عربي
Sunday 12th of May 2024
0
نفر 0

حج في احادیث الامام الخامنئي

{ وَأذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأتُوكَ رِجَالا وَعلى كُلِّ ضَامِر يَأتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَميق } (1).
أقبل شهر ذي الحجة الحرام بكلِّ ما يحمله من عطاء أبدي للأمة الإسلاميّة .
حمداً لله ـ سبحانه ـ على ما أنعم به من هدية خالدة وينبوع دفّاق ، يستطيع المسلمون أن يتزوّدوا منهما كلّ سنة بقدر همتهم وبقدر معرفتهم .
المصالح والمنافع التي أودعها العِلم الإلهي والحكمة الإلهية في فريضة الحجِّ تبلغ من السعة والتنوّع بحيث لا يُرى لها شبيه في فريضة إسلاميّة أخرى . الذكر والحضور المعنوي ، ووعي الإنسان المسلم لنفسه في خلوته مع الله ، وغسل القلب من صدإ الذنب والغفلة ، وإحساس الحضور في المجموع ، واستشعار وحدة كلّ مسلم مع جميع الأمّة المسلمة ، وتحسّس القدرة المنبثقة عن عظمة جماعة المسلمين ، وسعي كلّ فرد لأن يَبْرأ من أسقامه وأمراضه المعنوية ، أي الذنوب ، ثم البحث والسعي لمعرفة ما يعاني منه جسدُ الأمّة المسلمة من آلام وجراحات عميقة ، ومعرفة دوائها وعلاجها ، ومواساة الشعوب المسلمة التي تشكل أعضاء هذا الجسد العظيم ... كلُّ ذلك قد أودع في الحجّ .. في تركيب أعماله ومناسكه المختلفة .
القرآن يطلق على أعمال الحجّ اسم «الشعائر» . وهذا يعني أنها لا تنحصر في أعمال فردية وتكاليف شخصية ، بل إنها معالم تثير شعور الإنسان وتفتح معرفته على ما ترمز له تلك المعالم وتدل عليه . ووراء هذه المعالم يقف التوحيد ، أي رفض كلّ القوى التي تهيمن بشكل من الأشكال على جسم الإنسان وروحه ، وترسيخ الحاكمية الإلهية المطلقة على كلّ الوجود ، وبعبارة واضحة ومألوفة : حاكمية النظام الإسلاميِّ والقوانين الإسلاميّة على الحياة الفردية والاجتماعية للمسلمين .
... في آيات الحج نرى القرآن يدعو الجميع إلى البراءة من أوثان المشركين: {... فاجتنبوا الرجس من الأوثان ...} (2).
وهذه الأوثان كانت يوماً تلك الأوثان المنتصبة في الكعبة، لكنها اليوم ودائماً، تلك القوى التي تمسك ـ دون حقّ ـ بزمام الحاكمية على نظام حياة البشر، وتتجلّى اليوم بوضوح أكثر في قدرة الاستكبار وقدرة أمريكا الشيطانية، وقدرة ثقافة الغرب، والفساد والتحلّل المفروض على البلدان والشعوب المسلمة. واضح أنّ أذناب الحكومات المهزوزة ومأجوريها يُصرّون على أنّ الأوثان ليست إلاّ «منات» و «لات» و «هبل»، التي سُحقت وحُطّمت تحت أقدام جيش رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الفتح الإسلامي الظافر.
هدف وعّاظ السلاطين هؤلاء أن يفرغوا الحجَّ ـ كما يصرّحون هم بذلك ـ من أيّ محتوى سياسي ... غافلين أن هذا التجمع المليوني الإسلامي من كلّ حدب وصوب، في بقعة معيّنة وفي زمان معيّن، ينطوي بنفسه على أكبر مضمون سياسي، إنه استعراض للأُمّة الإسلامية تذوب فيه الاختلافات العنصرية واللغوية والجغرافية والتاريخية، وينبثق منه «كلّ» واحد.
