عربي
Wednesday 24th of July 2024
0
نفر 0

الحرب المفروضة: ثمانية سنوات من الدفاع المقدس



ان الفشل الذريع الذي مني به المشروع الاميركي الذي استهدف نظام الجمهورية الإسلامية من خلال الحصار الاقتصادي والسياسي، وكذلك فشلها في عملياتها العسكرية لاطلاق سراح الجواسيس الأميركان ـ بالهبوط في صحراء طبس بعد احتلال وكر التجسس الأميركي ـ واحباط مساعيها في فصل كردستان عن الوطن الأم، كل ذلك دفع الحكومة الأميركية عام 1980 الى تجربة الهجوم العسكرية المباشر. بيد أنّ الموازنات الدولية بين الشرق والغرب الحاكمة آنذاك حالت دون قيام أميركا بالهجوم المباشر بقواتها. فالرأي العام العالمي قد تأثر نسبياً بافكار الإمام الخميني ونشاطاته السياسية التي اطلع على جزء منها في فرنسا وعبر الحوادث التي تلت انتصار الثورة الإسلامية، مما ساهم في كشف النقاب عن مظلومية إيران وحقانية مطالب الشعب الايراني، ثم دفع الرأي العام العالمي للتعاطف معه. كذلك لم تكن ظروف الانظمة المتزلزلة في الخليج الفارسي تسمح باستيعاب ردود الفعل الناجمة عن الهجوم الأميركي المباشر.

لكل ذلك تمّ اختيار العراق للقيام بدور اشعال هذه الحرب، وهو اختيار محسوب من كافة النواحي. فالعراق بلد يسير في ركاب الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية. ودخوله في حرب مع إيران سيؤدي إلى وقوف الاتحاد السوفيتي والشيوعيين إلى جانب صدام، وبالنتيجة إلى جانب أميركا وأوربا مما سيمنع ظهور ايّة ردود فعل سلبية. كذلك فإن العراق يعدّ ثاني بلد في المنطقة من حيث الإمكانات التسليحية، وهو بلد نفطي يمكنه الصمود في حرب طويلة الأمد اعتماداً على ثرواته وعلى مساعدات دول الرجعية العربية في المنطقة دون الاحتياج إلى دعم أميركا أو أوربا مالياً أو عسكرياً، رغم ان التوقعات الاولية لكل من أميركا وصدام كانت تأمل بحرب قصيرة الأمد، تقود إلى القضاء على الثروة الإسلامية الايرانية بسرعة خاطفة.

من جانب آخر، ساعدت النزعة التسلطية لصدام والنزاعات الحدودية السابقة بين العراق وإيران، إلى حد كبير في دفع صدام إلى الاعتداء واحتلال قسم من الاراضي الايرانية.

ومع ان العالم امتنع عن قبول الادلة والوثائق التي قدمتها إيران خلال الحرب لاثبات مدعاها في ضلوع أميركا واوربا والاتحاد السوفيتي في اشعال شرارة الحرب، فإن الاسرار التي انكشفت بعد حرب النفط بين أميركا وصدام (حرب احتلال الكويت) والوثائق التي نشرت فيما بعد، اكدت هذه الحقيقة بما لا يدع مجالاً للشك.

على أيّة حال، بدأ الهجوم العسكري العراقي (في 22 أيلول 1980م) على طول الحدود المشتركة البالغة 1280 كم، ومن اقصى نقطة في الشمال الايراني إلى ادنى نقطة ـ ميناء خرمشهر ـ في جنوبها. وتزامن الهجوم البري مع هجوم جوي طال مطار طهران ـ الساعة الثانية بعد ظهر ذلك اليوم ـ ومطارات المدن الايرانية المهمة الاخرى.

وتمكنت الماكنة العسكرية الصدامية ـ التي تمّ اعدادها بمساعدة فرنسا وشركات الاسلحة الأميركية والانجليزية والمعدات العسكرية الروسية للقيام بهذا الهجوم ـ من النفوذ بسرعة لعدة كيلومترات داخل المحافظات الحدودية الخمس. وتعرضت المقاومة الشعبية المحدودة إلى ضربة قوية من قبل الجيش العراقي نتيجة عنصر المباغتة الذي كان لصالح القوات الغازية، ونظراً لغاب التسليح والخبرة الكافيتين. وبسرعة مدهشة تم تخريب المدن والقرى المحتلة، وتحولت إلى انقاض، وشرد مئات الآلاف من بيوتهم وقراهم ومدنهم.

اما الجيش الايراني، ونتيجة لحوادث الثورة فقد كان مصاباً بالارباك والتفكك، وكان يمضي مراحله الاولى في اعادة البناء والتنظيم. فقد غادر الآلاف من الخبراء العسكريين الاجانب ـ والأميركان بالتحديد ـ إيران بعد انتصار الثورة، كما ان العديد من التجهيزات العسكرية المتطورة والطائرات الحديثة والصواريخ ـ التي كان الشعب الايراني قد دفع اثمانها من كدّه ـ تمّ نقلها في الايام الاخيرة من حكومة النظام الملكي البائد ـ بمساعي الجنرال هايزر التي استمرت على مدى شهرين ـ إلى أميركا.

كذلك فإن الحرس الثوري ـ الحديث العهد والذي تمّ تشكيله بناءً على بيان اصدره سماحة الإمام ـ لم يكن يمتلك التجهيزات والخبرة الكافية في الأيام الأولى من الحرب، مضافاً إلى انّ صدام حسين كان يعلم بكل هذه التفاصيل بناءً على المعلومات التي زودته بها أميركا وفرنسا وعملاء الطابور الخامس، لذا كان قد اعدّ حتى خرائط "العراق الكبير" مضيفاً فيها إلى اراضي العراق الحالية مناطق شاسعة من محافظة خوزستان ومن المحافظات الغربية الايرانية. لقد كان واثقاً ان النظام الإسلامي عاجز عن مواجهة هذا الجيش الجرار وسيهزم سريعاً، كما ان الاستكبار العالمي كان يدعمه ويقف وراءه.

لقد قوبل خبر اندلاع الحرب العراقية الايرانية ـ رغم اهميته ـ الصمت المطبق من قبل كافة المنظمات الدولية والقوى الكبرى. ان هذا السكوت المغرض والعداء المتأصل في نفوس الدول الكبرى للجمهورية الإسلامية الايرانية، والظروف التي كانت تمر بها البلاد، والقدرة العسكرية البعثية؛ كانت كلها عوامل عقّدت عملية اتخاذ القرار. ووقفت إيران أمام مفترق طريقين، اما الاصرار على المقاومة في حرب غير متكافئة يلفها ـ حسب الظاهر ـ الغموض والإبهام، أو القبول بشروط أميركا واللجوء إليها للضغط على صدام واجباره على الانسحاب، وكان الخيار الثاني يعني التخلي عن الثورة وعن الإسلام.

غير انّ هذه الظروف رغم كل تعقيدها، لم تستطع أن تترك تأثيرها على الإمام الخميني في تشخيص مسؤوليته واتخاذ قراراته المصيرته. لقد كانت الإمام يؤمن بقوله تعالى: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} إيماناً شهودياً، كما أنه كان قد طوى ـ وقبل ان يتسنم مقام قيادة الامة بسنوات ـ مراتب "القناء في الله"، ودرّس "الاسفار الاربعة" ـ التي تمثل هجر الانسان الكامل ـ لعدة سنوات، ناهيك عن انه قد طوى تلك الاسفار بمنتهى الكمال عملياً. هذا فضلاً عن ان سماحته قد ضمن رسالته العملية احكام الجهاد والدفاع كونها احكام الهيّة لا يمكن تخطيها. وان بمقدور أي شخص لو كان محيطاً بابعاد شخصية الإمام الخميني وسيره التكاملي، ان يحدس نوع المسار الذي اتخذه الإمام عند المفترق الذي ذكرناه.

ان أول ردّ فعل صدر الإمام، واول بيان اصدره واول حديث ألقاه بعد الحرب واعتداء الجيش العراقي، يثير الدهشة ويستحق التأمل من حيث التعرف على شخصية الإمام ومنهجه في القيادة؛ وهو امر لا يتسع المجال هنا للخوض في تفاصيله. لقد اصدر الإمام امره على الفور بالمقاومة، واشار في أول تحليل له عن الهجوم الى تحميل أميركا المسؤولية الكاملة عن اشعال شرارة هذه الحرب، وطمأن الجماهير بصراحة إلى انهم منتصرون لا محالة وان العدو مهزوم قطعاً إذا كان نهوضهم لرد العدوان من اجل الله وعدّه تكليفاً شرعياً، رغم ان كل الظروف كانت تبدو خلاف ذلك.

وفي اليوم التالي من عدوان النظام العراقي على الاراضي الايرانية، وجّه الإمام الخميني بياناً إلى الشعب الايراني المسلم اوضح فيه الخطوط العامة لكيفية ادارة الحرب وشؤون البلاد، ولخص ذلك في سبعة بنود قصيرة غاية في الايجاز والدقة. ثم اصدر بعد ذلك عدّة بيانات وجهها إلى الجيش البعثي والشعب العراقي لاتمام الحجة عليهما. ثم شرع بادارة وتوجيه الحرب لمدة ثمانية اعوام باسلوب قلّ نظيره.

