي شعائر الحسين؟
شعائر الحسين هي المعرِّفة بالحسين، والمعرِّفة بنهضة الحسين، والتي إذا اطلع عليها من لا يعرف نهضة الحسين، وقيم الحسين، ومبادئ الحسين، و المناشئ التي من أجلها نهض الحسين، والأهداف التي سعى من أجل الوصول إليها بواسطة نهضته وتضحيته، من لا يعرف كلَّ ذلك عندما يقف على هذه الشعائر تتضح له معالم ثورة الحسين، وتتضح له معالم نهضته، ويتعرَّف من خلال هذه الشعائر على مبادئ الحسين، ويتعرف من خلال هذه الشعائر على القيم التي ضحَّى من أجلها الحسين الشهيد (ع)، فلو لم تُعطِ هذه الشعائر هذا الأثر؛ فإنها لن تكون حينئذٍ من شعائر الحسين.
هذه -أيها الإخوة الأعزاء-، هي الضابطة التي يمكن التمييز بها بين الشعائر الحسينية، والشعائر التي تُسَمَّى حسينية ولكنها ليست كذلك.
كلُّ ممارسةٍ اجتماعية لا تُعطي هذا الأثر الذي ذكرناه وهو التعريف بنهضة الحسين، والتعريف بمعالم النهضة المباركة، فتلك ليست من شعائر الحسين (ع). وأبعد من هذه الممارسة ممارسة أخرى تقع على نحو الضدِّ مع نهضة الحسين، هذه قطعاً ليست من شعائر أبي عبد الله الحسين (ع).
الشعائر الحسينية الحقيقية:
إذا اتضح ما ذكرناه يقع الحديث بعد ذلك عمَّا هي الشعائر الحقيقية التي يصحُّ أن نوَصِّفها بأنَّها من الشعائر الحسينية.
الشعائر الحسينية هي الشعائر التي تقع في صراط وفي سياق المفاهيم القرآنية، فالشعائر التي تقع في هذا السياق يصحُّ توصيفها بأنها من الشعائر الحسينية، أمَّا إذا لم تكن كذلك فتوصيفها بالشعائر الحسينية حينئذٍ يُعدُّ جنايةً على نهضة الحسين (ع)، وثورته المباركة.
وهنا يجب أن نقف على هذه المفاهيم القرآنية، لنرى هل أنَّها منعكسة على الشعائر الحسينية أم لا؛ لنتحقق بذلك من أنها شعائر حسينية حقيقيةً أم أنها ليست كذلك.
الشعائر مثل ماذا؟ الشعائر المتعارفة: هي مثل إقامة المجالس -والمجالس الحسينية هي من أوضح الشعائر الحسينية-، إقامة المجالس العزائية على أبي عبد الله الحسين، إقامة المآتم على سيد الشهداء (ع) هذه من أبرز الشعائر.
ومما يمكن توصيفه بالشعائر الحسينية هو بعض الأعمال الفنية التي تقع في هذا السياق فهي معالم، ومعرِّفات، تكشف عن جانبٍ من نهضة أبي عبد الله الحسين-، فحينما نرفع شعاراً مثلاً ونكتب عليه: "ألا وإنَّ الدعيّ ابن الدعيّ قد تركني بين السِلَّة والذِلَّة، وهيهات له ذلك ، هيهات مني الذلة"(5)، هذه كلمات مشرقة صدح بها أبو عبد الله الحسين، هذه نرفعها، لتكون معْلماً يعرف بها الآخرون جانباً من قيم النهضة المباركة.
حينما يأتي الرسَّام بريشته فيرسم لوحةً تعبِّر عن الإيثار والتضحية التي تميَّز بها رجالات الحسين، فإنه يكون بذلك قد كشف عن صورةٍ من صور النهضة المباركة، فتكون هذه اللوحة من الشعائر الحسينية.
وحينما يقف الفنَّان على خشبة المسرح، فيجسِّد موقفاً بطولياً لامرأةٍ كانت في ركبِ الحسين (ع)، تحدثت وبشجاعة أمام سلطانٍ جائر بما يقتضيه الحق والعدل والإيمان، حينما يقف هذا المؤمن على خشبة المسرح ليجسِّد هذا الموقف، يكون هذا الموقف شعيرةً من شعائر أبي عبد الله الحسين.
