وإذن فلم يريدون من الإنسان وحده أن يكون بدعا ً من الموجودات فلا يكون له نظام محدد؟!.
وهل في استطاعة كائن ما أن يتخلف عن نواميس الوجود؟!.
وهل لهذا الاستثناء الغريب من سبب يوجب ذلك؟!.
قد يقولون علة هذا الاستثناء أن المرء كائن عاقل، يفعل بإرادة ويريد عن تبصر، فباستطاعته أن يفكر في العمل قبل إصداره، وأن يوازن بين جهاته المختلفة قبل التصميم على فعله، ثم يفعل بعد ذلك أو يترك وفقا ً للحكم الذي يصدر، وللوجهة التي يؤثر، فلا حاجة بالمرء إلى غاية واحدة عامة يتجه إليها في فعله ولا إلى نظام شامل ثابت يستن به في سلوكه.
قد يقولون: هذه هي علة الاستثناء، وإذن ففي قياسهم هذا أن عقل المرء وتفكيره هما السبب في حرمانه من هذا الحق وفي إسقاطه من هذه الكرامة!!.
عقل الإنسان وتفكيره- أكبر مصادر الخير له وأغزر ينابيع الكمال فيه- يكونان هما بذاتهما السبب في حرمانه من الخير وإبعاده عن الكمال.
إنه لحكم غريب جدا ً يكاد لغرابته يلحق بالمتناقضات!!.
وقد يقولون: عقل الإنسان وتفكيره هما اللذان يسنان له منهج الكمال، ثم يرتفعان به صعدا ً إلى الغاية، فلا حاجة بالإنسان إلى مشروع وراء ذاته يخطط له المنهاج، ولا إلى دليل يقتدي به في السلوك.
وهو قول قد يبدو له وجه مقبول، وسنعرض له فيما يأتي من المباحث، وسنتبين مقدار حظه من الوجاهه.
لابد للإنسان ( في ارتقائه إلى كماله الاختياري) من نظام محدد أسوة له بسائر الموجودات في الكون وبسائر الاتجاهات المختلفة للإنسان.
ولابد من أن يكون قانون الاستكمال في قوانين الإنسان كقوانين الاستكمال في الموجودات الأخرى واحدا ًلا يقبل التعدد وثابتا ً لا مجال فيه لاضطراب ولا تخلف.
وإذا كانت القوانين الكونية الموجودة لكمالات الأشياء مصنوعة لصانع واحد يدبرها بحكمة واحدة ويسيرها إلى وجهة واحدة فلابد وأن يكون قانون الاستكمال في الإنسان من صنع ذلك الواضع أيضا ً، ومن آثار تلك الحكمة ومن متممات ذلك القصد.
لا مناص من هذا كله لأنه من النواميس المتبعة في الوجود. ولن يملك الإنسان أبدا ً أن يشذ عن واحد من هذه النواميس.
والكون مجموعة واحدة متماسكة الأجزاء متسقة الحركات، تجري في مدى متشابه، والإنسان من هذه المجموعة جزء ليس في وسعه أن ينفصل، وليس من الخير له أن ينفصل. فلا بد وأن يكون كماله شطرا ً من الكمال الأكبر، ولا بد وأن يكون نظامه جزءا ً من النظام العام، ولا بد وأن يكون القيم عليه هو باري المجموعة الكونية والقيم على تدبيرها والواضع لنظمها.
والفارق الوحيد ما بينها هو أن الاستكمال فيما سوى هذا الاتجاه من الإنسان طبيعي فيجب أن تكون سننه سننا ً طبيعية لا مدخل فيها للإرادة، وأن رقي الإنسان في كمالاته هذه اختياري فيجب أن تكون شريعته وضعية تقوم على الإرادة وتعتمد على الاختيار.
وأخيرا ً أعرفت ما هو الدين؟.
هو هذا النظام المحكم الشامل الذي يرقى به الإنسان إلى نصابه الأعلى من الكمال...
أفترغب في إيضاح أكثر من ذلك؟.
دليل مأمون
يغرس البستاني ساقا ً من الكرم أو يضع بذرة من القمح، بعد أن يختار له المنبت الزكي ويتحرى له الجو الصالح ويتربص به الزمن المناسب، وبعد أن يكدح في تنقية التربة و تمهيد الأرض، ثم يتعهد ما غرسه بالرواء الكفي، ويعكف عليه بالنظر الدائم والإصلاح اللازم، يصنع جميع ذلك ويدأب فيه لأنه يأمل أن الغراس سيؤتيه أكله بعد حين...