في الايام الأولى من الحرب، توجه عشرات الآلاف من ابناء الشعب إلى جبهات الحرب متطوعين ـ استجابة لبيان الإمام ـ لمساعدة القوات المسلحة. وتمّ في المرحلة الاولى ايقاف تقدم العدو وبفضل مقاومة المقاتلين المسلمين وتضحياتهم. كان القتال غير متكافئ إلى حد كبير. بيد أن الإمام الخميني اتكل كعادته على الله والمؤمنين به، فراح ـ وعبر البيانات والخطابات المتوالية ـ يهيئ الامة لحرب طويلة وعصيبة، إذ ان سماحته كان يعتقد ـ مستنداً في ذلك إلى الآيات القرآنية الواضحة ـ بوجوب الدفاع حتى ازالة العدوان ومعاقبة المعتدي.

بعد عدّة أيام من بداية الحرب خاطب الإمام الخميني سفراء الدول الإسلامية المقيمين في طهران بالقول: "إننا ندافع عن الإسلام، والمدافعون عن الإسلام يضحون بارواحهم واموالهم واعزائهم من اجله ولن يتراجعوا عن ذلك أبداً".

في هذا اللقاء ـ وفي مناسبات اخرى ومن خلال رسائل خطية وبيانات رسمية ـ طالب الإمام الخميني قادة الدول الإسلامية ان يعملوا ـ ان كانوا يرون في صدام الملحد رجلاً مسلماً ـ بحكم الآية القرآنية التي تنص: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}.

 

لماذا استمرت الحرب؟

كان صدام قد وعد قواته بانتصار خاطف لا يستغرق سوى ثلاثة ايام. لذا لم ير الجيش العراق ضرورة للاستعداد لحرب طويلة مدمرة. لكن القوات العراقية فوجئت ـ وقبل ان تتمكن من تحقيق اهدافها المرسومة ـ بصلابة مقاومة الشعب الايراني وقوة صموده. وانتهت مساعي القوات العراقية لاختراق الخطوط الدفاعية بالفشل في كل مرة بعد تحملها لخسائر فادحة. ورويداً رويداً اتضح لامريكا خطأ حساباتها ومرارة هزيمتها. فبدأت مرحلة جديدة من الضغط السياسي ضد إيران عن طريق المنظمات الدولية والبلدان العربية. فهؤلاء وبدلاً من إدانة المعتدي، بادروا إلى الضغط على إيران الإسلامية لقبول وقف اطلاق النار. والحال ان القبول بوقف اطلاق النار في تلك الظروف كان يعني مكافأة صدام المعتدي على عدوانه وتحقيق هدفه وهدف اعداء الثورة الذين عجزوا عن تحقيقه خلال جبهات الحرب.

إن إيران لم تشن الحرب لكي تبادر إلى ايقافها، وقد وقفت بوجه المعتدي في احلك الظروف لمنع المزيد من تقدمه. كما ان العدو احتل عشرات المدن ومئات القرى ومساحات شاسعة من المناطق النفطية في غرب البلاد وجنوبها، كما ان الحرب ليست دائرة على طرفي الحدود بين البلدين حتى يصار إلى مطالبة من وقع عليه الهجوم بالقبول بوقف اطلاق النار. وعلى فرض ان صدام لا يريد من وقف اطلاق النار التقاط انفاسه واستعادة قواه لمعاودة المحاولة لتحقيق اهدافه، فإن قبول وقف اطلاق النار من قبل إيران كان يعني ان القوات العراقية المعتدية ستبقى في عمق الاراضي الايرانية، مما ستضطر الجمهورية الإسلامية إلى تقديم تنازلات كبيرة ولسنوات عديدة حتى تتمكن من استرداد كل متر مربع من اراضيها المحتلة، وستجبر على استجداء المنظمات الدولية والسماسرة السياسيين وأخيراً العامل الاصلي لاشعال الحرب (أميركا) لمساعدتها في استرداد اراضيها.

وهذا منطق لا يرضاه أيّ حرّ غيور، ناهيك عن الإمام وجماهيره الذين خرجوا منتصرين للتوّ من معركة الثورة ضد اشدّ الملوك استبداداً في المنطقة.

هذا فضلاً عن ان صدام لم يقدم ايّة ضمانات في كل تلك المقترحات المطروحة بشأن سرعة انسحابه من الاراضي الايرانية، بل انه ادعى رسمياً بأنّ المناطق المحتلة ـ وحتى التي لم تقع تحت الاحتلال بعد ـ يجب ان تلحق بالاراضي العراقية! وهذا الادعاء مشابه لما ادعاه عند احتلاله الكويت حينما اطلق عليها اسم المحافظة العراقية التاسعة عشرة!!

والحقيقة أن أيّاً من الدول التي بادرت ـ بعد اتضاح حقيقة عجز صدام عن اسقاط نظام الجمهورية الإسلامية ـ إلى الحديث عن وقف اطلاق النار والضغط على إيران لقبول الصلح، لم يكونوا يرغبون في السلام حقيقة، وهم يعلمون مسبقاً بأنّ أيّ شعب واي بلدٍ لا يمكنه في ظروفه كهذه، القبول بالاستسلام. والسلام كان بالنسبة لهم عصا يسلطونها على إيران لعزلها وإزوائها. والاهم من كل ذلك أن الدول الرجعية العربية كانت تهدف من ادعاء السعي للسلام وايقاف اطلاق النار، التخفيف من حدّة الضغط الذي كانت تتعرض له من شعوبها الإسلامية لممارستها الدعم والدفاع بكل اماكاناتها عن معتدٍ معروف كصدام، والوقوف بوجه بلدٍ سخر كل وجوده وامكاناته للدفاع عن الإسلام.

إن أميركا والدول الاوروبية والعربية لم تكن صادقة في دعوتها للسلام. وان اسطع دليل على ذلك الذي يغنينا عن عرض اية وثيقة أو مستند، هو انّ صدام وبعد أول سلسلة من العمليات العسكرية الناجحة التي قامت بها إيران في العام الثاني من الحرب، لم يتمكن من الصمود حتى لفترة شهر واحد دون الاعتماد على المساعدات المالية الهائلة التي قدمها له الشيوخ العرب، ودون الاستفادة من التجهيزات العسكرية المتطورة التي قدمتها له الدول الغربية. فلو كانوا صادقين في ادعاءاتهم لكفاهم قطع الامدادات عن صدام بدلاً عن المشاركة في المقاطعة التسليحية والاقتصادية والنفطية ضد الجمهورية الإسلامية الايرانية.

ان جرم إيران انها قاومت العدو الذي غزا ارضها وعرّض آلاف الابرياء للمذابح البشعة خلال الايام الاولى من عدوانه، وشرد مئات الآلاف عن ديارهم. ورغم أنّ الدول العربية التي وقفت مع صدام، قدمت اعتذاراتها الرسمية إلى إيران بعد احتلال صدام للكويت ـ واقرت باخطائها، إلا ان ذلك لا يقلل من جسامة مسؤوليتها وجريمتها مع الدول الغربية وصدام في استمرار الحرب وإطالة أمدها.

وفي ضوء الاستدلالات التي تقدمت، كان الإمام الخميني يواجه الهيئات والوفود التي كانت تفد إلى إيران للتوسط من اجل وقف اطلاق النار، ويعلن صراحة بأنه وشعبه سيواصلان الدفاع حتى اخراج المعتدي واجباره على دفع خسائر هذه الحرب. غير ان الصخب الاعلامي الغربي كان شديداً بدرجة حالت دون وصول صوت مظلومية الشعب الايراني إلى اسماع العالم.

لقد قلبت الحقائق شيئاً فشيئاً، واظهرت إيران على انها عدوانية الطبع، وان صدام راغب في السلام. بيد أن هذه الضغوط وهذا التزوير عجز عن التأثير في موقف الإمام والشعب الايراني الصلب والثابت. وبعد عزل بني صدر ورسوخ نهج الإمام في اركان الجهاز التنفيذي، اخذت سلسلة عملية تحرير الاراضي المحتلة وتيرة اسرع بجهود الحرس الثوري.