إذاً، فالشعائر، والمعالم، والمعرِّفات لا تنحصر في مفردةٍ أو مفردتين أو ثلاث، ويمكن للمؤمنين أن يبتكروا يوماً بعد آخر الكثير من الشعائر التي يمكن أن تعطي للآخرين تصوُّراً عن هذه النهضة المباركة من خلال التوظيف لكل الوسائل التقنية والفنية الحديثة، فتكتسب هذه الممارسات بعد ذلك شرف التوصيف بالشعائر الحسينية، فلا مانع من ذلك.
وكذلك فإنَّ البكاء على سيد الشهداء هو أيضاً من الشعائر الحسينية، لأنه يكشف عن مستوىً من الواقع المأساوي الذي تمخَّضت عنه النهضة المباركة للحسين (ع).
المفاهيم القرآنية وانعكاسها على الشعائر الحسينية:
إذا عرفنا ذلك نقول أنَّ المفاهيم القرآنية، هل هي فعلاً منعكسة على هذه الشعائر أو أنها ليست منعكسة؟ وهذا بحث لابد من بحثه بجِّدية تامَّة، وبإخلاص تام؛ حتى نُهذِّب ممارساتنا التي نوصِّفها بالشعائر الحسينية، فما كان منها في صراط المفاهيم القرآنية نتحفَّظ عليه، وما كان منها بعيد عن المفاهيم القرآنية ينبغي أن نتخلَّى عنه، و ما كان في ممارساتنا مطابق لمفاهيم القرآن ولكن فيه بعض الثغرات فالوظيفة الشرعية هي التقويم والترميم. هذه هي وظيفتنا إذا كنا نعشق الحسين، ونحب الحسين، ونوالي الحسين، وندعي أننا على هداه، وعلى خطِّه القويم، فنحن نعلم أنَّ الحسين لا يرضى إلَّا بدين الله.
أشدُّ ما هو أشدّ على قلب أبي عبد الله الحسين أن يُعصى الله، وأحب شيءٍ لقلب الحسين أن يكون الناس الذين هم من رُوَّاده وأتباعه في خطِّ القرآن، هذا ما يُحبُّه الحسين (ع).
أن تكون أقرب للحسين (ع) هو عندما تكون أقرب إلى القرآن.. وبمقدار ابتعادك عن القرآن تبتعد عن الحسين (ع)، فبمقدار ما نقترب من مفاهيم القرآن نقترب من سيد الشهداء، وبمقدار ما نبتعد عن مفاهيمه نكون قد ابتعدنا بمستوى ذلك عن الحسين الشهيد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
نماذج من المفاهيم القرآنية التي يجب أن تنعكس على الشعائر الحسينية:
أولاً: مفهوم التحبيب والكره:
يقول الله تعالى:﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبّ إِلَيْكُمُ الإِيْمَانَ وَزَيَّنَهُ فِيْ قُلُوْبِكُم وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالْفُسُوْقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾(6).
هذا واحد من مفاهيم القرآن، والشعائر الحسينية لابد أن تقع في هذا الصراط. يعني لابد أن تساهم الممارسات التي يُراد لها أن تكون مَعْلَماً من معالم النهضة الحسينية في تحبيب الناس إلى الله، وتقريبهم من الله، ومن دين الله عز اسمه وتقدس.
لننظر إلى ما نمارس من عمل نوصِّفه بأنه شعيرة، هل يُساهم في تقريب الناس من الله، وتحبيبهم إلى دينه، وتوثيق علاقتهم بأحكامه، وبمقاصده، وبأصول معتقداته، أو أنها لا تؤثر هذا الأثر؟ أو أنها تؤثِّر ما ينافي هذا الأثر؟!
لا ريب أنَّ مجالس العزاء الذي يقيمها شيعة أهل البيت (ع) تساهم في ذلك، من خلال كلمات الخطيب، وأداء الشاعر، وقصائده، والنصح، والموعظة، والآيات التي يتم تفسيرها وشرحها وتعداد القصص الوعظية، والفضائل التي لأهل البيت (ع).. فهذه كلها تساهم في تحبيب الناس إلى دين الله.
إذن، هذه المجلس هي من شعائر الحسين-دون ريب-؛ لأنها تقع في سياق المفاهيم القرآنية.