لقد أفادته التجارب أن العود يفرع وأن البذرة تنمو، وأن الزرع ينتج وأن النتاج يجنى، وإذن فستورق هذه البذرة وستربو وتثمر ويونع ثمرها، وسيجني هو قطاف غرسه ونتاج عمله.
هذه الفكرة تعمر قلب الفلاح وهو يغرس، وتهون من متاعب الزارع وهو يكدح، وتنشط كل عامل في هذه الحياة وهو يعمل.
وإذن فالناس كلهم يوقنون بأن القاعدة الطبيعية في الأشياء هي الصحة، وأن القياس العام في الأمور كلها أن تتوجه إلى غاياتها توجها ً طبيعيا ً لا عرقلة فيه وأن تؤتي ثمارها إيتاءً كاملا لا نقص فيه. أما الآفات والمعوقات فإنها قد تعرو الشيء فتعتاقه في المسير أو تبطئ به عن الإنتاج ولكنها- على أي حال- أمور طارئة عليه وليست طبيعية له، والشيء غير الطبيعي لا يطرد له قياس.
هذا هو الأصل العام المتبع في الأشياء كافة، يدركه الناس بفطرتهم، ويجرون على وفقه في جميع أعمالهم ولا يختلفون فيه ولا يرتابون، ولا يجادل أحد منهم في ثبوته، وهو الأصل كذلك في الإنسان وفي قوته المفكرة وفي جهازه الاختياري كله، بل وفي سائر قوى الإنسان وعامة أجزائه.
ذلك أن الإنسان موجود من موجودات هذا الكون يعنو لقوانينه ولا يتخلف عنها، وقوى هذا الكائن وأجهزته وطاقاته أجزاء منه تخضع لما يخضع له من قوانين وينفذ فيها ما ينفذ فيه من أحكام.
ومقتضى انطباق ذلك المقياس العام عليها أن السلامة في العقل والاستقامة في التفكير هما الأصل الطبيعي في الإنسان وأن الميل والنشوز في هذه القوة إنما يكونان لأمور خارجة عنها تنتابها فتبعد بها عن الاتساق وتصرفها عن الاستقامة.
الاعتدال في الطبع والفكر ثم الاستقامة في التصميم والاتزان في العمل، هذا الانتظام المطلق في الجهاز الاختياري المطرد في كل أدواته ومعداته وكل جزء من أجزائه الموصل إلى تحقيق الغاية المبتغاة منه، هذا هو الأصل في الإنسان، وهذا معنى الصحة الطبيعية في نواحيه تلك، وهو كذلك معنى الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.
غير أن العلل التي تعترض هذه القوى فتعتاقها عن التوازن غفيرة وفيرة.
ذلك أن التكامل في شؤون الإنسان هذه اختياري لا يحدث إلا عن طريق الإرادة، ولا يتم إلا تحت نفوذها، وصوارف الإرادة عن التزام الصواب تفوت الحصر وتمتنع على الحاصر.
ففي المرء جموع أو خنوع في الغرائز، وتقلب أو تطرف في الأهواء، وكبت أو انطلاق في الرغبات، وللمرء طباع يرثها من أسلافه وقد تكون رديئة، ولديه تقاليد يألفها من مجتمعه وقد تكون ذميمة، وله عادات يكسبها بإرادته وقد تكون ساقطة، ومعلومات يتلقنها بتربية أو يفيدها بتجربته وقد تكون خاطئة، وتصادم في الميول، وتكافؤ في الدوافع، وعقد نفسانية متأصلة، وانعالات لا شعورية مكبوتة، وانحرافات أخرى لا تنحصر أسبابها وكل أولئك صوارف للإرادة عن التزام الصواب، وكلها عوارض للفطرة تطرأ عليها فتكدر صفاءها وتشرد بها عن اتزانها.
فكان من الضروري لهذه القوىأن يقام لها دليل مأمون ينهج بها منهج الاستقامة، ويكشف لها مغبة هذه الطوارئ ويلمسها أعراض هذه العلل.
من الضروري أن يكون لها هذا المرشد الذي يقيها العثار ويجنبها الخسار، وإلا فستنزلق ولا نجاة، بل وستموت ولا حياة.
من الضروري لها هذا الدليل المأمون يسير بها إلى الإستقامة خطوة خطوة ويوقفها على المعوقات واحدة واحدة، ويبصرها علاج تلك الأدواء علة علة.
