إنّ السابر في ما صدر عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ في مورد الإرادة الإلهية يقف على أنّهم نظروا إليها من زوايا ثلاث:
1. الإرادة الإلهيّة غير العلم والقدرة.
2. ما من ظاهرة من الظواهر الكونية إلاّ وقد تعلّقت بها إرادته سبحانه.
3. إرادته سبحانه من صفات الفعل لا من صفات الذات.
فلنقتصر في كلّ من هذه المواضيع الثلاثة بالقليل عن الكثير.
الف: إرادته غير علمه وقدرته
قد ناظر الإمام علي بن موسى الرضا ـ عليه السَّلام ـ أحد المتكلّمين في خراسان ـ أعني: سليمان المروزي ـ والمناظرة مبسَّطة نقتصر على ما له صلة بالمقام:
قال سليمان: إنّ إرادته علمه.
قال الرضا ـ عليه السَّلام ـ :«...وعلى هذا فإذا علم الشيء فقد أراده».
قال سليمان: أجل.
قال الرضا ـ عليه السَّلام ـ : «فإذا لم يرده، لم يعلمه».
قال سليمان: أجل.
قال الرضا ـ عليه السَّلام ـ : «من أين قلنا ذلك وما الدليل على أنّ إرادته علمه، وقد يعلم مالا يريده أبداً؟
ذلك قول اللّه عزّ وجلّ:(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالّذِي أوحَيْنا إِليك)(1) ،فهو يعلم كيف يذهب ولا يذهب به أبداً».
قال سليمان: إنّه سبحانه قد فرغ من الأمر، فليس يزيد فيه شيئاً.
قال الرضا ـ عليه السَّلام ـ : «هذا قول اليهود، فكيف قال تعالى: (ادْعُوني أَستَجِبْ لَكُم)». (2)
قال سليمان: إنّما عنى بذلك أنّه قادر عليه.
قال الرضا ـ عليه السَّلام ـ :«أفيعد ما لا يفي به؟ فكيف قال:(يَزِيدُ فِي الخَلْقِ ما يَشاء)(3) وقال عزّ وجلّ: (يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتاب)(4) وقد فرغ من الأمر...» فلم يحر سليمان جواباً.(5)
إنّ ما دار بين الإمام والمروزي كاف في نقد ما يتخيّل بأنّ إرادته سبحانه هي علمه بالأصلح .
ب. عموم إرادته سبحانه بكلّ ظاهرة كونية
أمّا عموم إرادته سبحانه بكلّ ظاهرة كونية فهو يبتني على مقدّمات فلسفية ثابتة، وإليك الإشارة إليها على وجه الإيجاز:
1. سعة قدرته وخالقيته سبحانه، وانّ كلّ ما في صفحة الكون من دقيق وجليل وذات وفعل مخلوق للّه سبحانه لا على النحو الذي فسّر به الأشاعرة عموم قدرته بأن يكون الواجب الفاعل المباشري لكلّ ظاهرة مجردة أو مادية، بل على النحو المختار لدى الإمامية.(6)
2. إنّ كلّ ما في دار الإمكان، قائم بالواجب غير مستغن عنه في شأن من شؤونه لا في ذاته ولا في فعله، وإنّ غناء فعل الإنسان عن الواجب يستلزم خروجه عن حدّ الإمكان وانقلابه موجوداً واجباً، وهذا خلف، فما في الكون يجب أن يكون منتهياً إلى الواجب قائماً به قيام المعنى الحرفي بالاسمي، فالقول باستقلال الإنسان في فعله أشبه بمقالة الثنوية.