كلَّ عملٍ يُساهم في التحبيب لله، وفي تقريب الناس إلى دين الله، وفي المقابل تنفيرهم من الكفر، وتنفيرهم من الفسوق والانحراف، وارتكاب الذنوب والمعاصي، فذلك يُعدُّ من الشعائر الحسينية- دون ريب- لأن ما يُعبِّر عنه القرآن فهو ما كانت تعبِّر عنه نهضة الحسين (ع).
ثانياً: مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلْنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُعدُّ من أجلى وأظهر مفاهيم القرآن، وهو كذلك من أجلى، وأظهر، وأوضح معالم نهضة الحسين، فشعار الإنطلاق الذي رفعه الحسين (ع) حينما قام بنهضته المباركة هو قوله (ع): "إنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي (ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي ابن أبي طالب (ع) فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق"(7)، فهذا هو الشعار الذي رفعه الحسين عندما انطلق بنهضته المباركة، فهو شعار الانطلاق وذلك يُعبِّر عن التسانخ التام والإتحاد التام بين القرآن ومفاهيمه, وبين شعارات النهضة المباركة.
إذاً لابد وأن تكون الشعائر أيضاً حسينية، وتقع في نفس السياق، فلابد أن تكون مجالسنا التي نقيمها على الحسين الشهيد هي مجالس تنوء وتقوم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترشيد الناس، ونصحهم، وردعهم عن فعل المنكر،وتعريفهم بالمعروف، ثم تحبيبه إليهم، وتقريبهم منه، والأخذ بأيديهم إلى طريق المعروف. لابدَّ أن تتَّسم مجالس أبي عبد الله الحسين بهذه السِّمة، فمجلسٌ يخلو من الأمر بالمعروف، والأمر بالطاعات، والأمر بالصلاح، والأمر بالمودَّة، والأمر بقيم الدين، وبقيم القرآن، والتعريف بأحكام الله، وبفقه آل محمد (ص)، وتذكير الناس بيوم القيامة، وتهذيبهم، وتعريفهم بمكارم أخلاق النبي وأهل بيته (ع) هو مجلس لا يمتُّ للحسين بصلة.
لابد أن يشتمل المجلس الحسينيّ، والموكب الحسينيّ، والشعارات التي تُرفع، واللوحات التي تُرسم، والأعمال الفنية التي تُبثّ وتُذاع وتُنظَّم وتُعقد، لابدَّ أن تأخذ هاتين السمتين: السمة الأولى: التحبيب لدين الله تعالى، والسمة الثانية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأننا قلنا أنَّ الشعائر لابدَّ أن تكون انعكاساً للمفاهيم القرآنية. فلو خرج باسم الحسين (ع) موكبُ عزاء وبدأ الرادود بإنشاد قصيدته ثم انتهى منها ولم تكن قد اشتملت على أمرٍ بمعروف، ولا نهي عن منكر، ولا تقريب الناس إلى دين الله، وإنما كانت مجرَّد تحليقات وتخيلات لا معنى لها، ولا محصِّل منها، ولا يفهمها أحد، فإنه من غير المناسب أن نسمي ذلك العمل في ذلك اليوم شعيرة حسينية؛ لأنها لم تحقِّق شيئاً من أهداف الحسين ولا كشفت عن شيءٍ من معالم نهضته المباركة.
ثالثاً: مفهوم الألفة والأخوة:
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْل اللهِ جَمِيْعاً وَ لاَ تَفَرَّقُواْ وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُم إِذْ كُنْتُم أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُم فَأَصَبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً﴾(8) فمفاد هذه الآية المباركة يُعدُّ من أصول المفاهيم القرآنية التي حرص القرآن الكريم على تأصيلها وتجذيرها في النفوس، وعمل النبي (ص) في كلِّ مفاصل دعوته المباركة من أجل أن يُهيِّأ الأجواء ليكون الناس متمثِّلين بهذا المقصد القرآنيّ الكبير والذي هو التآلف، والتوادّ، والتحابَ، والأخوَّة، والتعاون، والتآزر.. وفي مقابل ذلك هو الحقد، والغيظ، والضغينة، والحسد، وكل أمراض النفس. وقد سعى القرآن والرسول وأهل البيت (ع) من أجل استئصالها من النفوس والقلوب لتكون مُهيَّأة لتلقِّي هذه المفاهيم: أعني الرحمة، والأخوَّة، والرأفة، والتحابّ، والتوادّ، والتراحم، والتناصح.. هذا المفهوم القرآني الذي أفادته آية الاعتصام، لا تكاد تمر على صفحة من صفحات آيات الله عز وجل إلَّا وتجد له مظهراً. لذلك فهو من أصول المفاهيم القرآنية، فكما أن الأمر بالمعروف من أصول المفاهيم القرآنية، وكما أنَّ التحبيب لدين الله هو من أصول المفاهيم القرآنية، فكذلك التآخي، والتوادّ، والتصافي، والتناصح مابين المؤمنين يُعدُّ من أصول المفاهيم القرآنية.
