إنّ المعنى المتعارف لللّعن : هو الطرد والإبعاد من رحمة الله ، فهي إلى الدعاء أقرب منها إلى السباب أو الشتائم ؛ لذا تراك إذا كنت تريد أن تلعن أحداً تقول : اللّهم العن فلاناً ، أو العنه ، أي اطرده من رحمتك ، وأبعده من ساحة قدسك ، فهي إذن أمر عادي لِمَنْ يستحقّه.
وردت هذه المادة (لَعْنْ) في القرآن الكريم 40 مرّة بمختلف الصيغ والاشتقاقات اللغوية والتي بلغت 17 اشتقاقاً أكثرها كان :
(لَعْنَة) 13 مرّة.
(لعنهم) 7 مرّات.
(لَعنهُ) 3 مرّات.
(يَلعنُ) و (يلعنهم) و (لُعنوا) كلّ واحدة مرّتين.
وباقي الاشتقاقات ، وهي لَعَنَ ، لَعَنَتْ ، لَعنَاً ، لعنَّاهم ، نَلعنهم ، إلعنهُمْ ، لُعِن ، لَعْنَتي ، اللاّعنون ، ، مَلعونين ، الملعونة ، وردت مرّة واحدة فقط.
فمَنْ الذين لعنهم الله في كتابه العزيز؟
الف - الشيطان اللعين الرجيم. ولعنته من البديهيات الإسلاميّة بقوله تعالى : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطَاناً مَرِيداً * لَعَنَهُ اللَّهُ) (1).
وقال تعالى : (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) (2).
فهو ملعون مطرود من رحمة الله إلى يوم البعث والحساب.
ب- أصناف من البشر ، لعنهم الله بصفاتهم وأعمالهم مثل :
1 ـ الكافرون ، بقوله تعالى :
(إنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) (3).
(فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) (4).
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ اُولئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (5).
2 ـ الظالمون ، بقوله تعالى :
(فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (6).
(وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (7).
(يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (8).
3 ـ الكاذبون ، بقوله تعالى :
(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (9).
(وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (10).
4 ـ المفسدون في الأرض ، بقوله تعالى :
(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ اُولئك لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (11).
5 ـ الذين يرومون المحصنات ويقذفونهنّ ببهتان ، والعياذ بالله ، قال تعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (12).
6 ـ الذين يؤذون الله ورسوله ، بقوله تعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً) (13).
7 ـ المنافقون ، في قوله تعالى :
(وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (14).
8 ـ علماء السوء ووعّاظ السلاطين ، وذلك بقوله تعالى :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * اُولئك الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) (15).
ج - هناك اليهود ، من اللعناء الذين تكرّرت لعنتهم في القرآن الكريم بالتصريح بالاسم ، أو الصفات التي كانت تلازمهم كأصحاب السبت ، والذين مسخوا قردة وخنازير وعبدوا الطاغوت ، وغير ذلك من الصفات من ذلك :
1 ـ اليهود ، في قوله تعالى :
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) (16).
2 ـ أصحاب السبت ، بقوله تعالى :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً) (17).
3 ـ المسوخات منهم ، بقوله تعالى :
(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ اُولئك شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (18).
4 ـ ناقضوا الميثاق ، لقوله تعالى :
(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) (19).
5 ـ الكافرون منهم ، بقوله تعالى :
(وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ) (20).
(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (21).
بعد هذا الاستعراض السريع للآيات المباركات دون تعليق ؛ لأنّني سأترك ذلك للأخ القارئ الكريم.
بقيت لدينا مسألتان هما :
الأولى : وردت في القرآن كلمة (الشجرة الملعونة) ، وذلك بقوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْيَاناً كَبِيراً) (22).
ذهب المفسّرون وأهل العلم والإنصاف إلى أنّها نزلت بحقّ بني أُميّة ، فهم الشجرة المعلونة في القرآن بقصّة ترويها كتب التفسير والسنن ، وأنّ تلك الرؤيا التي رآها الحبيب المصطفى صلىاللهعليهوآله هي رؤيته أنّ صبيان بني أُميّة ينزون على منبره نزو القردة ، فأخبر الأُمّة وحذّرها فتنتهم.
