سفر الإمام الرضا ( عليه السلام ) إلى البصرة
بعد وفاة الإمام الكاظم ( عليه السلام ) سافر الإمام الرضا ( عليه السلام ) إلى البصرة للتدليل على إمامته وإبطال شُبَهِ المنحرفين عن الحق .
وقد نزل ( عليه السلام ) ضيفاً في دار الحسن بن محمد العلوي ، وقد عقد في داره مؤتمراً عاماً ضَمَّ جمعاً من المسلمين .
وكان من بينهم عمرو بن هداب ، وهو من المنحرفين عن آل البيت ( عليهم السلام ) والمعادين لهم ، كما دعا فيه جاثليق النصارى ، ورأس الجالوت .
فالتفت إليهم الإمام ( عليه السلام ) وقال لهم : ( إني إنما جمعتكم لتسألوني عما شئتم من آثار النبوة وعلامات الإمامة التي لا تجدونها إلا عندنا أهل البيت ، فَهَلِمُّوا أسألتكم ) .
فبادر عمرو بن هداب فقال له : إن محمد بن الفضل الهاشمي أخبرنا عنك أنك تعرف كل ما أنزله الله ، وأنك تعرف كل لسان ولغة .
فانبرى الإمام ( عليه السلام ) ، فَصَدَّقَ مقالة محمد بن الفضل في حقه قائلاً : ( صدق محمد بن الفضل ، أنا أخبرته بذلك ) .
وسارع عمرو قائلاً : إنّا نختبرك قبل كل شيء بالألسن واللغات ، هذا رومي ، وهذا هندي ، وهذا فارسي ، وهذا تركي ، قد أحضرناهم .
فقال ( عليه السلام ) : ( فَليتكَلَّموا بما أحبُّوا ، أُجِبْ كلَّ واحدٍ منهم بلسانه إن شاء الله ) .
وتقدم كل واحد منهم أمام الإمام فسأله عن مسألة فأجاب ( عليه السلام ) عنها بلغته .
فَبُهِر القوم وعجبوا ، ثم التفت الإمام ( عليه السلام ) إلى عمرو فقال له : إن أنا أخبرتك أنَّك ستبتلي في هذه الأيام بدم ذي رحم لك هل كنت مصدقا لي ؟.
فأجابه عمرو : لا ، فان الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى .
فَردَّ الإمام ( عليه السلام ) عليه مقالته : ( أَوَ لَيسَ الله تعالى يقول : ( عَالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيبِهِ أَحَداً * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ .. ) الجن : 26 – 27 .
فرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عند الله مُرتَضى ، ونحن ورثة ذلك الرسول الذي أَطلَعه اللهُ على ما يشاء من غيبهِ ، فعلمنا ما كان ، وما يكون إلى يوم القيامة ) .
ثم قال ( عليه السلام ) : ( وإنَّ الذي أخبرتك به يا بن هداب لَكَائِنٌ إلى خمسة أيام ، وإن لم يَصحُّ في هذه المُدَّة فإني .. ، وإن صَحَّ فَتَعلم أنَّك رَادٌّ عَلى الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وأضاف الإمام ( عليه السلام ) قائلا : ( أما إنَّك سَتُصَاب بِبَصَرِكَ ، وتصير مكفوفاً ، فلا تبصرُ سَهلاً ولا جبلاً ، وهذا كائنٌ بعد أيام ) .
ثم قال ( عليه السلام ) : ( ولك عندي دلالة أخرى ، أنك سَتَحلِفُ يَميناً كَاذِبَة فَتُضرَبُ بِالبَرَص ) – وأقسم محمد بن الفضل بالله بأن ما أخبر به الإمام ( عليه السلام ) قد تحقق ، وقيل لابن هداب : هل صَدَقَ الرضا ( عليه السلام ) بِمَا أَخبرَ بِهِ ؟ فقال : والله لقد علمت في الوقت الذي أخبرني ( عليه السلام ) به أنه كائن ، ولكني كنت أتجلد – .
ثم التفت الإمام ( عليه السلام ) إلى الجاثليق فقال له : ( هل دل الإنجيل على نبوة محمد ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟
وسارع الجاثليق قائلا : لو دَلَّ الإنجيل على ذلك ما جحدناه .
ثم سأله الإمام ( عليه السلام ) أيضاً : ( أخبرني عن السكنة التي لكم في السِّفْرِ الثالث ) ؟
فأجاب الجاثليق : إنها اسم من أسماء الله تعالى ، لا يجوز لنا أن نظهره .