إذاً لابدَّ وأن تكون الشعائر الحسينية انعكاساً لهذه المفاهيم، القرآنية.
تصوَّروا أيها الإخوة الكرام، أنه لو أنَّ جماعة من المؤمنين مارسوا عملاً بتوهم أنه منتسب لشعائر الحسين وكان هذا العمل يُساهم في التباغض، وفي التنافس غير النزيه، وكان فيه استفزاز لمؤمنين، وكان منشأً للشقاق، ومنشأ للخلاف، ومنشأ للنزاع، ومنشأ للتباعد، والتجافي، والتقاطع، فهل يقع هذا العمل في صراط نهضة الحسين؟! وبالتالي هل يقع في صراط المفاهيم القرآنية؟! طبعاً لا، ومن ادَّعى أنَّ عمله ذلك واقع في سياق الشعائر الحسينية فقد أذنب ذنبين: أذنب من حيث أنه قام بعمل يُساهم في الشقاق، وأذنب ذنباً آخر أشدَّ منه، وهو أنَّه نسب هذا العمل إلى الحسين (ع)، وإلى شعائر الحسين، والحسين براءٌ من عمل يُساهم في إيقاع الناس في فتنةٍ، أو في شقاقٍ، أو في فرقةٍ، أو في تناحرٍ وتباغض.
حين يصعد خطيب على منبرٍ فيتحدث بحديثٍ يساهم في الألُفة، فجلوسه على منبر سيد الشهداء هو من شعائر الحسين؛ لأنه يعرِّف بمفهومٍ من مفاهيم نهضة الحسين. وعندما يصعد على المنبر ليطرح حديثاً يُساهم في شقِّ الصفِّ، أو بعث روح التباغض والشقاق فيما بين المؤمنين ثمَّ يُسمِّي عمله ذلك بأنَّه من الشعائر الحسينية التي يجب تعظيمها، فهو قد أذنب ذنبين كما قلنا.
وهكذا لابدَّ من أن يحرص الشاعر في قصيدته التي ينشدها الرادود، فإذا كان فيها استفزاز، أو فرقة، أو فتنة، فلابدّ من تجنيب موكب أبي عبد الله من ذلك، تجنيبه من التصفيات الشخصية، والفئوية، والحزبية.. فإن ذلك حرام، أن توظِّف عملاً قد سُفِك دم الحسين من أجل أن يقوم، أن توظفه لمصالحك الشخصية، فهذا عيب -إذا لم يكن حراماً فهو عيب-، أو أن ترفع شعاراً، أو أن تكتب بقلم، أو أن ترسم بريشتك، أو أن تُمثِّل موقفاً يُنتجُ فرقةً، وشقاقاً، وتناحراً، فذلك لا يجوز، تحت أي ذريعة كانت فإنه لا يجوز توظيف شعائر الحسين لما ينافي خطَّ الحسين، وما سعى من أجله الحسين- عليه أفضل الصلاة والسلام-؛ لأنَّ الحسين هو المجسِّد للقرآن، والقرآن يقول: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيْعاً وَ لاَ تَفَرَّقُواْ﴾ نهيٌ بعزيمة، يعزم الله على المؤمنين بأن لا يتفرقوا ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾.
رابعاً: مفهوم الثبات والتوكل على الله:
مفهوم آخر، يقول الله تعالى: ﴿الَّذيْنَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ أَنَّ النَّاسَ قّدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيْمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيْلُ﴾(9).