وهذه هي الظاهرة الأولى من ظواهر الدين الحق والسمة البينة من سماته: (( فأقم وجهك للدين حنيفا ً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم))(1) وإذا لم تكن للدين هذه السمة وإذا لم يقم تشريعه على هذه الركيزة فليس من الحق ولا من الاستقامة في شيء. وفي الأثر النبوي:( كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه).
كل مولود يولد على الفطرة وينشأ على الاستقامة، ولو أنه ترك لفطرته لاستكمل رشده واهتدى سبيله، ولسار هكذا سويا ً مستقيما ً حتى يبلغ غايته المأمولة.
ولكنها الآفات، ولكنها الصوارف، ولكنها التربية الفاسدة وإيحاءاتها الملتوية. والتياثها بغرائز الطفل ومشاعره، وحشو ذهنه بالأباطيل والأضاليل، هذه الجراثيم الفتاكة التي تحدث العلة وتعمق جذورها وتنشر بذورها، هذه هي التي تلتوي بالفطرة عن استقامتها ونشوة محاسنها وتحولها عن مجراها، وتحمل الطفل حملا ً أن يجري مع الأوهام وأن يخضع للأساطير، وأن ينحرف في تفكيره وينحرف في عقيدته وينحرف في سلوكه.
(1) الروم:30
التعلق بالغيب الأعلى
هناك في أعماق الإنسان، وفي قرارة نفسه وطوايا قلبه نزعة متأصلة يشعر بها جيدا ً حين يتجرد لأحكام الغريزة، ويغفل عنها حين يندفع مع الحياة العامة، وحين تستبد به ملابساتها وتتقاذفه تياراتها.
نزعة ذاتية في الإنسان قديمة بقدم وجوده، مكينة بتمكن غرائزه وثبات طباعه، هي نزعة التعلق بغيب مجهول والتوجه إلى حقيقة عليها غير محدودة، تنتهي عندها الأسباب، ويستند إليها التدبير، يرغب في رضاها ويحذر من بطشها.
ومما يدل على هذه النزعة من الإنسان، وعلى مدى أصالتها فيه، وعلى مبلغ استسلامه لها أن فكرة الدين والجانب الإلهي منها على الأخص قد تخللا تأريخ البشرية، وعما أجيالها، وتغلغلا في جميع قبائلها وجميع أقطارها. بحيث لم يخل منها عصر من عصور التأريخ، ولم تنسلخ عن التمسك بهما أمة من الأمم مهما انتبذ بها الزمن ومهما شطت بها الدار، ومهما ذهبت بها ( البداءة) واتضعت بها الهمجية واختلت بينها موازين الأخلاق.
فهي شعور راسخ ثابت في جبلة الإنسان، وفي نزعات أفراده، وإن بدت منحرفة المظاهر لدى كثير من الأمم، فقد اتخذ الإنسان من الحجارة ومن التماثيل ومن الحيوان والنبات آلهة مدبرة يعقد على رضاها الأمل ويتزلف إليها بالعبادة ويطلب معونتها في الحوائج، ويضرع إليها في النوازل، وقد تسعى به الوعي قليلا ً لما ألّه النار والنور ولما عبد الأرواح والكواكب.
وارتقى به الشعور ورام أن يفلسف صنيعه هذا فقال بالتثنية، بإله للخير وإله للشر، بإله للنور وإله للظلمة، وقال بالتثليلث، بأقانيم يلتئم منها واحد، أو بأعضاء تتألف منها شركة واحدة، وقال بإله لكل نوع من الأنواع، وقال بإله بكل ظاهرة من الظواهر، وقال بالتعدد المطلق، فلا حصر للآلهة، ولا ضبط وقال بالاتحاد، وقال بالحلول، وتنقلته أهواء وتقذافته أمواج. وهذا التأرجح الدائب وهذه الذبذبة المستمرة إنما هما وليدا هوى مكين يعصف به أن يتوجه ويعصف به كذلك أن يتعرف.
ويشعر المرء شعورا ً قويا ً بهذه النزعة حين يعلق بحبائل القدر فلا يستطيع الفكاك، وحين يقع في قبضة الظلم فلا يملك الانتصار. هنا وهناك يفزع بفطرته إلى قوة غيبية قادرة قاهرة، لا حدّ لقدرتها ولا منتهى لسلطانها، تملك الفرج وتحكم بالعدل إلى هذه القوة الغالبة العالمة لتنقذه من الشدة، أو يستعيدها لتنصفه من العدوان.