قبل ذلك كان أمر الإمام الخميني باعلان التعبئة العامة وتشكيل جيش العشرين مليون قد لقي ترحيباً من الشبان الثوريين، وعمت انحاء ايران حركة دؤوبة تميزت باقامت الدورات التدريبية وإيفاد الافراد إلى جبهات القتال، وقادت الانتصارات المتوالية لمقالتي الحرس الثوري إلى ظهور آثار الاندحار والهزيمة في صفوف العدو البعثي بشكل جلي. وبالتدريج أخذ يظهر الوجه الحقيقي لأميركا وحلفائها، فانهالت الاسلحة المتطورة ـ التي كان يتم بيعها ضمن شروط صعبة ومفاوضات قد تستغرق عدة سنوات حتى في حالات السلم ويمثل تزويد البلدان بها نوعاً من الامتياز ـ بسرعة على صدام، بما في ذلك صواريخ (كروز) وطائرات (السوبراتندار) الفرنسية. كذلك توافدت شحنات صواريخ (سكود) المتوسطة المدى وطائرات (الميغ 29) وسائر التجهيزات العسكرية الحربية. حتى ان تقنية زيادة مدى الصواريخ وموادها الاولية وتقنية صناعة المواد الكيميائية اهديت هي الاخرى من قبل الشركات الأميركية والاوروبية الى صدام لكي يتمكن من التفوق على الجمهورية الإسلامية.

وفي هذه الأثناء اجبرت اميركا العربية السعودية والكويت والامارات العربية المتحدة ودول الخليج الفارسي الاخرى على تأمين ميزانية الحرب الصدامية، وقد اعترفت هذه البلدان بذلك صراحة اثناء الغزو العراقي للكويت. والعراق اليوم مدين باكثر من 80 مليار دولار لتلك الدول عن المساعدات التي قدمتها له طوال سنوات الحرب الثماني. اما مصر ففضلاً عن تقديمها الطيارين والطائرات، فقد ارسلت عدة آلاف من الجنود المصريين للمشاركة في الحرب، وكان للاردن دور داعم مشابه.

القصف المكثف للمدن والقرى والمراكز الاقتصادية، واطلاق الصواريخ المخربة على الايحياء السكنية، كانت حلقة اخرى في سلسلة جرائم صدام التي اغمض المجتمع الدولي والدول المتشدقة بالدفاع عن حقوق الإنسان عيونها عنها، وهيأت بدلاً من الشجب والاستنكار، وسائل تنفيذ تلك الجرائم لصدام. وكان ضحية تلك الاعتداءات مئات القتلى من الاطفال والنساء العزل.

وقد قاد الإمام الخميني الدفاع المقدس للشعب الإيراني في ظروف كانت إيران تعاني رسمياً من الحصار التسليحي الذي فرضته أميركا واوروبا، وكانت مضطرة احياناً للعمل لعدة اشهر من اجل الحصول على قطعة غيار واحدة لاحدى طائراتها. ان الكثير من دول العالم اما انها اختارت السكوت في مقابل تلك الاعتداءات ومارست الضغط ضد إيران، أو أنّها وقفت رسمياً إلى جانب صدام ودافعت عنه. كما ان اكثر الدول المصنّعة للسلاح في العالم ـ سواء الشرقية والغربية ـ دعمت صدام ووقفت إلى جانبه.

وقفت إيران وحيدة فريدة تدافع عن نفسها، ولم يكن للشعب من دعامة يستند إليها غير الإيمان بالله والإمدادات الغيبية وتوجيهات هذا العالم الرباني. والمدهش ان هذه الجبهة المظلومة الوحيدة تمكنت في النهاية من تحقيق النصر وملاحقة العدو خطوة بخطوة حتى عقر داره.

ثماني سنوات من حياة الإمام الخميني مضت في قيادة هذا الدفاع المقدس، ومما يذكر أنه في العام الثالث للحرب، وبعد نجاح عمليات بيت المقدس الكبرى ـ حزيران عام 1982 ـ التي انتهت بتحرير ميناء خرمشهر الاستراتيجي من ايدي القوات العراقية، ابدى الإمام رغبته في ضرورة انهاء الحرب وحصر نشاط القوات الايرانية في الدفاع، إلا ان مسؤولي النظام الإسلامي الملتزمين، بما في ذلك القادة العسكريون والمسؤولون السياسيون في البلاد، اعربوا للإمام ـ بعد دراسة الظروف السياسية والعسكرية التي تمر بها البلاد واوضاع الجبهات ـ عن اعتقادهم بضرورة مواصلة القتال حتى تحقيق الظروف المناسبة لاقامة سلام دائم. وقد دافعوا عن رأيهم هذا بأن قسماً من الاراضي الايرانية ما زال تحت سيطرة القوات العراقية المعتدية، كذلك فإن صدام ورغم الهزيمة الساحقة التي مني بها بعد تحرير خرمشهر، لم يكن مستعداً بعد لقبول الامر الواقع والتراجع عن اهدافه التوسعية، فهو لم يكن يفكر بالسلام وانما كان يفكر ـ نتيجةً لاعتماده على الدعم اللامتناهي الذي وفرته له الدول الكبرى ـ بجبران هزيمته، وذلك عبر إعادة تسليح قواته ومعاودة الهجوم العسكري على إيران. لذا فإن السلام في ظروف كهذه لا يمكن الاطمئنان إليه، وان صدام لا يزال مصراً على ادعاءاته السابقة. ومن هنا فإن ايقاف الحرب من جانب ايران، سيجعل المدن المحررة والمناطق الحدودية، عرضة للهجمات العراقية المحتملة في المستقبل فتكون غير قادرة على الدفاع عن نفسها.

استناداً إلى الادلة المقدمة، ونظراً لما كانت تمارسه المنظمات الدولية من الكيل بمكيالين، وعدم قبولها بالشروط الايرانية المنصفة لانهاء الحرب، ومواصلة القوى الكبرى دعم الماكنة العسكرية العراقية وتقويتها؛ كل ذلك كان سبباً في دفع القائد والشعب الايراني إلى القبول بمواصلة الدفاع المقدس.

لم تؤد المساعدات المختلفة التي كانت تقدم لصدام من تغيير ظروف الحرب التي كانت تتبدل بسرعة لصالح جيش الإسلام. وتزامناً مع تصعيد القصف الصاروخي للمناطق السكنية، اضطرت اميركا للتدخل في الحرب بصورة مباشرة، فتوجهت حاملات الطائرات والسفن الحربية الفرنسية والبريطانية والاميركية والروسية صوب مياه الخليج الفارسي. ولم يبق أمام أميركا من خيار سوى تدويل الحرب وتوريط دول اخرى فيها، فبدأت حرب ناقلات النفط. وقد تركزت مهمة القوات الوافدة إلى المنطقة على منع تصدير النفط الايراني وايقاف وتفتيش السفن التجارية للحيلولة دون وصول المواد والبضائع الاساسية الى الجمهورية الإسلامية. وفي هذا الاطار تعرضت العديد من السفن النفطية الايرانية إلى هجمات صاروخية وجوية، كما اضرمت النار في الآبار النفطية الايرانية في مياه الخليج الفارسي، وبلغ الأمر بأميركا ان اقدمت على ارتكاب جريمة مروّعة، وذلك باطلاقها صاروخين من حاملة الطائرات (وينسنس) نحو طائرة (ايرباس) مدنية تابعة لخطوط الجمهورية الإسلامية (الرحلة رقم 655) في شهر تموز 1988 فاسقطتها، مما ادى إلى استشهاد جميع ركابها، وراح ضحية الحادث 290 شخصاً من الاطفال والنساء والرجال. وقد لاذ العالم ـ الظالم والبعيد عن الحق ـ بالصمت ازاء هذه الجريمة البشعة لمجرد أنها وقعت بحق اناس كانوا ينادون بالإسلام، وهو في نظر الغرب جريمة لا تغتفر! وهي جريمة البوسنيين المظلومين اليوم نفسها، فهم يتعرضون للابادة بسبب ذنبهم هذا.

اما صدام فقد ختم صحيفة جرائم الوحشية في الحرب المفروضة بجريمة قلّ نظيرها في التاريخ، إذ قام بقصف مدينة (حلبجة) العراقية بالاسلحة الكيمياوية، الامر الذي ادى إلى مقتل أكثر من خمسة آلاف مواطن اعزل كان اكثرهم من الاطفال والشيوخ. وأمام هذه الجريمة البشعة التزمت الامم المتحدة ومجلس الامن الصمت ولم تنبسا ببنت شفة.

إنّ تجحفل قوات الغرب في الخليج الفارسي، وما حصل خلال الاشهر الثمانية الاخيرة من الحرب، لم يكن الا لأن جيش الإسلام كان في موقع متفوق تماماً على جيش العدو الصدامي الذي فرّ من اغلب المناطق المحتلة إلى ما وراء الحدود.

إن خشية سقوط صدام المحتمل على ايدي أبطال الإسلام أو هزيمته على الاقل، هي التي دفعت القوى الكبرى إلى المبادرة لدعمه ومساعدته. وفي هذا المجال انصبت جهود أميركا وهيئة الامم المتحدة، وخلافاً لنهجهم السابق، على السعي لسد الطريق أمام تقدم المقاتلين الايرانيين والحيلولة دون سقوط صدام.