هؤلاء وأسيادهم يلفّقون كلّ ألوان الأكاذيب والخداع والأباطيل من أجل أن لا يعي المسلمون حقيقة هذا التجمع الكبير، وأن لا يستشعروا الروح الجماعية فيه .. ولكي يضيّقوا الساحة على الداعين إلى الوحدة، والمنادين بالبراءة من أئمة الشرك.
إيران الإسلام أرادت أن تقوم بأقلّ عمل ـ إن لم يكن بأكبر عمل ـ يتناسب مع موضوع الحج، وهو دعوة المسلمين إلى الاتّحاد، وتبادل الأخبار بين الشعوب، وإعلان النفرة والبراءة من أئمة الشرك والفساد. وكلّ من يجابه هذه الأهداف السامية القيّمة، فهو مهما قال، فقد قال زوراً. والقرآن يقول: {... واجتنبوا قولَ الزّور} (3).
«قول الزور» هو ذلك الحديث الباطل الذي يسيء إلى الجمهورية الإسلامية، لأنّ الجمهورية الإسلامية رفضت حاكمية دولة الصهاينة على فلسطين الإسلاميّة، وردّت كلّ تسوية تقوم بها حفنة من الفاسدين المطرودين مع الغاصبين، وأدانت التدخّل الأميركي الاستيلائي في البلدان العربية، واستنكرت خيانة بعض حكّام العالم الإسلامي لشعوبهم المسلمة إرضاءً لأمريكا والصهيونية، ودعت المسلمين إلى معرفة قوَّتهم الكبرى التي لا تقوى أية قوة كبرى اليوم أن تقف بوجهها، وقرّرت أن المعرفة الإسلامية وأحكام الشريعة قادرة على إدارة البلدان الإسلاميّة، وحذّرت من غارة الثقافة الغربية على البلدان الإسلاميّة، متمثلة في التعرّي والسكر وزلزلة الإيمان ... وبعبارة موجزة أصرّت على اتّباع القرآن.
واليوم فإنّ أي بلد من البلدان الإسلاميّة يعلن صراحة مثل هذا التبنّي وهذه المواقف، أي يرفض إسرائيل الغاصبة، ويرفض التدخّل الأمريكي المتغطرس، ويرفض الانغماس في الخمور والتحلل والفساد الجنسي واختلاط الجنسين، ويرفظ الاتفاق مع الصهاينة المغتصبين، ويدعو المسلمين إلى الوحدة والمقاومة أمام القوى الكبرى، وإلى تطبيق الأحكام الإسلاميّة في الحكم والاقتصاد والسياسة وغيرها من مجالات الحياة ... .
... وإذ وفّق الله ـ سبحانه ـ جمعاً من السعداء الذين توافدوا من كلّ فجٍّ عميق; لينالوا حظّهم من الأيام المعلومات وحج بيت الله الحرام، فإني أتضرّع وأبتهل إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يكون حجّهم مقبولا مأجوراً، وأن ينعم بمنافعه على كلّ الأُمة المسلمة، وأتقدّم ضمناً بتوصيات إلى الإخوة والأخوات بما يلي:
1 ـ اِغتنموا هذه الفرصة لبناء النفس والإنابة والتضرّع، وخذوا منها زادكم المعنوي لجميع عمركم.
2 ـ اِسألوا الله سبحانه أن يفرّج عن المسلمين مشاكلهم الكبرى، وكرّروا هذا الطلب مرّات ومرّات في أدعيتكم ومناجاتكم.
3 ـ اِغتنموا كلّ فرصة للتعرّف على المسلمين الوافدين من جميع أرجاء العالم، واستفيدوا ممّا في مجريات حياتهم من جوانب سلبية أو إيجابية. وعلى المسلمين، غير الإيرانيين خاصة، أن يسمعوا حقائق وقضايا إيران الإسلام من لسان إخوتهم الإيرانيين، ليميزوا الصحيح عن غير الصحيح ممّا سمعوه بشأنهم من الإعلام العالمي.