والتطلع إلى الغيب المجهول في صورته المصغرة يوجد لدى الأطفال في أولى درجات التمييز، ولعل من آثار هذا النزوع المبهم أننا نرى الأذكياء منهم يلحفون في السؤال عن مصدر الشيء ثم يرتفعون بسؤالهم وإلحافهم مع سلسلة أسبابه، ولا يقنعهم أن نقف بهم على سببه الأدنى، ويمنعون كذلك في الاستفهام عن غاية الشيء، ويتدرجون في الاستفهام والاستقصاء مع سلسلة غاياته، ولا يروي ظمأهم أن نذكر لهم غايته القريبة.
أقول: لعل اسقصاء الطفل هذا من أصداء تلك النزعة التي تحدث عنها العلماء النفسيون، فكأن الفطرة توحي إليه أن للأشياء علة أولى يجب أن تستند إليها العلل، وأن لها غاية كبرى يجب أن تنتهي بها الغايات. لعل استقصاءه هذا من آثار نزعته تلك، ولعله من آثار شعوره( بقانون السببية) فهو الآخر فطري من فطريات الإنسان، وهو كذلك ركيزة من ركائز الإيمان. ولعله رجع لكلتا الفطرتين، فولوعه بالمسألة عن العلة استجابة لهذا الشعور، وارتقاؤه إلى سلسلة أسبابه تلبية لتلك النزعة.
عناصر الدين الأولى
ويصرح كثير من علماء الاجتماع وكثير من مؤرخي الأديان وعلماء النفس بأن التدين إحدى الغرائز النفسية للإنسان، ويقول معجم(لاروس) للقرن العشرين: ( إن الغريزة الدينية مشتركة بين كل الأجناس البشرية حتى أشدها همجية وأقربها إلى الحياة الحيوانية، وأن الاهتمام بالمعنى الإلهي وبما فوق الطبيعة هو إحدى النزعات العالمية الخالدة للإنسان).
وقد غلا بعض هؤلاء العلماء فذهب إلى أن جراثيم هذا الشعور الديني توجد لدى الحيوانات، وادعى أن بعض أنواع الحيوان تشيع فيه نزعة دينية غريبة حين يحس بالموت، أو حين يشعر بهبوب أتي جارف أونكبة كونية(1).
وسواء أصحت هذه الدعوى من قائلها أم لم تصح فإن ثبوت هذه النزعة للإنسان مما لا يسمو إليه ريب ولا تحوم حولها مظنة.
هذه النزعة الأصيلة في الإنسان هي الخلية الأولى من خلايا الدين، والنواة التي يتكون من تطورها تركيب جسمه وائتلاف عناصره.
ويجد المرء نفسه في غمار هذا الكون المزدحم بالعجائب المفعم بالجمال، ويقلب بصره فيما حوله من مكونات، ويجيل بصيرته فيما يعيه لها من قوانين، وفيما يدركه من غايات، فيجد مظاهر الحكمة ومجالي الإبداع في ما يبصر وفي ما يعي، في ما يدرك بحسه وفي ما يستبين بعقله وفي ما يتلقف بذوقه.
ثم يتحسس نفسه ويتحرى دقائقها ويستعرض خصائصها فيرى بها آية الآيات وبديعة البدائع!.
يدرك المرء جميع هذا فيندفع مقسورا ً إلى التساؤل عن العالم الذي يحيط به. وعن نفسه التي يجهل كنهها ويجهل أكثر خفاياها.
(1) نشأة الدين للأستاذ علي سامي النشار ص30.
عن المبدأ الأقصى لهذا الوجود، وعن الغاية الأخيرة من تكوينه.
عن الحياة هذه التي تعمر الكون وعن ظاهرة الموت التي تعقبها.
وعن الموت هذا أله نهاية محتومة كما للحياة تسبقه، أم هو سرمدي ليس للأنام بعده منقلب؟.
وعن الأسباب القريبة التي تحدث عنها الأشياء، ألها مسبب أعلى إليه تنتهي، ومن قوته تستمد، أم هي مستقلة مترامية؟ مستقلة فلا مصدر لسببيتها ومترامية فلا بدء لسلسلتها.
وهذا الاستقلال في السببية وهذا الترامي في الوجود أهما من الممكن أم هما من المستحيل؟.
فإذا وجد المرء لهذه المسائل حلولاً مقبولة، وإذا انطبعت النتائج في نفسه عقيدة وارتسمت على قلبه ركوناً وطمأنينة فقد تألفت لديه العناصر الأولية والمهمة من عناصر الدين.