ثمَّة مثبِّطون، يُخوِّفون الناس من دين الله، ومن الالتزام بخط الله، ويبعثون في نفوسهم الوهن والرعب، والجبن من الظالمين والمستكبرين، وهنا يتحدث القرآن عما ينبغي أن تكون عليه طبيعة العلاقة مع هؤلاء المثبطين فيؤكد أنَّ على المؤمنين أن لا يعبئوا بتثبيطهم وأن لا يكترثوا بتسويلاتهم، بل عليهم أن يواجهوا تثبيطهم بالمزيد من الثبات والصبر والثقة بنصر الله تعالى وتأييده وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿فَزَادَهُمْ إِيْمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيْلُ﴾ فالتثبيط يحدث في نفوس المؤمنين مزيداً من الإحتساب والتوكل والثقة بتأييد الله تعالى ونصره.
إذن، فنحن أمام مفهومٍ قرآنيٍّ آخر يجب أن نؤصِّله في نفوس المؤمنين من خلال مجالسنا العزائية، من خلال مواكبنا، من خلال ما نرفعه من شعارات، وهو أن يكون المؤمنون متكلين، معتمدين على الله عز وجل، لا يخشون في الله لومة لائم.. هكذا كان الحسين، لم تكن تأخذه في الله لومة لائم، تحدَّى كلَّ شيء، ووقف في وجه كلِّ أحدٍ أراد أن يحول بينه وبين الاعزاز لدين الله، لم يبالِ روحي فداه رغم العذابات التي وقعت عليه، ورغم ما انتابه من أذى، وما وقع عليه من أسى، فقد ظلَّ رغم كلِّ ذلك صلباً متشامخاً متماسكاً، لا تُثني من عزمه تلك السيوف المشحوذة، ولا تلك الرماح المُشرعة في وجهه، ولا تلك الجيوش التي تجمَّعت، وتنقَّبت، وتهيأت، وأعدَّت، واستعدَّت لقتاله.
نصح، ووعظ، وعرَّف، واستنهض، وحشَّم. وحين لم يقبلوه قال -بعد أن قبض على كريمته-: "هكذا ألقى الله وأنا مخضب بدمي"(10)، "واللهِ لا أُعطي بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد"(11)، "وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية"(12). هكذا كان أبو عبد الله؛ لأن القرآن كان كذلك.
خامساً: مفهوم المودة في القربى:
وثمة مفهوم آخر؛ أسَّس له القرآن وهو قوله تعالى: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ. قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِيْ الْقُرْبَى﴾(13)، القرآن أسَّس لهذا المفهوم، وهو المودة في القربى، وهم أهل البيت (ع): علي وفاطمة والحسن والحسين، والأئمة المعصومون (ع). هؤلاء الذين أوصى القرآن في صريح خطابه بلزوم مودَّتهم، وأنَّ مودَّتهم هو أجر الرسالة.. ولماذا نودُّهم؟ لأنَّ مودَّتهم أمانٌ عن الانحراف عن خط الله -عز وجل-، فعندما يتمَّسك الناس بأهل البيت (ع)، ويعشقونهم، ويودُّونهم، ويعتمدون قولهم، ويهتدون بهديهم؛ يكون ذلك أماناً لهم من الإنحراف عن خطِّ القرآن.
القرآن عرَضَ للأمة مفهومات، وعرض مُؤمِّناتٍ لعدم انحراف الأمة عن خطِّ القرآن، فما هو المُؤمِّن الحقيقيّ لعدم انحراف الأُمَّة عن خطِّ القرآن؟ إنه مودة أهل البيت.. والذي عبَّر عنه الرسول الكريم (ص) بقوله: (أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من دخل فيها نجا، ومن تخلَّف عنها غرق)(14). ولذلك يجب أن تكون المجالس الحسينية، وتمام الشعائر الحسينية، مؤصَّلة لمثل هذا المفهوم.
يعني بتعبير آخر: الموكب، والرثاء، والمجلس، والمحاضرة، إذا لم تساهم في تعميق الصِّلة بأهل البيت(ع )، فهي قد تجاوزت واحداً من أصول المفاهيم القرآنية.