3. شهادة الروايات على عموم قدرته، ونقتصر على روايات ثلاث:
1. روى الصدوق في توحيده بسنده عن حفص بن فرط، عن أبي عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ قال: قال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : «من زعم أنّ اللّه تعالى يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على اللّه، ومن زعم أنّ المعاصي من غير قوة اللّه، فقد كذب على اللّه، و من كذب على اللّه أدخله النار».(7)
2. روى البرقي في محاسنه عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ قال: «إنّ اللّه أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون، واللّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد».(8)
3. وروى عن حمزة بن حمران، قال: قلت له: إنّا نقول إنّ اللّه لم يكلّف العباد إلاّ ما آتاهم وكلّ شيء لا يطيقونه فهو عنهم موضوع، ولا يكون إلاّ ما شاء اللّه، وقضى وقدر و أراد؟ فقال: «واللّه إنّ هذا لديني و دين آبائي».(9)
ج: الإرادة من صفات الفعل
من سبر فيما ورد عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ في مجال الرواية يقف على اهتمام الأئمّة بتوجيه أصحابهم إلى أنّ الإرادة من صفات الفعل لا من صفات الذات، وقد عقد الشيخ الكليني باباً في ذلك المجال ننقل منه ما يلي:
1. روى عاصم بن حميد، عن أبي عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ قال: قلت: لم يزل اللّه مريداً؟ قال: «إنّ المريد لا يكون إلاّ المراد معه، لم يزل اللّه عالماً قادراً ثمّ أراد».(10)
2. روى صفوان بن يحيى، عن الإمام الكاظم ـ عليه السَّلام ـ : أخبرني عن الإرادة من اللّه و من الخلق؟ فقال:« الإرادة من الخلق الضمير، و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، وأمّا من اللّه تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك، لأنّه لا يروِّي ولا يهمّ ولا يتفكّر، وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق، فإرادة اللّه، الفعل، لا غير ذلك، يقول له: كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همّة ولا تفكّر ولا كيف لذلك، كما أنّه لا كيف له».(11)
3. روى محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ قال: «المشيئة محدثة».(12)
تحليل الروايات الماضية
لا يشكّ ذو مسكة في أنّ الروايات ظاهرة في كون الإرادة من صفات الفعل دون صفات الذات، لما يترتّب على القول الثاني من قدم العالم وغيره، ولما كان القول بكونها من صفات الفعل مخالفاً للأصل المبرهن في الفلسفة الإسلامية من أنّ الإرادة وصف كمال للموجود بما هو موجود، حاول صدر المتألّهين تفسير الروايات بنحو يوافق أُصوله فقال: «والتحقيق انّ الإرادة تطلق بالاشتراك الصناعي على معنيين:
أحدهما : ما يفهمه الجمهور و هو ضد الكراهة، وهي التي تحصل فينا عقيب تصوّر الشيء الملائم، وعقيب التردّد حتّى يترجح عندنا الأمر، الداعي إلى الفعل أو الترك فيصدر أحدُهما منّا، وهذا المعنى فينا من الصفات النفسانية، وهي والكراهة فينا كالشهوة والغضب فينا وفي الحيوان، ولا يجوز على اللّه، بل إرادته نفس صدور الأفعال منه من جهة علمه بوجه الخير، وكراهته عدم صدور الفعل القبيح عنه لعلمه بقبحه.
وثانيهما: كون ذاته بحيث يصدر عنه الأشياء لأجل علمه بنظام الخير فيها التابع لعلمه بذاته، لا كاتّباع الضوء للمضيء والسخونة للمسخِّن، ولا كفعل المجبورين والمسحّرين، ولا كفعل المختارين بقصد زائد وإرادة ظنيّة يحتمل الطرف المقابل، وقد تحقّقت انّ قيّوم الكلّ إنّما يفعل الكلّ عن علم هو نفس
ذاته العليم الذي هو أتمّ العلوم، فإذن هو سبحانه فاعل للأشياء كلّها بإرادة ترجع إلى علمه بذاته، المستتبع لعلمه بغيره، المقتضي لوجود غيره في الخارج لا لغرض زائد وجلب منفعة ـ إلى أن قال : ـ و لما كان فهم الجمهور لا يصل إلى الإرادة بهذا المعنى، بل إلى النحو الذي في الحيوان أو ضدّه الكراهة ويكون حادثاً عند حدوث المراد، جعلها (الإمام) من صفات الأفعال ومن الصفات الإضافية المتجدّدة كخالقيته أو رازقيته.(13)
وقال المولى محمد صالح المازندراني في شرحه على أُصول الكافي: الإرادة تطلق على معنيين كما صرّح به بعض الحكماء الإلهيّين.