وليسعوا اليوم ودائماً أن يستوعبوا تعاليم الإمام الراحل العظيم الإمام الخميني ـ رضوان الله تعالى عليه ـ بشأن ما يرتبط بمسائل المسلمين، وأن يتعرّفوا عن قرب، وبشكل أفضل، على هذا المصلح الكبير في تأريخ الإسلام.
4 ـ انقلوا كلّ معلوماتكم واطلاعاتكم الصحيحة عن وضع الأُمّة الإسلامية، أو عن بلدكم إلى المسلمين القادمين من البلدان الأُخرى.
5 ـ في حديثكم مع إخوانكم المسلمين، من أي صقع كانوا، ركّزوا على مسألة «الأُمة الإسلامية» والنظرة الشمولية التوحيدية للعالم الإسلامي، ولتتجاوز أفكاركم وأفكار من تحاورونه إطار الحدود الجغرافية والعنصرية والعقائدية والحزبية وأمثالها، وارتفعوا إلى مستوى هموم الإسلام والمسلمين.
6 ـ ذكّروا مخاطبيكم دائماً بما أنعم الله به على المسلمين من نفوس تزيد على المليار، وبلدان تبلغ العشرات، ومن ثروات مادية ومعنوية ضخمة، وتراث عظيم ثقافي وحضاري وديني وأخلاقي.
7 ـ حطّموا أُسطورة قدرة الغرب التي لا تقهر! خصوصاً أمريكا. هذه الأُسطورة التي يحاول الاستكبار العالمي دائماً أن يلقيها في أذهان المسلمين عن طريق تهويل قوّته. وذكّروا أنفسكم وذكّروا المسلمين الآخرين; أنّ قوّة المعسكر الشيوعي، التي كانت تبدو أنها لا تقهر، قد تحطّمت منذ قريب أمام أعين هذا الجيل، وأصبحت أثراً بعد عين .. القوى المتعملقة الحالية، ومنها قوّة أميركا، هي الأُخرى من الممكن أن تنهار بالسهولة نفسها وينقطع أثرها.
8 ـ ذكّروا علماء الدين والمثقّفين في البلدان المسلمة بمسؤولياتهم الكبرى الثقيلة دائماً، وذكّروا الآخرين أيضاً بذلك.
9 ـ انطلاقاً من واجب النصيحة لأئمة المسلمين، ذكّروا زعماء البلدان المسلمة بمسؤولياتهم تجاه الأُمة المسلمة، وتجاه إقامة وحدة المسلمين والابتعاد عن القوى الاستكبارية .. ذكّروهم بضرورة التوجه إلى شعوبهم والاعتماد عليها، وإحلال الرابطة الحسنة بين الشعوب والحكّام. واطلبوا من الله سبحانه إصلاح أُمورهم.
10 ـ كونوا متفهّمين دائماً أن مسؤولية الزعماء لا تعني رفع المسؤولية عن كلّ فرد من أفراد الشعوب المسلمة، فكل أبناء الأُمة يستطيعون أن يكون لهم دور فاعل في كل هذه الأهداف الكبرى.
آمل من الله بفضله، وبدعاء وليّ الله الأعظم المهدي المنتظر (أرواحنا فداه وعجّل الله تعالى فرجه) أن يمنّ بحج مقبول على الحجّاج المحترمين، وبرحمة واسعة ونعمة سابغة على الأُمة الإسلامية وآحاد المسلمين.
قال الله الحكيم:{وإذ بوّأنا لإبراهيمَ مكانَ البيتِ أن لا تُشرك بي شيئاً وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والرّكّع السجود}.
شاءت الإرادة الإلهية النافذة أن تجمع المؤمنين مرّة أُخرى في منبثق التوحيد، ومشهد رحمة ربّ العالمين وفضله، وحول محور كعبة القلوب، وفي ساحة قبلة أرواح المسلمين في العالم ... فتفوّق النداء الملكوتي:{وأذّن في الناس بالحجّ} على كلّ الفواصل الطبيعية منها والمفتعلة المفروضة بين الإخوة المسلمين، ودفع مجاميع القلوب النابضة بالإيمان والآمال المشتركة نحو مركز التوحّد ووحدة الأمة. منذ سنوات طوال سعت يد الجهل والعناد إلى أن تفصل الأسرة الإسلامية الكبرى عن حضورها العقائدي، وعن روابطها الإيمانية.