وقال بحقّ زعيمهم : «إذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا كرشه ، ولن تفعلوا».
بروايات مختلفة يعلمها المتتبّعون للسيرة النبويّة المباركة.
وقال كذلك : «اللّهمّ العن القائد والسائق والراكب» (23) عندما رأى أبا سفيان يركب على بعير ويزيد يقوده ومعاوية يسوقه.
الثانية : فهي مكانة اللعن واللاعن لِمَنْ يستحقّ اللعن في كتاب الله العزيز.
والمسألة دقيقة وتحتاج إلى تمحيص وتدقيق ، وسأتطرق إليها لأنّها تُهمة شنيعة يلصقها بعض الجهّال بالشيعة ، من أنّهم يسبّون ويلعنون ، وأنّ المؤمن لا يكون لعّاناً.
أقول وبالله العون : إنّ المؤمن حقّ الإيمان يجب أن يكون لعّاناً لأعداء الله وأعداء رسوله الكريم صلىاللهعليهوآله. ولنرى ماذا يقول القرآن الكريم ، وهو كلام ربّ العالمين في هذا الخصوص.
جاء في سورة البقرة المباركة الآيات التالية : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ اُولئك يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ إِلاّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَاُولئك أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ اُولئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (24).
بالتدبر في هذه الآيات المباركة تجد :
ـ إنّ كتمان الرسالة وبيّنات الهدى يستوجب اللعنة ، ويُستثنى منها التائب توبة نصوحاً لوجه الله تعالى.
ـ إنّ الكفّار والذين ماتوا على الكفر يستحقّون اللعنة كذلك ، ولا توبة لهم.
ولكن اللعنة مِمَّن؟ وهنا الشاهد على كلامي.
1 ـ من الله عزّ وجلّ.
2 ـ من الملائكة الكرام.
3 ـ من اللاعنين. وقيل : هم الملائكة ، ولكنّ الواقع أنّهم المؤمنون ؛ لأنّ الملائكة مذكورون.
4 ـ من الناس. وهم جميع الناس الذين يمكن أن يلعنوا الكفّار ، فلهم ذلك ويؤجرون على عملهم ذاك.
إلاّ أنّه يجب أن لا تخفى عليك هذه المسألة : وهي أنّ اللعنة على الذين يكتمون الآيات من بعد ما عرفوها هي من الله واللاعنين ، أي المؤمنين.
أمّا اللعنة على الكفّار ، لا سيما الميّتون منهم فهي من الله والملائكة والناس أجمعين ؛ لأنّهم أعمّ وأشمل بالكفر من اُولئك الذين يشملهم الصنف الأوّل.
أمّا الذين في الصنف الأوّل فهم أخصّ وألعن ؛ ولذا لا تصيبهم إلاَّ اللعنة المجابة من الله واللاعنين.
وجاء في آيات سورة آل عمران المباركة ما هو قريب من ذلك من الآيات : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ * كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * اُولئك جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (25).
وبالتدبّر في الآيات نجد :
1 ـ الدين المقبول عند الله هو الإسلام ، ولا يقبل أي دين غيره أبداً.
2 ـ مَنْ يترك الإسلام رغبة منه إلى غيره فإنّه يخسر الدنيا والآخرة.
3 ـ الله سبحانه لا يهدي المستكبرين الذين يعلمون علم اليقين أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله صادق وأمين ، وأنّ القرآن هو من عند الله الحقّ ، إلاّ أنّهم ينكرون ويصرّون على ذلك.
4 ـ وهؤلاء يستحقّون اللعنة. ومِمَّن هي؟
ـ من الله تعالى.
ـ والملائكة الكرام.
ـ والناس أجمعين.
فالملاحظ في الآيات الآنفة الذكر أنّ اللعن هو مقام عظيم ، وأحياناً يكون واجباً على أهل الإيمان والتقى ؛ لأنّ أهل العربية يستنبطون ذلك من العطف الوارد في الآيات المباركة.
(يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُون) ، وعليهم (لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) في الموردين ، وهذا العطف بالواو على الذّات المقدّسة تعني قدسيّة المعطوف لقداسة المعطوف عليه ، وهذا يجب أن لا يخفى عليك أخي العزيز.
وهنا يجب أن نتذكّر مسألة التولّي لأولياء الله والتبرِّي من أعدائهم.
والولاية تعني : الالتزام بعد الإيمان بنهج أولياء الله. وأمّا البراءة فتعني : التبرّي اللساني والقلبي والفعلي من أعداء الله ورسوله والأئمّة الأطهار (صلوات الله وسلامه عليهم).
ولهذا نقرأ في آية الكرسي : (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (26).
فالكفر بالطاغوت يجب أن يسبق الإيمان كما في الآية المباركة ؛ لأنّ الإنسان إذا لم يكفر بالطاغوت وينزعه من قلبه تماماً فإنّه لن يخلص في إيمانه بالله تعالى ، وهذا واضح من التشهّد بـ (لا إله إلاّ الله) فالنفي يسبق الإثبات للوحدانية.
ولكن ، أسألك عزيزي القارئ ما هي نتيجة هذا البحث؟ هل وجدت أنّ يزيد وأشباهه وأنصاره يستحقّون اللعنة أم لا؟
وإذا كان الشخص تنطبق عليه صفة من الصفات التي تستحق اللعن ، فهل سوف تلعنه أم لا؟
ومَنْ يلعنه الله ورسوله والملائكة ، واللاعنون والناس فهل ستوافق على لعنه؟
هذا والأحاديث المرويّة عن رسول الله في السنّة النبويّة الشريفة تؤكّد أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله لعن الكثير من اللعناء ؛ اعتباراً من المستهزئين والمشركين والمنافقين ، لا سيما بني أُميّة (الشجرة الملعونة في القرآن) ، والشجرة المروانيّة التي قال عنها : «الوزغ ابن الوزغ ، الملعون ابن الملعون ، عليه اللعنة وعلى مَنْ يخرج من صلبه إلى يوم الدين» (27). وعائشة كانت تسميه (فضضٌ من لعنة نبي الله) (28).
الصحابة يلعنون بعضهم بعضاً
وكثير من الصحابة لعن بعضهم بعضاً ، وصحاح المسلمين مليئة بمثل هذه الأحاديث والأحداث ، وإليك واحدة نأخذها من البخاري وشيخه :
قال الحميدي (شيخ البخاري وأستاذه) : حدّثنا سفيان ، حدّثنا عمرو بن دينار قال : أخبرني طاووس سمع ابن عباس يقول : بلغ عمر بن الخطاب أنّ سمرة بن جندب باع خمراً.
فقال : قاتل الله سمرة ، ألم يعلم أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : «لعن الله اليهود ، حرّمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها» (29) أي : أذابوها.
ولا يهولنك إذا قرأت في صحيح البخاري كلمة (فلاناً) مكان اسم سمرة بن جندب ؛ لأنّه كان يريد أن يُغطّي على عورة هذا الصحابي المفضوحة على الملأ كعورة عمرو بن العاص في صفين.
وهذا ديدن البخاري وعادته في محاولة التغطية والتمويه ؛ لأنّه يعتقد بعدالة الصحابة جميعاً دون استثناء ، وأنّهم كالنجوم ولا يتطرّق إلى أحدهم الشك ، (ومَن طعن بأحد منهم فهو أضلّ من حمار أهله) كما يقول شيخ السلفية ابن تيمية!
ولكن ، أسأله وأمثاله ، ما رأيه بهذا الصحابي (سمرة بن جندب) ، وهذا الطعن واللعن له من الصحابي الثاني عمر بن الخطاب؟!
صحابي يبيع الخمر في عهد عمر ، وعمر يلعنه ، فهل كان أهلاً للعنة؟ أم أنّ عمر كان كما وصف ابن تيمية؟!