ان مصادقة مجلس الامن على القرار (598)، الذي تضمن بعض آراء ومطالب إيران لايقاف القتال، التي كانت قد اصرت عليها منذ بدء الحرب، لكنّ المنظمات الدولية لم تقبل بها في السابق أملاً بانتصار صدام. ان المصادقة على هذا القرار من جهة، والجرائم البشعة التي ارتكبها مشعلو الحرب في الاشهر الاخيرة من الحرب من جهة اخرى، دفعت الإمام إلى اصدار اوامره إلى لجنة من الخبراء العسكريين والسياسيين والاقتصاديين الايرانيين الملتزمين بدراسة المستجدات على ساحة المواجهة. وبعد دراسة مستفيضة قدمت اللجنة تقريرها الذي تضمن الاشارة إلى ان الوقت مناسب لايران لاثبات حقها في هذا الدفاع المقدس الذي دام ثمانية اعوام، وان عليها ان تقبل بايقاف الحرب على اساس القرار (598).

وفي 20/7/1988 اصدر الإمام بيانه المعروف باسم (بيان الموافقة على القرار)، الذي يعدّ من ابرز الادلة على كفاءة قيادته وادارته، ففي هذا البيان استعرض سماحته خلفيات الحرب المفروضة وابعادها بشكل جلي، ورسم الخطوط المستقبلية للنظام والثورة الإسلامية في مختلف المجالات، بما في ذلك المواجهة مع القوى الكبرى والاصرار على الاهداف والقيم التي جاءت بها الثورة. وان نعت الإمام الخميني قبوله بالقرار بمثابة "تجرع السم الزعاف" بحد ذاته يحمل بين طياته حقائق خفية ويتضمن دقائق كثيرة لا يسع المجال هنا لذكرها، لذا نكتفي بذكر مقطع من بيان الإمام الخميني هذا، الذي يقول فيه: "واما فيما يتعلق بقبول القرار الدولي، الذي يعد في الحقيقة موضوعاً شديد المرارة صعب الاستمراء للجميع، خصوصاً بالنسبة لي، هو اني ولفترة قريبة كنت أؤمن بنهج الدفاع والمواقف المعلنة سابقاً، وكنت أرى بأنّ مصلحة النظام والبلاد والثورة في تنفيذ تلك المواقف. غير ان الحوادث والعوامل التي لا ارغب الخوض في تفاصيلها الآن وآمل ان تتضح مستقبلاً؛ والآراء التي اتفق عليها الخبراء السياسيون والعسكريون من ذوي المقامات الرفيعة في البلاد ممن اثق بتدينهم واخلاصهم وصدقهم، دفعتني إلى القبول بالقرار الدولي، والموافقة على وقف اطلاق النار. واني اعتبر ذلك الآن في مصلحة الثورة والنظام، والله يعلم بأنه لو لم يكن الدافع بأن نضحي جميعاً بعزتنا وكرامتنا على طريق مصلحة الإسلام والمسلمين، فانني لم اكن لأقبل بهذا الأمر مطلقاً، ولكان الموت والشهادة احلى مذاقاً بالنسبة لي. ولكن ما العمل ونحن جميعاً مطالبون بالاذعان لما يرضي الله تعالى. ومن المؤكد ان الشعب الايراني الشجاع كان ـ وسيبقى ـ على نهجه هذا.

وتماماً كما حذر الإمام مراراً من أن ادعاءات صدام للسلام لا تعدو كونها محاولة لتضليل الرأي العام، فقد اثبت الواقع ذلك. فبعد قبول إيران بالقرار الدولي، بادر صدام حسين إلى الهجوم مجدداً وارتكاب حماقة جديدة باندفاعه في الجبهات الجنوبية لاحتلال الاراضي الايرانية. غير ان انتشار بيان الإمام الحماسي والعاطفي ادى مرة اخرى إلى ايجاد موجة من التطوع في صفوف قوات التعبئة وتجمع الطاقات الثورية المقاتلة من اقصى نقاط البلاد للتوجه إلى المناطق الجنوبية، وقد ادت سرعة تحركهم وتنظيم قواتهم إلى تكبيد العدو خسائر فادحة ومسارعته للفرار، ولم يبق أمام صدام من طريق سوى القبول بالهزيمة.

وبذا ـ وبمشيئة الله وكما وعد الإمام الخميني ـ فان الشعب الذي فرضت عليه الحرب، استطاع فرض السلام على عدوه ـ المغرور سابقاً والخائب حالياً ـ بفضل تضحياته وبطولاته وملاحمه التي لم نر مثيلاً لها إلا في الحروب التي خاضها المسلمون الاوائل في صدر الإسلام.

لقد شن صدام الحرب ـ بايعاز من أميركا ـ لتقسيم إيران والقضاء على الثورة الإسلامية، الا انه اليوم مضطر ـ ومن اجل حفظ حياته ونظامه المفروض على الشعب العراقي المظلوم ـ إلى القبول بشروط الشعب الايراني الثائر.

ومن عجائب فترة الدفاع المقدس الطويلة التي خاضها الشعب الايراني، هو أن الشعب الايراني لم يتخل طوال هذه الفترة عن نشاطه لبناء ايران واعمار الدمار الذي ورثه من النظام السابق. وخلال الفترة ذاتها وفضلاً عن ادارته وشؤون الحرب على احسن نحو، واصل تنفيذ مشاريعه الكبرى في اعادة البناء وتحديث ايران، بدءً من مشاريع بناء السدود وشق الطرق العظيمة، وانتهاءً بمشاريع توسيع الاكتشافات والاستثمارات النفطية وتوسعة محطات الطاقة وتحسين الشؤون الزراعية وزيادة عدد الجامعات ومراكز البحوث في البلاد وبقية الشؤون الاخرى المرتبطة بالتنمية الوطنية.

وبهذا النحو انتهت حرب الثماني سنوات، دون ان ينجح مشعلو فتيلها من تحقيق أي هدف من اهدافهم. ولم يبق نظام الجمهورية الإسلامية قائماً وحسب، وانما تمكن ومن خلال الوحدة الوطنية لجماهيره المسلمة، من القضاء على الطابور الخامس داخل البلاد، وحكّم قدرته وسيادته على مختلف انحاء البلاد.

اما على الصعيد الخارجي فقد ظهرت الجمهورية الإسلامية كقوة لا تهزم، تمكنت من ترسيخ حضورها الفاعل على الصعيد الدولي واثبات حقانيتها رغم ثمانية اعوام من الاعلام المعادي المكثف، واستطاعت ابلاغ رسالتها للعالم. وطبيعي انها دفعت من اجل نهجها هذا ثمناً باهضاً: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}.

إنّ من اعظم ذنوب وخيانات صدام وجميع الحكومات العربية ـ الإسلامية الظاهر ـ التي شجعته على الاعتداء ودعمته طوال فترة الحرب، فضلاً عن خيانته في هدر الطاقات الانسانية والاقتصادية العظيمة لكلا البلدين (إيران والعراق)، هي انه بفرضه هذه الحرب المشؤومة ارجأ تحقيق الوحدة الإسلامية والثورة الإسلامية الكبرى لسنوات طويلة بعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى من التحقق بعد سقوط النظام الملكي في إيران، وعرّض صفوف المسلمين إلى الفرقة والتشتت. وبدلاً من الضغط بقوة على يد الاخوة التي مدها الإمام الخميني بعد 11 شباط (يوم انتصار الثورة) من خلال بياناته واحاديثه، إلى الحكومات الإسلامية، وقبول دعوته للاتحاد وحل مشكلات العالم الإسلامي وتحرير القدس، تراها وقفت إلى جانب اساطين الكفر. وطبيعي أن هذا الطريق لا يقود إلا إلى التسليم المذل أمام إسرائيل، والاعتراف رسمياً بوجود هذه الغدّة السرطانية واستقبال عساكر الكفر في بلدانهم، وتسخير ثرواتهم القومية واراضيهم وكراً لأميركا ليمكنها من الاستقرار في قلب العالم الإسلامي وفي مهبط الوحي.

ان الهجوم الصدامي المجنون على الكويت وتدميره لكيان هذه الدولة، والنتائج المرّة التي اسفرت عن الاحتلال من تخريب البنية الاقتصادية والاجتماعية للشعب العراقي والحضور الدائم لاعداء الإسلام في المنطقة، ليس إلاّ جزاء لهذا الذنب الذي لا يغتفر {فاعتبروا يا اولي الأبصار}.

بعد الاستقرار النسبي للسلام، حدد الإمام الخميني للمسؤولين في الجمهورية الإسلامية، عبر بيان اصدره في 3/10/1988 يتألف من تسعة بنود، النهج والبرامج اللازمة لاعادة اعمار البلاد. ويكفي لاستشراف عمق تفكير الإمام، والمكانة التي يؤمن بها للقيم الاصيلة، مطالعة هذا البيان بدقة.

وبعد مرور عشرة أعوام من تجربة نظام الجمهورية الإسلامية، اصدر الإمام الخميني في 24/2/1989 ـ بدافع تعديل وتكميل ركائز نظام الجمهورية الإسلامية ـ أوامره، ضمن رسالة بعث بها إلى رئيس الجمهورية وقتئذ (آية الله العظمى الخامنئي) ـ بتشكيل هيئة تتولى تعديل الدستور على اساس ثمانية محاور حددها في الرسالة، أهمها اصلاح المواد المتعلقة بالشروط اللازمة توافرها في القائد وتوحيد السلطة المركزية في القوة التنفيذية والقضائية والاذاعة والتلفزيون، وتحديد مسؤوليات مجمع تشخيص مصلحة النظام.