ورد عليه الإمام ( عليه السلام ) قائلاً : ( فإن قَرَّ بِهِ رَبُّك أنه اسم محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وأقرَّ عيسى ( عليه السلام ) به ، وأنه بَشَّرَ بني إسرائيل بمحمد لِتقرَّ بِهِ ، ولا تنكره ) ؟
ولم يجد الجاثليق بُدّاً من الموافقة على ذلك قائلا : إن فعلت أقررت ، فإني لا أَرُدُّ الإنجيلَ ولا أجحدُهُ .
وأخذ الإمام ( عليه السلام ) يقيم عليه الحجة قائلاً : ( خذ على السِّفْرِ الثالث الذي فيه ذكر محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وبشارة عيسى ( عليه السلام ) بمحمد ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟
فسارع الجاثليق قائلاً : هَات مَا قُلته .
فأخذ الإمام ( عليه السلام ) يتلو عليه السِّفر من الإنجيل الذي فيه ذكر الرسول محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وقال للجاثليق : ( من هذا الموصوف ) ؟ قال الجاثليق : صِفْهُ .
فأخذ الإمام ( عليه السلام ) في وصفه قائلاً : ( لا أصفُهُ إلا بما وصفه الله ، وهو صَاحِب الناقة ، والعَصَا ، والكساء ، النبي الأُمِّي ، الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ، يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر .
ويُحِلُّ لهم الطيبات ، وَيُحرِّمُ عليهم الخبائث ، ويضع عنهم إِصرَهُم والأغلال التي كانت عليهم ، يهدي إلى الطريق الأقصد ، والمنهاج الأعدل ، والصراط الأقوم ) .
ثم قال ( عليه السلام ) : ( سألتك يا جاثليق بحق عيسى ( عليه السلام ) روح الله وكلمته ، هل تجدون هذه الصفة في الإنجيل لهذا النبي ) ؟
فأطرقَ الجاثليق مَلِيّاً برأسه إلى الأرض وقد ضاقت عليه الأرض بما رَحُبَت ، فَقد سَدَّ عليه الإمام كل نافذة يسلك منها ، ولم يسعهُ أن يَجحَدَ الإنجيل ، فأجاب الإمامَ ( عليه السلام ) قائلاً : نعم ، هذه الصفة من الإنجيل ، وقد ذَكَر عيسى في الإنجيل هذا النبي ، ولم يصح عند النصارى أنه صاحبكم .
فانبرى الإمام ( عليه السلام ) يقيم عليه الحجة ، ويبطل أوهامه قائلاً : ( أما إذا لم تكفر بجحود الإنجيل ، وأقررت بما فيه من صفة محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، فَخُذ على السِّفْرِ الثاني .
فإنه قد ذكره ( صلى الله عليه وآله ) وذكر وَصِيه وذكر ابنته فاطمة وذكر الحسن والحسين ( عليهم السلام ) ) .
وقد استبان للجاثليق ورأس الجالوت أن الإمام ( عليه السلام ) عالم بالتوراة والإنجيل ، وأنه واقف على جميع ما جاء فيهما .
فَفَكَّرا في التخلص من حجج الإمام ( عليه السلام ) فأبديا الشك في أن الذي بَشَّر به موسى والسيد المسيح ( عليهما السلام ) هو النبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) .
وطفقا قائلين : لقد بَشَّر بِهِ موسى وعيسى ( عليهما السلام ) جميعاً ، ولكن لم يتقرَّر عندنا أنه محمد هذا ، فأما كون اسمه محمد ، فلا يجوز أن نقرَّ لكم بنبوتِهِ ونحنُ شَاكُّون أنَّه مُحَمدُكُم أو غيره .
فانبرى الإمام ( عليه السلام ) فَفَنَّدَ شُبْهَتَهُم قائلاً : ( اِحتَجَجْتُم بالشك ، فهل بَعثَ اللهُ قَبل أو بَعد مِن وُلدِ آدم ( عليه السلام ) إلى يومِنَا هَذا نَبِيّاً اسمه مُحمد ، أو تجدونه في شيء من الكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء غير محمد ) ؟
فَأُحجِمُوا عن الجواب ، ولم يجدا شبهة يتمسكان بها ، وأَصَرَّا على العناد والجحود قائلين : لا يجوزُ لَنَا أن نُقرَّ لك بأن مُحمّداً هُوَ مُحمدكم .
فإنَّا إن أقررنا لك بِمُحمد ووصيِّهِ وابنتِهِ وابنَيهَا على ما ذكرتم أَدخَلتُمُونَا في الإِسلام كُرْهاً .
فانبرى الإمام ( عليه السلام ) قائلاً : ( أنت يا جاثليق آمن في ذمة الله وذمة رسوله أنه لا يبدؤك مناشيء تكرهه ) .