وهذا الصحابي الذي يبيع الخمر هو من أهل النار بنصّ حديث رسول الله صلىاللهعليهوآله ، كما في (سير أعلام النبلاء) للذهبي. والمشهور أنّه وقع في قدر مملوء بالماء الحار جدّاً فمات بالنار في الدنيا ، وله نار الآخرة كما أخبر الصادق الأمين صلىاللهعليهوآله ؛ وذلك لكثرة الدماء التي سفكها في عهد بني أُميّة ، فكان زياد يستخلفه ستة أشهر على البصرة وعلى الكوفة مثلها. قال الذهبي : وقتل سَمُرَةُ بشراً كثيراً ، وما في الأرض بقعةٌ نشفَتْ من الدم ما نَشفَتْ هذه ـ يعنون دار الأمارة ـ قتل بها سبعون ألفاً.
قيل : مَنْ فعل ذلك؟ قال : زيادٌ وابنه (عبيد الله) وسَمُرة (بن جندب) (30).
ولا تظنّ أنّ هذا الصحابي الذي يدافع عنه الناس كان يبيع الخمرة ولا يشربها ، لا بل كانت لا تفارقه أبداً.
ويحدّث ابن أبي الحديد قائلاً : جاء رجل من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله فأتياه فإذا هو سمرة بن جندب ، وإذا عند إحدى رجليه خمر وعند الأُخرى ثلج.
فقلنا : ما هذا؟! قالوا : به النقرس.
وإذا القوم قد أتوه ، فقالوا : يا سمرة ما تقول لربّك غداً؟ تؤتى بالرجل فيقال لك : هو من الخوارج فتأمر بقتله ، ثمّ تؤتى بآخر فيقال لك : ليس الذي قتلته بخارجي ذاك فتى وجدناه ماضياً في حاجته فشبّه علينا ، وإنّما الخارجي هذا فتأمر بقتل الثاني؟
فقال سمرة : وأيّ بأس في ذلك؟! إن كان من أهل الجنّة مضى إلى الجنّة ، وإن كان من أهل النار مضى إلى النار (31)!
هذا الصحابي الذي رفض نخل الجنّة بضمانة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، هو الذي قال بحقّه محمد بن سليم : سألت أنس بن سيرين ، هل كان سمرة قتل أحداً؟
قال : وهل يُحصى مَنْ قتل سمرة بن جندب؟! استخلفه زياد على البصرة وأتى إلى الكوفة ، فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس ، فقال له : هل تخاف أن تكون قد قتلت أحداً بريئاً؟
قال : لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت (32)!
ويشهد أبو سوار العدوي قائلاً : قتل سمرة من قومي في غداة سبعة وأربعين رجلاً قد جمع القرآن (33) (أي حفظه)!
أهكذا تكون الصحبة؟!
أو هكذا يكون الصحابة؟! وهكذا تكون العدالة؟!
المصادر :
1- سورة النساء : الآية 116 ـ 117.
2- سورة ص : الآية 77 ـ 78.
3- سورة الأحزاب : الآية 64.
4- سورة البقرة : الآية 89.
5- سورة البقرة : الآية 161.
6- سورة الأعراف : الآية 44.
7- سورة هود : الآية 18.
8- سورة غافر : الآية 52.
9- سورة آل عمران : الآية 61.
10- سورة النور : الآية 7.
11- سورة الرعد : الآية 25.
12- سورة النور : الآية 23.
13- سورة الأحزاب : الآية 57.
14- سورة الفتح : الآية 6.
15- سورة النساء : الآية 51 ـ 52.
16- سورة المائدة : الآية 64.
17- سورة النساء : الآية 47.
18- سورة المائدة : الآية 60.
19- سورة المائدة : الآية 13.
20- سورة البقرة : الآية 88.
21- سورة المائدة : الآية 78.
22- سورة الإسراء : الآية 60.
23- بحار الأنوار 30 : الآية 295 ، الاحتجاج 1 ص 274 ، شرح نهج البلاغة 6 ص 288.
24- سورة البقرة : الآية 159 ـ 161.
25- سورة آل عمران : الآية 85 ـ 87.
26- سورة البقرة : الآية 256.
27- مقتل الحسين عليهالسلام ـ للخوارزمي 1 ص 184.
28- الكامل في التاريخ 4 ص 507.
29- صحيح البخاري 1 ص 9 ح 13 من أحاديث عمر.
30- انظر سير أعلام النبلاء 3 ص 185 ترجمة 35.