وقد تمّ طرح المواد الدستورية المعدّلة للاستفتاء الشعبي في 3/12/1989م (بعد رحيل الإمام) وصوت عليها ابناء الشعب باغلبية مطلقة.

 

نبوءة الإمام الخميني بانهيار الماركسية

قام غورباتشوف ـ آخر رؤساء الاتحاد السوفيتي المنحل ـ باصلاحات وتغييرات في بنية القطب الشيوعي العالمي. ولم يزل المحللون السياسيون وقادة الغرب ينظرون بعين الشك والترديد إلى خطواته تلك دون ان يصدقوا بأنّ مثل هذه التحولات التي تجري في هذا النظام الالحادي ذي السبعين عاماً، ستمتد إلى جذوره العميقة، وان اقصى ما توقعوه هو ان يقوم قادة الكرملين في النهاية باهمال بعض العلاقات المباشرة بين بلدان الكتلة الشرقية والاتحاد السوفيتي للتخفيف من المشكلات الاقتصادية الداخلية وتأسيس نظام جديد للشيوعية يقوم على قيادة اكثر محدودية للاتحاد السوفيتي ومسؤولية اكبر للبلدان التي تدور في فلكها. في حين أنّ الإمام الخميني وببصيرته التي عجز عن دركها المحللون الماديون، بعث برسالته وقتئذ (1/11/1989) إلى غورباتشوف توقع فيها انهيار الماركسية حيث كتب يقول: "من الآن فصاعداً ينبغي أن يبحث عن الماركسية في متاحف التاريخ السياسي للعالم".

عرض الإمام الخميني في تلك الرسالة اعمق التحليلات عن التحولات الجارية في الاتحاد السوفيتي وعبّر عما يجري بـ"صوت تهشم عظام الماركسية". والمثير للدهشة ان الرسالة تضمنت نبوءة اخرى مشوبة بالحذر، مما يشير إلى احاطة الإمام الخميني بالظروف السياسية العالمية؛ إذ حذّر سماحته بوضوح من ارتماء الروس في احضان الرياض الخادعة للرأسمالية الغربيين والانخداع بما تطرحه أميركا.

لقد طالب الإمام الخميني غورباتشوف بالايمان بالله بدل تعليق الآمال على الماديين الغربيين معتمداً في مطالبته على عرض المسائل الفلسفية والعرفانية العميقة مشيراً إلى فشل الشيوعيين في سياستهم في محاربة الأديان. يقول الإمام في رسالته: "ان المشكلة الاساسية لبلدكم لا تكمن في مسألة الملكية والاقتصاد والحرية، بل في عدم الاعتقاد الحقيقي بالله، وهي المشكلة نفسها التي يعاني منها الغرب والتي جرته إلى الابتذال ووصلت أو ستصل به إلى طريق مسدود".

إلا أن القادة السوفيت ـ للاسف ـ لم يحملوا نصائح الإمام وتحذيراته محل الجد، مما اتاح للشركات الأميركية والاوربية، ان تجعل من روسيا مضماراً لمطامعها الاقتصادية، وتعرضها لنوع جديد من الاستثمار الذي لا يحمل معه سوى الظلام والانتهاء إلى الطريق المسدود، إلا إذا افاقت الجماهير الروسية وعادت إلى رشدها.

ويذكر ان (شيفاردنادزه) وزير خارجية الاتحاد السوفيتي آنذاك، حينما قدم يحمل ردّ الرئيس السوفيتي الى الإمام الخميني، ذهل عندما رأى هذا العملاق الصلب الذي يوجه التحذيرات بصراحة عجيبة إلى قادة ثاني قوة في العالم، يعيش في بيت صغير بسيط في جماران وفي غرفة لا تتجاوز مساحتها 12 متراً مربعاً، مكتفاً بوسائل واثاث في منتهى البساطة ودون وجود أي اثر للمراسم والتشريفات المعمول بها. اذهله ان يرى الإمام جالساً باطمئنان واستقامة كالطود يضع إلى جانبه نسخة من القرآن الكريم وسجادة صلاة ومسبحة وعدداً من الصحف ومذياعاً صغيراً. وقد ازداد دهشة حينما التفت إلى انه لا يوجد كرسي آخر يجلس عليه المسؤول الكبير الذي يرافقه وان على الاخير ان يجلس على الارض ـ ولو لمرة واحدة ـ! ولعل وزير الخارجية السوفيتي ظن بأن قدح الشاي مع حبتي السكر ـ الذي قدّمه له الشيخ العجوز الذي كان في خدمة الإمام ـ كان امراً متعمداً واستثنائياً. غير ان الحقيقة غير ذلك، فالإمام لم يغيّر اسلوبه في العيش ببساطة خلال جميع أدوار حياته سواء حينما كان وحيداً ومغترباً ومنفياً أو خلال عهد زعامته الدينية وقيادته السياسية وحتى آخر لحظة من عمره. ولم يقبل لنفسه ان يغير من اسلوبه أمام المقامات الدنيوية الاعتبارية مهما كبرت وعظمت.

 

الدفاع عن النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلّم) والقيم الدينية

بعد توقف الحرب العراقية الايرانية، بدأ القادة السياسيون الغربيون نوعاً جديداً من الهجوم على الإسلام الثوري. إذ ادرك هؤلاء الساسة ـ ومن خلال الحرب العراقية الايرانية والمواجهة التي وقعت بينهم وبين حزب الله لبنان، ومن انطلاقة المنظمات الفلسطينية الإسلامية، والجهاد الإسلامي للافغان، ومن عملية اغتيال السادات على أيدي المسلمين الثوار المصريين في 6/10/1981 ـ أدركوا بأنّ الحركة الإسلامية تتنامى بشكل مطرد، ولا يمكن القضاء عليها بالسلاح وبالاسلوب العسكري. لذا لجأوا إلى فتح جبهة جديدة يكون الصراع فيها على اساس معنوي وثقافي وايديولوجي. ولما كان بث الفرقة بين المسلمين بايحاء مذهبي وطائفي قد فقد بريقه نتيجةً لوعي الإمام الخميني ومسؤولي النظام الإسلامي، توجه هؤلاء لضرب الجذور والاسس المحركة لهذا التيار، والتي تتمثل في المباني الاعتقادية والمقدسات التي ادى عشقها إلى توحيد الاهداف والاساليب بين مختلف اتجاهات الحركة الإسلامية. فكان تنظيم ونشر الكتاب المبتذل "الآيات الشيطانية" لمؤلفه (سلمان رشدي) ودعم الدول الغربية له بشكل رسمي، بداية لفصل جديد من الهجوم الثقافي.

ولو لم تبد الأمة الإسلامية ردة فعل ازاء المساس بشخصية الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلّم) لتم الاستيلاء على الخندق الاول من خنادقها الدفاعية، ولتمّ بعد ذلك الهجوم على الاسس الدينية والمقدسات والاعتقادات بالغيب وسائر القيم المعنوية في المجتمعات الإسلامية بمختلف الاساليب. إنّ هوية الفكر الديني والهوية التي توحد الامة الإسلامية إنما تتشكل في هذه المقدسات وان التشكيك بها يؤدي إلى تضييع الهوية الذاتية للعالم الإسلامي والحركات الإسلامية ويجردها من أيّ سلاح في مقابل الهجوم الثقافي والايديولوجي الغربي.

واستناداً إلى الحقائق والاسباب التي تقدمت، فجّر الإمام الخميني 14/2/1989 ثورة اخرى بإصداره حكماً مختصراً اعلن فيه ارتداد (سلمان رشدي) وحكم عليه وعلى من ينشر كتابه بالاعدام إذا كان مطلعاً على محتوى الكتاب الداعي للكفر.

هبّ المسلمون للوقوف في وجه الغرب بصفوف مرصوصة بصرف النظر عن مذاهبهم وألسنتهم وبلدانهم. وقد اظهرت الاحداث التي نتجت عن هذه الواقعة، المجتمع الإسلامي على انه امة واحدة، وان المسلمين ـ رغم اختلافاتهم الداخلية والجزئية ـ متى ما توفرت لهم القيادة السليمة استطاعوا ان يلعبوا دوراً فاعلاً في حركة احياء القيم الدينية في مستقبل العالم. كذلك بدد اصدار هذا الحكم التصورات الغربية الواهمة حول تخلي إيران عن اهدافها الإسلامية الثورية بمجرد قبولها بالقرار (598).

 

السنوات الاخيرة من عمر الإمام

نقل المقربون من الإمام الخميني في مذكراتهم خواطر وذكريات عن حالات سماحته وروحيته في أواخر عمره، تشير إلى ان سماحته كان يحس قرب أجله ودنوّ موعد لقاء المحبوب. وبغض النظر عن حالات الإمام العرفانية في تلك السنوات، فإن هناك سمات وخصوصيات اتسمت بها خطاباته واحاديثه ميزتها عن سابقاتها، نشير فيما يلي إلى نماذج منها.