الدين نزعة مجردة حين تهدي إليه الغريزة وتؤمي إليه الفطرة.
وفكرة محض حين يتناول العقل الواعي حقائقه بالنقد ويعرض أصوله على البرهان.
وعقيدة خالصة حين تتمسك به الروح ويلتزمه القلب.
وإيمان ثابت حين يغمر هذين بفيض الإخلاص، ويعمرهما بأشعة اليقين.
وعمل زكي حين تسلم له الإرادة ويخضع له السلوك.
الهدف الأسمى للإنسان
ضع شيئين متفاضلين بين يدي طفلك وخيره بينهما ثم أرقبه أي الشيئين يؤثر.
فإنه سيختار أفضلهما ولا يتردد في ذلك.
وأبد اعجابك بفعل يأتي به أو بكلمة يقولها أو حركة يصدرها، ثم أنظر ما يصنع.
فإنه سينشط لذلك الفعل وسيكرره ما أبديت إعجابك به وما واليت تشجيعك إياه.
وتشاغل أمامه بعمل من أعمال العقلاء ثم أرصد ما يفعل.
فإنه سيقلدك في ذلك العمل، وسيحاول الإبداع في المحاكات.
فلماذا تصدر من الطفل هذه المحاولات؟
ويقول علماء التربية الحديثة، ويقول علماء علم النفس الحديث: كل ما يعمله الطفل في سنيه الأولى من عمل وكل مايقوم به من تجربة فإنما يلبي به نوازع الفطرة ونداءات الغريزة. وإذن فمحاولات الصغير المتقدمة انعكاسات للفطرة وانبعاثات مع دواعيها، فالفطرة هي التي تحفز الإنسان -منذ طفولته- أن يختار الجيد من الأمور والأجود منها عند التفاضل. والفطرة هي التي تحمله على أن يصبح مثاراً للإعجاب وموضعاً للإطراء. والفطرة هي التي تفرض عليه أن يحترم الأكابر من الناس وأن يتخذ منهم قادة في الأعمال ومثلاً في الصفات. فهل نستطيع أن نعلل هذه الدوافع المتغلغلة في نفس هذا الكائن؟ وهل نستطيع أن نعرف لماذا يولع الإنسان بتحسين مظهره وإتقان أعماله وتنسيق حركاته؟ بل ولماذا يتكبر المتكبرون من أفراده ويرائي المراؤون؟ ولَم يدعي الناقصون منهم الكمال ويتظاهر الجاهلون بالعلم؟.
في نفس الإنسان رغبة ملحة للإرتفاع، ونزوع قوي إلى التسامي ويبدو أنه إنما يقوم بهذه الأعمال تلبية لهذه الرغبة، وأرواء لهذه الغلة.
نعم كل هذه المظاهر وكل هذه الأعمال - حتى ماشذ منها عن الخلق القويم – أصداء لهذه الرغبة النفسانية الملحة، ولكنها في الشواذ من الأعمال والمظاهر والأخلاق استجابة ملتوية وانقياد غير متزن.
ولعل السر في هذا الالتياث، في هذه المسالك الملتوية التي يركبها الأنسان الملتوي، وفي هذه الادعاءات الجوفاء التي يفتتن بها الرجل الأجوف. لعل السر في ذلك أن الإنسان يعز عليه أن يخسر الكمال، ويكبر عليه - إذا خسر الكمال – أن يعترف على نفسه بهذا الخسران.
يعز عليه أن يخسر الكمال لأن التفسير الصريح لذلك أنه منهزم.
ويكبر عليه أن يعترف بالخسارة لأن مدلول ذلك أنه يسجل على ذاته هذه الهزيمة، ولذلك فهو إذا خسر الكمال لجأ إلى انتحاله، وإذا أفلس من الرفعة ركن إلى ادعائها، وكأنه ينشد في الانتحال عزاء لنفسه عن الإخفاق، وتعويضاً لها عن الحرمان. ونزعة التسامي هذه كسائر نزعات الإنسان وصفاته يدخلها الاعتدال والإنحراف وتتسم بالرقي والهبوط.
وإذن فالكمال هو الهدف الأعلى للإنسان من جميع أفعاله وتصرفاته، وأخال أنها نتيجة بينة لا مساغ فيها لتردد ولا منفذ في دليلها لريبة، فإن دليلها هو الفطرة السليمة.