31- سير أعلام النبلاء 3 ص 77 ، شرح نهج البلاغة مجلد 3 ج5 ص 121.
32- المصدر السابق.
33- المصدر السابق.
وردت هذه المادة (لَعْنْ) في القرآن الكريم 40 مرّة بمختلف الصيغ والاشتقاقات اللغوية والتي بلغت 17 اشتقاقاً أكثرها كان :
(لَعْنَة) 13 مرّة.
(لعنهم) 7 مرّات.
(لَعنهُ) 3 مرّات.
(يَلعنُ) و (يلعنهم) و (لُعنوا) كلّ واحدة مرّتين.
وباقي الاشتقاقات ، وهي لَعَنَ ، لَعَنَتْ ، لَعنَاً ، لعنَّاهم ، نَلعنهم ، إلعنهُمْ ، لُعِن ، لَعْنَتي ، اللاّعنون ، ، مَلعونين ، الملعونة ، وردت مرّة واحدة فقط.
فمَنْ الذين لعنهم الله في كتابه العزيز؟
الف - الشيطان اللعين الرجيم. ولعنته من البديهيات الإسلاميّة بقوله تعالى : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطَاناً مَرِيداً * لَعَنَهُ اللَّهُ) (1).
وقال تعالى : (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) (2).
فهو ملعون مطرود من رحمة الله إلى يوم البعث والحساب.
ب- أصناف من البشر ، لعنهم الله بصفاتهم وأعمالهم مثل :
1 ـ الكافرون ، بقوله تعالى :
(إنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) (3).
(فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) (4).
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ اُولئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (5).
2 ـ الظالمون ، بقوله تعالى :
(فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (6).
(وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (7).
(يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (8).
3 ـ الكاذبون ، بقوله تعالى :
(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (9).
(وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (10).
4 ـ المفسدون في الأرض ، بقوله تعالى :
(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ اُولئك لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (11).
5 ـ الذين يرومون المحصنات ويقذفونهنّ ببهتان ، والعياذ بالله ، قال تعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (12).
6 ـ الذين يؤذون الله ورسوله ، بقوله تعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً) (13).
7 ـ المنافقون ، في قوله تعالى :
(وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (14).
8 ـ علماء السوء ووعّاظ السلاطين ، وذلك بقوله تعالى :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * اُولئك الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) (15).
ج - هناك اليهود ، من اللعناء الذين تكرّرت لعنتهم في القرآن الكريم بالتصريح بالاسم ، أو الصفات التي كانت تلازمهم كأصحاب السبت ، والذين مسخوا قردة وخنازير وعبدوا الطاغوت ، وغير ذلك من الصفات من ذلك :
1 ـ اليهود ، في قوله تعالى :
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) (16).
2 ـ أصحاب السبت ، بقوله تعالى :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً) (17).
3 ـ المسوخات منهم ، بقوله تعالى :
(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ اُولئك شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (18).
4 ـ ناقضوا الميثاق ، لقوله تعالى :
(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) (19).
5 ـ الكافرون منهم ، بقوله تعالى :
(وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ) (20).
(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (21).
بعد هذا الاستعراض السريع للآيات المباركات دون تعليق ؛ لأنّني سأترك ذلك للأخ القارئ الكريم.
بقيت لدينا مسألتان هما :
الأولى : وردت في القرآن كلمة (الشجرة الملعونة) ، وذلك بقوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْيَاناً كَبِيراً) (22).
ذهب المفسّرون وأهل العلم والإنصاف إلى أنّها نزلت بحقّ بني أُميّة ، فهم الشجرة المعلونة في القرآن بقصّة ترويها كتب التفسير والسنن ، وأنّ تلك الرؤيا التي رآها الحبيب المصطفى صلىاللهعليهوآله هي رؤيته أنّ صبيان بني أُميّة ينزون على منبره نزو القردة ، فأخبر الأُمّة وحذّرها فتنتهم.
وقال بحقّ زعيمهم : «إذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا كرشه ، ولن تفعلوا».
بروايات مختلفة يعلمها المتتبّعون للسيرة النبويّة المباركة.
