عربي
Thursday 2nd of May 2024
0
نفر 0

البصيرة عند أبطال كربلاء

من جملة السمات التي امتاز بها أصحاب سيد الشهداء هي شدّة إيمانهم واعتقادهم بقضيتهم، وهذا الإيمان ناشئ عن وعي وبصيرة، وما كانوا متأثرين بالجو العام في تقييم الأفكار والمواقف.

فلا ينبغي للإنسان المؤمن الواعي أن ينساق وراء الجو الجماهيري العام الذي لا يتصف بالحكمة في كثير من مواقفه؛ لأنّ الإنسان إذا خضع للجو العام وألغى تفكير نفسه سوف يفقد الثقة بعقله وبما يصل إليه من نتائج.

من هنا نجد أنّ المولى تبارك وتعالى نبّه البشرية إلى هذه الحقيقة في كتابه الكريم، بقوله: ( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَة أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّة إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَاب شَدِيد)([1])، فالآية لم تخاطب الجماهير كجماهير، بل خاطبتهم كأفراد؛ لأنّ الجماهير في حالات الاندفاع وطوفان الحماس لا تفهم لغة الحجج والبراهين، والآية خاطبت كل فرد، أو كل فردين، الفرد يفكّر مع نفسه أو يفكّر مع شخص آخر فيما يقوله هذا النبي لهم، وفيما يقرأه عليهم من القرآن، هل يمكن أن يكون ذلك الكتاب المملوء بالعلم وبالحكمة والمواعظ منطلقاً من مجنون أو ساحر أو كاذب؟ فهذه دعوة من القرآن في سبيل أن يستخدم الإنسان عقله ولا يخضع ـ كغيره ـ للجو العام الخاطئ، يقول الرسول صلي الله عليه وآله : ( لا تكونوا إمّعة تقولون إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا )[2].

إذاً، القرآن العظيم والرسول الكريم يربيان الإنسان على أن تكون مواقفه مبنبة على أساس من الوعي والبصيرة.

 وهكذا كان أصحاب سيد الشهداء عليه السلام، وممّا يؤكّد هذا المعنى أنّ التاريخ لم يسجِّل ولا كلمة واحدة ولا موقف واحد من أصحاب الحسين عليه السلام الذين استشهدوا بين يديه في طف كربلاء، تشير ولو من بعيد إلى ترددهم، أو بيان رأي يخالف ما عليه الإمام الحسين عليه السلام ، بل الذي وجدناه في كتب التاريخ التصريح بالتأييد المطلق للإمام الحسين عليه السلام ، والمناصرة له، والتفاني لأجله ولأجل قضيته التي جاء بها.

روى المؤرخون أنّ الإمام الحسين عليه السلام جمعهم في ليلة العاشر من المحرم وقال لهم: (هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا، وليأخذ كل رجل بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم، فإنّ القوم إنّما يطلبونني ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري)[3].

فقام له سعيد بن عبد الله الحنفي وغيره، وقال له: (أما والله، لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق حياً ثم أذرى يفعل بي ذلك سبعين مرة لما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، وكيف أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً)[4].

هذه الكلمات تشير إلى أنّهم اعتقدوا بقضيتهم عن وعي وبصيرة وما كانوا متأثرين بالجو الجماهيري العام في اتخاذ المواقف والقرارات.

لما دخل مسلم بن عقيل عليه السلام إلى الكوفة، وتهافت الناس على بيعته حتى أحصى ديوانه ثمانية عشر ألفاً، قام المجاهد الشهيد عابس بن شبيب الشاكري وخاطب مسلماً عليه السلام ـ بحضور عَلِية القوم وعيونهم ـ وقال: (إني لا أخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في نفوسهم ولا أغرّك بهم، والله إني أحدثك عما أنا موطن عليه نفسي. والله لأجيبنكم إذا دعوتهم، ولأقاتلن معكم عدوكم، ولأضربنّ بسيفي دونكم، حتى ألقى الله لا أريد بذلك إلا ما عند الله)([5]) وتابعه على هذا الكلام كلاً من حبيب بن مظاهر الأسدي وسعيد بن عبد الله الحنفي.

فكان هذا الكلام من هذا المجاهد تشخيصاً واعياً ودقيقاً لرجل خبر الساحة وظروفها، وآمن بقضيته عن وعي وبصيرة، بعيداً عن الجو العام الخاطئ، لهذا ما تغيرت مواقفه تبعاً لتغير مواقف الهمج الرعاة الذين بايعوا مسلماً.

 ووقف في يوم عاشوراء أمام سيد الشهداء عليه السلام قائلاً: (ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعزّ عليّ منك، ولو قدرت أن أدفع الضيم عنك بشيء أعز عليّ من نفسي لفعلت: السلام عليك، أشهد أني على هداك وهدى أبيک)[6]. وتقدم وقاتل حتى قُتل بين يدي الإمام الحسين عليه السلام ، وهو مطمئن بعدالة القضية التي يدافع عنها.

وبهذا الوعي والبصيرة رسم أصحاب سيد الشهداء أرواحنا له الفداء في طف كربلاء أروع صور التضحية والفداء، رجالاً ونساءً، وزينوا تاريخ البشرية بلوحات مدهشة وصفحات مشرقة ليس لها نظير، ولو كانت مثل هذه الصور البطولية في تاريخ الغرب لرأيت كيف يعظمونها ويصنعون منها نماذج مشرقة.

 ولله در الشاعر وهو يخاطبهم بقوله:

أُسدٌ قد اتخذوا الصوارم حلية***وتسربلوا حلق الدروع ثيابا

اتخذت عيونهم القساطل كحلها***واكفهم فيض النجيع خضابا

يتمايلون كأنما غنى لهم***وقع الظبى وسقاهم أكوابا

وجدوا الردى من دون آل محمد***عذباً وبعدهم الحياة عذابا([7])

 

________________________________

   ([1]) سورة سبأ: 46.

   ([2]) سنن الترمذي3: 246.

([3]) مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب 3: 248.

([4]) الإرشاد، للمفيد 2: 92.

([5]) مقتل الإمام الحسين، للمقرّم: 147.

([6]) بحار الأنوار45: 29.

([7]) للسيد رضا الهندي (رحمه الله).


source : اهل بیت
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

فلسفة الفقر
كلام حذيفة في آية الجنة والنار
اللعن في القرآن الكريم
إعلان يوم السابع من أغسطس 1979 يوم القدس العالمي
الصيام في روايات اهل البيت عليهم السلام
الامام علی ابن الحسین ( علیه السلام
هل كان للسيدة خديجة زوج قبل زواجها مع رسول الله ...
اعمال ليلة ويوم عيد الاضحى المبارك
المعالم الاجتماعية في حكومة الامام المهدي (عج) / ...
الشفاعة لا الوساطة

 
user comment