ولكن فريضة الحجّ السنوية تؤدّي دورها في تغذية الأسرة العريقة الأصيلة بدرس التوحيد والوحدة ... وفي كلّ سنة تنفتح أزاهير جديدة، تزيد عمّا مضى، مبشّرةً بعودة ربيع الإيمان، والحياة في ظل الدين، والتآلف والتوادد بين المسلمين ... ومحبطة عمل الأعداء وما كانوا يأفكون.
إنّها لمعجزةُ الحجّ أن نرى الوشائج الفكرية والعاطفية والايمانية بين الشعوب المسلمة لمّا تنقطع أبداً، وأن التفاعل بين هذه الشعوب يزداد باطّراد رغم كلّ النزاعات والصراعات التي تختلقها وتبثها حكوماتها وأعداؤها.
أسرار الحج ورموزه أكثر من أن يحتويها مقال، غير أن بينها ثلاث خصائص بارزة تستطيع كلّ عين مستقصية أن تتعرّفها في أول نظرة:
الأولى: أن الحج هو الفريضة الوحيدة التي دعا ربّ العالمين الى أدائها جميع المسلمين ـ من استطاع اليه سبيلا ـ ومن أرجاء العالم كافة، وصوب نقطة واحدة، وفي أيام معلومات، ليربط بينهم في ألوان من السعي والحركة والسكون والقيام والقعود.
{ثمّ أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم}.
الثانية: أن الهدف الأسمى في هذا العمل الجماعي والعلني والقلبي والنفسي هو ذكر الله: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير}.
الثالثة: أن الحج يعرض على شاشته المضيئة البيّنة تصويراً كاملا لحياة الإنسان الموحّد. وبعمل رمزي يلقّن المسلمين درس الحياة المتحركة الهادفة. منذ ورود الميقات وحضور ساحة الإحرام والتلبية والتروك حتى الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف في محشر عرفات والمشعر وما فيهما من ذكر وتضرّع وتعارف، وحتى وصول منى وأضحيتها ورمي جمارها وحلقها، ثم العودة إلى الطواف والسعي ... يتلقّى المسلم فيها جميعاً دروساً واضحة بيّنة في الحركة الهادفة والجماعية والعارفة في ساحة التوحيد، وعلى درب الحياة وحول محور «الله» سبحانه.
الحياة في منهج الحج سير دائم بل صيرورة مستمرة نحو الله. والحج هو الدرس العملي الحي البنّاء الذي إن وعيناه يرسم لنا طريق حياتنا في صورة عملية مشرقة.
الحجّ.. هذا الينبوع الفياض بالتقوى والمعنويّة والخير والبركة، يتدفّق بعطائه كلّ عام والى الأبد على العالم الإسلامي، وعلى كلّ مسلم موفّق لأداء هذهِ الفريضة المباركة، فينال كلّ فرد وكلّ جماعة من عطائه بقدر الوسع والقابليّة.
عطاء هذا الينبوع الفيّاض لايقتصر على حجّاج بيت الله الحرام، إذ لو عرفت هذه الفريضة العظيمة وجرى العمل بها بشكل صحيح، فإن كل الافراد والشعوب في جميع أرجاء العالم سينعمون ببركاتها.
الافراد والجماعات البشرية يتعرضون للكوارث والمصائب والآلام من جانبين.الاول:منداخلأنفسهم،ومنشأذلكالضعفالبشريوالاهواء الجامحة والشكوك وجَدب الايمان والخصال المخرّبة. والثاني: الاعداء الخارجيون. فهم النكدُ لحياة الافراد والجماعات بسبب طغيانهم وأطماعهم وعدوانهم ووحشيتهم، وهم البلاء الداهي بسبب حروبهم وظلمهم وتجبّرهم وتعنّتهم.