وقال كذلك : «اللّهمّ العن القائد والسائق والراكب» (23) عندما رأى أبا سفيان يركب على بعير ويزيد يقوده ومعاوية يسوقه.
الثانية : فهي مكانة اللعن واللاعن لِمَنْ يستحقّ اللعن في كتاب الله العزيز.
والمسألة دقيقة وتحتاج إلى تمحيص وتدقيق ، وسأتطرق إليها لأنّها تُهمة شنيعة يلصقها بعض الجهّال بالشيعة ، من أنّهم يسبّون ويلعنون ، وأنّ المؤمن لا يكون لعّاناً.
أقول وبالله العون : إنّ المؤمن حقّ الإيمان يجب أن يكون لعّاناً لأعداء الله وأعداء رسوله الكريم صلىاللهعليهوآله. ولنرى ماذا يقول القرآن الكريم ، وهو كلام ربّ العالمين في هذا الخصوص.
جاء في سورة البقرة المباركة الآيات التالية : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ اُولئك يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ إِلاّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَاُولئك أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ اُولئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (24).
بالتدبر في هذه الآيات المباركة تجد :
ـ إنّ كتمان الرسالة وبيّنات الهدى يستوجب اللعنة ، ويُستثنى منها التائب توبة نصوحاً لوجه الله تعالى.
ـ إنّ الكفّار والذين ماتوا على الكفر يستحقّون اللعنة كذلك ، ولا توبة لهم.
ولكن اللعنة مِمَّن؟ وهنا الشاهد على كلامي.
1 ـ من الله عزّ وجلّ.
2 ـ من الملائكة الكرام.
3 ـ من اللاعنين. وقيل : هم الملائكة ، ولكنّ الواقع أنّهم المؤمنون ؛ لأنّ الملائكة مذكورون.
4 ـ من الناس. وهم جميع الناس الذين يمكن أن يلعنوا الكفّار ، فلهم ذلك ويؤجرون على عملهم ذاك.
إلاّ أنّه يجب أن لا تخفى عليك هذه المسألة : وهي أنّ اللعنة على الذين يكتمون الآيات من بعد ما عرفوها هي من الله واللاعنين ، أي المؤمنين.
أمّا اللعنة على الكفّار ، لا سيما الميّتون منهم فهي من الله والملائكة والناس أجمعين ؛ لأنّهم أعمّ وأشمل بالكفر من اُولئك الذين يشملهم الصنف الأوّل.
أمّا الذين في الصنف الأوّل فهم أخصّ وألعن ؛ ولذا لا تصيبهم إلاَّ اللعنة المجابة من الله واللاعنين.
وجاء في آيات سورة آل عمران المباركة ما هو قريب من ذلك من الآيات : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ * كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * اُولئك جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (25).
وبالتدبّر في الآيات نجد :
1 ـ الدين المقبول عند الله هو الإسلام ، ولا يقبل أي دين غيره أبداً.
2 ـ مَنْ يترك الإسلام رغبة منه إلى غيره فإنّه يخسر الدنيا والآخرة.
3 ـ الله سبحانه لا يهدي المستكبرين الذين يعلمون علم اليقين أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله صادق وأمين ، وأنّ القرآن هو من عند الله الحقّ ، إلاّ أنّهم ينكرون ويصرّون على ذلك.
4 ـ وهؤلاء يستحقّون اللعنة. ومِمَّن هي؟
ـ من الله تعالى.
ـ والملائكة الكرام.
ـ والناس أجمعين.
فالملاحظ في الآيات الآنفة الذكر أنّ اللعن هو مقام عظيم ، وأحياناً يكون واجباً على أهل الإيمان والتقى ؛ لأنّ أهل العربية يستنبطون ذلك من العطف الوارد في الآيات المباركة.
(يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُون) ، وعليهم (لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) في الموردين ، وهذا العطف بالواو على الذّات المقدّسة تعني قدسيّة المعطوف لقداسة المعطوف عليه ، وهذا يجب أن لا يخفى عليك أخي العزيز.
وهنا يجب أن نتذكّر مسألة التولّي لأولياء الله والتبرِّي من أعدائهم.