سادساً: مفهوم التسليم إلى أمر الله ونهيه:
أيضاً هنا آيتان -ونختم الحديث-، يقول الله تعالى:﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُوْنَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم﴾(15)، هذا مفهوم آخر من مفاهيم القرآن، وهو أنه يجب أن يقف رأي الإنسان عند قضاء الله وحكمه وأمره. لك أن تسرح بفكرك ورأيك أينما شئت، ومتاحٌ لك أن تعمل في مساحاتٍ مباحة، فإذا جاء عزم الله، وجاء أمر الله، فليس لك الخيار.. ينتهي خيارك عندما يأتي عزم الله، وأمر الله، وزجره. هذا مفهومٌ لا بدَّ من تأصيله، ولا بد أن تكون الشعائر الحسينية ضمن هذا الإطار.
سابعاً: مفهوم العزّة:
الآية الأخيرة التي نود أن نعرضها سريعاً هي قوله تعالى:﴿وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُوْلِهِ وَلِلْمُؤْمِنِيْنَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِيْنَ لاَ يَعْلَمُوْن﴾(16).
مفهوم العزَّة من أكثر المفاهيم التي حظيت بالتأكيد من قبل القرآن الكريم والسنة الشريفة والروايات الواردة عن أهل البيت (ع) حتى أنَّ العابر غير المتأمل تستوقفه كثرة هذه الروايات، وحرصها واهتمامها، وشدَّة تأكيدها على أن يكون الإسلام عزيزاً، وأن تكون مقدساته عزيزة، وأن يكون دين الله عزيزاً، وأن يكون المؤمنون أعزَّاء.
بل ومن الأساس لا تكون العزَّة لغيرهم، وإنما العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين. أمَّا غيرهم فقال تعالى عنهم: ﴿حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾(17).
فكل ما هو نقيض العزة من أحاديث ومواقف وممارسات وقصائد تنشد في المجالس العزائية والمواكب إذا كانت تبعث على الوهن والتثبيط والشعور بالصغار والمذلة فإنها في منئىً عن الشعائر الحسينية، ذلك لأنَّ صوت الحسين (ع) كان يدوي في ساحات كربلاء (يأبى الله لنا ذلك)!! كلُّ كلمات الحسين في تمام فصول الثورة المباركة تقطر عزَّة وكرامة، وذلك لشدة حرصه على أن تكون نهضته واقعة في سياق القرآن.
إذن ذلك يفرض علينا تلوين الشعائر الحسينية بهذا المفهوم القرآني، أمَّا أن تبعث الشعائر فينا روح الانكسار والمذلة والمهانة، فذلك أبعد ما يكون عن الشعائر الحسينية، بل هو جناية على الثورة الحسينية.
ممارسات تتنافى مع الشعائر الجسينية:
هذه جهة، والجهة الثانية: أنَّ بعض الأعمال والممارسات هي بنفسها تُدخل الوهن والسُّخرية على النهضة الحسينية.. نحن نحبُّ الحسين، ونقدِّس الحسين، ونفتخر بنهضة الحسين، وأنَّ تاريخنا تاريخ مشرق فيه مثل ثورة الحسين، ونفتخر على كلِّ الحضارات بهذه الثورة المباركة، وبهذه النهضة العظيمة التي لم يسبق لها نظير في تأريخ البشرية كافة.. عزمٌ وثباتٌ ونضالٌ، ومفاهيمُ راقية وسامية، فليس من ثورةٍ في تاريخ الإنسان حظيت بهذه السعة من المفاهيم السامية، فهي واسعة بسعة كلِّ مفاهيم الخير، وسامية كأعلى ما تكون عليه المفاهيم والمبادئ، وتُوِّجت هذه النهضة بأن رائدها رجلٌ هو مِنْحَةُ السماء لأهل الأرض، لهذا كان لهذه النهضة هذا الزخم الهادر.
أنرضى أيها الأخوة الأعزاء أن نُدخل على مثل هذه النهضة في عقول الآخرين الوهن؟! أليس على العاقل -إذا كان حريصاً على أن يتعرَّف الناس على أهدافه وقضاياه- أن يُظهرها بأجلى، وأحلى، وأفضل، وأنصع صورة؟! ألا يقتضي التعقُّل ذلك؟! إذا كان التعقُّل يقتضي ذلك، فلماذا نمارس بعض الممارسات التي تُساهم في إدخال الوهن، والتشويه، والتشويش، والتغبيش على معالم الثورة؟!