العالم الاسلامي بأفراده وشعوبه كان دائماً عرضة لهذين التهديدين، وهو اليوم مهدّد أكثر من ذي قبل. فمن جانب نرى إشاعة الفساد في البلدان الاسلامية وفق خطة مدروسة وضعها الأعداء، ونرى فرض الثقافة الغربية ـ بمساعدة بعض الانظمة العميلة ـ على مظاهر الحياة بدءاً من السلوك الفردي وحتى تخطيط المدن والحياة العامّة والصحافة وغيرها، هذا من جانب، ومن جانب آخر نشاهد الضغوط العسكرية والسياسية والاقتصادية على بعض الشعوب المسلمة، والمذابح الوحشية في لبنان وفلسطين والبوسنة وكشمير وافغانستان.. وكلها شواهد بارزة على هذين التهديدين في أجوائنا الاسلامية.
الحجّ، هو تلك الهدية الإلهية، والرحمة التي لا ينضب معينها، به يستطيع المسلمون أن يتخلصوا الى الأبد من نكد العيش ومرارته، ومن مرض الانحراف ولوثته، وبمساعدة هذا الذخر الأبدي يستطيعون تحصين أنفسهم في كل زمان من هاتين الكارثتين.
ما في الحج من عناصر التقوى والذكر وحضور القلب والخشوع والتوجّه الى الله سبحانه وتعالى هي كفيلة بمواجهة التهديد الاول، وما فيه من عناصر التجمّع والتوحّد والإحساس بعظمة الأمة الإسلامية الكبرى وقدرتها على ساحة الحجّ هي كفيلة بمقابلة التهديد الثاني.
كلما قوي هذان الجانبان في الحج ازدادت حصانة ومقاومة الافراد والمجتمعات الاسلامية إزاء هذين التهديدين، ومتى ما ضعف او زال أحدهما أو كلاهما فإن الامة الاسلامية بافرادها وشعوبها وبلدانها تصبح أكثر عرضة للكوارث والمحن.
في نصّ القرآن الكريم، وفي نصوص الشريعة الاسلامية المقدّسة تصريح بكلا الجانبين بحيث لا يبقى مجال للشك لكل ذي عين وقلب وإنصاف. مافرضه الله سبحانه في قوله: { فاذكروا الله كذكركُم آباءَكم أو أشدّ ذكرا}(4) جاء الى جانبه فريضة أخرى حيث يقول سبحانه: {وأذانٌ من اللهِ ورسولِهِ الى الناسِ يومَ الحجّ الأكبر أنَّ اللهَ بريءٌ من المشركين ورسولُه}(5).
واتساقا مع قول الحكيم جلّت قدرته: {لن ينالَ اللهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن ينالُهُ التقوى منكم كذلك سخَّرها لكم لتُكبّروا الله على ما هداكم وبشّر المحسنين}(6)، نزل قول اللطيف سبحانه: { ليشهدوا منافع لهم}(7).
كل توصية واعلام وسعي لتضعيف واحد من هذين الجانبين أو إبعاده إنّما هو مجابهة مع آيات القرآن الكريم وتعاليمه.
ليس ثمة خسارة للأمة الإسلامية أفدح من أن تتعرّض تعاليم الإسلام وتوجيهاته، برصيدها الحياتي للمسلمين وجميع البشرية، لغفلة وجهل الزعماء الدينيين والسياسيين، وأن يُحال بينها وبين أن يتزوّد من عطائها الناسُ جميعاً.
الحج جزء من هذا الرصيد الحياتي الدائم، وعلى كل المسلمين أن يتعمّقوا في معرفته ويزدادوا انتهالا من زاده.