والولاية تعني : الالتزام بعد الإيمان بنهج أولياء الله. وأمّا البراءة فتعني : التبرّي اللساني والقلبي والفعلي من أعداء الله ورسوله والأئمّة الأطهار (صلوات الله وسلامه عليهم).
ولهذا نقرأ في آية الكرسي : (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (26).
فالكفر بالطاغوت يجب أن يسبق الإيمان كما في الآية المباركة ؛ لأنّ الإنسان إذا لم يكفر بالطاغوت وينزعه من قلبه تماماً فإنّه لن يخلص في إيمانه بالله تعالى ، وهذا واضح من التشهّد بـ (لا إله إلاّ الله) فالنفي يسبق الإثبات للوحدانية.
ولكن ، أسألك عزيزي القارئ ما هي نتيجة هذا البحث؟ هل وجدت أنّ يزيد وأشباهه وأنصاره يستحقّون اللعنة أم لا؟
وإذا كان الشخص تنطبق عليه صفة من الصفات التي تستحق اللعن ، فهل سوف تلعنه أم لا؟
ومَنْ يلعنه الله ورسوله والملائكة ، واللاعنون والناس فهل ستوافق على لعنه؟
هذا والأحاديث المرويّة عن رسول الله في السنّة النبويّة الشريفة تؤكّد أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله لعن الكثير من اللعناء ؛ اعتباراً من المستهزئين والمشركين والمنافقين ، لا سيما بني أُميّة (الشجرة الملعونة في القرآن) ، والشجرة المروانيّة التي قال عنها : «الوزغ ابن الوزغ ، الملعون ابن الملعون ، عليه اللعنة وعلى مَنْ يخرج من صلبه إلى يوم الدين» (27). وعائشة كانت تسميه (فضضٌ من لعنة نبي الله) (28).
الصحابة يلعنون بعضهم بعضاً
وكثير من الصحابة لعن بعضهم بعضاً ، وصحاح المسلمين مليئة بمثل هذه الأحاديث والأحداث ، وإليك واحدة نأخذها من البخاري وشيخه :
قال الحميدي (شيخ البخاري وأستاذه) : حدّثنا سفيان ، حدّثنا عمرو بن دينار قال : أخبرني طاووس سمع ابن عباس يقول : بلغ عمر بن الخطاب أنّ سمرة بن جندب باع خمراً.
فقال : قاتل الله سمرة ، ألم يعلم أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : «لعن الله اليهود ، حرّمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها» (29) أي : أذابوها.
ولا يهولنك إذا قرأت في صحيح البخاري كلمة (فلاناً) مكان اسم سمرة بن جندب ؛ لأنّه كان يريد أن يُغطّي على عورة هذا الصحابي المفضوحة على الملأ كعورة عمرو بن العاص في صفين.
وهذا ديدن البخاري وعادته في محاولة التغطية والتمويه ؛ لأنّه يعتقد بعدالة الصحابة جميعاً دون استثناء ، وأنّهم كالنجوم ولا يتطرّق إلى أحدهم الشك ، (ومَن طعن بأحد منهم فهو أضلّ من حمار أهله) كما يقول شيخ السلفية ابن تيمية!
ولكن ، أسأله وأمثاله ، ما رأيه بهذا الصحابي (سمرة بن جندب) ، وهذا الطعن واللعن له من الصحابي الثاني عمر بن الخطاب؟!
صحابي يبيع الخمر في عهد عمر ، وعمر يلعنه ، فهل كان أهلاً للعنة؟ أم أنّ عمر كان كما وصف ابن تيمية؟!
وهذا الصحابي الذي يبيع الخمر هو من أهل النار بنصّ حديث رسول الله صلىاللهعليهوآله ، كما في (سير أعلام النبلاء) للذهبي. والمشهور أنّه وقع في قدر مملوء بالماء الحار جدّاً فمات بالنار في الدنيا ، وله نار الآخرة كما أخبر الصادق الأمين صلىاللهعليهوآله ؛ وذلك لكثرة الدماء التي سفكها في عهد بني أُميّة ، فكان زياد يستخلفه ستة أشهر على البصرة وعلى الكوفة مثلها. قال الذهبي : وقتل سَمُرَةُ بشراً كثيراً ، وما في الأرض بقعةٌ نشفَتْ من الدم ما نَشفَتْ هذه ـ يعنون دار الأمارة ـ قتل بها سبعون ألفاً.