وقعت في تلك السنوات حوادث عديدة ثقل اثرها على روح الإمام وقلبه، احداها استشهاد عدد كبير من الحجاج الايرانيين المظلومين إلى جوار بين الله وفي موسم الحج لعام 1987.

كان الإمام يعتقد بشدة استناداً إلى مئات الآيات القرآنية الصريحة وسنّة النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلّم) وسيرة أئمة الدين وما لا يحصى من الروايات المأثورة عن المعصومين (ع)؛ بأنّ السياسة جزء من الدين، وان عملية فصل السياسة عن الدين التي عاشت خلال العقود الاخيرة من هذا القرن، انما روّج لها المستعمرون، وان النتائج المشؤومة لهذا الفصل واضحة في العالم الإسلامي وبين اتباع سائر الاديان الالهية.

كان الإمام الخميني يعتقد بأنّ الإسلام دين لهداية البشرية في جميع مراحل وابعاد وادوار الحياة الفردية والاجتماعية. ولما كانت العلاقات الاجتماعية والسياسية جزءً لا يتجزأ من حياة البشر، فإن الإمام الخميني كان يرى ان الإسلام الذي يهتم بالجوانب العبادية والاخلاقية الفردية فحسب، ويصد المسلمين عن تقدير مصيرهم وعن المسائل الاجتماية والسياسية، إسلام محرّف، وعلى حد تعبير سماحته "إسلام أميركي". كما ان سماحته كان قد انطلق بنهضته على اساس فكرة عدم الانفصال بين الدين والسياسة، وواصلها على هذا الاساس ايضاً.

لقد بادر الإمام الخميني بعد انتصار الثورة الإسلامية، فضلاً عن تشكيل الحكومة الإسلامية ـ باسلوب يختلف تماماً عن الانظمة السياسية المعاصرة، اوضح اركانه واصوله دستور الجمهورية الإسلامية ـ إلى احياء شعائر الإسلام الاجتماعية واعادة الروح السياسية للاحكام الإسلامية. وما احياء واقامة مراسم صلاة الجمعة، ومراسم صلاة الاعياد الإسلامية الكبرى في مختلف انحاء البلاد، على انها عقيدة عبادية سياسية وطرح المسائل والمشكلات التي يتعرض لها المجتمع الإسلامي داخل البلاد وخارجها في خطب صلوات الجمعة والاعياد الدينية، وتغيير اسلوب ومحتوى مراسم العزاء والثراء إلا نماذج بارزة على ذلك.

ان احد أبرز انجازات الإمام الخميني، احياء الحج الإبراهيمي.

فإلى ما قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران كانت مراسم الحج ـ بوحي من رؤية خاصة وتبعية حكام البلدان الإسلامية وبالاخص حكام السعودية ـ تقام سنوياً بعيدة عن روحها الواقعية. فقد كان المسلمون يؤدون مناسك الحج وهم غافلون تماماً عن فلسفة تشريع هذا التجمع الديني السنوي الكبير. ومع ان الحج، كما نصت عليه الآية القرآنية {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس} يعتبر من ابرز مظاهر التلاقي واعلان البراءة من المشركين، إلا ان الناظر إلى الحج لا يرى أي اثر من طرح لمشكلات العالم الإسلامي والبراءة من المشركين، في وقت تعيش المجتمعات الإسلامية احلك الظروف وتتعرض لهجمات المستعمرين واسرائيل من كل ناحية.

وبعد انتصار الثورة الإسلامية، أكّد الإمام الخميني ـ من خلال بياناته السنوية التي كان يوجهها إلى الحجاج في موسم الحج على وجوب اهتمام المسلمين بالامور السياسية للعالم الإسلامي، واعتبار اعلان البراءة من المشركين ركن من أركان الحج، وتوضيح مسؤوليات الحجيج في هذا الخصوص. وبالتدريج اتخذ مؤتمر الحج العظيم شكله الحقيقي وصارت مسيرة البراءة تقام سنوياً بمشاركة عشرات الآلاف من الحجاج الايرانيين والمسلمين الثوريين من البلدان الاخرى، يرددون خلالها شعارات تطالب باعلان البراءة من أميركا والاتحاد السوفيتي واسرائيل باعتبارها مصاديق بارزة للشرط والكفر العالمي، وتدعو المسلمين إلى الاتحاد. وتزامناً مع هذه المراسم كانت تقام المؤتمرات لتبادل الآراء بين المسلمين وتحري الحلول لمشكلاتهم وتأخذ ابعاداً مختلفة. وقد أدى التأثير المذهل لهذه الخطوات إلى دفع أميركا إلى زيادة ضغطها على حكومة السعودية للحيلولة دون تنامي هذه الظاهرة أو اقامتها اساساً.

وفي يوم الجمعة السادس من ذي الحجة عام 1407هـ، وبينما كان اكثر من مئة وخمسين الف حاج مندفعين في شوارع مكة للمشاركة في مراسم البراءة من المشركين، اقدم رجال أمن الحكومة السعودية ـ السريين والعلنيين ـ على مهاجمة حشود الحجاج هجوماً يدلل على سبق اصرارهم وترصدهم، فوقع في هذه الحادثة المؤلمة اكثر من اربعمئة شهيد من الحجاج الايرانيين واللبنانيين والفلسطينيين والباكستانيين والعراقيين وغيرهم، وجرح اكثر من خمسة آلاف آخرين. كما تم اعتقال العديد من الابرياء. وكان اكثر الشهداء والجرحى من النساء والشيوخ ممن عجزوا عن الفرار السريع من مكان المذبحة.

لقد ضرج هؤلاء بدمائهم بمنتهى المظلومية بتهمة اعلانهم البراءة من المشركين. والاهم من ذلك انتهاك حرمة الحرم الالهي الآمن في يوم الجمعة وفي ايام الحج المباركة وفي الشهر الحرام.

ان آثار الغضب والألم كانت تعتصر قبل الإمام الخميني لهذه الجرأة والوقاحة، إلا أن مصالح الأمة الإسلامية وظروف العالم الإسلامي منعته من القيام بأيّة خطوة عملية، مما حبس الغم في داخله وترك اثره على كلامه وبياناته حتى آخر عمره.

بعد عام من هذه الواقعة، ونتيجة لاسباب استعرضناها فيما تقدم، قبلت الجمهورية الإسلامية وحكومة العراق القرار 598 عملياً وانهيا الحرب المفروضة. وان كلاًّ من الملاحم البطولية التي سطرها جند الإسلام والمقاومة الشعبية الإيرانية الرائعة خلال ثمانية اعوام من الدفاع المقدس، التي حالت دون تحقيق الاعداء لأيٍّ من اهدافهم ـ التي اشعلوا الحرب بسببها ـ وتمكن الشعب الايراني من طرد المعتدين من المدن والمناطق المحتلة عبر صراع غير متكافئ تماماً، وانتهاء الحرب بانتصار جند الإسلام، كلها امور تدعو إلى البهجة والفخر، غير أنّ الظروف والفجائع التي ظهرت من قبل انتهاء الحرب ومنها المجزرة الرهيبة التي وقعت في (حلبجة) نتيجة القصف الكيميائي لهذه المدينة من قبل الطائرات العراقية، والقصف الواسع للمناطق السكنية في إيران ودعوة الدول التي تدّعي الإسلام، أميركا واوربا للقدوم إلى الخليج الفارسي بناقلاتها الحربية لحماية صدام واسقاط الطائرة الايرانية المدنية في الخليج الفارسي من قبل القوات البحرية الأميركية، كلها احداث مؤلمة تعتصر قبل ايّ مسلم غيور، ناهيك عن رجل طاهر كالإمام الخميني الذي أوقف عمره لخير الأمة الإسلامية وصلاحها، ونهض من اجل استعادة مجدها الضائع.