... إنّ الحديث عن الحجّ أمرٌ عظيم، خاصّة عن قدراته ـ لو أُدّيَ كما فرضه الله ـ على معالجة الأمراض الأساسية وإزالة بؤر التخلف. وهذا العلاج لا يأتي دفعة واحدة، إلاّ أنّ اجتماعاً مليونيّاً، على مرّ السنين، من الرجال والنساء الوافدين من كلّ فجّ عميق، في بقعة واحدة، وعلى صعيد أعمال متناسقة مليئة بالمعاني، وتحت لواء التوحيد العظيم، وفي أجواء عبقة بذكريات صدر الإسلام من بدر وأحد، وصعيد زيارة مسجد لا تزال جدرانه تعيد إلى الأسماع صدى التلاوة القرآنية العطرة منطلقة من حنجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يزال نداء تكبير المجاهدين في صدر الإسلام يموج في أجوائه، كلّ ذلك في جوّ مفعم بالذكر والاستشعار ومناجاة الله عزّوجلّ، جوّ ينتشل الإنسان من ضعفه وذاتيته واعوجاجه; ليرفعه إلى معدن المجد والعظمة وقدرة ربّ العالمين.. كلّ ذلك كاف في أن يكون بلسماً شافياً يبعث القوّة في القلوب والرفعة في الهمم، والصلابة في الإرادة، والاعتماد في النفوس، والسعة في الأفق، والسرعة في تحقق الآمال، والاتّحاد بين الأخوة. ويجعل الهوان في الشيطان، والضعف في كيده.
نعم، الحجّ الصحيح والكامل.. الحجّ التوحيدي.. الحجّ حين يكون منطق حبّ الله وحبّ المؤمنين والبراءة من الشياطين، ومن الأصنام والمشركين.. يعمل أولا على وقف اتّساع دائرة مشاكل الأمّة الإسلامية، ثمّ يستأصل هذه المشاكل، ويعود على الإسلام بالعزّة، وعلى حياة المسلمين بالازدهار، وعلى البلدان الإسلامية بالاستقلال والتحرر من شرّ الطامعين. واستناداً إلى هذا الفهم الصحيح للحجّ، وضعت هذه الفريضة، بعد انتصار الثورة الإسلامية الكبرى، في رأس قائمة اهتمامات الجمهورية الإسلامية على الساحة الدولية، وركّزت هذه الدولة المباركة على تقريب الحجّ مما كان عليه في صدر الإسلام، وذلك بالمواءَمَة بين الجانب السياسي الإلهي لهذه الفريضة وهو مظهر عزّة الحيّ القيوم وقدرته، والجانب العباديّ، وهو مظهر غفران الربّ ورحمته، ولتجسيد هذا الاقتران أحيت شعيرة البراءة من المشركين ثانية في الحجّ، وهي تواصل العمل بهذا الواجب الإسلامي رغم كلّ المعوّقات السياسية، ورغم كلّ المضايقات الناشئة عن دوافع غير إسلامية.
الجمهورية الإسلامية باعتبارها النظام الذي أثبت قدرة الإسلام على إدارة المجتمعات البشرية الكبرى، ورغم كلّ ما شاع تجاه هذه القدرة من تشكيك وإعلام مضادّ خلال القرن الأخير، تنظر إلى الحجّ، لا كوسيلة لتكريس الذات، بل باعتباره ساحة توعية المسلمين، وغرس روح التقوى والإيمان والاندفاع نحو تطبيق الشريعة الإسلامية، ونحو تحقيق العزّة والاستقلال في نفوسهم.
إنّ أولئك الذين يرفضون روح الحركة والنظرة الشمولية في الحجّ إنّما يرفضون في الواقع عزّة المسلمين واستقلالهم ونجاتهم من براثن الاستكبار والصهيونية، كلّ فتوى ورأي في مجال هذا الرفض إنّما هو حكم بغير ما أنزل الله، صادر ـ على أغلب الظن ـ عن جهل بحقائق العالم وعن انعدام البصر والبصيرة في أمور المسلمين.
كلّ مطّلع على ما تعانيه الشعوب المسلمة اليوم من وضع مرهق ومن سيطرة أمريكية متجبّرة عليهم..
كلّ من يعلم بما يرتكبه الصهاينة من جرائم، ومايحيكونه من مؤامرات خفية ضدّ البلدان الإسلامية.
كلّ من يحسّ بخطر انتشار هذه الغدّة السرطانية الخبيثة في الأجهزة الاقتصادية والسياسية لدول المنطقة..
