وقوف فاطمة ( عليها السلام ) إلى جنب أبيها ( صلى الله عليه وآله )
منذ أن دخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المدينة المنوّرة كان دائباً على هدم أركان الجاهلية واستئصال جذورها وضرب مواقعها ، فكانت حياته في المدينة المنوّرة كما كانت في مكّة حياة جهاد وبناء ، جهاد المشركين والمنافقين واليهود والصليبيين ، وبناء الدولة الإسلامية العظيمة ، ونشر الدعوة وتبليغها في كلّ بقعة يمكن لصوت التوحيد أن يصل إليها ، فراح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يحارب بالكلمة والعقيدة تارةً ، وبالسيف والقوّة تارةً أُخرى ، وبالأُسلوب الذي يمليه الموقف وتفرضه الحكمة .
وهكذا جاهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقاتل في مرحلة حرجة صعبة ، لم يكن يملك فيها من المال والجيوش والاستعدادات العسكرية ما يعادل أو يقارب جيوش الأحزاب وقوى البغي والضلال التي تصدّت لدعوة الحق والهدى ، بل كانت كلّ قواه قائمة في إيمانه وانتصاره بربّه وبالفئة المخلصة من أصحابه .
والذي يقرأ تاريخ الدعوة وجهاد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وصبره واحتماله ، يعرف عظمة هذا الإنسان المبدئي ، ويدرك قوّة عزيمته ومدى صبره ورعاية الله ونصره له ولأُولئك المجاهدين الذين حملوا راية الجهاد بين يديه ، فيكتشف مصدر النصر والقوّة الواقعيين .
ولقد مرّت هذه الفترة الجهادية الصعبة بكامل ظروفها وأبعادها بفاطمة ( عليها السلام ) ، وهي تعيش في كنف زوجها وأبيها ، تعيش بروحها ومشاعرها ، وبجهادها في بيتها ، وفي مواساتها ومشاركتها لأبيها ، في شدّته ومحنته ، فقد شهدت جهاد أبيها وصبره واحتماله ، شاهدته وهو يُجرح في ( أُحد ) وتُكسر رباعيته ، ويخذله المنافقون ، ويستشهد عمّ أبيها حمزة أسد الله ونخبة من المؤمنين معه .
روي أنّه لمّا انتهت فاطمة ( عليها السلام ) وصفية إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ـ بعد معركة أُحد ـ ونظرتا إليه قال ( صلى الله عليه وآله ) لعلي ( عليه السلام ) : ( أمّا عمّتي فاحبسها عنّي ، وأمّا فاطمة فدعها ) ، فلمّا دنت فاطمة ( عليها السلام ) من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ورأته قد شُجّ وجهه وأُدمي فوه ، صاحت وجعلت تمسح الدم وتقول : ( اشتدّ غضب الله على مَنْ أدمى وجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله )) ، وكان ( صلى الله عليه وآله ) يتناول في يده ما يسيل من الدم فيرميه في الهواء فلا يتراجع منه شيء .
وكانت فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) تحاول تضميد جرح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقطع الدم الذي كان ينزف من جسده الشريف ، فكان زوجها يصبّ الماء على جرح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهي تغسله ، ولما يئست من انقطاع الدم أخذت قطعة حصير وأحرقتها حتّى صار رماداً فذرّته على الجرح حتّى انقطع دمه .
ويحدّثنا التأريخ عن مشاركة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) بروحها ومشاعرها لأبيها في كفاحه وصبره وجهاده في أكثر من موقع .
فقد روي أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قدم من غزاة له ، فدخل المسجد فصلّى فيه ركعتين ، ثمّ بدأ ـ كعادته ـ ببيت فاطمة قبل بيوت نسائه ، جاءها ليزورها ويسر بلقائها ، فرأت على وجهه آثار التعب والإجهاد ، فتألّمت لمّا رأت وبكت ، فسألها ( صلى الله عليه وآله ) : ( ما يبكيك يا فاطمة ) ؟
فقالت ( عليها السلام ) : ( أراك قد شحب لونك ) ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) لها : ( يا فاطمة إنّ الله عز وجل بعث أباكِ بأمر لم يبق على ظهر الأرض بيت مدر ولا شعر إلاّ دخله به عزّاً أو ذلاً يبلغ حيث يبلغ الليل ) .
وليست هذه العاطفة وتلك العناية والمشاركة مع الأب القائد والرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) من ابنته فاطمة ( عليها السلام ) هي كلّ ما تقدّمه لأبيها من إيثارها له واهتمامها به ، ومشاركتها له في شدّته وعسرته ، إنّها جاءت يوم الخندق ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منهمك مع أصحابه في حفر الخندق لتحصين المدينة وحماية الإسلام ، جاءت وهي تحمل كسرة خبز فرفعتها إليه ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ( ما هذه يا فاطمة ) ؟
قالت ( عليها السلام ) : ( من قرص اختبزته لابنيّ ، جئتك منه بهذه الكسرة ) ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ( يا بنية أما إنّها لأوّل طعام دخل في فم أبيك منذ ثلاث ) .
هذه صورة مشرقة لجهاد المرأة المسلمة تصنعها فاطمة في ظلال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فهي تشارك بكلّ ما لديها لتشد أزر الإسلام وتكافح جنباً إلى جنب مع أبيها وزوجها وأبنائها في ساحة واحدة وخندق واحد ، لتدوّنَ في صحائف التأريخ درساً عملياً تتلقاه الأجيال من هذه الأُمّة المسلمة ، فتتعلّم حياة الإيمان التي تصنعها عقيدة التوحيد بعيدة عن اللهو والعبث والضياع .