كان الإمام الخميني يعاني الأمرّين مما كان يراه من وقوف الكثير من الدول الإسلامية ـ خلافاً لارادة شعوبهم ـ مع أعداء الإسلام الحاقدين، ودعمهم للمعتدي، خصوصاً وأنّه كان يرى بوضوح العواقب الوخيمة لهذا الدعم، وأنّه حذّر من مغبة مواجهة النظام الإسلامي الايراني وتقوية الحكام البعثيين، مشيراً إلى هذا الأمر ـ فضلاً عن انه لن يحلّ مشكلة من مشاكل العالم الإسلامي ـ فإنّه سيؤدي في المستقبل القريب إلى اكتواء هؤلاء الحكام انفسهم بالنار الكامنة تحت الرماد. وفيما يلي نشير إلى نماذج من تلك النبوءة المدهشة التي وردت في حديث القاه الإمام قبل ثمانية اعوام من الهجوم الصدامي على الكويت ـ 16 أيار 1982 ـ وطبع في السنة نفسها في كتاب صحيفة النور (ج 16 ص 150). يقول سماحة الإمام مخاطباً الدول العربية الداعمة لصدام: "على حكومات المنطقة ان تنتبه إلى انهم انما يلقون بأنفسهم في التهلكة من أجل أميركا أو غيرها من القوى الكبرى. لقد حذرناهم مراراً لئلا يصبحوا اداة بأيدي القوى الكبرى، وقد قلنا أكثر من مرة ان صدام إذا تمكن من النجاة من ورطته هذه واستعاد قوته فانه ليس بذلك الرجل الذي يقدر مواقفكم ويحترم مساعداتكم، انه مصاب بجنون العظمة، ومن المحتم انه سيبادر للهجوم عليكم". كذلك حذر الإمام هذه الحكومات في خطابه الذي القاه بتاريخ 2/11/1981 قائلاً: "انني انصح جميع حكومات المنطقة بأن يكفوا عن دعم صدام، وان يخشوا ذلك اليوم الذي يحل فيه غضب الله عليهم".

والطريف أنه لم يمر وقت يذكر على رحيل هذا الرجل الرباني حتى تحقق ما قال، حيث اصبح أولئك ـ الذين اتهموا إيران بانها ذات نزعة عدوانية واعتبروا المعتدي المتجاوز هو الطرف الراغب بالسلام ـ انفسهم فريسة للمتجاوز والمعتدي مع الفارق بين ما فعلوه وبين ما فعلته ايران، إذ بادروا إلى الاستنجاد بالدول التي تعدّ السبب الرئيسي لاشعال فتيل كل هذه الفتن والحروب.

ان عدم اكتراث الدول الإسلامية للاعتداءات الاسرائيلية على جنوب لبنان والجرائم التي ارتكبها الصهاينة هناك والمواجهة القاسية للمسلمين المنتفضين في الاراضي الفلسطينية المحتلة، والأسوأ من ذلك كله، حرص الدول العربية على اقامة ما يسمى بالسلام مع اسرائيل، والكفّ، عن السعي لتحرير القدس، كل هذه معانات ادمت قلب شيخ جماران. لقد اطلق سماحته صيحته ـ منذ شروعه بالنهضة لتحرير الاراضي الإسلامية من قبضة الصهاينة ـ بوجه اسرائيل وحاميها الاول (أميركا) وبسبب ذلك بالذات تم نفيه إلى خارج بلاده اربعة عشر عاماً. كذلك فإنه خلال الفترة التي اعقبت انتصار الثورة الإسلامية لم يألُ جهداً ولم يدخر وسعاً في تقديم الدعم المادي والمعنوي لتحقيق ذلك الهدف.

واليوم نرى قادة الدول الإسلامية وقادة المنظمات الفلسطينية يهيئون انفسهم للتوقيع على وثيقة الاستسلام فيه وقت تغيرت في الظروف لغير صالح أميركا واسرائيل نتيجة تنامي الصحوة الإسلامية بين الشبان الفلسطينيين وفي مختلف انحاء العالم الإسلامي. وهي امور كانت تترك اسوأ الآثار على روحية الإمام. ولا شك أنه في السنوات الأخيرة من عمره كان يخصص السهم الاوفر من مناجاته الليلية للشكوى لله من تلك الامور والدعاء من اجل اصلاحها.

اما على الصعيد الداخلي،‍‍‍‍‍ فقد كانت الظروف التي أدت إلى إقالة آية الله المنتظري عن منصبه في تولي أمر القيادة بعد الإمام (28/3/1989) من جملة الحوادث المرّة الاخرى.

ان احد اهم اصول دستور الجمهورية الإسلامية ـ هو تشكيل مجلس الخبراء لتعيين القائد وتحديد صلاحيات القيادة في النظام الإسلامي. والخبراء هم مجموعة من الفقهاء والمجتهدين الذين تتوفر فيهم الشروط، يتم انتخابهم من قبل الجماهير بشكل مباشر، وبذا تكون الجماهير مشاركة ومشرفة على اهم امر يرتبط بمصير المجتمع الإسلامي ـ أي القيادة ـ وذلك عن طريق رأي الخبراء.

صوّت اول مجلس للخبراء في جلسته المنعقدة في شهر تموز 1983م على انتخاب آية الله المنتظري لمقام نائب القائد، فهو من تلامذة الإمام الخميني البارزين ومن المجتهدين الذين كان لهم حضور فاعل في الدفاع عن انتفاضة الخامس من حزيران وما تلاها من حوادث، ومن هنا كان قد تعرض ـ كما هو حال آية الله الطالقاني وسائر علماء الدين الثوريين ـ للسجن لفترات طويلة في العهد الملكي البائد.

ففي آخر رسالة بعث بها الإمام الخميني إلى آية الله المنتظري ـ التي أدّت إلى تقديم الاخير استقالته من منصبه ـ صرّح سماحته بأنه كان معارضاً لانتخاب المنتظري قائداً للنظام الإسلامي من بعده، إذ كان يراه يفتقد إلى الطاقة اللازمة لتحمل هذه المسؤولية الجسيمة والخطيرة والمعقدة. وقد صرح الإمام في هذه الرسالة بأن عدم اتخاذه موقفاً معارضاً لمجلس الخبراء إنما كان لرغبته في عدم اختراق الحدود التي اقرها القانون لمسؤوليات ووظائف مجلس الخبراء ـ وهذا الامر بحد ذاته بالغ الاهمية في دلالته على اسلوب الإمام الخميني في الادارة ـ فهو يحترم قانون النظام الإسلامي ورأي الجماهير، ويلتزم به إلى الحدّ الذي يمنعه من ابداء رأيه ونظرته الشخصية حتى في ادق الظروف واكثرها حساسية رغم ان ابداءه لرأيه لن يؤدي إلى وقوع أيّة مشكلة نتيجة المحبوبية والمقبولية التي يحظى بها لدى الجماهير ومسؤولي النظام.

وفي الرسالة نفسها، أكد الإمام الخميني ـ ضمن تعبيره عن محبته للمنتظري ـ على انه يرى ان من الصالح له (المنتظري) أن يكف عن تكرار اشتباهاته السابقة، وان يطهر بيته من الافراد غير الصالحين، ويحول دون تردد المعارضين للنظام الإسلامي عليه، وان يتفرغ لاثراء البحوث الفقهية واتاحة الفرصة للحوزات للاستفادة من ارائه الفقهية.

ومما يذكر ان الإمام الخميني ليس فقط لم يصرح بمعارضته لانتخاب المنتظري من قبل مجلس الخبراء، بل وبادر إلى تقوية واصلاح نقاط ضعف المنتظري بكل جهده، واناط به من المسؤوليات والأمور المهمة الكثير لإكسابه التجربة الكافية واعداده لتحمل مسؤولية القيادة الخطيرة. غير ان آثار حقيقة (فقدانه الطاقة اللازمة لتحمل مسؤولية هذا المقام الخطير) كانت تظهر ـ وللاسف ـ تدريجياً، الأمر الذي دفع العناصر غير الصالحة التي تسللت إلى منزله إلى استغلال ذلك ـ وقد اظهرت اعترافاتهم التي ادلوا بها عبر التلفزيون عن سوء نواياهم واهدافهم المشؤومة التي كانوا يخططون لتنفيذها ـ حتى بلغ الامر حداً تجاوز عدم الالتزام بالنصائح المشفقة والحكيمة التي قدمها الإمام الخميني، والاصرار على الاسلوب الخاطئ.

لقد نصحه الإمام الخميني مرات عديدة ـ عبر الرسائل تارة، واللقاءات المباشرة تارة اخرى ـ بضرورة تطهير منزله من تلك العناصر، والتعاون مع مسؤولي النظام المخلصين.

ولكي ندرك المحطات الحساسة في هذه الواقعة التاريخية ومرارة الأثر الذي تركته على قلب الإمام، ولوعي مدى التزام الإمام بمصالح الأمة وعدم الاخذ بنظر الاعتبار العلاقات العاطفية والشخصية في مقابل الاهداف المهمة، نكتفي بنقل هذا المقطع من رسالة الإمام التي بعث بها إلى ممثلي مجلس الشورى واعضاء الحكومة بتاريخ 10 نيسان 1989م، وهو غني عن أي تفسير أو تعليق، سماحته: "بلغني أنكم لا تعلمون شيئاً حول قضية السيد منتظري، وانكم تجهلون تفاصيلها. ولكن ينبغي أن تعلموا ان والدكم الشيخ بذلك كل ما في وسعه منذ اكثر من عامين عبر البيانات والرسائل لتفادي وصول الامر إلى ما وصل إليه، غير أنه ـ وللاسف ـ لم يوفق في ذلك. من جانب آخر فإن المسؤولية الشرعية اقتضت اتخاذ القرار المناسب لحفظ النظام والإسلام. لذا فقد اقلت ـ بقلب يعتصره الالم ـ وضحيت بثمرة عمري (المنتظري) من اجل مصلحة النظام والإسلام".