لا أغلو فأدعي أن الكمال هو غاية الإنسان من جميع أعماله ومن جميع تصرفاته حتى ما يكون فيه عابثاً أو مقارباً للعبث، أو آثماً أو مدانياً للإثم، بل أقول الكمال غاية الإنسان من أعماله حيث يؤثر أن يبقى إنساناً يعتز ببشريته ويحتفظ بحدوده.
أما التحلل والترهل فإنهما يهويان به عن هذه المنزلة ولا مراء.
وتستتبع النتيجة المتقدمة نتائج أخرى هن مثيلاتها في الوضوح وعديلاتها في القوة، مقاييس عامة نزن بها الأعمال ونقيس بها الصفات ونفرق بها بين الخير والشر، وبين موارد الخير وموارد الشر.
فالخير كل عمل أو تصرف ينتهي بنا إلى هذه الغاية الفطرية المطلوبة.
والشر كل سلوك أو معاملة تقصينا عنها.
والزكي من الأخلاق كل سجية أو عادة تكون بينها وبين الكمال رابطة وشيجة ونسب عريق.
والردي منها ما يكون الضد من ذلك.
هذه هي المقاييس الصادقة التي ترتكز في ثباتها على الوجدان وتستمد قوتها من البرهان، والموازين العامة التي لا يختلف عليها أمد ولا تنكرها بيئة ولا تنتقص في مورد.
أليس بديهيا ً أن كل أحد ينشد الكمال بفطرته. ثم يتجه إليه بجبلته؟.
كل أحد من البشر أيا ً كان جنسه وأين كان موضعه وأين كان زمانه.
ثم أليس بديهيا ً كذلك أن ما حال بين الشيء وبين غايته الطبيعية فإنما هو حجر عثرة وقاطع سبيل؟.
وهذه الحاسة العجيبة المودعة في قرارة الإنسان وفي خبيئة نفسه؟.
هذه الحاسة المرهفة التي أقامها الله رقيبا ً من الإنسان على الإنسان، وقيما ً من نفسه على نفسه..
حاكما ً نزيه الحكومة. وشاهدا ً مرضي الشهادة. ونصيحا ً مقبول العظة، ومعاقبا ً مرهوب السطوة مخشي العقوبة.
يزن الأفعال فيأمر وينهى، ويقارن بين الغايات فينصح ويشير، ويرقب السلوك فيثيب ويعاقب...
الرصيد الأدبي للنفس
الضمير الأدبي الذي ليس يخلو منه فرد من أفراد الإنسان، وليس يندّ عن سلطانه صغير ولا كبير من الأعمال..
لأية غاية أرصدت للمرء هذه الذخيرة، وحشدت في نفسه هذه القوة؟.
طموح نفسي يتقد، ورغبات فطرية تتوثب، وغرائز أصيلة مشبوبة تمد ذلك الطموح منه بالقوة، وترفد تلك الرغبات بالوفرة والشدة، ومقاييس ارتكازية عادلة يوزن بها فلا تخطئ، ويعمل بموجبها فلا تتباين، وإرادة قوية فعالة تخلق المعجزات وتصنع الأعاجيب، وحاسة حافزة تدعو إلى فعل الخير وتثيب عليه، وتزجر عن عمل السوء وتجزي به!!.
أليس كل هذا الحشد وكل هذه التعبئة وهذا التجاوب العميق بين قوى الإنسان ورغباته وبين حوافزه وأعماله، أليس كل هذا إعدادا ً لهذا الكائن إلى كمال منتظر، وتأهيلا ً له إلى غاية مبتغاه؟.
ثم أليس من الخطأ في الحكمة أن يعد للإنسان هذا الرصيد الضخم وأن تودع فيه هذه الرغبات العنيفة والطموح العارم الشديد ثم يقفل دونه الباب ويوصد في وجهه السبيل؟.
أليس معنى ذلك أنه يوكل إلى قلق نفسي لا يهدأ، وإلى حيرة فكرية لا تهتدي؟.
وليتساءل المولعون بالطعن المغرمون بالهدم، لو أن صانع الكون وواضع قوانينه ترك الإنسان فلم يشرع له قانونا ً. ولم يجعل له دينا ً. ألا يجعلون ذلك منفذا ً للطعن في الحكمة، أو النيل من القدرة أو الحط من العلم؟.
ألا يقولون أن حكمة الخالق قد حالت أو أن قدرته قد قصرت، أو أن علمه قد ضاق؟.