الأخيار من شيعة آل محمد (ص) يبذلون كلَّ جهد من أجل تعريف الآخرين بسمو معاني هذه النهضة من أجل أن يبقى وهجها فاعلاً وصورتها براقة ناصعة. ثم أجيء أنا المحبُّ العاشق للحسين، الحريص على أن تكون صورة الحسين، وصورة نهضته برَّاقة ناصعة مشرقة في نفوس الآخرين، أجيء فأمارس در التغبيش، والتشويش عليها؟! أو أساهم في إدخال الوهن عليها من خلال ممارساتٍ قد يكون منطلقها العاطفة والحبّ، ولكنها قد لا تكون مناسبة لمقتضى التعقُّل؟!
ليس لي أن أفعل ما أشاء فالشعائر الحسينية من الشئون المرتبطة بالدين، بالقرآن، بالنبي، بأهل البيت، بهذا التاريخ الطويل، وهذه التضحيات الكبيرة والتي امتدت بإمتداد تاريخ الإسلام كيف لي بعد ذلك أن أُقرِّر من عند نفسي أيَّ صورةٍ أُعطيها للآخرين عن ثورة الحسين؟!
إنَّ ذلك خطأٌ كبير، وأكون صريحاً معكم أيها الإخوة الأعزاء، ثمَّة ممارسات نحن نؤكِّد على أنَّ منطلقها الحبُّ والعاطفة، ولكنَّها لا تصحُّ، منها: المشي على الجمر، هذه الممارسة لعل منشأها- بل هو كذلك- الحب والحرص والحزن والأسى على سيد الشهداء، ولكنَّ ذلك هل يناسب الغرض الأساسي من الشعيرة الحسينية، وهو إعطاء تصوُّر صحيح، وراقٍ، ومشرق عن هذه النهضة المباركة؟! أيُّ شيءٍ توحيه للآخرين من خلال هذا المشهد؟!
أيَّ رسالة تريد أن يقرءها الآخرون من خلال هذا المشهد؟!
ما هو الهدف من الشعيرة؟ يعني -مثلاً- انت لماذا لا تمشي على الجمر وأنت لوحدك في المنزل؟ تقفل عليك حجرة وتمشي على الجمر؟
لماذا أنت تمشي على الجمر أمام الناس. لماذا؟ لأنَّك تريد أن تُعطي تصوُّراً عن هدفٍ أنت تريد أن ايصاله للآخرين.
مثلاً: نحن لماذا نخرج في الطريق ونلطم على الصدر؟ لماذا لا نجلس في البيت ونفعل؟ نجلس في البيت ونقرأ رثاءً ونبكي على الحسين، هل هذا يكفي؟ ليس هذا هو المراد، لا بدَّ أن تبكي في المأتم، وتعزِّي في الطريق، أو في المأتم لماذا؟
أنت تريد أن توصل رسالة تُعبِّر عن الهدف، وعن قيم، نهضةٍ وقعت في التأريخ أراد الله لها أن تُخلَّد، وكَلَّف الله المؤمنين بتخليدها، لا بد أن تُعطي تصَّوراً صحيحاً عن هذه النهضة.
فانظر أيَّ رسالة أنت تبعثها إلى أدمغة الآخرين عندما تمشي على حفنة من جمرٍ ملتهب؟!
لابدَّ أن تقرأ الرسالة التي سيقرؤها الآخر، فتقرأ مُخَّه، وكيف سيستقبل هذه الرسالة. انظر هل أنَّها تناسب الغرض؟ تناسب الهدف؟ تناسب الغاية التي من أجلها نمارس الشعائر الحسينية، أو لا تناسب؟ إذا لم تكن تناسب، فلأبحث عن غيرها.
والحمد لله رب العالمين
1- سورة الحج آية رقم32.
2- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 91 ص 184.
3- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 34.
4- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 34.
5- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 45 ص 83.
6- سورة الحجرات آية رقم 7.
7- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 44 ص 329.
8- سورة آل عمران آية رقم103.
9- سورة آل عمران آية رقم173.
10- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 45 ص 12.
11- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 45 ص 7.
12- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 74 ص 163.
13- سورة الشورى آية رقم 23.
14- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 44 ص 76.
15- سورة الأحزاب آية رقم 36.
16- سورة المنافقون آية رقم 8.
17- سورة التوبة آية رقم 29.
source : هدی القرآن