كلّ من يشاهد ما يعيشه الشعب الفلسطيني من وضع متأزّم في مخيّمات الغربة، ومن احتلال الجلاّدين لأرض هذا الشعب..
كلّ من يعلم بما يجري في جنوب لبنان وفي مناطقه المحتلّة بيد الصهاينة وفي أراضيه المعرضة دائماً للهجوم..
كلّ من سمع بالمآسي المفجعة في لبنان حيث الصهاينة بدعم حكومة امريكا يقصفون بين فترة وأخرى هذا البلد من الجوّ والأرض والبحر، ويقتلون بشكل جماعي الأطفال والنساء والمدنيين..
كلّ من يطّلع على أوضاع البوسنة وأفغانستان وكشمير وتاجيكستان والشيشان..
كلّ من يدري بما تدبره أمريكا الطاغية والصهيونية عدوّة البشرية من مؤامرات متواصلة وأعمال عدوانية ضدّ الجمهورية الإسلامية الّتي تمثل اليوم مظهر حاكمية القرآن والإسلام.
نعم.. من يعلم كلَّ هذه الحقائق وهو يتحلّى بغيرة إسلامية ويحسّ بمسؤولية دينيّة، لا يتردّد في الحكم على أن تضييع رصيد الحجّ العظيم، وفقدان هذا السند الإلهي المستحكم للإسلام والمسلمين خسارة لاتعوَّض وذنب لا يُغتفَر.
إنّ ما تعانيه الدول الإسلامية من ضعف، وما يوجد بينها من تمزّق مؤلم حقيقة لا يمكن كتمانُها أو إنكارها. العالم العربي دفع بنفسه اليوم إلى حالة لا يستطيع معها ـ مع الأسف ـ أن يدخل ساحة الحرب حتّى ليوم واحد مع العدو الغاصب لأراضيه، وأن يدافع عن الشعب اللبناني الذي أضحى ضحية جرائم الكيان الصهيوني الغاصب.
نحن نرى المعدّات الحربية الجوّية ومعدّات الدفاع الجوّي المشتراة بأثمان خيالية من مصانع الغرب تملأ مستودعات هذه البلدان، بينما تقصف طائرات الصهاينة بحرية بيوت الشعب العربي اللبناني، وتهدم عليهم منازلهم، ولاتستطيع أية واحدة من هذه الدول أن تقطع الطريق أمام هذا القصف الوحشي وتمنعه.
هذه الحقائق المرّة لو أضفت لها ما تمارسه القوى الاستكبارية من نفوذ سياسي، ومن هجوم دون مانع للسيطرة الثقافية التامّة على كثير من هذه البلدان، وما تشهده الساحة من مصائب فادحة تنذر بالخطر، فإنّها كافية لكلّ ضمير حيّ وعقل سليم أن يتوصّل إلى أن البلدان الإسلامية والشعوب الإسلامية والعيّنة الإنسانية المجتمعة حول الكعبة المشرفة، والمواقف المباركة في أرض الوحي بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى معنى الحجّ وروحه وقوّته المودعة فيه، ولا بدّ لها من أن تستثمر عطاءه.
هذا هو حديثنا عن الحجّ وهذا هدف دعوتنا إلى إحياء الحجّ وسائر شعائر الإسلام الحياتية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحجّ : 27 .
(2) الحج : 30 .
(3) نفس المصدر.
(4) البقرة : 200.
(5) التوبة : 3
(6) الحج : 37.
(7) الحج : 28.


source : اهل بیت
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

أهمية الأمومة وشرفها
بكاء الإمام السجاد (ع) على أبيه الإمام الحسين (ع)
لماذا لم تتزوج السيدة المعصومة ( عليها السلام ) ؟
هل المجوس من أهل الكتاب أو لا؟
الفعل الشنيع في هدم قبور أئمة البقيع (ع)
ما هي حقيقة آيه الرجم ؟
عقوبة لا تستحق التاجيل
ولادة السيدة فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى ...
زيارة أم البنين عليها السلام
زيارة السيدة زينب الكبرى (عليها السلام)

 
user comment