إن الغاية سامية رفيعة وإن الحوافز إليها في نفس الفرد مكينة قوية، ومؤهلاته لبلوغ الغاية كثيرة موفورة، وعناصر الاختيار فيه مجتمعة متكاملة، غير أن السبيل التي تفضي إلى الغاية مجهولة، ومعالمها معفاة. فما عسى ابن آدم أن يصنع؟ وما يستطيع أن يصنع؟.
ومواضعات العرف وتقاليد المجتمع والقوانين المدنية والنظم الأخلاقية هل تجدي المرء في هذا المجال شيئا ً؟ وهل تستطيع- لو أوكل إليها أمر الإنسان- أن تكون له وحدة في سلوك وأن تجمع أفراده على غاية؟.
الحق أنها لا تطمع في أن تقدم للإنسان هذا الضمان، ولن تقوى على الوفاء به إذا ضمنت...
ودليل عجزها هذا التناقض البادي بين مناهجها. وهذا البون الشاسع بين اتجاهاتها..
ودليل عجزها أنها علاجات يقتضيها زمان وتلدها مناسبة، وتحددها بيئة، وكل أولئك سبب للتحديد، وهدف للتغير وعرضة للزوال.
ودليل عجزها هذا القصر منها في النظرة فهي لا تحصي طباع المرء كلها بالتمحيص، ولا تستوعب ضروراته كلها بالملاحظة، ولا تعم روابطه كلها بالاستعراض، ولا تستقصي غرائزه وركائزه كلها بالمعادلة..
وكيف تملك أن تكون لبني الإنسان جميعهم وحدة في سلوك ، وان تجمعهم آخر الأمر على غاية إذا لم يكن لها هذا الشمول في النظرة ، وهذه الدقة في المراقبة؟
والإنسان نوع واحد فمن المحتم أن تكون الغاية التي يسمو إليها غاية واحدة ، ومن المحتم أن يكون سبيله المؤدي به الى الغاية سبيلاً واحداً أيضاً.
أرأيت شيئاً من موجودات الكون تخطى هذه الحدود؟
وإذا قلنا بتسلسل الأنواع
ليكن الإنسان قرداً مبتور الذنب.
ليكن كذلك.. كما يرغب أن يتصوره بعض الناس .
وليكن هذا البشري صامتاً نطق ، ووحشاً أنس ، وأعجم عقل .
لتتحقق كل هذه الفروض كما يهوي ذلك بعض الناس..وكما يحلو لهم أن يفسروا به فلسفة الإرتقاء ، فهل تختلف النتيج عما قدمنا ؟
أليس التطور سراً مستودعاً في الموجودات، وناموساً عاماً لايتأبى عليه شئ منها ، ولا يستطيع أن يتأبى ولايستطيع أن يتأخر؟
في الموجودات كافة الأنواع منه والأفراد على السواء ، بل وما التطور النوعي الذي تقوم عليه هذه النظرية إلا حصيلة مجتمعة من تطور الأفراد على ممر القرون.
وهذا الاتجاه الاختياري ؟ أحد الأرصدة الكبرى التي يملكها لإنسان وإحدى المميزات التي استوجبها لما احتل منزلته من سلم التطور ، ولما اكتملت حلقته في سلسلة الأنواع؟. والعدة الضخمة التي سلح بها لهذه الغاية ، وأعد لدوره المقبل من الحياة . وأهَل لموضعه من قمة التطور ، قوة التبصر والموازنة، وطاقة العمل بالإرادة ، ونزعة التكامل والتسامي ، وملكة التصميم والإبداع ، وطاقات وركائز سواها تعزز فيه هذا المنحى ، وتمكن له من نيل ذلك القصد ؟.
أقول : وهذا الاتجاه الإختياري في الإنسان ؟ والعدة التي سلح بها لإدراك تلك الغاية ؟ ألا تكون بدورها خاضعة لسنة التطور وحاملة لسره؟.
أليس للإنسان في هذا الاتجاد كمال يسمو إليه وسبيل الى ذلك الكمال ينهجه ؟
ثم أليس كماله هذا إختيارياً يقوم على الإرادة . من حيث ان الاتجاه ذاته إختياري يقوم على الإرادة؟
بلى كل ذلك بديهي لامراء فيه .
ولم تبقى غير مشكلة المنهاج الذي يرسم للإنسان معالم الكمال ، ويحدد له رسوم الغاية ، والذي يجمع أفراد هذا النوع كلهم على غاية واحدة كما تجمع أفراد النوع الواحد من النبات والحيوان على غاية واحدة كذلك .