أحدهما: الإرادة الحادثة وهي الّتي فُسرت في الحديث بأنّها نفس الإيجاد واحداث الفعل.
وثانيهما: الإرادة التي هي من الصفات الذاتية التي لا توصف الذات بنقيضها أزلاً وأبداً، وهي التي وقع النزاع فيها.
فذهب جماعة إلى أنّها نفس علمه الحق بالمصالح والخيرات وعين ذاته الأحدية.
وذهبت الأشاعرة إلى أنّها صفة غير العلم.(14)
نقد وتحليل
إنّ هذا التفسير للروايات يتمتع بنقاط قوّة، وهي:
أوّلاً: فسّر الإرادة بمعنيين وهي بأحدهما صفة ذات وبالمعنى الآخر صفة فعل.
ثانياً: الإرادة الإنسانية تمتنع أن تقع وصفاً للّه سبحانه فلا محيص من إرجاع الإرادة بهذا المعنى في حقّه سبحانه إلى كونها صفة فعل.
ثالثاً: الإرادة الذاتية بالمعنى المناسب لذاته كانت حقيقة لا تُدرك الأفهام الساذجة غورَها، بل حتّى الأفهام الحادة كسليمان المروزي ، فلذلك لم يذكر الإمام من الإرادة إلاّ ما هو وصف للفعل.
ورابعاً: انّ إصرار أئمّة أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ على كون الإرادة من صفات الفعل للحيلولة دون وصف ذاته بالإرادة بهذا المعنى، ولأجل ذلك ركزوا على أنّها من صفات الفعل.
وخامساً: انّ جعل الإرادة من صفات الذات كان مثاراً لشبهة قدم الإرادة بقدم الذات وبالتالي قدم العالم وعامّة مخلوقاته. ولأجل الحيلولة دون طروء هذه الشبهة في الأذهان كان الأئمّة ـ عليهم السَّلام ـ يعدّون الإرادة من صفات الفعل.
وممّا يعرب عن ذلك ما رواه سليمان بن جعفر الجعفري قال: قال الرضا ـ عليه السَّلام ـ : «المشيئة والإرادة من صفات الأفعال، فمن زعم أنّ اللّه تعالى لم يزل مريداً شائياً فليس بموحّد».(15)
هذه هي نقاط القوة في هذا النوع من التفسير، وعلى الرغم من ذلك فلا يخلو التفسير المذكور من ضعف، وهو انّ إرجاع الإرادة الذاتية إلى العلم بالأصلح إنكار للإرادة والكمال المطلق للموجود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الإسراء:86 .
2- المؤمن:60.
3- فاطر:1.
4- الرعد:39.
5- عيون أخبار الرضا:1/189 .
6- لاحظ الإلهيات:2/275.
7- توحيد الصدوق:359، باب نفي الجبر والتفويض، الحديث2.
8- بحارالأنوار:5/41، كتاب العدل والمعاد، الحديث64.
9- بحارالأنوار:5/41، الحديث65.
10- الكافي:1/109، باب الإرادة من صفات الفعل، الحديث1.
11- الكافي:1/109، باب الإرادة من صفات الفعل، الحديث 3و7.
12- الكافي:1/109، باب الإرادة من صفات الفعل، الحديث 3و7.
13- شرح أُصول الكافي:1/278.
14- شرح أُصول الكافي، للمولى محمد صالح المازندراني:3/345.
15- توحيد الصدوق:338.
source : اهل بیت