قيل : مَنْ فعل ذلك؟ قال : زيادٌ وابنه (عبيد الله) وسَمُرة (بن جندب) (30).
ولا تظنّ أنّ هذا الصحابي الذي يدافع عنه الناس كان يبيع الخمرة ولا يشربها ، لا بل كانت لا تفارقه أبداً.
ويحدّث ابن أبي الحديد قائلاً : جاء رجل من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله فأتياه فإذا هو سمرة بن جندب ، وإذا عند إحدى رجليه خمر وعند الأُخرى ثلج.
فقلنا : ما هذا؟! قالوا : به النقرس.
وإذا القوم قد أتوه ، فقالوا : يا سمرة ما تقول لربّك غداً؟ تؤتى بالرجل فيقال لك : هو من الخوارج فتأمر بقتله ، ثمّ تؤتى بآخر فيقال لك : ليس الذي قتلته بخارجي ذاك فتى وجدناه ماضياً في حاجته فشبّه علينا ، وإنّما الخارجي هذا فتأمر بقتل الثاني؟
فقال سمرة : وأيّ بأس في ذلك؟! إن كان من أهل الجنّة مضى إلى الجنّة ، وإن كان من أهل النار مضى إلى النار (31)!
هذا الصحابي الذي رفض نخل الجنّة بضمانة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، هو الذي قال بحقّه محمد بن سليم : سألت أنس بن سيرين ، هل كان سمرة قتل أحداً؟
قال : وهل يُحصى مَنْ قتل سمرة بن جندب؟! استخلفه زياد على البصرة وأتى إلى الكوفة ، فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس ، فقال له : هل تخاف أن تكون قد قتلت أحداً بريئاً؟
قال : لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت (32)!
ويشهد أبو سوار العدوي قائلاً : قتل سمرة من قومي في غداة سبعة وأربعين رجلاً قد جمع القرآن (33) (أي حفظه)!
أهكذا تكون الصحبة؟!
أو هكذا يكون الصحابة؟! وهكذا تكون العدالة؟!
المصادر :
1- سورة النساء : الآية 116 ـ 117.
2- سورة ص : الآية 77 ـ 78.
3- سورة الأحزاب : الآية 64.
4- سورة البقرة : الآية 89.
5- سورة البقرة : الآية 161.
6- سورة الأعراف : الآية 44.
7- سورة هود : الآية 18.
8- سورة غافر : الآية 52.
9- سورة آل عمران : الآية 61.
10- سورة النور : الآية 7.
11- سورة الرعد : الآية 25.
12- سورة النور : الآية 23.
13- سورة الأحزاب : الآية 57.
14- سورة الفتح : الآية 6.
15- سورة النساء : الآية 51 ـ 52.
16- سورة المائدة : الآية 64.
17- سورة النساء : الآية 47.
18- سورة المائدة : الآية 60.
19- سورة المائدة : الآية 13.
20- سورة البقرة : الآية 88.
21- سورة المائدة : الآية 78.
22- سورة الإسراء : الآية 60.
23- بحار الأنوار 30 : الآية 295 ، الاحتجاج 1 ص 274 ، شرح نهج البلاغة 6 ص 288.
24- سورة البقرة : الآية 159 ـ 161.
25- سورة آل عمران : الآية 85 ـ 87.
26- سورة البقرة : الآية 256.
27- مقتل الحسين عليهالسلام ـ للخوارزمي 1 ص 184.
28- الكامل في التاريخ 4 ص 507.
29- صحيح البخاري 1 ص 9 ح 13 من أحاديث عمر.
30- انظر سير أعلام النبلاء 3 ص 185 ترجمة 35.
31- سير أعلام النبلاء 3 ص 77 ، شرح نهج البلاغة مجلد 3 ج5 ص 121.
32- المصدر السابق.
33- المصدر السابق.
source : راسخون