هل يستطيع المرء أن يشرع لنفسه نظام التكامل ؟
لنفترض أن الله الذي أحسن خلق الإنسان، وأبدع تصويره، واتقن تركيبه والذي جعل فيه غريزة التسامي، استودع كل مخلوق من مخلوقاته سر الاكتمال، والذي أعد لكل خلية من خلايا هذا الكائن نظاما ً وجعل لكل شيء قدرا ً. أقول: لنفترض أن القدرة الحكيمة المبدعة أغفلت الجانب الاختياري من الإنسان فلم تقم له وزنا ً ولم تضع لتكامل الإنسان فيه منهاجا ً. لنفترض الأمر كذلك صلة للبحث ومداورة للحديث على وجوهه، فهل يستطيع الإنسان أن يسد لنفسه هذه الفاقة لتكامله الاختياري قانونا ً جامعا ً لا اختلاف فيه ولا تخلف معه؟.
هذا سؤال أوردناه في بحث سابق ولا سبيل إلى إغفاله.
من الممكن المقبول أن ينتهض عقل مفرد أو تتساند عقول متعددة فتشرع قانونا ً لشعب أو قانونا ً لشعوب، تقيمه على واقع محدود وتنتزعه من ملابسات معينة، ثم يمر زمان وتتبدل أوضاع وينتهي الواقع الموجب، وتحول الملابسات المقتضية فيلغي القانون أو تعدل مواده.
ومن الممكن المقبول أن يصطبغ عقل بفكرة معينة فيحاول أن يصبغ بفكرته هذه كل سلوك الإنسان، وأن يؤول بها كل حركاته، وينيط بها كل صلاته، ثم يمعن في تحميل هذه الفلسفة ويوغل في تطبيقها، فيقيم عليها دستورا ً لاجتماع الإنسان وقانونا ً لسياسته ونظاما ً لاقتصاده ويربط بها مناهج تربيته وقواعد تعليمه.
من الممكن أن يبلغ مفكربشري هذا المبلغ ثم يتضح لمفكرين آخرين وهن الأسس منه واهتزاز الدعائم وخلخلة البناء.
ومن الممكن أيضا ً أن يستقل كل أحد بذاته فيضع لنفسه- أو له ولأسرته- منهجا ً، ويعين له- أو له ولأتباعه- حدودا ً. ثم يسير ويسير معه أولياؤه إلى حيث ينتهي به وبهم المنهج وإلى حيث تقف به وبهم الحدود، وبديهي أن لا نتوقع من هذه النظم المختلفة أن تنتج لبني آدم وحدة في سلوك ولا اجتماعا ً على غاية.
إنها فوضى النظم وانتشار الوحدة وبلبلة الغاية.
ولقد جرب الإنسان نفسه، ولقد امتحن طاقته في وضع القوانين وابتكار الفلسفات المنهجية وتدعيم أسسها وربط فروعها حتى بلغ به الجهد وترامى به القصد فلم يخرج عن هذه الحدود ولم يرتفع عن هذه المنحدرات.
من المستطاع أن يبلغ الفكر البشري- بذاته- هذا المبلغ، ولكن من الممتنع عليه أن يخلق النظام الحقيقي لرقي الإنسانية جمعاء.
النظام الذي يضمن للإنسانية كمالها الأعلى ثم يملك أن يفي لها بهذا الضمان. للإنسانية كافة بجميع أجيالها وأشكالها.
النظام الذي له كل سمات النظام الحقيقي لهذه الغاية. ولذلك فلا مناص من أن يكون واحدا ً لا كثرة فيه، وثابتا ً لا اضطراب معه، وجامعا ً لا قصور فيه.
لا مناص من أن يكون واحدا ً لا كثرة فيه. لأن المبدأ الواحد والنهاية الواحدة لا يصل بينهما أكثر من خط مستقيم واحد.
ولا مناص من أن يكون جامعا ً لا قصور فيه لأن الهدف منه هو الكمال الأعلى للإنسان والكمال الأعلى وحدة تندمج فيها كل فروع الكمال، فلا محيد من أن يكون السبيل إليه سبيلا ً جامعا ً، ولا محيد من أن تكون النظرة فيه نظرة عميقة مستوعبة.
ولا مناص من أن يكون ثابتا ً لا اضطراب معه لأن المنهاج القلق المضطرب لا يقر وحدة ولا يفيد طمأنينة ولا يفي بضمان.
source : http://zainealdeen.com