وسارع الجاثليق قائلاً : إذ قد آمنتني ، فإن هذا النبي الذي اسمه محمد ، وهذا الوصي الذي اسمه علي ، وهذه البنت التي اسمها فاطمة ، وهذان السبطان اللذان اسمهما الحسن والحسين في التوراة والإنجيل والزبور .
وطفق الإمام ( عليه السلام ) قائلاً : ( هل هذا صدق وعدل ) ؟ فقال : بل صدق وعدل ، وسكت الجاثليق واعترف بالحق .
ثم التفت الإمام إلى رأس الجالوت فقال له : اِسمع يا رأس الجالوت السِّفر الفلاني من زبور داود .
قال رأس الجالوت : بارك الله فيك وفيمن ولدك ، هات ما عندك .
وأخذ الإمام ( عليه السلام ) يتلو عليه السِّفر الأول من الزبور حتى انتهى إلى ذكر محمد وعلي وفاطمة والحسن الحسين ( عليهم السلام ) .
وجه ( عليه السلام ) السؤال الثاني قائلاً : ( سألتك يا رأس الجالوت بحق الله هذا في زبور داود ) ؟
فقال : نعم هذا بعينه في الزبور بأسمائهم .
وانبرى الإمام ( عليه السلام ) قائلاً : ( بحق عُشرِ الآيات التي أنزلها الله على موسى بن عمران في التوراة ، هل تجد صفة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) في التوراة منسوبين إلى العدل والفضل ) ؟
فلم يسع رأس الجالوت إلا الإقرار والاعتراف بذلك .
ثم أخذ الإمام يتلو في سفر آخر من التوراة ، وقد بهر رأس الجالوت من اطِّلاعِ الإمام ( عليه السلام ) ومن فصاحته وبلاغته ، وتفسيره ما جاء في النبي وعلي وفاطمة والحسنين ( عليهم السلام ) .
فقال رأس الجالوت : والله يا بن محمد ، لولا الرياسَة التي حَصَلَت لي على جميع اليهود لآمنت بأحمد ، واتبعت أمرك .
فَوَ الله الذي أنزل التوراة على موسى ، والزبور على داود ، ما رأيت أَقْرَأَ للتوراة والإنجيل والزبور منك ، ولا رأيت أحسن تفسيرا وفصاحة لهذه الكتب منك .
وقد استغرقت مناظرة الإمام معهم وقتاً كثيراً حتى صار وقت صلاة الظهر فقام ( عليه السلام ) فصلى بالناس صلاة الظهر ، وانصرف إلى شؤونه الخاصة ، وفي الغد عادَ إلى مجلسه ، وقد جاءوا بجارية رومية لامتحان الإمام ( عليه السلام ) .
فكلمها الإمام بلغتها ، والجاثليق حاضر ، وكان عارفاً بلغتها ، فقال الإمام للجارية : أَيُّما أحب إليك مُحمد ( صلى الله عليه وآله ) أم عيسى ( عليه السلام ) ؟
فقالت الجارية : كان فيما مضى عيسى ( عليه السلام ) أَحَبُّ إليَّ ، لأني لم أكن أعرف محمداً ( صلى الله عليه وآله ) ، وبعد أن عرفت محمداً فهو أحب إلي من عيسى .
والتفت لها الجاثليق فقال لها : إذا كنت دخلت في دين محمد ( صلى الله عليه وآله ) فهل تبغضين عيسى ( عليه السلام ) ؟
فأنكرت الجارية كَلامُهُ فقالت : معاذ الله بل أحب عيسى ( عليه السلام ) وأومن به ، ولكن محمداً ( صلى الله عليه وآله ) أحبُّ إليَّ .
والتفت الإمام ( عليه السلام ) إلى الجاثليق فطلب منه أن يُتَرجِمَ للجماعة كلام الجارية .
فَترجمَهُ لهم ، وطلب الجاثليق من الإمام أن يحاجج مسيحياً من السند له معرفة بالمسيحية ، وصاحب جدل .
فحاججه الإمام ( عليه السلام ) بلغته ، فآمن السندي بالإسلام ، وأقر للإمام ( عليه السلام ) بالإمامة ، وطلب ( عليه السلام ) من محمد بن الفضل أن يأخذه إلى الحمام ليغتسل ، ويطهر بدنه من دِرَنِ الشرك .
فأخذه محمد إلى الحمام ، وكساه بثياب نظيفة ، وأمر الإمامُ ( عليه السلام ) بحمله إلى يثرب ليتلقى من علومه ، ثم وَدَّع الإمام أصحابه ومضى إلى المدينة المنورة .