وبهذا النحو تم التخلص من احدى المخاوف التي كانت تهدد مستقبل النظام الإسلامي، بتدخل مباشر من يد الإمام الخميني الكفوءة المقتدرة. ولم يكن لهذا الامر المعقد ان يحل الا بواسطة شخصية كشخصية الإمام الخميني.

والإمام الخميني لم يوجه حديثه إلى الاخرين فقط حينما يقول: "ان الثورة ليست مدينة لاية فئة" و"لقد اعلنت مراراً بأني لم اوقع عقد أخوّة مع أي احد مهما كان منصبه" و"ان الاطار لمحبتي للآخرين إنما يتحدد من خلال صحة الطريق الذي ينتهجونه"، بل انه يشمل بذلك حتى نفسه، ففي بيانه المعروف الذي وجهه للحوزات العلمية كتب يقول: "يعلم الله بأني لا اعتقد لنفسي بذرّة من المصونية والحقأنه  والامتياز، واني مستعد للمؤاخذة إذا بدر مني أيّ خلاف".

وكما اشرنا سابقاً، إن بيانات وخطابات الإمام الخميني خلال السنوات الاخيرة من عمره تختلف عما كانت عليه في السابق، الأمر الذي يعبر عن سعة افقه وعمق احساسه بالمسؤولية بالنسبة للفترة التي ستلي غيابه. فخلافاً لبياناته واحاديثه في المراحل السابقة ـ التي كانت تركز اساساً على توجيه الجماهير والمسؤولين فيما يتعلق بالاحداث الجارية والمواقف المطلوبة أمام المحن التي تتعرض لها البلاد والعالم الإسلامي ـ فإن بياناته في السنوات الاخيرة من عمره المبارك كانت تتلخص في استحضار الحوادث الماضية والحالية، وترسيم ابعاد المستقبل، وبيان تكاليف عموم المسلمين في قبال المسؤوليات المستقبلية وبنحو أشد وضوحاً من السابق.

بتعبير آخر، كان الإمام الخميني يشعر بقرب اجله، لذا سعى في السنوات الاخيرة من عمره الشريف الى التذكير بمجموعة القيم والمثل والاهداف التي شكلت الاساس لانطلاق الثورة، وترسيم وتوضيح اولويات النظام الجمهورية الإسلامية والثورة الإسلامية العالمية على اساس هذه القيم والاهداف.

لقد سعى الإمام الخميني من خلال هذه البيانات ـ وبطرح تقييمه عن مجمل العناصر الموجودة في المجتمع الايراني والعالم الإسلامي، وكذلك تحليلاته عن الانظمة الحاكمة في عالمنا المعاصر ـ لتوضيح الطريق أمام انتخاب واختيار مستقبل النظام، وتبيين تكليف كل شريحه ازاء الظروف المستقبلية وفي غيابه.

وقبل عدة سنوات من رحيله، وتحديداً في 15 شباط 1983، كتب الإمام الخميني وصيته السياسية الإلهيّة استناداً إلى هذا المبدأ، وبوحي من هذا الدافع. وتعد هذه الوصية ـ التي طبعت ونشرت حتى الآن بمختلف اللغات ـ نداء الإمام الاخير المتضمن اصول فكره واهدافه وارشاداته الخالدة لانصاره ومحبيه. ان كتابه وصية بهذا النحو وبهذا الابعاد، عمل لم يسبق له مثيل بين فقهاء الشيعة ومراجع التقليد، ودليل على عمق اطلاع الإمام على الحاجات الحالية والمستقبلية للمجتمعات الإسلامية، وعلى شدّة احساسه بالمسؤولية في هذا المجال.

ان بيانات الإمام الخميني الاخيرة، هي في الحقيقة شرح وتفسير للقيم التي دافع عنها في وصيته والامور السياسية التي طرحها فيها.

ومن جملة الخصائص التي تميزت بها بيانات الإمام في أواخر عمره، تأكيده على ضرورة التفات المسلمين إلى نوعين متضاربين من الفكر الديني والإسلامي. إذ ان سماحته ـ استناداً للشواهد التاريخية العديدة ـ يعتقد بأنّ الإسلام وسائر الاديان الالهيّة ـ منذ سحيق الزمان وحتى اليوم ـ عرضت بصورتين متضادتين تماماً. فمن جانب كان هناك الدين والإسلام المحرّف الذي استغله الظالمون والمستعمرون، والذي ابتدعه المتحجرون والقشريون من رجال الدين الكاذبين. ومن جانب آخر كان الدين والإسلام الحقيقي الذي حفظ وانتشل من احضان الخرافات والشعوذات بدماء المجاهدين والمساعي الحقيقية لعلماء الدين الملتزمين طوال التاريخ. وبذا فإن احد اسرار نجاح الإمام الخميني بتحريك الامة الإسلامية يتمثل في قدرته على بيان التضاد المستمر بين هذين النوعين وتوضيح سمات كل واحد منهما.

كان الإمام الخميني يعتقد بأنّ تجاهل هذه الحقيقة التاريخية وعدم محاولة التعرف عليها، هو الذي ادى إلى نفوذ الاستعمار إلى البلدان الإسلامية، وابتعاد المسلمين عن عصور التحضر والثقافة الباهرة التي كانوا عليها، ثم الابتلاء بالواقع الراهن، حيث نرى ـ للاسف ـ الحكومات الإسلامية التي رفع اسلافها شعار "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه" و{لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً}، تستجدي اليوم اعداء الإسلام من الكفار والمشركين لمواصلة حياتها والحفاظ على حدودها.

كان الإمام الخميني يعبر عن الفهمين المتباينين للإسلام في عصرنا الحاضر بـ"الإسلام الاصيل" و"الإسلام الأميركي". إذ انه كان يعتقد بأنّ الإسلام الذي تتجاهل احكامه القرآنية المسلّمة وسنّة الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيما يتعلق بالمسؤوليات الاجتماعية، والإسلام الذي تترك منه ابواب الجهاد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والعدالة الإسلامية والاحكام المرتبطة بالعلاقات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الإسلامي، ويحول دون مشاركة المسلمين في السياسة وفي تقرير مصيرهم، ويرى الدين يتلخص في منجموعة من الاذكار والعبادات الفردية دون الالتفات إلى فلسفتها وروحها الحقيقة، ان مثل هذا الإسلام هو الذي تدعو إليه أميركا ومن يدور في فلكها.

يستند سماحة الإمام في تحليله هذا إلى ظواهر تاريخية وشواهد دامغة مستلة من الوضع الذي كانت عليه البلدان الإسلامية. فسماحته يعتقد بأنّ الاستعمار الحديث هو نتاج لمساعي المستعمرين السابقين. إذ انهم سعوا الى تغيير دين الجماهير المسلمة عن طريق المبشرين المسيحيين. ولمّا فشلوا في ذلك حولوا مساعيهم منذ ذلك الزمان وحتى الآن لتنصب على ابطال مفعول الاحكام الإسلامية السامية وتشويه الدين من الداخل. ونتيجة ذلك مشهودة تماماً، فجميع البلدان الإسلامية اليوم تعتمد في انظمتها وقوانينها الموضوعة واساليبها في القضاء وفي هيكل النظام الحكومي والقوانين السياسية والاجتماعية، على القوانين والاساليب الغربية المعادية للدين، والتي تتعارض في ماهيتها مع القوانين المستندة إلى الوحي.

ان الإسلام الأميركي هو الذي يتيح للثقافة الغربية ومفاسدها وتحللها النفوذ إلى اعماق المجتمعات الإسلامية ويهلك الحرث والنسل. الإسلام الأميركي هو الذي فسح المجال للحكومة العميلة للاجانب ان تمارس سلطتها على المسلمين وتقف باسم الإسلام في مواجهة المسلمين الحقيقيين، وتمد في الوقت ذاته يد الصداقة إلى اسرائيل وأميركا، اعداء الإسلام.

كان الإمام الخميني في بياناته الاخيرة يؤكد بوضوح اكبر هذه الحقيقة؛ وهي أن الطريق الوحيد لانقاذ البشرية من مشكلاتها الراهنة هو العودة إلى عصر الدين والاعتقاد الديني، وان السبيل اللاوحد لتحرير البلدان الإسلامية من وضعها الحالي المؤسف هو عودتها إلى الإسلام الاصيل وإلى هويتها الإسلامية المستقبلية.


source : http://alhikmeh.com
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

عاشوراء الحكمة والعاطفة
الهجوم على دار الزهراء عليها السلام وما ترتب ...
المؤامرات فی الکوفة
واقع ﺍﻏﺘﻴﺎﻝ ﻋﺎﺋﺸﺔ
خالد بن ولید يقتل الصحابي مالك بن نويرة طمعاً في ...
الغلاة في نظر الإمامية
قبول الخلافة
تأملات وعبر من حياة يوسف (ع) - ج 2
أقوال علماء السنة في المذهب الشيعي
الثورة الحسينية اسبابها ومخططاتها القسم الاول

 
user comment